وقوله - تعالى - : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } بيان لما يجأرون به إلى ربهم وهم ملقون فى نار جهنم .
ويصطرخون ، بمعنى يستغيثون ويضجون بالدعاء رافعين أصواتهم ، افتعال من الصراخ ، وهو الصياح الشديد المصحوب بالتعب والمشقة ، ويستعمل كثيراً فى العويل والاستغاثة . وأصله يصترخون ، فأبدلت التاء طاء .
وجملة { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا . . . } مقول لقول محذوف .
أى : وهم بعد أن ألقى بهم فى نار جهنم ، أخذوا يستغيثون ويضجعون بالدعاء والعويل ويقولون : يا ريبنا أخرجنا من هذه النار ، وأعدنا إلى الحياة الدنيا ، لكى نؤمن بك وبرسولك ، ونعمل أعمالاً صالحة أخرى ترضيك ، غير التى كنا نعملها فى الدنيا .
وقولهم هذا يدل على شدة حسرتهم ، وعلى اعترافهم بجرمهم ، وبسوء أعمالهم التى كانوا يعملونها فى الدنيا .
وهنا يأتيهم من ربهم الرد الذى يخزيهم فيقول - سبحانه - { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير . . . } .
والاستفهام للتوبيخ والتقريع ، والكلام على إضمار القول ، وقوله { نُعَمِّرْكُمْ } من التعمير الإِبقاء والإِمهال فى الحياة الدانيا إلى الوقت الذى كان يمكنهم فيه الإِقلاع عن الكفر إلى الإِيمان .
و { مَّا } فى قوله { يَتَذَكَّرُ فِيهِ } نكرة موصوفة بمعنى مدة . والضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى عمرهم الذى قضوه فى الدنيا .
والمعنى : أن هؤلاء الكافرين عندما يقولون بحسرة وضراعة : يا ربنا أخرجنا من النار وأعدنا إلى الدنيا لنعمل عملاً صالحاً غير الذى كنا نعمله فيها ، يرد عليهم ربهم بقوله لهم على سبيل الزجر والتأنيب : أو لم نمهلكم فى الحياة الدنيا ، ونعطيكم العمر والوقت الذى كنتم تتمكنون فيه من التذكر والاعتبار واتباع طريق الحق ، وفضلاً عن كل ذلك فقد جاءكم النذير الذى ينذركم بسوء عاقبة إصراركم على كفركم ، ولكنكم كذبتموه وأعرضتم عن دعوته .
والمراد بالنذير : جنسه فيتناول كل رسول أرسله الله - تعالى - إلى قومه ، فكذبوه ولم يستجيبوا لدعوته ، وعلى رأس هؤلاء المنذرين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والفاء فى قوله - تعالى - { فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجئ النذير .
أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم ، فاخسأوا فى جهنم ، واتركوا الصراخ والعويل ، وذوقوا عذبها الذى كنتم تكذبون به فى الدنيا ، فليس للمصرين على كفرهم من نصير ينصرهم ، أو يدفع عنهم شيئاً من العذاب الذى يستحقونه .
ثم ها نحن أولاء يطرق أسماعنا صوت غليظ محشرج مختلط الأصداء ، متناوح من شتى الأرجاء . إنه صوت المنبوذين في جهنم :
وجرس اللفظ نفسه يلقي في الحس هذه المعاني جميعاً . . فلنتبين من ذلك الصوت الغليظ ماذا يقول . إنه يقول :
( ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل ) . .
إنه الإنابة والاعتراف والندم إذن . ولكن بعد فوات الأوان . فها نحن أولاء نسمع الرد الحاسم يحمل التأنيب القاسي :
( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ? ) . .
فلم تنتفعوا بهذه الفسحة من العمر ، وهي كافية للتذكر لمن أراد أن يتذكر .
زيادة في التنبيه والتحذير . فلم تتذكروا ولم تحذروا .
( فذوقوا . فما للظالمين من نصير ) . .
إنهما صورتان متقابلتان : صورة الأمن والراحة ، تقابلها صورة القلق والاضطراب . ونغمة الشكر والدعاء تقابلها ضجة الاصطراخ والنداء . ومظهر العناية والتكريم ، يقابله مظهر الإهمال والتأنيب . والجرس اللين والإيقاع الرتيب ، يقابلهما الجرس الغليظ والإيقاع العنيف . فيتم التقابل ، ويتم التناسق في الجزئيات وفي الكليات سواء .
