ثم فتح - سبحانه - لعباده باب رحمته ، ونهاهم عن اليأس من مغفرته ، وأمرهم أن يتوبوا إليه تبوة صادقة نصوحا ، قبل أن يفاجئهم الموت والحساب ، فقال - تعالى - :
{ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ . . . } .
ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } روايات منها : ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال : لما اجتمعنا على الهجرة . تواعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السَّهْمى وعيَّاش بن أبى ربيعة بن عتبة ، فقلنا : الموعد أضَاةَ بنى غفار - أى : غدير بنى غفار - وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه فأصبحت أنا وعياش بن عتبة ، وحبس عنا هشام ، وإذا به قد فُتِن فافتَتنَ ، فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله - عز وجل - وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة ، وكانوا هم - أيضاً - يقولون هذا فى أنفسهم . فأنزل الله - عز وجل - فى كتابه : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ . . } إلى قوله - تعالى - { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } قال عمر : فكتبتها بيدى ، ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمت على خرجت بها إلى ذى طوى فقلت : اللهم فهمنيها ، فعرفت أنها نزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيرى فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم .
والأمر فى قوله - تعالى - : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإضافة العباد إلى الله - تعالى - للتشريف والتكريم .
والإِسراف : تجاوز الحد فى كل شئ ، وأشهر ما يكون استعمالا فى الإِنفاق ، كما فى قوله - تعالى - : { يابني ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } والمراد بالإِسراف هنا : الإِسراف فى اقتراف المعاصى والسيئات ، والخطاب للمؤمنين المذنبين . وعدى الفعل " أسرفوا " بعلى ، لتضمنه معنى الجناية ، أى جنوا على أنفسهم .
والقُنُوط : اليأس ، وفعله من بابى ضرب وتعب . يقال : فلان قانط من الحصول على هذا الشئ ، أى يائس من ذلك ولا أمل له فى تحقيق ما يريده .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لعبادى المؤمنين الذين جنوا على أنفسهم باتكابهم للمعاصى ، قل لهم : لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - ومن مغفرته لكم .
وجملة { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } تعليلية . أى : لا تيأسوا من رحمة الله - تعالى - لأنه هو الذى تفضل بمحو الذنوب جميعها . لمن يشاء من عباده المؤمنين العصاة .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ الغفور الرحيم } أى : هو الواسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده المؤمنين ، فهم إن تابوا من ذنوبهم قبل - سبحانه - توبتهم كما وعد تفضلا منه وكرما ، وإن ما توا دون أن يتوبوا ، فهم تحت رحمته ومشيئته ، إن شاء غفر لهم ، وإن شاء عذبهم ، ثم أدخلهم الجنة بفضله وكرمه .
أما غير المؤمنين ، فإنهم إن تابوا من كفرهم ودخلوا فى الإِسلام ، غفر - سبحانه - ما كان منهم قبل الإِسلام لأن الإِسلام يَجُبّ ما قبله .
وإن ماتوا على كفرهم فلن يغفر الله - تعالى - لهم ، لقوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } قال الإِمام الشوكانى : واعلم أن هذه الآية أرجى آية فى كتاب الله ، لاشتمالها على أعظم بشارة ، فإنه أولا : أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ، ومزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف لى المعاصى . . ثم عقب على ذلك بالنهى عن القنوط من الرحمة . . ثم جاء بما لا يبقى بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن فقال : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب . . } فالألف واللام قد صيرت الجمع الذى دخلت عليه للجنس الذى يستلزم استغراق أفراده ، فهو فى قوة إن الله يغفر كل ذنب كائنا ما كان ، إلا ما أخرجه النص القرآنى وهو الشرك .
ثم لم يكتف بما أخبر به عباده من مغفرة كل ذنب ، بل أكد ذلك بقوله { جميعا } فيالها من بشارة ترتاح لها النفوس . . وما أحسن تعليل هذا الكلام بقوله : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم . . } .
وقال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : وفى هذه الآية من أنواع المعانى والبيان أشياء حسنة ، منها إقباله عليهم ، ونداؤهم ، ومنها : إضافتهم إليه إضافة تشريف ، ومنها : الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، فى قوله : { مِن رَّحْمَةِ الله } ، ومنها : إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ، ومنه : إعادة الظاهر بلفظه فى قوله : { إِنَّ الله يَغْفِرُ } ومنها : إبراز الجملة من قوله : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } مؤكدة بإن ، والفصل ، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الجملة السابقة .
