ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المختلفين فى شأن الكتاب ، الشاكين فى صدقه ، سوف يجمعهم الله - تعالى - مع غيرهم يوم القيامة للجزاء والحساب على أعمالهم فقال - تعالى - { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
وقد وردت فى هذه الآية الكريمة عدة قراءات متوارتة منها : قراءة ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بتشديد ، إن ولما ، وقد قيل فى تخريجها :
إن لفظ { كلا } اسم { إن } والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه ، واللام فى ، { لما } هى الداخلة فى خبر { إن } وما بعد اللام هو حرف " من " الذى هو من حروف الجر ، و " ما " موصولة أو نكره موصوفة والمراد بها من يعقل ، فيحكون تقدير الكلام : وإن كلا " لمن ما " فقلبت النون ميما للإِدغام فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت واحدة منها للتخفيف ، فصارت " لما " والجار والمجرور خبر " إن " ، واللام فى { ليوفينهم } ، جواب قسم مضمر ، والجملة صلة أو صفة { لما } .
والتقدير : وإن كلا من أولئك المختلفين وغيرهم لمن خلق الله الذين هم بحق ربك ليوفينهم - سبحانه - جزاء أعمالهم بدون أن يلفت منهم أحد ، إنه - سبحانه - لا يخفى عليه شئ منها .
وفى الآية الكريمة توكيدات متنوعة ، حتى لا يشك فى نزول العذاب بالظالمين مهما تأجل ، وحتى لا يشك أحد - أيضا - فى أن ما عليه المشركون هو الباطل الذى لا يعرفه الحق ، وأنه الكفر الذى تلقاه الخلف عن السلف .
وكان مقتضى حال الدعوة الإِسلامية فى تلكالفترة التى نزلت فيها هذه السورة - وهى فترة ما بعد حادث الإِسراء والمعراج وقبل الهجرة - يستلزم هذه التأكيدات تثبيتا لقلوب المؤمنين ، وتوهينا للشرك والمشركين .
قال الإِمام الفخر الرازى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : سمعت بعض الأفاضل قال : إنه - تعالى - لما أخبر عن توفية الأجيزة على المستحقين فى هذه الآية ، ذكر فيها سبعة أنواع من التأكيدات :
أولها : كلمة " إن " وهى للتأكيد ، وثانيها كلمة " كل " وهى أيضا للتأكيد ، وثالثها : اللام الداخلة على خبر " إن " وهى تفيد التأكيد - أيضا - ، ورابعها حرف " ما " إذا جعلناه على قول الفراء موصولا ، وخامسها : القسم المضمر فإن تقدير الكلام : وإن جميعهم والله ليوفينهم : وسادسها : اللام الثانية الداخلة على جواب القسم ، وسابعها : النون المؤكدة فى قوله " ليوفينهم " .
فجميع هذه المؤكدات السبتعة تدل على أن أمر القيامة والحساب والجزاء حق . .
( وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم . إنه بما يعملون خبير ) وفي التعبير توكيدات منوعة حتى لا يشك أحد في الجزاء والوفاء من جراء الإنظار والتأجيل . وحتى لا يشك أحد في أن ما عليه القوم هو الباطل الذي لا شك في بطلانه ، وأنه الشرك الذي زاوله من قبل كل المشركين .
ولقد كان لهذه التوكيدات ما يقتضيها من واقع الحركة في تلك الفترة . فقد وقف المشركون وقفتهم العنيدة منها ومن رسول الله [ ص ] والقلة المؤمنة معه ، وتجمدت الدعوة على وجه التقريب . بينما عذاب الله الموعود مؤجل لم يقع بعد . والأذى ينزل بالعصبة المؤمنة ويمضي أعداؤها ناجين ! . . إنها فترة تهتزفيها بعض القلوب . وحتى القلوب الثابتة تنالها الوحشة ، وتحتاج إلى مثل هذه التسرية وإلى مثل هذا التثبيت .
