93- ليس على الذين صدَّقوا بالله ورسوله وأتوا بصالح الأعمال إثم فيما يطعمون من حلال طيب ، ولا فيما سبق أن طعموه من المحرمات قبل علمهم بتحريمها ، إذا خافوا الله ، وابتعدوا عنها بعد علمهم بتحريمها ، ثم استمروا على خوفهم من الله ، وتصديقهم بما شرعه لهم بعد من أحكام ، ثم داوموا على خوفهم من الله في كل حال وأخلصوا في أعمالهم وأدُّوها على وجه الكمال ، فإن الله يثيب المخلصين في أعمالهم على قدر إخلاصهم وعملهم .
وقد أتبع - سبحانه - ذلك ببيان حكم من شربها ومات قبل أن ينزل تحريمها فقال - تعالى - :
{ لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ . . . }
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات متقاربة في معناها ، ومن ذلك ما رواه الترمذي عن البراء بن عازب قال : ما تناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر . فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها قال : فنزلت { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية .
وعن ابن عباس قال : قالوا يا رسول الله ، أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر " لما نزل تحريم الخمر " فنزلت { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ } الآية .
وروى الإِمام أحمد من حديث أبي هريرة أنه بعد أن نزل قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر } الآيات ، قال الناس : يا رسول الله ، ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم ، كانوا يربون الخمر ويأكلون مال الميسر ؛ وقد جعله الله رجسا ومن عمل الشيطان ؟ فأنزل الله - تعالى - { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } الآية .
قال القرطبي : وهذه الآية وتلك الأحاديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأولى فنزلت { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ومن فعل ما أبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه شيء ، لا إثم ول مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح ، لأن المباح مستوى الطرفين بالنسبة إلى الشرع ، وعلى هذا فما كان ينبغي أن يتخوف ولا يسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها ، فإما أن يكون ذلك القائل غفل عن دليل الإِباحة فلم يخطر له ، أو يكون لغلبة خوفه من الله - تعالى - وشفقته على إخوانه المؤمنين توهم مؤاخذة ومعاقبة لأجل شرب الخمر المتقدم ، فرفع الله التوهم بقوله : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } الآية .
وقال الآلوسي : وقيل إن هذه الآية نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره والأول هو المختار .
وقوله - تعالى - { فِيمَا طعموا } أي : ذاقوا ، مأخوذ من الطعم - بالفتح - وهو تذوق الشيء والتلذذ به ، سواء أكان مأكولا أم مشروبا وهو المراد هنا .
قال القرطبي : وأصل هذه الكلمة في الأكل . يقال : " طعم الطعام وشرب الشراب لكن قد تجوز في ذلك فيقال : لم أطعم خبزاً ولا ماء ولا نوماً " .
والمعنى : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ } أي : حرج أو إثم { فِيمَا طعموا } أي فيما تناولوه من خمر أو ما يشبهها من محرمات قبل أن يحرمها الله - تعالى - وكذلك لا إثم ولا حرج على من مات قبل التحريم .
وقوله : { إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } تحريض للمؤمنين على الأزدياد من الإِيمان والتقوى والعمل الصالح .
أي : إذا ما اتقوا الله وخافوه وتلقوا أوامره بالقبول ، وثبتوا على الإِيمان ، وأكثروا من الأعمال الصالحات .
وقوله : { ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ } معطوف على ما قبله .
أي : ثم اسصتمروا على تقواهم وامتلاء قلوبهم بخشية الله ، والإِيمان الحق به - سبحانه - فتكرير التقوى والإِيمان هنا لبيان أنه يجب استمرارهم ومواظبتهم على ذلك ، مع تمسكهم بما يقتضيه الإِيمان والتقوى من فعل الخير وابتعاد عن الشر .
وقوله : { ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } معطوف على ما قبله - أيضاً - لتأكيد معنى الاستمرار على هذه التقوى طول مدة حياتهم مع إحسانهم إلى أنفسهم بالإِكثار من العمل الصالح ، وإلى غيرهم بما يستطيعونه من إسداء الخير إليه .