وقال عبد الله بن مسعود وغيره : هذه أرجى آية فى كتاب الله تعالى .
ولما صور الله الحال المفزعة التي يكون عليها الظالمون يوم القيامة في قوله : ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ، وبدا لهم سيئات
ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ) . . عاد يفتح أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة . ويطمع في رحمته ومغفرته أهل المعاصي مهما يكونوا قد أسرفوا في المعصية . ويدعوهم إلى الأوبة إليه غير قانطين ولا يائسين . ومع الدعوة إلى الرحمة والمغفرة صورة ما ينتظرهم لو لم يئوبوا ويتوبوا ، ولو لم ينتهزوا هذه الفرصة المتاحة قبل إفلاتها وفوات الأوان . .
( قل : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم ) . .
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية . كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة . دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال . دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله . إن الله رحيم بعباده . وهو يعلم ضعفهم وعجزهم . ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه . ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد . ويأخذ عليهم كل طريق . ويجلب عليهم بخيله ورجله . وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث ! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه . وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده . وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك ؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم . .
يعلم الله - سبحانه - عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون ؛ ويوسع له في الرحمة ؛ ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط . وبعد أن يلج في المعصية ، ويسرف في الذنب ، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ، ولم يعد يقبل ولا يستقبل . في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط ، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف :
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم . .
وليس بينه - وقد أسرف في المعصية ، ولج في الذنب ، وأبق عن الحمى ، وشرد عن الطريق - ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية ، وظلالها السمحة المحيية . ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة . التوبة وحدها . الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع ، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان :
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ؛ أن ابن جريج أخبرهم : قال يعلى : إن سعيد بن جبير أخبره عن ابن عباس{[25181]} [ رضي الله عنهما ]{[25182]} ؛ أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا . فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة . فنزل : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ } [ الفرقان : 68 ] ، ونزل [ قوله ] {[25183]} : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } .
وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث ابن جريج ، عن يعلى بن مسلم المكي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، به{[25184]} .
والمراد من الآية الأولى قوله : { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } الآية . [ الفرقان : 70 ] .
وقال{[25185]} الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو قبيل قال : سمعت أبا عبد الرحمن المري{[25186]} يقول : سمعت{[25187]} ثوبان - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } إلى آخر الآية ، فقال رجل : يا رسول الله ، فمن أشرك ؟ فسكت النبي{[25188]} صلى الله عليه وسلم ثم قال : " ألا ومن أشرك " ثلاث مرات . تفرد به الإمام أحمد{[25189]} .
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا سريج {[25190]} بن النعمان ، حدثنا روح بن قيس ، عن أشعث بن جابر الحداني ، عن مكحول ، عن{[25191]} عمرو بن عَبَسة{[25192]} قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، شيخ كبير يدعم على عصا له ، فقال : يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات ، فهل يغفر لي ؟ فقال : " ألست تشهد أن لا إله إلا الله ؟ " قال : بلى ، وأشهد أنك رسول الله . فقال : " قد غفر لك غدراتك وفجراتك " . تفرد به أحمد{[25193]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن شهر بن حوشب{[25194]} ، عن أسماء بنت يزيد{[25195]} قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] وسمعته يقول : " { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } ولا يبالي { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث ثابت ، به {[25196]} .
فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد : أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة ، ولا يقنطن{[25197]} عبد من رحمة الله ، وإن عظمت ذنوبه وكثرت ؛ فإن باب التوبة والرحمة واسع ، قال الله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة : 104 ] ، وقال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 110 ] ، وقال تعالى في حق المنافقين : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلا الَّذِينَ تَابُوا } [ النساء : 146 ، 145 ] ، وقال { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 73 ] ، ثم قال { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ المائدة : 74 ] ، وقال { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا } [ البروج : 10 ] .