وتثبيت القلوب المؤمنة لا يكون بشيء كما يكون بتوكيد أن أعداءها هم أعداء الله ، وأنهم على الباطل الذي لا شك فيه !
كذلك لا يكون تثبيت القلوب المؤمنة بشيء كما يكون بجلاء حكمة الله في إمهال الظالمين ، وإرجاء الطغاة إلى يوم معلوم ، ينالون فيه جزاءهم ولا يفلتون !
وهكذا نلمح مقتضيات الحركة بهذه العقيدة في النصوص القرآنية ، ونرى كيف يخوض القرآن المعركة بالجماعة المسلمة ، وكيف يكشف لها معالم الطريق !
ثم أخبرنا{[14937]} تعالى أنه سيجمع الأولين والآخرين من الأمم ، ويجزيهم بأعمالهم ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر ، فقال : { وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : عليم بأعمالهم جميعها ، جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها .
وفي هذه الآية قراءات كثيرة ، ويرجع معناها إلى هذا الذي ذكرناه ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّ كُلاّ لّمّا لَيُوَفّيَنّهُمْ رَبّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
اختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة من قرأة أهل المدينة والكوفة : وَإنّ مشددة كُلاّ لمّا مشدّدة .
واختلفت أهل العربية في معنى ذلك ؛ فقال بعض نحويي الكوفيين : معناه إذا قرىء كذلك : وإن كلاّ لمما ليوفيهم ربك أعمالهم ، ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة ، فبقيت ثنتان ، فأدغمت واحدة في الأخرى ، كما قال الشاعر :
وإنّي لَمّا أُصْدِرُ الأمْرَ وَجْهَهُ *** إذَا هُوَ أعْيا بالنّبِيل مَصَادِرُه
ثم تخفف ، كما قرأ بعض القرأة : { والبَغْي يَعِظُكُمْ } ، يخفف الياء مع الياء ، وذكر أن الكسائي أنشده :
وأشْمَتّ العُدَاةَ بِنَا فَأضْحَوا *** لَدَيْ يَتَباشَرُونَ بِمَا لَقَيْنَا
وقال : يريد : لديّ يتباشرون بما لقينا ، فحذف «ياء » لحركتهن واجتماعهن ، قال : ومثله :
كأنَّ مِنْ آخرَها إلقادِم *** مَخْرِمُ نَجْدٍ فارعِ المَخارِمِ
وقال : أراد : إلى القادم ، فحذف اللام عند اللام .
وقال آخرون : معنى ذلك إذا قرىء كذلك : وإنّ كُلاّ شديدا وحقّا ليوفيهم ربك أعمالهم . قال : وإنما يراد إذا قرىء ذلك كذلك : وإنّ كُلاّ لَمّا بالتشديد والتنوين ، ولكن قارىء ذلك كذلك حذف منه التنوين ، فأخرجه على لفظ : «فَعْلَى » ، لما كما فعل ذلك في قوله : { ثُمّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرَى } ، فقرأ «تترى » بعضهم بالتنوين ، كما قرأ من قرأ : «لَمّا » بالتنوين ، وقرأ آخرون بغير تنوين ، كما قرأ لَمّا بغير تنوين من قرأه ، وقالوا : أصله من اللمّ ، من قول الله تعالى : { وتَأْكُلُونَ التّراثَ أكْلاً لَمّا } ، يعني : أكلاً شديدا .