وقوله : { والله يُحِبُّ المحسنين } تذييل قصد به تأكيد ما قبله من الحض على الإِيمان والتقوى والإِحسان ، ومدح المتمسكين بتلك الصفات الحميدة .
أي : والله - تعالى - يحب المحسنين إلى أنفسهم بإلزامهم بالوقوف عند حدود الله ، والاستجابة له فيما أمر أو نهى أو أحل أو حرم يرغبة ومسارعة ، وإلى غيرهم بمد يد العون إليهم .
فالآية الكريمة من مقاصدها بيان جانب من مظاهر رحمة الله بعباده ، ورأفته بهم ؛ حيث بين لهم : أن من شرب الخمر أو لعب الميسر أو فعل ما يشبههما من محرمات ، ثم مات قبل أن ينزل الأمر بتحريم هذه الأشياء فإن الله - تعالى - لا يؤاخذه على ذلك . لأن المؤاخذة على الفعل تبدأ من وقت تحريمه لا من قبل تحريمه .
وكذلك الحال بالنسبة لمن وقع في هذه الأشياء قبل أن تحرم فإن الله لا يؤاخذه عليها ، وإنما يؤاخذه عليها بعد نزول تحريمها وهذا من فضل الله على عباده ، ورحمته بهم .
هذا ، وقد تعددت أقوال المفسرين حول مسألتين تتعلقان بهذه الآية الكريمة .
أما المسألة الأولى فهي : كيف شرط الله في رفع الجناح أي الإِثم عن المطعوعات والمشروبات الإِيمان والتقوى ، مع أن الجناح مرفوع عن المباح من هذه الأشياء حتى عن الكافرين ؟
وقد قالوا في الإِجابة على ذلك : إن تعليق نفي الجناح أي الإِثم بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها ؛ فإن نفي الإِثم عن الذي يتناول المباح قبل أن يحرم لا يتشرط بشرط ، وإنما تعليق نفي الجناح بهذه الأحوال - وهي التقوى والإِيمان - وارد على سبيل المدح لهم ، والثناء عليهم ؛ والدلالة على أنهم جديرون بهذه الصفات ، ولإِدخال الطمأنينة على قلوبهم حتى يوقونوا بأن من تعاطي شيئا من المحرمات قبل تحريمها فلا يؤاخذه الله على ذلك ، وإنما يؤاخذه إذا تعاطاهاه بعد تحريمها .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " قيل لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة : يا رسول الله ! ! كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر ؟ فنزلت الآية { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ } .
. إلخ يعني أن المؤمنين لا جناح عليهم في أي شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم ، ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا ، على معنى : أن أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمدا لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإِحسان . ومثاله أن يقال لك : هل على زيد جناح فيما فعل ؟ فتقول : وقد علمت أن ذلك أمر مباح : ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم ، وكان مؤمنا محسناً . تريد : أن زيداً تقي مؤمن محسن ، وأنه غير مؤاخذ بما فعل .
وقال أبو السعود ما ملخصه : ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة ، لا دخل لها في انتفاء الجناح . وإنما ذكرت في حيز { إذا } شهادة باتصاف الذين سألوا عن حالهم بها ، ومدحا لهم بذلك ، وحمداً لأحوالهم . فكِأنه قيل : ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى : مع ما لهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال ، وإنما كننوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذ ذاك ، ولو حرما في عصرهم لا تقوهما بالمرة " .
وأما المسألة الثانية التي كثرت أقوال المفسرين فيها فهي : تكرار التقوى مرة مع الإِيمان والعمل الصالح . ومرة مع الإِيمان ومرة مع الإِحسان ؟
وقد ذكر القرطبي في ذلك أربعة أقوال فقال :
الأول : أنه ليس في ذكر التقوى تكرار ، والمعنى : اتقوا شربها وآمنوا بتحريمها ، أو دام اتقاؤهم وإيمانهم ، أو على معنى إضافة الإِحسان إلى الاتقاء .
والثاني : اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات ، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها ، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم وأحسنوا العمل .
الثالث : اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله ، والمعنى الثاني ثم اتقوا الكبائر ، وازدادوا إيمانا ، والمعنى الثالث ، ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أي تنفلوا .