وقوله : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } أي : ينادون فيها ، يجأرون إلى الله ، عز وجل بأصواتهم : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } أي : يسألون الرجعة إلى الدنيا ، ليعملوا غير عملهم الأول ، وقد علم الرب ، جل جلاله ، أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا ، لعادوا لما نهوا عنه ، وإنهم لكاذبون . فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم ، كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم : { فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا } [ غافر : 11 ، 12 ] ، أي : لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك ، ولو رددتم لعدّتم إلى ما نهيتم عنه ؛ ولهذا قال هاهنا : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } أي : أوما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم ؟
وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد هاهنا فروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال : مقدار سبع عشرة سنة .
وقال قتادة : اعلموا أن طول العمر حجة ، فنعوذ بالله أن نُعَيَّر {[24586]} بطول العمر ، قد نزلت هذه الآية : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } ، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة ، وكذا قال أبو غالب الشيباني .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن مَعْمَر ، عن رجل ، عن وهب بن مُنَبِّه في قوله : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } قال : عشرين{[24587]} سنة .
وقال هشيم ، عن منصور ، عن زاذان ، عن الحسن في قوله : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } قال : أربعين سنة .
وقال هُشَيْم [ أيضا ] {[24588]} ، عن مجاهد ، عن الشعبي ، عن مسروق أنه كان يقول : إذا بلغ أحدكم أربعين سنة ، فليأخذ حذره من الله عز وجل .
وهذه رواية عن ابن عباس فيما قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن مجاهد قال : سمعت ابن عباس يقول : العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } أربعون سنة .
هكذا رواه من هذا الوجه ، عن ابن عباس . وهذا القول هو اختيار ابن جرير . ثم رواه من طريق الثوري وعبد الله بن إدريس ، كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم{[24589]} ، عن مجاهد{[24590]} ، عن ابن عباس قال : العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } ستون سنة .
فهذه الرواية أصح عن ابن عباس ، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضًا ، لما ثبت في ذلك من الحديث - كما سنورده - لا كما زعمه ابن جرير ، من أن الحديث لم يصح ؛ لأن في إسناده مَنْ يجب التثبت في أمره .
وقد روى{[24591]} أصبغ بن نُباتة ، عن علي ، رضي الله عنه ، أنه قال : العمر الذي عَيَّرهم الله به في قوله تعالى : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } ستون سنة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي : حدثنا دُحَيْم ، حدثنا ابن أبي فُدَيْك ، حدثني إبراهيم بن الفضل المخزومي ، عن ابن أبي حُسَين المكي ؛ أنه حدثه عن عَطاء - هو ابن أبي رباح - عن{[24592]} ابن عباس رضي الله عنهما{[24593]} ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة قيل : أين أبناء الستين ؟ وهو العمر الذي قال الله فيه : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِير } .
وكذا رواه ابن جرير ، عن علي بن شعيب ، عن محمد بن إسماعيل{[24594]} بن أبي فُدَيك ، به . وكذا رواه الطبراني من طريق ابن أبي فديك ، به{[24595]} . وهذا الحديث فيه نظر ؛ لحال إبراهيم بن الفضل ، والله أعلم .
حديث آخر : قال{[24596]} الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن رَجُل من بني غفَار ، عن سعيد المَقْبُرِيّ ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة ، لقد أعذر الله إليه ، لقد أعذر الله إليه " . {[24597]}
وهكذا رواه الإمام البخاري في " كتاب الرقاق " من صحيحه : حدثنا عبد السلام بن مُطَهَّر ، عن عُمَر بن علي ، عن مَعْن بن محمد الغفَاري ، عن سعيد المَقْبُرِيّ ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخَّر عمره حتى بَلَّغَه ستين سنة " . ثم قال البخاري : تابعه أبو حازم وابن عَجْلان ، عن سعيد المَقْبُرِيّ . {[24598]}
فأما أبو حازم فقال ابن جرير : حدثنا أبو صالح الفَزَاريّ ، حدثنا محمد بن سَوَّار ، أخبرنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القاريّ الإسكندريّ ، حدثنا أبو حازم ، عن سعيد المَقْبُرِيّ ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " [ من عَمَّرَه ]{[24599]} الله ستين سنة ، فقد أعذر إليه في العمر " .
