25- ومن لم يستطع منكم نكاح الحرائر المؤمنات فله أن يتجاوزهن إلى ما يستطيع من المملوكات المؤمنات ، والله أعلم بحقيقة إيمانكم وإخلاصكم ، ولا تستنكفوا من نكاحهن ، فأنتم وهن سواء في الدين ، فتزوجوهن بإذن أصحابهن وأدوا إليهن مهورهن التي تفرضونها لهن حسب المعهود بينكم في حسن التعامل وتوفية الحق ، واختاروهن عفيفات ، فلا تختاروا زانية معلنة ولا خليلة ، فإن أتين الزنا بعد زواجهن فعقوبتهن نصف عقوبة الحرة . وإباحة نكاح المملوكات عند عدم القدرة جائز لمن خاف منكم المشقة المفضية إلى الزنا وصبركم عن نكاح المملوكات مع العفة خير لكم ، والله كثير المغفرة ، عظيم الرحمة .
وبعد أن بين - سبحانه - المحرمات من النساء ، وبين من يحل نكاحه منهن ، عقب ذلك ببيان ما ينبغى أن يفعله من لا يستطيع نكاح المحصنات المؤمنات فقال - تعالى - { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ . . . . } .
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 25 )
قوله { طَوْلاً } أى سعة وقدرة وغنى فى المال .
قال صاحب الكشاف : الطول : الفضل . يقال : لفلان على فلان طول أى : زيادة وفضل . وقد طاله طولا فهو طائل . قال الشاعر :
لقد زادنى حبا لنفسى أننى . . . بغيض إلى كل امرئ غير طائل
ومنه قولهم : ما خلا منه بطائل . أى بشئ يعتد به مما له فضل وخطر . ومنه الطول فى الجسم لأنه زيادة فيه .
والمراد بالمحصنات هنا الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات ، وعبر عنهن بذلك ، لأن حريتهن أحصنتهن عن النقص الذى فى الإِماء .
والمراد بقوله { مِّن فَتَيَاتِكُمُ } أى من إمائكم وأرقائكم .
والمعنى : ومن لم يستطع منكم يا معشر المؤمنين الأحرار أن يحصل زيادة فى المال تمكنه من أن ينكح الحرائر المؤمنات ، فله فى هذه الحالة أن ينكح بعض الإِماء المؤمنات اللائى هن مملوكات لغيركم .
و { مَن } فى قوله { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } شرطية ، وجوابها قوله ، فمما ملكت أيمانكم ، ويصح أن تكون موصولة ويكون قوله { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } هو الخبر .
وقوله { مِنكُمْ } حال من الضمير فى { يَسْتَطِعْ } وقوله { طَوْلاً } مفعول به ليستطع . هذا ، والآية تفيد بمضمونها أنه لا يحل الزواج من الإِماء إلا إذا كان المسلم الحر ليس فى قدرته أن يتزوج امرأة حرة .
ولذا قال بعضهم : إن الله - تعالى - شرط فى نكاح الإِماء شرائط ثلاثة : اثنان منها فى الناكح ، والثالث فى المنكوحة .
أما اللذان فى الناكح فأحدهما أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق .
والثاني هو المذكور فى آخر الآية وهو قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ } .
وأما الشرط الثالث المعتبر فى المنكوحة فهو أن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة . . وقد خالف الإِمام أبو حنيفة هذا الشرط الثالث فأباح للمسلم الزواج من الأمة الكتابية إن لم يكن عنده زوجة حرة فإن كان متزوجا بحرة فإنه لا يجوز له أن يتزوج أمة مطلقا لا مسلمة ولا كتابية ، وإن عقد عليها كان عقده باطلا وقد بنى حكمه هذا على أساس تفسيره للطول بأنه الزواج بحرة .
أما المالكية والشافعية فقد قالوا : الطول : السعة والقدرة على المهر والنفقة فمن عجز عن مهر الحرة ونفقتها وهو قادر على الزواج من أمة فإنه يجوز له الزواج بها ولو كانت عنده زوجة حرة .
وفى التعبير عن الإِماء بقوله { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات } تكريم لهؤلاء الأرقاء ، وإعزاز لإِنسانيتهن ، وتعليم للمسلمين أن يلتزموا الأدب فى مخاطبتهم لأرقائهم ولذا ورد فى الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقولن أحدكم عبدى وأمتى ، ولكن ليقل فتاى وفتاتى " .