الرابع : قال ابن جرير : الاتقاء الأول : هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق ، والدينونة به العمل . والاتقاء الثاني : الاتقاء بالثبات على التصديق ، والثالث : الاتقاء بالإِحسان والتقرب بالنوافل .
والذي يبدو لنا أن ما قاله ابن جرير أقرب إلى الصواب ، وأن تكرير التقوى إنما هو لتأكيد وجوب امتلاء قلب المؤمن بها ، واستمراره على ذلك حتى يلقى الله . فإن المؤمن بمداومته على خشيته - سبحانه - يتدرج من الكمال إلى الأكمل حتى يصل في إيمانه وتقواه إلى مرتبة الإِحسان التي ترفعه إلى أعلى عليين ، والتي عرفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " الإِحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
ولقد بين لنا القرآن في مواطن كثيرة أن المؤمن يقوى إيمانه ويزداد ، بكثرة تدبره ما أنزله الله من شرائع وهدايات . ومن ذلك قوله - تعالى - { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ }
وقال تعالى - { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً } وبذلك نرى الآية الكريمة قد طمأنت المؤمنين إلى أن الله - تعالى - لن يؤاخذهم بما تعاطوه محرمات قبل تحريمها ، وأن الواجب عليهم أن يستمروا على مراقبتهم له ، وخشيتهم منه حتى لقوه - عز وجل - .
وقد حدث أنه لما نزلت هذه الآيات ، وذكر فيها تحريم الخمر ، ووصفت بأنها رجس من عمل الشيطان أن انطلقت في المجتمع المسلم صيحتان متحدتان في الصيغة ، مختلفتان في الباعث والهدف .
قال بعض المتحرجين من الصحابة : كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر . . أو قالوا : فما بال قوم قتلوا في أحد وهي في بطونهم [ أي قبل تحريمها ] .
وقال بعض المشككين الذين يهدفون إلى البلبلة والحيرة . . هذا القول أو ما يشبهه ؛ يريدون أن ينشروا في النفوس قلة الثقة في أسباب التشريع ، أو الشعور بضياع إيمان من ماتوا والخمر لم تحرم ؛ وهي رجس من عمل الشيطان ، ماتوا والرجس في بطونهم !
( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، والله يحب المحسنين ) . .
نزلت لتقرر أولا أن ما لم يحرم لا يحرم ؛ وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله ؛ وأنه لا يحرم بأثر رجعي ؛ فلا عقوبة إلا بنص ؛ سواء في الدنيا أو في الآخرة ؛ لأن النص هو الذي ينشى ء الحكم . . والذين ماتوا والخمر في بطونهم ، وهي لم تحرم بعد ، ليس عليهم جناح ؛ فإنهم لم يتناولوا محرما ؛ ولم يرتكبوا معصية . . لقدكانوا يخافون الله ويعملون الصالحات ويراقبون الله ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم . . ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرما ولا يرتكب معصية .