قال الحسن البصري : انظر{[25198]} إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة ! .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حديث الذي{[25199]} قتل تسعا{[25200]} وتسعين نفسا ، ثم ندم وسأل عابدا من عُبَّاد بني إسرائيل : هل له من توبة ؟ فقال : لا . فقتله وأكمل{[25201]} به مائة . ثم سأل عالما من علمائهم : هل له من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها ، فقصدها فأتاه الموت في أثناء الطريق ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأمر الله أن يقيسوا ما بين الأرضين ، فإلى أيهما كان أقرب فهو منها . فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر ، فقبضته ملائكة الرحمة . وذكر أنه نأى بصدره عند الموت ، وأن الله أمر البلدة الخيرة أن تقترب ، وأمر تلك البلدة أن تتباعد{[25202]} {[25203]} هذا معنى الحديث ، وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما{[25204]} [ في ]{[25205]} قوله : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } إلى آخر الآية ، قال : قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله ، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله ، ومن زعم أن عزيرا{[25206]} ابن الله ، ومن زعم أن الله فقير ، ومن زعم أن يد الله مغلولة ، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة ، يقول الله تعالى لهؤلاء : { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ المائدة : 74 ] ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولا من هؤلاء ، من قال : { أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، وقال { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] . قال ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[25207]} من آيس عباد الله{[25208]} من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله ، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه .
وروى الطبراني من طريق الشعبي ، عن شُتَير بن شَكَل أنه قال : سمعت ابن مسعود يقول إن أعظم آية في كتاب الله : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] ، وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } [ النحل : 90 ] ، وإن أكثر آية في القرآن فرجا في سورة الغرف : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } ، وإن أشد آية في كتاب الله تصريفا{[25209]} { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 3 ، 2 ] . فقال له مسروق : صدقت .
وقال الأعمش ، عن أبي سعيد ، عن أبي الكنود قال : مر عبد الله - يعني ابن مسعود - على قاص ، وهو يذكر الناس ، فقال : يا مذكر لم تُقَنِّط{[25210]} الناس ؟ ثم قرأ : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } رواه ابن أبي حاتم .
قال{[25211]} الإمام أحمد : حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا أبو عبيدة عبد المؤمن بن عبيد الله {[25212]} ، حدثني أخشن السدوسي قال : دخلت على أنس بن مالك{[25213]} فقال{[25214]} سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " والذي نفسي بيده ، لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ، ثم استغفرتم الله لغفر لكم ، والذي نفس محمد بيده ، لو لم تخطئوا{[25215]} لجاء الله بقوم يخطئون ، ثم يستغفرون الله فيغفر لهم " تفرد به [ الإمام ]{[25216]} أحمد{[25217]} . وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى{[25218]} حدثني ليث حدثني محمد بن قيس - قاص عمر بن عبد العزيز - عن أبي صِرْمة ، عن أبي أيوب الأنصاري ، رضي الله عنه ، أنه قال حين حضرته الوفاة : قد كنت كتمت منكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لولا أنكم تذنبون ، لخلق الله قوما يذنبون فيغفر لهم " .
هكذا{[25219]} رواه الإمام أحمد ، وأخرجه مسلم في صحيحه ، والترمذي جميعا ، عن قتيبة ، عن الليث بن سعد به {[25220]} . ورواه مسلم من وجه آخر به ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي صرمة - وهو الأنصاري صحابي - عن أبي أيوب به{[25221]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك الحراني ، حدثنا يحيى بن عمرو بن مالك النُّكري قال : سمعت أبي يحدث عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس{[25222]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كفارة الذنب{[25223]} الندامة " ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون ، فيغفر لهم " تفرد به أحمد{[25224]} .
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثني عبد الأعلى بن حماد النَّرسِي ، حدثنا داود بن عبد الرحمن ، حدثنا أبو عبد الله مسلمة الرازي ، عن أبي عمرو البجلي ، عن عبد الملك بن سفيان الثقفي ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، عن محمد بن الحنفية ، عن أبيه ، علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب العبد المفتن التواب " . لم يخرجوه من هذا الوجه{[25225]} .
وقال{[25226]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، أخبرنا ثابت وحميد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : إن إبليس - عليه لعائن الله - قال : يا رب ، إنك أخرجتني من الجنة من أجل آدم ، وإني لا أستطيعه إلا بسلطانك . قال : فأنت مسلط . قال : يا رب ، زدني . قال : لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله . قال : يا رب ، زدني . قال : أجعل صدورهم مساكن لكم ، وتجرون منهم مجرى الدم . قال : يا رب ، زدني . قال : أجلب عليهم بخيلك ورجلك ، وشاركهم في الأموال والأولاد ، وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . فقال آدم [ عليه السلام ]{[25227]} يا رب ، قد سلطته علي ، وإني لا أمتنع [ منه ] {[25228]} إلا بك . قال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء . قال : يا رب ، زدني . قال : الحسنة عشر أو أزيد ، والسيئة واحدة أو أمحوها . قال : يا رب ، زدني . قال : باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد . قال : يا رب ، زدني . قال : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
وقال محمد بن إسحاق : قال نافع : عن عبد الله بن عمير ، عن عمر ، رضي الله عنه ، في حديثه قال : وكنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة ، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم . قال : وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم . قال : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، أنزل الله فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } .
قال عمر ، رضي الله عنه : فكتبتها بيدي في صحيفة ، وبعثت بها إلى هشام بن العاص قال : فقال هشام : لما أتتني جعلت أقرؤها بذي طُوًى أصَعَّد بها فيه وأصوت ولا أفهمها ، حتى قلت : اللهم أفهمنيها . قال : فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا ، وفيما كنا نقول في أنفسنا ، ويقال فينا . فرجعت إلى بعيري فجلست عليه ، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
{ قُلْ يَعِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رّحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ } .
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عني بها قوم من أهل الشرك ، قالوا لما دعوا إلى الإيمان بالله : كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا ، وقتلنا النفس التي حرّم الله ، والله يعد فاعل ذلك النار ، فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمان ، فنزلت هذه الاَية . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قُل يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ وذلك أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أنه من عبد الأوثان ، ودعا مع الله إلها آخر ، وقتل النفس التي حرّم الله لم يغفر له ، فكيف نهاجر ونسلم ، وقد عبدنا الاَلهة ، وقتلنا النفس التي حرّم الله ونحن أهل الشرك ؟ فأنزل الله : يا عِبادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ يقول : لا تيأسوا من رحمتي ، إن الله يغفر الذنوب جميعا وقال : وأنِيبُوا إلى رَبّكُمْ وأسْلِمُوا لَهُ وإنما يعاتب الله أولي الألباب وإنما الحلال والحرام لأهل الإيمان ، فإياهم عاتب ، وإياهم أمر إن أسرف أحدهم على نفسه ، أن لا يقنط من رحمة الله ، وأن ينيب ولا يبطىء بالتوبة من ذلك الإسراف ، والذنب الذي عمل وقد ذكر الله في سورة آل عمران المؤمنين حين سألوا الله المغفرة ، فقالوا : رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإسْرافَنا فِي أمْرِنا وَثَبّتْ أقْدَامَنا فينبغي أن يعلم أنهم قد كانوا يصيبون الإسراف ، فأمرهم بالتوبة من إسرافهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : الّذِينَ أَسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ قال : قتل النفس في الجاهلية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت هذه الاَيات الثلاث بالمدينة في وحشيّ وأصحابه يا عِبادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ إلى قوله : مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِيكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، قال : قال زيد بن أسلم ، في قوله : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ قال : إنما هي للمشركين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ حتى بلغ الذّنُوبَ جَمِيعا قال : ذكر لنا أن أناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لا يُتاب عليهم ، فدعاهم الله بهذه الاَية : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ قال : هؤلاء المشركون من أهل مكة ، قالوا : كيف نجيبك وأنت تزعم أنه من زنى ، أو قتل ، أو أشرك بالرحمن كان هالكا من أهل النار ؟ فكلّ هذه الأعمال قد عملناها فأنزلت فيهم هذه الاَية : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ . . . الاَية قال : كان قوم مسخوطين في أهل الجاهلية ، فلما بعث الله نبيه قالوا : لو أتينا محمدا صلى الله عليه وسلم فآمنا به واتبعناه فقال بعضهم لبعض : كيف يقبلكم الله ورسوله في دينه ؟ فقالوا : ألا نبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ؟ فلما بعثوا ، نزل القرآن : قُل يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ فقرأ حتى بلغ : فأكُونَ مِنَ المُحْسِنِين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الشعبيّ ، قال : تجالس شتير بن شكل ومسروق فقال شتير : إما أن تحدث ما سمعت من ابن مسعود فأصدّقك ، وإما أن أحدّث فتصدّقني فقال مسروق : لا بل حدّث فأصدّقك ، فقال : سمعت ابن مسعود يقول : إن أكبر آية فرجا في القرآن يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ فقال مسروق : صدقت .