وقوله - تعالى - { والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ } جملة معترضة سيقت بين إباحة النكاح من الاماء المؤمنات وبين صورة العقد عليهن تأنيسا للقلوب ، وإزالة للنفرة عن ناكح الاماء ببيان أن مناط التفاخر إنما هو الايمان لا التباهى بالأحساب والأنساب .
والمعنى : أنه - تعالى - أعلم منكم بمراتب إيمانكم الذى هو مناط التفضيل وأنتم وفتياتكم من أصل واحد فلا ينبغى أن يستعلى حر على عبد ، ولا حرة على أمة ، فرب إنسان غير حر أفضل عند الله بسبب إيمانه وعمله الصالح من إنسان حر .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة إزالة ما كانت تستهجنه العرب من الزواج بالاماء ، ونهيهم عما كان متداولا بينهم من احتقارهم لولد الأمة وتسميتهم إياه بالهجين - أى الذى أبوه عربى وأمه أمة .
وإلى هذا أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : فما معنى قوله { والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ } ؟ قلت : معناه : أن الله أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم فى الايمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم . وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة والمرأة أرجح فى الايمان من الرجل . وحق المؤمنين أن لا يعيروا إلا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب . وهذا تأنيس بنكاح الاماء وترك الاستنكاف منه . وقوله { بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ } أى : أنتم وأرقاؤكم متناسبون متواصلون لاشتراككم فى الايمان لا يفضل حر عبدا إلا برجحان فيه .
ثم بين - سبحانه - كيفية الزواج بهن فقال : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعروف مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } والمراد بأهلهن : مواليهن الذين يملكونهن : عبر عن المالكين لهن بالأهل ، حملا للناس على الأدب فى التعبير ، ولأنه يجب أن تكون العلاقة بين العبد ومالكه علاقة أهل لا علاقة استعلاء .
والمراد بالأجور هنا : المهور التى تدفع لهن فى مقابل نكاحهن .
والمراد بالمحصنات هنا : العفائف البيدات عن الفاحشة والريبة . والمرأة المسافحة هى التى تؤاجر نفسها لكل رجل أرادها . والتى تتخذ الخدن هى التى تتخذ لها صاحبا معينا . وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين فيستقبحون الزنا العلنى ويستحلون السرى ، فجاءت شريعة الإِسلام بتحريم القسمين . قال - تعالى { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وقال - تعالى { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وقوله { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } مترتب ومتفرع على ما قبله من أحكام .
والمعنى : إذا عرفتم حكم الله فى شأن فتياتكم المؤمنات فانكحوهن بعد أن يأذن لكم فى ذلك مواليهن ويرضون عن هذا النكاح ، وأدوا إليهن مهورهن بالقدر المتعارف عليه شرعا وعادة عن طيب نفس منكم ، وبدون مطل أو بخس . فإنه لا يصح أن تتخذوا من كون المنكوحة أمة سبيلا لغمط حقها ، وتصغير شأنها .
وقد اتفق العلماء على أن نكاح الأمة بغير إذن سيدها غير جائز ، عملا بظاهر هذه الآية الكريمة ، فان قوله - تعالى - : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } يقتضى كون الإِذن شرطا فى جواز النكاح ، ولأن منافع الأمَّة لسيدها وهى ملك له فلا يجوز نكاحها إلا بإذنه .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { فانكحوهن } أى بولاية أرباهن المالكين وإذنهم . وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيده ، لأن العبد مملوك لا أمر له ، وبدنه كله مستغرق ، لكن الفرق بينما أن العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فإن أجازه السيد جاز ، هذا المذهب مالك واصحاب الرأى ، والأمة إذا تزوجت بغير إذن أهلها فسخ ولم يجز ولو بإجازة السيد .
وقوله { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } صريح فى وجوب دفع مهر فى مقابل نكاح الأمة ولكن من الذى يستلم هذا المهر ؟
يرى كثير من العلماء أن الذى يتسلم المهر هو السيد المالك للأمة . لأن المهر قد وجب عوضا عن منافع بضع المملوكة للسيد ، وهو الذى أباحها للزوج فوجب أن يكون هو المستحق لستلم المهر ؛ ولأن العبد وما ملكت يداه لسيده أى آتوا أهلهن أجورهن فالكلام على حذف مضاف .
