المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

66- وإن لكم - أيها الناس - في الإبل والبقر والغنم لموعظة تعتبرون بها ، وتنتقلون بتدبر عطائها إلى العلم بالصانع المبدع الحكيم ، ونسقيكم من بعض ما في بطونها من بين فضلات الطعام والدم لبناً صافياً سهل التناول للشاربين{[113]} .


[113]:توجد في ضروع الماشية غدد خاصة لإفراز البن تمدها الأوعية الشريانية بخلاصة مكونة من الدم والكيلوز، وهو خلاصة الغذاء المهضوم، وكلاهما غير مستساغ طعما، ثم تقوم الغدد البنية باستخلاص العناصر لتكوين اللبن من هذين السائلين: الدم الكيلوز، وتفرز عليها عصارات خاصة تحيلها إلى لبن يختلف في لونه ومذاقه اختلافا تاما عن كل منهما.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

ثم أرشد - سبحانه - إلى مظهر آخر من مظاهر وحدانيته ، وعظيم قدرته وعجيب صنعه ، وسعة رحمته ، حيث خلق للناس الأنعام ، وسقاهم من ألبانها ، فقال - تعالى - : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً . . . } .

والأنعام : تطلق على الإِبل والبقر والغنم من الحيوان ، ويدخل في الغنم المعز .

والعبرة : مصدر بمعنى العبور ، أي : التجاوز من محل إلى آخر ، والمراد بها هنا : العظة والاعتبار والانتقال من الجهل إلى العلم ، ومن الغفلة إلى اليقظة .

أي : وإن لكم - أيها الناس - في خلق الأنعام ، وفيما يخرج منها من ألبان لعبرة عظيمة ، وعظة بليغة ، ومنفعة جليلة توجب عليكم إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، ومداومة الشكر له على نعمه . فالتنكير في قوله : { لعبرة } ؛ للتفخيم والتهويل .

وقوله - تعالى - : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } ، استئناف بياني ، كأنه قيل : وما وجه العبرة في الأنعام ؟ فكان الجواب : نسقيكم مما في بطونه .

قال الألوسي : " والضمير في { بطونه } يعود للأنعام ، وهو اسم جمع ، واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار معناه . . . " .

وقوله - سبحانه - : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } ، بيان لموطن العبرة ومحل النعمة ، ومظهر الدلالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ورحمته .

والفرث : الطعام المتبقى في أمعاء الحيوان بعد هضمه . وأصل الفرث : التفتيت . يقال فرثت كبده . أي : فتتتها .

قال الجمل ما ملخصه : " والفرث : الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش - بفتح الكاف وكسر الراء - فإذا خرجت من الكرش لا تسمى فرثا ، بل تسمى روثا . وقوله { لبنا } مفعول ثان لنسقيكم ، والأول هو الكاف " .

والخالص : النقي الصافي الخالي من الشوائب والأكدار . يقال : خلص الشيء من التلف خلوصا - من باب قعد - إذا سلم منه .

والسائغ : اللذيذ الطعم ، السهل المدخل إلى الحلق . يقال : ساغ الشراب يسوغ سوغا ، من باب قال - إذا سهل مدخله في الحلق .

أي : نسقيكم من بين الفرث والدم الذي اشتملت عليه بطون الأنعام ، { لبنا } ، نافعا لأبدانكم ، { خالصا } ، من رائحة الفرث ، ومن لون الدم ، مع أنه موجود بينهما . { سائغا للشاربين } ، بحيث يمر فى الحلوق بسهولة ويسر ، ويشعر شاربه بلذة وارتياح .

وقدم - سبحانه - قوله : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } ، على قوله : { لبنا } ؛ لأن خروج اللبن من بينهما هو موطن العبرة ، وموضع الدليل الأسمى على قدرة الله - تعالى - ووحدانيته .

قال صاحب الكشاف : قوله - تعالى - : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } ، أي : يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله - تعالى - ، بحيث لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة ، بل هو خالص من ذلك كله . . . فسبحان الله ما أعظم قدرته ، وألطف حكمته ، لمن تفكر وتأمل . وسئل " شقيق " عن الإِخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب ، كتمييز اللبن من بين فرث ودم .

ثم قال - رحمه الله - : فإن قلت : أي فرق بين " من " الأولى والثانية ؟ . قلت : الأولى للتبعيض ؛ لأن اللبن بعض ما في بطونها . . . والثانية لابتداء الغاية ؛ لأن بين الفرث والدم مكان الإِسقاء الذي منه يبتدأ . . .

وإنما قدم قوله : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } ؛ لأنه موضع العبرة ، فهو قمن بالتقديم .

وقال الألوسي عند تفسيره لهذه الآية : " ومن تدبر في بدائع صنع الله - تعالى - فيما ذكر من الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها ، والأسباب المولدة لها ، وتسخير القوى المتصرفة فيها . . . اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه - سبحانه - وقدرته ، وحكمته ، وتناهي رأفته ورحمته : حكم حارت البرية فيها . . . وحقيق بأنها تحتار . والحق ، أن هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة على وحدانية الله تعالى ونفاذ قدرته ، وعجيب صنعته ، حيث استخرج - سبحانه - من بين فرث ودم في بطون الأنعام ، لبنا خالصا سائغا للشاربين .