ولا نريد أن ندخل بهذه المناسبة في الجدل الذي أثاره المعتزلة حول الحكم بأن الخمر رجس : هل هو ناشى ء عن أمر الشارع - سبحانه - بتحريمها ، أم إنه ناشى ء عن صفة ملازمة للخمر في ذاتها . وهل المحرمات محرمات لصفة ملازمة لها ، أم إن هذه الصفة تلزمها من التحريم . . فهو جدل عقيم في نظرنا وغريب على الحس الإسلامي ! . . والله حين يحرم شيئا يعلم - سبحانه - لم حرمه . سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكر . وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم ، أو لعلة تتعلق بمن يتناوله من ناحية ذاته ، أو من ناحية مصلحة الجماعة . . فالله سبحانه هو الذي يعلم الأمر كله ؛ والطاعة لأمره واجبة ، والجدل بعد ذلك لا يمثل حاجة واقعية . والواقعية هي طابع هذا المنهج الرباني . . ولا يقولن أحد : إذا كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم فكيف أبيح إذن قبل تحريمه ! ! فلا بد أن لله - سبحانه - حكمة في تركه فترة بلا تحريم . ومرد الأمر كله إلى الله . وهذا مقتضى ألوهيته - سبحانه - واستحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم في الأمر ؛ وما يراه علة قد لا يكون هو العلة . والأدب مع الله يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ ، سواء عرفت حكمتها أو علتها أم ظلت خافية . . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
إن العمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية . . على الطاعة لله إظهارا للعبودية له سبحانه . . فهذا هو الإسلام - بمعنى الاستسلام . . وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يتلمس حكمة الله - بقدر ما يستطيع - فيما أمر الله به أو نهى عنه - سواء بين الله حكمته أم لم يبينها ، وسواء أدركها العقل البشري أم لم يدركها - فالحكم في استحسان شريعة الله في أمر من الأمور ليس هو الإنسان ! إنما الحكم هو الله . فإذا أمر الله أو نهى فقد انتهى الجدل ولزم الأمر أو النهي . . فأما إذا ترك الحكم للعقل البشري فمعنى ذلك أن الناس هم المرجع الأخير في شرع الله . . فأين مكان الألوهية إذن وأين مكان العبودية ؟
ونخلص من هذا إلى تركيب الآية ودلالة هذا التركيب :
( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ، إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ) . .
ولم أجد في أقوال المفسرين ما تستريح إلية النفس في صياغة العبارة القرآنية على النحو وتكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح ، ومرة مع الإيمان ، ومرة مع الإحسان . . كذلك لم أجد في تفسيري لهذا التكرار في الطبعة الأولى من هذه الظلال ما يستريح إليه نفسي الأن . . وأحسن ما قرأت - وإن كان لا يبلغ من حسي مبلغ الارتياح - هو قاله ابن جرير الطبري : " الاتقاء الاول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل . والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل " . .
وكان الذي ذكرته في الطبعة الأولى في هذا الموضع هو : " إنه توكيد عن طريق التفصيل بعد الإجمال . فقد أجمل التقوى والإيمان والعمل الصالح في الأولى . ثم جعل التقوى مرة مع الإيمان في الثانية ، ومرة مع الإحسان - وهو العمل الصالح - في الثالثة . . ذلك التوكيد مقصود هنا للاتكاء على هذا المعنى . ولابراز ذلك القانون الثابت في تقدير الأعمال بما يصاحبها من شعور باطني . فالتقوى . . تلك الحساسية المرهفة برقابة الله ، والاتصال به في كل لحظة . والإيمان بالله والتصديق بأوامره ونواهيه ، والعمل الصالح الذي هو الترجمة الظاهرة للعقيدة المستكنة . والترابط بين العقيدة الباطنة والعمل المعبر عنها . . هذه هي مناط الحكم ، لا الظواهر والأشكال . . وهذه القاعدة تحتاج إلى التوكيد والتكرار والبيان " .
وأنا ، اللحظة لا أجد في هذا القول ما يريح أيضا . . ولكنه لم يفتح علي بشيء آخر . . والله المستعان .
{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } مما لم يحرم عليهم لقوله : { إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } أي اتقوا المحرم وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحة . { ثم اتقوا } ما حرم عليهم بعد كالخمر . { وآمنوا } بتحريمه . { ثم اتقوا } ثم استمروا وثبتوا على اتقاء المعاصي . { وأحسنوا } وتحروا الأعمال الجميلة واشتغلوا بها . روي ( أنه لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم : يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر ) فنزلت . ويحتمل أن يكون هذا التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة ، أو باعتبار الحالات الثلاث استعمال الإنسان التقوى والإيمان بينه وبين نفسه وبينه وبين الناس وبينه وبين الله تعالى ، ولذلك بدل الإيمان بالإحسان في الكرة الثالثة إشارة إلى ما قاله عليه الصلاة والسلام في تفسيره ، أو باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى ، أو باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقيا من العقاب والشبهات تحرزا عن الوقوع في الحرام ، وبعض المباحات تحفظا للنفس عن الخسة وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة . { والله يحب المحسنين } فلا يؤاخذهم بشيء ، وفيه أن من فعل ذلك صار محسنا ومن صار محسنا صار لله محبوبا .