ويرى الإِمام مالك أن الآية على ظاهرها ، وأن المهر إنما يدفع للأمة لأنها أحق به من سيدها ، وأنه ليس للسيد أن يأخذ من أمته ويدعها بلا جهاز فالعقد يتولاه السيد أما المهر فيعطى للأمة لتتولى إعداد نفسها للزواج منه .
وقوله { مُحْصَنَاتٍ } حال من المفعول فى قوله { فانكحوهن } أى : فانحكوهن حال كونهن عفائف عن الفاحشة .
وقوله { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } تأكيد له أى غير مجاهرات بالزنا .
وقوله { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } تأكيد آخر لبعدهن عن الريبة . والأخدان جمع خدن وهو الصاحب والصديق .
والمراد به هنا : من تتخذه المرأة صاحبا لها لارتكاب الفاحشة معه سراً .
وقد وصف الله - تعالى - الزوجات الإِماء بذلك ، لتحريضهن على التمسك بأهداب الفضيلة والشرف ، إذ الرق مظنة الانزلاق والوقوع فى الفاحشة لما يصاحبه من هوان وضعف ، ولا شئ كالهوان يفتح الباب أمام الرذيلة والفاحشة ومن هنا قالت هند بنت عتبة - باستغراب واستنكار - لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخذ العهد عليها وعلى المؤمنات بقوله { وَلاَ يَزْنِينَ } قالت يا رسول الله : أو تزنى الحرة ؟ ! !
ثم بين - سبحانه - عقوبة الإِماء إذا ما ارتكبن الفاحشة فقال - تعالى - { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } .
ومعنى الإِحصان هنا : الزواج . والمراد بالفاحشة : الزنا . والمراد بالعذاب : الحد الشرعى أى : فإذا أحسن أى بالتزويج ، فإن أتين بفاحشة الزنا وثبت ذلك عليهن ، ففى هذه الحالة حدهن نصف حد الحرائر من النساء .
أى أن الأمة إذا زنت فحدها أنت تجدل خمسين جدلة ولا رجم عليها لأنه لا يتنصف فلا يكون مرادا هنا .
وظاهر الجملة الكريمة يفيد أن الأمة لا تحد إذا زنت متى كانت غير متزوجة وقد أخذ بهذا الظاهر بعض العلماء . ولكن جمهور العلماء يرون أن الأمة يقام عليها الحد إذا زنت سواء أكانت متزوجة أم غير متزوجه .
فالآية الكريمة صرحت بأن الأمة إذا ارتكبت الفحشاء تكون عقوبتها نصف عقوبة الحرة ، لأن الجريمة يضعف أثرها بضعف مرتكبها ، ويقوى أثرها بقوة مرتكبها ، فكان من العدل أن يعاقب الأرقاء لضعفهم بنصف عقوبة الأحرار الأقوياء .
فأين هذا السمو والرحمة والدالة فى التشريع من مظالم القوانين الوضعية ففى القانون الرومانى كان العبد إذا زنى بحرة قتل ، وإذا زنى الشريف حكم عليه بغرامة . ولقد حذر النبى صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله : " إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا : إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . . . " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
واسم الإِشارة " ذلك " يعود إلى نكاح الإِماء .
والعنت : المشقة الشديدة التى يخشى معها التلف أو الوقوع فى الفاحشة التى نها الله - تعالى - عنها . ولذا قال بعضهم المراد به هنا : الزنا .
أى : ذلك الذى شرعناه لكم من إباحة الزواج بالإِماء عند الضرورة يكون بالنسبة لمن خشى على نفسه العزبة التى قد تفضى به إلى الوقوع فى الفاحشة والآثام . { وَأَن تَصْبِرُواْ } على تحمل المشقة متعففين عن نكاحهن حتى يرزقكم الله الزواج بالحرة ، فصبركم هذا خير لكم من نكاح الإِسماء وإن رخص لكم فيه .
وقوله { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى واسع المغفرة كثيرها ، فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحن - وفى ذلك تنفير عنه حتى لكأنه ذنب - وهو - سبحانه - واسع الرحمة بعباده حيث شرع لهم ما فيه تيسير عليهم ورأفة بهم .
قالوا : وإنما كان الصبر عن نكاح الإِماء خيراً من نكاحهن ، لأن الولد الذى يأتى عن طريقهن يكون معرضا للرق ، ولأن الأمة فى الغالب لا تستطيع أن تهيئ البيت الصالح للزوجية من كل الوجوه لانشغالها بخدمة سيدها .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله : فإن قلت : لم كان نكاح الأمة منحطا عن نكاح الحرة ؟ قلت : لما فيه من اتباع الولد الأم فى الرق . ولثبوت حق المولى فيها وفى استخدامها . ولأنها ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة ، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ومهانة .