وقال آخرون : بل عُني بذلك أهل الإسلام ، وقالوا : تأويل الكلام : إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء ، قالوا : وهي كذلك في مصحف عبد الله ، وقالوا : إنما نزلت هذه الاَية في قوم صدّهم المشركون عن الهجرة وفتنوهم ، فأشفقوا أن لا يكون لهم توبة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن ابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال يعني عمر : كنا نقول : ما لمن افتتن من توبة وكانوا يقولون ما الله بقابل منا شيئا ، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ . . . الاَية ، قال عمر : فكتبتها بيدي ، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاص ، قال هشام : فلما جاءتني جعلت أقرؤها ولا أفهمها ، فوقع في نفسي أنها أنزلت فينا لما كنا نقول ، فجلست على بعيري ، ثم لحقت بالمدينة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : إنما أنزلت هذه الاَيات في عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، ونفر من المسلمين ، كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذّبوا ، فافتنوا كنا نقول : لا يقبل الله من هؤلاء صرفا ولا عدلاً أبدا قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عُذّبوه ، فنزلت هؤلاء الاَيات ، وكان عمر بن الخطاب كاتبا قال : فكتبها بيده ثم بعث بها إلى عَيّاش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، إلى أولئك النفر ، فأسلموا وهاجروا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا يونس ، عن ابن سيرين ، قال : قال علي رضي الله عنه : أي آية في القرآن أوسع ؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما ونحوها ، فقال علي : ما في القرآن آية أوسع من : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، قال : دخل عبد الله المسجد ، فإذا قاصّ يذكر النار والأغلال ، قال : فجاء حتى قام على رأسه ، فقال يا مذكّرُ أتقنط الناس يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ . . . الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن القرظي أنه قال في هذه الاَية : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ قال : هي للناس أجمعين .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي قنبل ، قال : سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول : ثني أبو عبيد الرحمن الجلائي ، أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما أُحِبّ أنّ لي الدّنْيا وَما فِيها بهَذهِ الاَيَةِ » : يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ . . . الاَية ، فقال رجل : يا رسول الله ، ومن أشرك ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : «أَلا وَمَنْ أشْرَكَ ، ألا وَمَنْ أشْرَكَ » ثلاث مَرّات .
وقال آخرون : نزل ذلك في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار ، فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : حدثنا أبو معاذ الخراساني ، عن مقاتل بن حيان ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول : إنه ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة ، حتى نزلت هذه الاَية أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ وَلا تبْطِلوا أعْمالَكُمْ فلما نزلت هذه الاَية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر والفواحش ، قال : فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا : قد هلك ، حتى نزلت هذه الاَية إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلكَ لِمَنْ يَشاءُ فلما نزلت هذه الاَية كففنا عن القول في ذلك ، فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئا رجونا له .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عني تعالى ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك ، لأن الله عمّ بقوله يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ جميع المسرفين ، فلم يخصص به مسرفا دون مسرف .
فإن قال قائل : فيغفر الله الشرك ؟ قيل : نعم إذا تاب منه المشرك . وإنما عني بقوله إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعا لمن يشاء ، كما قد ذكرنا قبل ، أن ابن مسعود كان يقرؤه : وأن الله قد استثنى منه الشرك إذا لم يتب منه صاحبه ، فقال : إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، فأخبر أنه لا يغفر الشرك إلا بعد توبة بقوله : إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِحا فأما ما عداه فإن صاحبه في مشيئة ربه ، إن شاء تفضل عليه ، فعفا له عنه ، وإن شاء عدل عليه فجازاه به .
وأما قوله : لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ فإنه يعني : لا تيأسوا من رحمة الله . كذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس .
وقد ذكرنا ما في ذلك من الروايات قبل فيما مضى وبيّنا معناه .
وقوله : إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا يقول : إن الله يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها وتركه عقوبتهم عليها إذا تابوا منها إنّهُ هُوَ الغَفُورُ الرّحِيمُ بهم ، أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها .
{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي ، وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن . { لا تقنطوا من رحمة الله } لا تيأسوا من مغفرته أولا وتفضله ثانيا . { إن الله يغفر الذنوب جميعا } عفوا ولو بعد بعد ، تقييده بالتوبة خلاف الظاهر ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية ، والتعليل بقوله : { إنه هو الغفور الرحيم } على المبالغة وإفادة الحصر والوعد بالرحمة بعد المغفرة ، وتقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في { عبادي } من الدلالة على الذلة والاختصاص المقتضيين للترحم ، وتخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم والنهي عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة ، وإطلاقها وتعليله بأن الله يغفر الذنوب جميعا ، ووضع { اسم } موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني والمنعم على الإطلاق والتأكيد بالجميع . وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال " ما أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها بها ، فقال رجل يا رسول الله ومن أشرك فسكت ساعة ثم قال : ألا ومن أشرك ثلاث مرات " . وما روي أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الوثن وقتل النفس بغير حق لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس فنزلت . وقيل في عياش والوليد بن الوليد في جماعة افتتنوا أو في الوحشي لا ينفي عمومها وكذا قوله : { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } فإنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن التوبة والإخلاص في العمل وتنافي الوعيد بالعذاب .