وقال آخرون : معنى ذلك إذا قرىء كذلك : وإن كلاّ إلا ليوفيهم ، كما يقول القائل : لقد قمت عنا ، وبالله إلا قمت عنا . ووجدت عامة أهل العلم بالعربية ينكرون هذا القول ، ويأبون أن يكون جائزا توجيه «لما » إلى معنى «إلا » في اليمين خاصة ، وقالوا : لو جاز أن يكون ذلك بمعنى إلا ، جاز أن يقال : قام القوم لما أخاك ، بمعنى : إلا أخاك ، ودخولها في كل موضع صلح دخول إلا فيه . وأنا أرى أن ذلك فاسد من وجه هو أبين مما قاله الذين حكينا قولهم من أهل العربية إنّ في فساده ، وهو أنّ «إنّ » إثبات للشيء وتحقيق له ، و «إلا » أيضا تحقيق أيضا ، وإنما تدخل نقضا لجحد قد تقدمها . فإذا كان ذلك معناها : فواجب أن تكون عند متأوّلها التأويل الذي ذكرنا عنه ، أن تكون بمعنى الجحد عنده ، حتى تكون إلا نقضا لها . وذلك إن قاله قائل ، قولٌ لا يخفى جهل قائله ، اللهمّ إلا أن يخفف قارىء «إنّ » ، فيجعلها بمعنى : «إن » التي تكون بمعنى الجحد . وإن فعل ذلك فسدت قراءته ذلك كذلك أيضا من وجه آخر ، وهو أنه يصير حينئد ناصبا ل «كلّ » ، بقوله : ليوفيهم ، وليس في العربية أن ينصب ما بعد «إلا » من الفعل الاسم الذي قبلها ، لا تقول العرب : ما زيدا إلا ضربت ، فيفسد ذلك إذا قرىء كذلك من هذا الوجه إلا أن يرفع رافع الكلّ ، فيخالف بقراءته ذلك كذلك قراءة القرأة وخطّ مصاحف المسلمين ، ولا يخرج بذلك من العيب بخروجه من معروف كلام العرب . وقد قرأ ذلك بعض قراء الكوفيين ) ، { وإنْ كُلاّ } ، بتخفيف «إن » ونصب «كلاّ لمّا » مشددة . وزعم بعض أهل العربية أن قارىء ذلك كذلك أراد «إنّ » الثقيلة ، فخففها . وذُكر عن أبي زيد البصري أنه سمع : كأنْ ثدييه حُقّان ، فنصب ب «كأنْ » ، والنون مخففة من «كأن » ، ومنه قول الشاعر :
وَوَجْهٌ مُشْرِقُ النّحْرِ *** كأنْ ثَدْيَيْهِ حُقّانٍ
وقرأ ذلك بعض المدنين بتخفيف «إنّ » ونصب «كُلاّ » وتخفيف «لَمَا » . وقد يحتمل أن يكون قارىء ذلك كذلك قصد المعنى الذي حكيناه عن قارىء الكوفة من تخفيفه نون «إن » ، وهو يريد تشديدها ، ويريد بما التي في «لَمَا » التي تدخل في الكلام صلة ، وأن يكون قصد إلى تحميل الكلام معنى : وإن كلاّ ليوفينهم ، ويجوز أن يكون معناه كان في قراءته ذلك كذلك : وإنْ كُلاّ ليوفينهم ، أيْ : ليوفّينّ كُلاّ ، فيكون نيته في نصب «كلّ » كانت بقوله : «ليَوفينهم » ، فإن كان ذلك أراد ففيه من القبح ما ذكرت من خلافه كلام العرب ، وذلك أنها لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسما قبلها .
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والبصرة : «وإنّ » مشددة «كُلاّ لَمَا » مخففة ، لَيُوفّيَنّهُمْ ، ولهذه القراءة وجهان من المعنى : أحدهما : أن يكون قارئها أراد : وإنّ كُلاّ لمَنْ ليوفيهم ربك أعمالهم ، فيوجه «ما » التي في «لما » إلى معنى «مَنْ » ، كما قال جلّ ثناؤه : { فانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ } ، وإن كان أكثر استعمال العرب لها في غير بني آدم ، وينوي باللام التي في «لما » اللام التي يتلقى بها «وإن » جوابا لها ، وباللام التي في قوله : لَيُوفّيَنّهُمْ لام اليمين دخلت فيما بين ما وصلتها ، كما قال جلّ ثناؤه : { وإنْ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطّئَنّ } ، وكما يقال هذا ما لغيره أفضل منه . والوجه الاَخر : أن يجعل «ما » التي في «لما » بمعنى : «ما » التي تدخل صلة في الكلام ، واللام التي فيها اللام التي يجاب بها ، واللام التي في : لَيُوَفّيَنّهُمْ هي أيضا اللام التي يجاب بها «إنّ » كرّرت وأعيدت ، إذا كان ذلك موضعها ، وكانت الأولى مما تدخلها العرب في غير موضعها ، ثم تعيدها بعدُ في موضعها ، كما قال الشاعر :
فَلَوْ أنّ قَوْمي لَمْ يَكُونُوا أعِزّةً *** لَبَعْدُ لَقَدْ لا قَيْتُ لا بُدّ مَصْرَعا
وقرأ ذلك الزهري ، فيما ذكر عنه : { وَإنّ كُلاّ } ، بتشديد إنّ ولَمّا بتنوينها ، بمعنى : شديدا وحقّا وجميعا .