وقد رواه الإمام أحمد والنسائي في الرقاق جميعا عن قتيبة ، عن يعقوب بن عبد الرحمن به . {[24600]}
ورواه البزار قال : حدثنا هشام بن يونس ، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة " . يعني : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ }{[24601]} .
وأما متابعة " ابن عجلان " فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو السفر يحيى بن محمد بن عبد الملك بن قرعة بسامراء ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني محمد بن عجلان ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله ، عز وجل ، إليه في العمر " . وكذا رواه الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن هو المقرئ{[24602]} ، به . {[24603]} ورواه أحمد أيضًا عن خلف عن أبي مَعْشَر ، عن سعيد المَقْبُرِيّ .
طريق أخرى عن أبي هريرة : قال ابن جرير : حدثني أحمد بن الفرج أبو عُتْبَة{[24604]} الحِمْصِي ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، حدثنا المطرف بن مازن الكناني ، حدثني مَعْمَر بن راشد قال : سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفَاري يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد أعذر الله عز وجل ، إلى صاحب الستين سنة والسبعين " . {[24605]}
فقد صح هذا الحديث من هذه الطرق ، فلو لم يكن{[24606]} إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد الله البخاري شيخ هذه الصناعة لكفت . وقول ابن جرير : ( إن في رجاله بعض من يجب التثبت في أمره ) ، لا يلتفت إليه مع تصحيح البخاري ، والله أعلم .
وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة ، فالإنسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين ، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم ، كما قال الشاعر :
إذَا بَلَغَ الفتَى ستينَ عَاما *** فقد ذَهَبَ المَسَرَّةُ والفَتَاءُ{[24607]}
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله إلى عباده به ، ويزيح به عنهم العلل ، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة ، كما ورد بذلك الحديث ، قال الحسن بن عرفة ، رحمه الله :
حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم مَن يجوز ذلك " .
وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعا في كتاب الزهد ، عن الحسن بن عرفة ، به . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه{[24608]} .
وهذا عَجَب من الترمذي ، فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق أخرى ، عن أبي هريرة حيث قال :
حدثنا سليمان{[24609]} بن عمر ، عن محمد بن ربيعة ، عن كامل أبي العلاء ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك " .
وقد رواه الترمذي في " كتاب الزهد " أيضا ، عن إبراهيم بن سعيد الجوهري ، عن محمد بن ربيعة ، به . {[24610]} ثم قال : هذا حديث حسن غريب ، من حديث أبي صالح عن أبي هريرة ، وقد روي من غير وجه عنه . هذا نصه بحروفه في الموضعين ، والله أعلم .
وقال{[24611]} الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو موسى الأنصاري ، حدثنا ابن أبي فُدَيْك ، حدثني إبراهيم بن الفضل - مولى بني مخزوم - عن المَقْبُريّ ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مُعْتَرك المنايا ما بين الستين إلى السبعين " .
وبه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقل أمتي أبناء سبعين " . إسناده ضعيف . {[24612]}
حديث آخر في معنى ذلك : قال{[24613]} الحافظ أبو بكر البزار في مسنده :
حدثنا إبراهيم بن هانئ ، حدثنا إبراهيم بن مهدي ، حدثنا عثمان بن مطر ، عن أبي مالك ، عن رِبْعِي عن حذيفة أنه قال : يا رسول الله ، أنبئنا بأعمار أمتك . قال : " ما بين الخمسين إلى الستين " قالوا : يا رسول الله ، فأبناء السبعين ؟ قال : " قَلّ مَنْ يبلغها من أمتي ، رحم الله أبناء السبعين ، ورحم الله أبناء الثمانين " .
ثم قال البزار : لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد ، وعثمان بن مطر من أهل البصرة ليس بقوي . {[24614]}
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثا وستين سنة . وقيل : ستين . وقيل : خمسًا وستين سنة . والمشهور الأول ، والله أعلم .
وقوله : { وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } : روي عن ابن عباس ، وعِكْرِمَة ، وأبي جعفر الباقر ، وقتادة ، وسفيان بن عُيَيْنَة أنهم قالوا : يعني : الشيب .
وقال السُّدِّيّ ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن زيد : { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى } [ النجم : 56 ] . وهذا هو الصحيح عن قتادة ، فيما رواه شيبان ، عنه أنه قال : احتج عليهم بالعمر والرسل .