وهذا الاستخراج قد تكلم العلماء المتخصصون عن كيفيته وعن مراحله . . كلاما يقوي إيمان المؤمنين ، ويدفع باطل الملحدين . هذا ، وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن اللبن نعمة جزيلة من نعم الله - تعالى - على خلقه .

قال القرطبي ما ملخصه : " روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب ، ثم قال : " إذا أكل أحدكم طعاما فليقل ، اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ، وإذا سقي لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه ، وزدنا منه ، فإنه ليس شيء يجزئ عن الطعام والشراب إلا اللبن " " .

ثم قال الإِمام القرطبي : قال علماؤنا : فكيف لا يكون كذلك ، وهو أول ما يغتذي به الإنسان ، وتنمو به الأبدان ، فهو قوت به قوام الأجسام ، وقد جعله الله - تعالى - علامة لجبريل على هداية هذه الأمة ، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن . فقال لي جبريل : اخترت الفطرة . . . " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

51

وعبرة أخرى في الأنعام تشير إلى عجيب صنع الخالق ، وتدل على الألوهية بهذا الصنع العجيب :

( وإن لكم في الأنعام لعبرة ، نسقيكم مما في بطونه - من بين فرث ودم - لبنا خالصا سائغا للشاربين ) فهذا اللبن الذي تدره ضروع الأنعام مم هو ؟ إنه مستخلص من بين فرث ودم . والفرث ما يتبقى في الكرش بعد الهضم ، وامتصاص الأمعاء للعصارة التي تتحول إلى دم . هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم ، فإذا صار إلى غدد اللبن في الضرع تحول إلى لبن ببديع صنع الله العجيب ، الذي لا يدري أحد كيف يكون .

وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دم ، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج إليها من مواد هذا الدم ، عملية عجيبة فائقة العجب ، وهي تتم في الجسم في كل ثانية ، كما تتم عمليات الاحتراق . وفي كل لحظة تتم في هذا الجهاز الغريب عمليات هدم وبناء مستمرة لا تكف حتى تفارق الروح الجسد . . ولا يملك إنسان سوى الشعور أن يقف أمام هذه العمليات العجيبة لا تهتف كل ذرة فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الجهاز الإنساني ، الذي لا يقاس إليه أعقد جهاز من صنع البشر ، ولا إلى خلية واحدة من خلاياه التي لا تحصى .

ووراء الوصف العام لعمليات الامتصاص والتحول والاحتراق تفصيلات تدير العقل ، وعمل الخلية الواحدة في الجسم في هذه العملية عجب لا ينقضي التأمل فيه .

وقد بقى هذا كله سرا إلى عهد قريب . وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر ، وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلا على أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة . وما يملك إنسان يحترم عقله أن يماري في هذا أو يجادل . ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن . فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة .

والقرآن - يعبر هذه الحقائق العلمية البحتة - يحمل أدلة الوحي من الله في خصائصه الأخرى لمن يدرك هذه الخصائص ويقدرها ؛ ولكن ورود حقيقة واحدة على هذا النحو الدقيق يفحم المجادلين المتعنتين .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّـٰرِبِينَ} (66)

يقول تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ } ، أيها الناس . { فِي الأنْعَامِ } وهي : الإبل والبقر والغنم ، { لَعِبْرَةً } ، أي : لآية ودلالة على قدرة خالقها ، وحكمته ولطفه ورحمته ، { نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ } ، وأفرد هاهنا [ الضمير ]{[16521]} ، عودًا على معنى النعم ، أو الضمير{[16522]} عائد على الحيوان ؛ فإن الأنعام حيوانات ، أي : نسقيكم مما في بطن{[16523]} هذا الحيوان .

وفي الآية الأخرى : { مِمَّا فِي بُطُونِهَا } [ المؤمنون : 21 ] ، ويجوز هذا وهذا ، كما في قوله تعالى : { كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } [ المدثر : 54 ، 55 ] ، وفي قوله تعالى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ } [ النمل : 35 ، 36 ] أي : المال .

وقوله : { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا } ، أي : يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته ، من بين فرث ودم ، في باطن الحيوان ، فيسري كلٌ إلى موطنه ، إذا نضج الغذاء في معدته ، تصرف{[16524]} منه دم إلى العروق ، ولبن إلى الضرع{[16525]} ، وبول إلى المثانة ، وروث إلى المخرج ، وكل منها لا يشوب الآخر ، ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ، ولا يتغير به .

وقوله : { لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } ، أي : لا يغص به أحد{[16526]} .


[16521]:زيادة من ت، ف، أ.
[16522]:في ف، أ: "والضمير".
[16523]:في ف، أ: "بطون".
[16524]:في ت، ف: "يصرف".
[16525]:في أ: "الضروع".
[16526]:في ت، ف، أ: "أحد به".