وبذلك نرى أن الآية الكريمة وإن كانت قد رخصت فى زواج الإِماء عند الضرورة الشديدة إلا أنها حضت المؤمنين على الصبر عن نكاحهن لما فى نكاحهن من أضرار يأباها الشخص العزيز النفس ، الكريم الخلق . والسبيل الأمثل للزواج بهن يكون بعد شرائهن وإعتاقهن ، وبذلك يقل الرقيق ويكثر الأحرار ولذا لو جامعها مولاها كان ابنه حراً وكان طريقا لحريتها ومنع بيعها .
فإذا كانت ظروف المسلم تحول بينه وبين الزواج من حرة تحصنها الحرية وتصونها ، فقد رخص له في الزواج من غير الحرة ، إذا هو لم يصبر حتى يستطيع الزواج من حرة ، وخشي المشقة ؛ أو خشي الفتنة :
( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ، فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات - والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض - فانكحوهن بإذن أهلهن ؛ وآتوهن أجورهن بالمعروف - محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان - فإذا أحصن . فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب . ذلك لمن خشي العنت منكم . وأن تصبروا خير لكم . والله غفور رحيم ) .
إن هذا الدين يتعامل مع " الإنسان " في حدود فطرته ، وفي حدود طاقته . وفي حدود واقعه ، وفي حدود حاجاته الحقيقية . . وحين يأخذ بيده ليرتفع به من حضيض الحياة الجاهلية إلى مرتقى الحياة الإسلامية لا يغفل فطرته وطاقته وواقعه وحاجاته الحقيقية ، بل يلبيها كلها وهو في طريقه إلى المرتقى الصاعد . . إنه فقط لا يعتبر واقع الجاهلية هو الواقع الذي لا فكاك منه . فواقع الجاهلية هابط ، وقد جاء الإسلام ليرفع البشرية من وهدة هذا الواقع ! إنما هو يعتبر واقع " الإنسان " في فطرته وحقيقته . . واقتدار الإنسان على الترقي واقع من هذا الواقع . . فليس الواقع فقط هو مجرد تلبطه في وحل الجاهلية . . أية جاهلية . . فمن الواقع كذلك مقدرته - بما ركب في فطرته - على الصعود والتسامي عن ذلك الوحل أيضا ! والله - سبحانه - هو الذي يعلم " واقع الإنسان " كله ، لأنه يعلم " حقيقة الإنسان " كلها . هو الذي خلقه ويعلم ما توسوس به نفسه . . ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ؟
وقد كان في المجتمع المسلم الأول رقيق يتخلف من الحروب ؛ ريثما يتم تدبير أمره . . إما بإطلاق سراحه امتنانا عليه بلا مقابل . وإما فداء مقابل إطلاق سراح أسارى المسلمين ، أو مقابل مال - حسب الملابسات والظروف المنوعة فيما بين المسلمين وأعدائهم المحاربين - وقد عالج الإسلام هذا الواقع بإباحة مباشرة ملك اليمين - كما جاء في الآية السابقة - لمن هن ملك يمينه . لمواجهة واقع فطرتهن كما أسلفنا . مباشرتهن إما بزواج منهن - إن كن مؤمنات - أو بغير زواج ، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن في دار الحرب ، بحيضة واحدة . . ولكنه لم يبح لغير سادتهن مباشرتهن إلا أن يكون ذلك عن طريق الزواج . لم يبح لهن أن يبعن أعراضهن في المجتمع لقاء أجر ؛ ولا أن يسرحهن سادتهن في المجتمع يزاولن هذه الفاحشة لحسابهم كذلك !
وفي هذه الآية ينظم طريقة نكاحهن والظروف المبيحة لهذا النكاح :
( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ، فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) . .