وهذا اختيار ابن جرير ، وهو الأظهر ؛ لقوله تعالى : { وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [ الزخرف : 77 ، 78 ] ، أي : لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل ، فأبيتم وخالفتم ، وقال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [ الإسراء : 15 ] ، وقال تبارك وتعالى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } [ الملك : 8 ، 9 ] .
وقوله : { فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } أي : فذوقوا عذابَ النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعماركم ، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال .
{ وهم يصطرخون فيها } يستغيثون يفتعلون من الصراخ وهو الصياح استعمل في الاستغاثة لجهر المستغيث صوته . { ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل } بإضمار القول وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح والاعتراف به ، والإشعار بأن استخراجهم لتلافيه وأنهم كانوا يحسبون انه صالح والآن تحقق لهم خلافه . { أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } جواب من الله وتوبيخ لهم و { ما يتذكر } فيه متناول كل عمر يمكن المكلف فيه من التفكر والتذكر ، وقيل ما بين العشرين إلى الستين . وعنه الصلاة والسلام " العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة " . والعطف على معنى { أو لم نعمركم } فإنه للتقرير كأنه قال : عمرناكم وجاءكم النذير وهو النبي صلى الله عليه وسلم أو الكتاب ، وقيل العقل أو الشيب أو موت الأقارب . { فذوقوا فما للظالمين من نصير } يدفع العذاب عنهم .
و { يصطرخون } يفتعلون من الصراخ أصله يصترخون فأبدلت التاء طاء لقرب مخرج الطاء من الصاد ، وفي الكلام محذوف تقديره يقولون { ربنا } وطلبوا الرجوع إلى الدنيا في مقالتهم هذه فالتقدير فيقال لهم { أو لم نعمركم } على جهة التوقيف والتوبيخ ، و { ما } في قوله { ما يتذكر } ظرفية ، واختلف الناس في المدة التي هي حد للتذكير{[9740]} ، فقال الحسن بن أبي الحسن : البلوغ ، يريد أنه أول حال التذكير ، وقال قتادة : ثمان عشرة سنة ، وقالت فرقة : عشرون سنة ، وحكى الزجاج : سبع عشرة سنة ، وقال ابن عباس : أربعون سنة ، وهذا قول حسن ، ورويت فيه آثار ، وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب مسح الشيطان على وجهه وقال بابي وجه لا يفلح ، وقال مسروق بن الأجدع : من بلغ أربعين سنة فليأخذ حذره من الله ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكنْ . . . له دون ما يأتي حياءٌ ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى . . . وإن جر أسْباب الحياة له الدهر{[9741]}
وقد قال قوم : الحد خمسون سنة وقد قال الشاعر : [ الوافر ]
أخو الخمسين مجتمع أشدي . . . ونجدني مداومة الشؤون{[9742]}
وإن امرأً قد سار خمسين حجة . . . إلى منهل من ورده لقريب{[9743]}
وقال ابن عباس أيضاً وغيره : الحد في ذلك ستون وهي من الأعذار ، وهذا أيضاً قول حسن متجه ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين » وهو العمر الذي قال الله فيه :{ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر }{[9744]} ، وقال صلى الله عليه وسلم : «عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر »{[9745]} ، وقرأ جمهور الناس «ما يتذكر فيه من تذكر » ، وقرأ الأعمش «ما يذكر فيه من أذكر »{[9746]} .
و { النذير } في قول الجمهور الأنبياء وكل نبي نذير أمته ومعاصره ، ومحمد صلى الله عليه وسلم نذير العالم في غابر الزمان ، وقال الطبري وقيل { النذير } الشيب وهذا قول حسن ، إلا أن الحجة إنما تقوم بالنذارة الشرعية وباقي الآية بين .
{ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ } .
الضمير إلى { الذين كفروا } [ فاطر : 36 ] والجملة عطف على جملة { لهم نار جهنم } [ فاطر : 36 ] ولا تجعل حالاً لأن التذييل آذنَ بانتهاء الكلام وباستقبال كلام جديد .
و { يصطرخون } مبالغة في ( يصرخون ) لأنه افتعال من الصراخ وهو الصياح بشدة وجهد ، فالاصطراخ مبالغة فيه ، أي يصيحون من شدة ما نابهم .
وجملة { ربنا أخرجنا } بيان لجملة { يصطرخون } ، يحسبون أن رفع الأصوات أقرب إلى علم الله بندائهم ولإِظهار عدم إطاقة ما هم فيه .