أُطنبتْ آيات الوعيد بأفنانها السابقة إطناباً يبلغ من نفوس سامعيها أيَّ مبلغ من الرعب والخوف ، على رغْممِ تظاهرهم بقلة الاهتمام بها . وقد يبلغ بهم وقعها مبلغَ اليأس من سَعيٍ ينجيهم من وعيدها ، فأعقبها الله ببعث الرجاء في نفوسهم للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها على عادة هذا الكتاب المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب .
والكلام استئناف بياني لأن الزواجر السابقة تثير في نفوس المواجَهين بها خاطر التساؤل عن مسالك النجاة فتتلاحم فيها الخواطر الملَكية والخواطر الشيطانية إلى أن يُرسي التلاحم على انتصار إحدى الطائفتين ، فكان في إنارة السبيل لها ما يسهل خطو الحائرين في ظلمات الشك ويرتفق بها ويواسيها بعد أن أثخنتها جروح التوبيخ والزجر والوعيد ويضمد تلك الجراحة والحليمُ يزجُر ويلين وتثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم خشيةَ أن يحيط غضب الله بالذين دعاهم إليه فأعرضوا أو حببهم في الحق فأبغضوا فلعله لا يَفتح لهم باب التوبة ولا تقبل منهم بعد إعراضهم أوْبَة ولاسيما بعد أن أمره بتفويض الأمر إلى حكمه المشتَمِّ منه ترقبُ قطع الجدال وفصمِه فكان أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يناديهم بهذه الدعوة تنفيساً عليه وتفتيحاً لباب الأوْبة إليه فهذا كلام ينحل إلى استئنافين فجملة { قُل } استئناف لبيان ما ترقَّبَه أفضلُ النبيئين صلى الله عليه وسلم أي بلغ عني هذا القول .
وجملةُ { ياعبادي } استئناف ابتدائي من خطاب الله لهم . وابتداء الخطاب بالنداء وعنواننِ العباد مؤذن بأن ما بعده إعداد للقبول وإطماع في النجاة .
والخطاب بعنوان { ياعبادي } مراد به المشركون ابتداءً بدليل قوله : { وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب } [ الزمر : 54 ] وقوله : { وإن كنت لمن الساخرين } [ الزمر : 56 ] وقوله : { بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين } [ الزمر : 59 ] . فهذا الخطاب جرى على غير الغالب في مثله في عادة القرآن عند ذكر { عبادي } بالإِضافة إلى ضمير المتكلم تعالى .
وفي « صحيح البخاري » عن ابن عباس « أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قَتلوا وأَكثروا ، وزنَوا وأكثروا ، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرُنا أَن لما عملنا كفارة يعني وقد سمعوا آيات الوعيد لمن يعمل تلك الأعمال وإلا فمن أين علموا أن تلك الأعمال جرائم وهم في جاهلية فنزل : { والذين لا يدعون مع الله إلاهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق ولا يزنون } [ الفرقان : 68 ] يعني إلى قوله : { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } [ الفرقان : 70 ] ونزل : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه } .
وقد رويت أحاديث عدة في سبب نزول هذه الآية غير حديث البخاري وهي بين ضعيف ومجهول ويستخلص من مجموعها أنها جزئيات لعموم الآية وأن الآية عامة لخطاب جميع المشركين وقد أشرنا إليها في ديباجة تفسير السورة .