وأصح هذه القراءات مخرجا على كلام العرب المستفيض فيهم قراءة من قرأ : «وإنّ » بتشديد نونها ، «كُلاّ لَمَا » بتخفيف ما { لَيُوَفّيَنّهُمْ رَبّكَ } ، بمعنى : وإن كلّ هؤلاء الذين قصصنا عليك يا محمد قصصهم في هذه السور ، لمن ليوفينهم ربك أعمالهم بالصالح منها بالجزيل من الثواب ، وبالطالح منها بالتشديد من العقاب ، فتكون «ما » بمعنى : «من » واللام التي فيها : جوابا لأن واللام في قوله : لَيُوفّيَنّهُمْ لام قسم .
وقوله : { إنّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ، يقول تعالى ذكره : إن ربك بما يعمل هؤلاء المشركون بالله من قومك ، يا محمد ، { خبير } ، لا يخفى عليه شيء من عملهم ، بل يخبرُ ذلك كله ويعلمه ويحيط به حتى يجازيهم على جميع ذلك جزاءهم .
وقرأ الكسائي وأبو عمرو : «وإنَّ كلاًّ لمَا » بتشديد النون وتخفيف الميم من { لما } وقرأ ابن كثير ونافع بتخفيفهما ، وقرأ حمزة بتشديدهما ، وكذلك حفص عن عاصم ؛ وقرأ عاصم - في رواية أبي بكر - بتخفيف «إنْ » وتشديد الميم من «لمّا » وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم : «وإن كلاًّ لمَّاً » بتشديد الميم وتنوينها . وقرأ الحسن بخلاف : «وإنْ كلّ لما » بتخفيف «إن » ورفع «كلٌّ » وشد «لمّا » وكذلك قرأ أبان بن تغلب إلا أنه خفف «لما » ، وفي مصحف أبيّ وابن مسعود «وإن كل إلا ليوفينهم » وهي قراءة الأعمش ، قال أبو حاتم : الذي في مصحف أبيّ : «وإن من كل إلا ليوفينهم أعمالهم » . فأما الأول ف «إن » فيها على بابها ، و «كلاًّ » اسمها ، وعرفها أن تدخل على خبرها لام . وفي الكلام قسم تدخل لامه أيضاً على خبر «إن » فلما اجتمع لامان فصل بينهما ب «ما » - هذا قول أبي علي - والخبر في قوله { ليوفينهم }{[1]} ، وقال بعض النحاة : يصح أن تكون «ما » خبر «إن » وهي لمن يعقل لأنه موضع جنس وصنف ، فهي بمنزلة من ، كأنه قال : وإن كلاًّ لخلق ليوفينهم ؛ ورجح الطبري هذا واختاره{[2]} ، اما أنه يلزم القول أن تكون «ما » موصوفة إذ هي نكرة ، كما قالوا : مررت بما معجب لك ، وينفصل بأن قوله : { ليوفينهم } يقوم معناه مقام الصفة ، لأن المعنى : وإن كلاً لخلق موفى عمله ، وأما من خففها - وهي القراءة الثانية في ترتيبنا فحكم «إن » وهي مخففة حكمها مثقلة ، وتلك لغة فصيحة ، حكى سيبويه أن الثقة أخبره : أنه سمع بعض العرب يقول : إن عمراً لمنطلق وهو نحو قول الشاعر :
ووجه مشرق النحر*** كأن ثدييه حقان{[3]}