وقولهم : { نعمل صالحاً } وعدٌ بالتدارك لما فاتهم من الأعمال الصالحة ولكنها إنابة بعد إبانها .
ولإِرادة الوعد جُزم { نعمل صالحاً } في جواب الدعاء . والتقدير : إن تخرجنا نعملْ صالحاً .
و { غير الذي كنا نعمل } نعت ل { صالحاً } ، أي عملاً مغايراً لما كنا نعمله في الدنيا وهذا ندامة على ما كانوا يعملونه لأنهم أيقنوا بفساد عملهم وضره فإن ذلك العالَم عالم الحقائق .
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين من نصير } .
الواو عاطفة فعل قول محذوفاً لعلمه من السياق بحسب الضمير في { نعمركم } معطوفاً على جملة { وهم يصطرخون فيها } فإن صراخهم كلام منهم ، والتقدير : يقولون ربنا أخرجنا ونقول ألم نعمركم .
والاستفهام تقريع للتوبيخ ، وجُعل التقرير على النفي توطئة ليُنكره المقرَّر حتى إذا قال : بلى علم أنه لم يسعه الإِنكار حتى مع تمهيد وطاء الإِنكار إليه .
والتعمير : تطويل العمر . وقد تقدم غير مرة ، منها عند قوله تعالى : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } في سورة البقرة ( 96 ) ، وقوله : { وما يعمر من معمر } في هذه السورة ( 11 ) .
وما } ظرفية مصدرية ، أي زمان تعمير مُعَمَّر .
وجملة { يتذكر فيه من تذكر } صفة ل { ما } ، أي زماناً كافياً بامتداده للتذكّر والتبصير .
و { النذير } الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .
وجملة { وجاءكم النذير } عطف على جملة « ألم نعمركم » لأن معناها الخبر فعطف عليها الخبر ، على أن عطف الخبر على الإِنشاء جائز على التحقيق وهو هنا حسن .
ووصف الرسول بالنذير لأن الأهم من شأنه بالنسبة إليهم هو النذارة .
والفاء في { فذوقوا } للتفريع . وحذف مفعول « ذوقوا » لدلالة المقام عليه ، أي ذوقوا العذاب .
والأمر في قوله { فذوقوا } مستعمل في معنى الدوام وهو كناية عن عدم الخلاص من العذاب .
وقوله : { فما للظالمين من نصير } تفريع على ما سبق من الحكاية . فيجوز أن يكون من جملة الكلام الذي وبخهم الله به فهو تذييل له وتفريع عليه لتأييسهم من الخلاص يعني : فأين الذين زعمتم أنهم أولياؤكم ونصراؤكم فما لكم من نصير .
وعدل عن ضمير الخطاب أن يقال : فما لكم من نصير ، إلى الاسم الظاهر بوصف « الظالمين » لإِفادة سبب انتفاء النصير عنهم ؛ ففي الكلام إيجاز ، أي لأنكم ظالمون وما للظالمين من نصير ، فالمقصود ابتداء نفي النصير عنهم ويتبعه التعميم بنفي النصير عن كل من كان مثلهم من المشركين .
ويجوز أن يكون كلاماً مستقلاً مفرعاً على القصة ذُيّلت به للسامعين من قوله : { والذين كفروا لهم نار جهنم } [ فاطر : 36 ] ، فليس فيه عدول عن الإِضمار إلى الإِظهار لأن المقصود إفادة شمول هذا الحكم لكل ظالم فيدخل الذين كفروا المتحدث عنهم في العموم .
والظلم : هو الاعتداء على حق صاحب حق ، وأعظمه الشرك لأنه اعتداء على الله بإنكار صفته النفيسة وهي الوحدانية ، واعتداء المشرك على نفسه إذْ أقحمها في العذاب قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] .
وتعميم « الظالمين » وتعميم « النصير » يقتضي أن نصر الظالم تجاوزٌ للحق ، لأن الحق أن لا يكون للظالم نصير ، إذ واجب الحكمة والحقِّ أن يأخذ المقتدر على يد كل ظالم لأن الأمة مكلفة بدفع الفساد عن جماعتها .
وفي هذا إبطال لخُلُق أهل الجاهلية القائلين في أمثالهم " انصُرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً " . وقد ألقى النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه إبطال ذلك فساق لهم هذا المثلَ حتى سألوا عنه ثم أصلح معناه مع بقاء لفظه فقال : " إذا كان ظالماً تنصره على نفسه فتكفه عن ظلمه " .