ومن أجمل الأخبار المروية فيها ما رواه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : « لما اجتمعنا على الهجرة اتَّعدتُ أنا وهشامُ بن العاص السهمي ، وعيّاش بن أبي ربيعة بن عتبة . فقلنا : الموعد أَضَاةُ بني غِفَار ، وقلنا : من تأخّرَ منّا فقد حُبس فليمضضِ صاحباه . فأصبحتُ أنا وعياش بن عتبة وحُبس عنا هشام وإذا هو قد فُتِن فافتَتَنَ فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عَرفوا الله ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة . وكانوا هم يقولون هذا في أنفسهم ، فأنزل الله : { قل ياعبادي الذين أسرفوا } إلى قوله : { مَثْوى للمتكبرين } [ الزمر : 60 ] قال عمر فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمتْ عليَّ خرجتُ بها إلى ذي طوَى فقلت : اللهم فهِّمنيها فعرفت أنها نزلت فينا فرجعتُ فجلست على بعيري فلحقت برسول الله ا ه . فقول عمر : فأنزل الله يريد أنه سمعه بعد أن هاجر وأنه مما نزل بمكة فلم يسمعه عمر إذ كان في شاغل تهيئة الهجرة فما سمعها إلا وهو بالمدينة فإن عمر هاجر إلى المدينة قبل النبي .
فالخطاب بقوله : ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } تمهيد بإجمال يأتي بيانه في الآيات بعده من قوله : { وأنيبوا إلى ربكم } [ الزمر : 54 ] . وبعد هذا فعموم عبادي وعموم صلة الذين أسرفوا } يشمل أهل المعاصي من المسلمين وإن كان المقصود الأصلي من الخطاب المشركين على عادة الكلام البليغ من كثرة المقاصد والمعاني التي تفرغ في قوالب تسعُها .
وقرأ الجمهور { ياعبادي الذين أسرفوا } بفتح ياء المتكلم ، وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب بإسكان الياء . ولعل وجه ثبوت الياء في هذه الآية دون نظيرها وهو قوله تعالى : { قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم } [ الزمر : 10 ] ، أن الخطاب هنا للذين أسرفوا وفي مقدمتهم المشركون وكلهم مظنة تطرق اليأس من رحمة الله إلى نفوسهم ، فكان إثبات ( يا ) المتكلم في خطابهم زيادة تصريح بعلامة التكلُّم تقوية لنسبة عبوديتهم إلى الله تعالى إيماء إلى أن شأن الرب الرحمة بعباده .
والإِسراف : الإِكثار . والمراد به هنا الإِسراف في الذنوب والمعاصي ، وتقدم ذكر الإِسراف في قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة [ النساء : 6 ] وقوله : { فلا يسرف في القتل } في سورة [ الإسراء : 33 ] . والأكثر أن يعدّى إلى متعلِّقه بحرف { مِن } ، وتعديتُه هنا ب ( على ) لأن الإِكثار هنا من أعماللٍ تتحملها النفس وتثقل بها وذلك متعارف في التبِعات والعدوان تقول : أكثرت على فلان ، فمعنى { أسرفوا على أنفسهم } : أنهم جلبوا لأنفسهم ما تثقلهم تبعته ليشمل ما اقترفوه من شرك وسيئات .
والقنوط : اليأس ، وتقدم في قوله : { فلا تكن من القانطين } في سورة [ الحِجر : 55 ] .
وجملة { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } تعليل للنهي عن اليأس من رحمة الله .
ومادة الغفر ترجع إلى الستر ، وهو يقتضي وجود المستور واحتياجَه للستر فدل { يغْفِرُ الذُّنوب } على أن الذنوب ثابتة ، أي المؤاخذة بها ثابتة والله يغفرها ، أي يزيل المؤاخذة بها ، وهذه المغفرة تقتضي أسباباً أُجملت هنا وفصلت في دلائل أخرى من الكتاب والسنة منها قوله تعالى : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } [ طه : 82 ] ، وتلك الدلائل يجمعها أن للغفران أسباباً تطرأ على المذنب ولولا ذلك لكانت المؤاخذة بالذنوب عبثاً ينزه عنه الحكيم تعالى ، كيف وقد سماها ذنوباً وتوعد عليها فكان قوله : { إن الله يغفر الذنوب } دعوةً إلى تطلب أسباب هذه المغفرة فإذا طلبها المذنب عرف تفصيلها . و { جميعاً } حال من { الذنوب } ، أي حال جميعها ، أي عمومها ، فيغفر كل ذنب منها إن حصلت من المذنب أسباب ذلك . وسيأتي الكلام على كلمة ( جميع ) عند قوله تعالى : { والأرض جميعاً قبضته } في هذه السورة [ 67 ] .
وجملة { إنه هو الغفور الرحيم } تعليل لجملة { يغفر الذنوب جميعاً } أي لا يُعجزه أن يغفر جميع الذنوب ما بلغ جميعها من الكثرة لأنه شديد الغفران شديد الرحمة . فبطل بهذه الآية قول المرجئة إنه لا يضر مع الإِيمان شيء .