ويكون القول في فصل «ما » بين اللامين حسبما تقدم ، ويدخلها القول الآخر من أن تكون «ما » خبر «إن »{[4]} وأما من شددهما أو خفف «إنْ » وشدد «الميم »{[5]} ففي قراءتيهما إشكال ، وذلك أن بعض الناس قال : إن «لما » بمعنى إلا ، كما تقول : سألتك لما فعلت كذا وكذا بمعنى إلا فعلت{[6]} قال أبو علي : وهذا ضعيف لأن «لما » هذه لا تفارق القسم ، وقال بعض الناس : المعنى لمن ما أبدلت النون ميماً ، وأدغمت في التي بعدها فبقي «لمما » فحذفت الأولى تخفيفاً لاجتماع الأمثلة ، كما قرأ بعض القراء { والبغي يعظكم }{[7]} به بحذف الياء مع الياء وكما قال الشاعر :
وأشمت العداة بنا فأضحوا*** لدى يتباشرون بما لقينا{[8]}
قال أبو علي وهذا ضعيف ؛ وقد اجتمع في هذه السورة ميمات أكثر من هذه في قوله : { أمم ممن معك }{[9]} ولم يدغم هناك فأحرى أن لا يدغم هنا .
قال القاضي أبو محمد : وقال بعض الناس أصلها : لمن ما ، ف «من » خبر «إن » و «ما » زائدة وفي التأويل الذي قبله أصله : لمن ما ، ف «ما » هي الخبر دخلت عليها «من » على حد دخولها في قول الشاعر :
وإنا لمن ما نضرب الكبش ضربة*** على رأسه تلقي اللسان من الفم{[10]}
وقالت فرقة «لما » أصلها «لماً » منونة ، والمعنى : وإن كلاً عاماً حصراً شديداً ، فهو مصدر لم يلم ، كما قال : { وتأكلون التراث أكلاً لمَّاً }{[11]} أي شديداً قالت : ولكنه ترك تنوينه وصرفه وبني منه فعلى كما فعل في تترى فقرىء : تترى{[12]} .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، حكي عن الكسائي أنه قال : لا أعرف وجه التثقيل في «لما » ، قال أبو علي : وأما من قرأ «لمَّا » بالتنوين وشد الميم فواضح الوجه كما بينا ، وأما من قرأ : «وإن كل لما » فهي المخففة من الثقيلة ، وحقها - في أكثر لسان العرب - أن يرتفع ما بعدها ، و «لما » هنا بمعنى إلا ، كما قرأ جمهور القراء : { إن كل نفس لما عليها حافظ }{[13]} . ومن قرأ «إلا » مصرحة فمعنى قراءته واضح ، وهذه الآية وعيد .
وقرأ الجمهور : «يعملون » بياء على ذكر الغائب ، وقرأ الأعرج «تعملون » بتاء على مخاطبة الحاضر .
تذييل للأخبار السابقة . والواو اعتراضية . و ( إنْ ) مخفّفة من { إنّ } الثّقيلة في قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي بكر عن عاص ، وأعملت في اسمها فانتصب بعدها . و( إنْ ) المخففة إذا وقعت بعدها جملة اسمية يكثر إعمالها ويكثر إهمالها قاله الخليل وسيبويه ونحاة البصرة وهو الحق . وقرأ الباقون ( إنّ ) مشدّدة على الأصل .
وبتنوين { كُلاّ } عوض عن المضاف إليه . والتقدير : وإنّ كلّهم ، أي كلّ المذكورين آنفاً من أهل القرى ، ومن المشركين المعرّض بهم ، ومن المختلفين في الكتاب من أتباع موسى عليه السّلام .
و ( لَما ) مخفّفة في قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، والكسائي ، فاللاّم الدّاخلة على ( مَا ) لام الابتداء التي تدخل على خبر { إنّ } . واللاّم الثّانية الدّاخلة على { ليوفينّهم } لام جواب القسم . و ( مَا ) مزيدة للتأكيد . والفصل بين اللاّمين دفعاً لكراهة توالي مثلين .
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وخلَف بتشديد الميم من ( لَمّا ) . فعند مَن قرأ ( إنْ ) مخفّفة وشدّد الميم وهو أبو بكر عن عاصم تكون ( إن ) مخفّفة من الثقيلة ، وأمّا مَن شدّد النون ( إنّ ) وشدّد الميم من ( لمّا ) وهم ابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف فتوجيه قراءتهم وقراءة أبي بكر ما قاله القراء : إنّها بمعنى ( لَمِنْ مَا ) فحذف إحدى الميمات الثلاث ، يريد أنّ ( لَمّا ) ليست كلمة واحدة وإن كانت في صُورتها كصورة حرف ( لَمّا ) في رسم المصحف ( لأنّه اتّبع فيه صورة النطق بها ) وإنّما هي مركّبة من لاَم الابتداء و ( مِنْ ) الجارة التي تستعمل في معنى كثرة تكرّر الفعل كالتي في قول أبي حَية النمري :
وإنّا لَمِمّا نَضرب الكبش ضربة *** على رأسه تُلقِي اللسانَ من الفم
أي نكثر ضرب الكبش ، أي أمير جيش العدوّ على رأسه . وقول ابن عبّاس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاقي من الوحي شدّة ، وكان ممّا يحرّك لسانه حين يُنزل عليه القرآن ، فقال الله تعالى : { لا تحرّك به لسانك لتعجل به } [ القيامة : 16 ] الآية . فأصل هذه الكلمات في الآية على هذه القراءات : وإنّ كُلا لَمِنْ مَا ليُوفينهم ، فلمّا قلبت نون ( من ) ميماً لإدغامها في ميم ( مَا ) اجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفاً وهي ميم ( مِن ) لوجود دليل عليها وهو الميم الثانية لأنّ أصل الميم الثّانية نون ( مِن ) فصار ( لَمّا ) .
ومعنى الكثرة في هذه الآية الكناية عن عدم إفلات فريق من المختلفين في الكتاب من إلحاق الجزاء عن عمله به .
والمعنى : وإنّ جميعهم لَلاَقُون جزاء أعمالهم لا يفلت منهم أحد ، وإن توفية الله إياهم أعمالهم حقّقه الله ولم يسامح فيه . فهذا التخريج هو أولى الوجوه التي خرجت عليها هذه القراءة وهو مروي عن الفراء وتبعه المهدوي ونصر الشيرازي النّحوي ومشى عليه البيضاوي .
وقد أنهاها أبو شامة في « شرح منظومَة الشّاطبي » إلى ستّة وجوه وأنهاها غيره إلى ثمانية وجوه .
وفي تفسير الفخر : سمعت بعض الأفاضل قال : إنّ الله تعالى لمّا أخبر عن توفية الأجزية على المستحقّين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التّوكيدات ، أوّلها : كلمة ( إنْ ) وهي للتأكيد ، وثانيها ( كلّ ) وهي أيضاً للتّأكيد ، وثالثها اللاّم الدّاخلة على خبر ( إنّ ) ، ورابعها حرف ( ما ) إذا جعلناه موصولاً على قول الفراء ، وخامسها القسم المضمر ، وسادسها اللاّم الدّاخلة على جواب القسم ، وسابعها النون المؤكدة في قوله : { ليوفينهم } .
وتوفية أعمالهم بمعنى توفية جزاء الأعمال ، أي إعطاء الجزاء وافياً من الخير على عمل الخير ومن السوء على عمل السوء .
وجملة { إنّه بما يعملون خبير } استئناف وتعليل للتّوفية لأنّ إحاطة العلم بأعمالهم مع آرادة جزائهم توجب أن يكون الجزاء مطابقاً للعمل تمام المطابقة . وذلك محقق التوفية .