إن الإسلام يؤثر الزواج من حرة في حالة الطول - أي القدرة على نكاح الحرة - ذلك أن الحرة تحصنها الحرية ؛ وتعلمها كيف تحفظ عرضها ، وكيف تصون حرمة زوجها . فهن( محصنات ) هنا - لا بمعنى متزوجات ، فقد سبق تحريم نكاح المتزوجات - ولكن بمعنى حرائر ، محصنات بالحرية ؛ وما تسبغه على الضمير من كرامة ، وما توفره للحياة من ضمانات . فالحرة ذات أسرة وبيت وسمعة ولها من يكفيها ، وهي تخشى العار ، وفي نفسها أنفة وفي ضميرها عزة ، فهي تأبى السفاح والانحدار . ولا شيء من هذا كله لغير الحرة . ومن ثم فهي ليست محصنة ، وحتى إذا تزوجت ، فإن رواسب من عهد الرق تبقى في نفسها ، فلا يكون لها الصون والعفة والعزة التي للحرة . فضلا على أنه ليس لها شرف عائلي تخشى تلويثه . . مضافا إلى هذا كله أن نسلها من زوجها كان المجتمع ينظر إليهم نظرة أدنى من أولاد الحرائر . فتعلق بهم هجنة الرق في صورة من الصور . . وكل هذه الاعتبارات كانت قائمة في المجتمع الذي تشرع له هذه الآية . .
لهذه الاعتبارات كلها آثر الإسلام للمسلمين الأحرار ألا يتزوجوا من غير الحرائر ، إذا هم استطاعوا الزواج من الحرائر . وجعل الزواج من غير الحرة رخصة في حالة عدم الطول . مع المشقة في الانتظار .
ولكن إذا وجدت المشقة ، وخاف الرجال العنت . عنت المشقة أو عنت الفتنة . فإن الدين لا يقف أمامهم يذودهم عن اليسر والراحة والطمأنينة . فهو يحل - إذن - الزواج من المؤمنات غير الحرائر اللواتي في ملك الآخرين .
ويعين الصورة الوحيدة التي يرضاها للعلاقة بين الرجال الأحرار وغير الحرائر . وهي ذاتها الصورة التي رضيها من قبل في زواج الحرائر :
( فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) . .
وثانيا : يجب أن يعطين أجورهن فريضة لهن لا لسادتهن . فهذا حقهن الخالص .
وثالثا : يجب أن تكون هذه الأجور في صورة صداق : وأن يكون الاستمتاع بهن في صورة نكاح . لا مخادنة ولا سفاح : والمخادنة أن تكون لواحد . والسفاح أن تكون لكل من أراد . محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان .
وقد كان المجتمع إذ ذاك يعرف هذه الأنواع من الاتصال الجنسي بين الحرائر كما سلف من حديث عائشة - رضي الله عنها - كما كان يعرف كذلك بين غير الحرائر أنواعا من البغاء . وقد كان سادة من أشراف القوم يرسلون رقيقاتهم يكسبن بأجسامهن في هذا السبيل القذر ، لحساب سادتهن . وكان لعبدالله بن أبي بن سلول - رأس المنافقين في المدينة وهو من سادة قومه - أربع جوار يكسبن له من هذا السبيل ! وكانت هذه بقايا أو حال الجاهلية ، التي جاء الإسلام ليرفع العرب منها ، ويطهرهم ويزكيهم ، كما يرفع منها سائر البشرية كذلك !
وكذلك جعل الإسلام طريقا واحدة للمعاشرة بين الرجال الأحرار وهؤلاء " الفتيات " ، هي طريق النكاح ، الذي تتخصص فيه امرأة لرجل لتكوين بيت وأسرة ، لا الذي تنطلق فيه الشهوات انطلاق البهائم . وجعل الأموال في أيدي الرجال لتؤدى صداقا مفروضا ، لا لتكون أجرا في مخادنة أو سفاح . . وكذلك طهر الإسلام هذه العلاقات حتى في دنيا الرقيق من وحل الجاهلية ، الذي تتلبط فيه البشرية كلما ارتكست في الجاهلية ! والذي تتلبط فيه اليوم في كل مكان ، لأن رايات الجاهلية هي التي ترتفع في كل مكان ، لا راية الإسلام !
ولكن - قبل أن نتجاوز هذا الموضع من الآية - ينبغي أن نقف أمام تعبير القرآن عن حقيقة العلاقات الإنسانية التي تقوم بين الأحرار والرقيق في المجتمع الإسلامي ، وعن نظرة هذا الدين إلى هذا الأمر عندما واجهه المجتمع الإسلامي . إنه لا يسمي الرقيقات : رقيقات . ولا جواري . ولا إماء . إنما يسميهن " فتيات " .
( فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) . .
وهو لا يفرق بين الأحرار وغير الأحرار تفرقة عنصرية تتناول الأصل الإنساني - كما كانت الاعتقادات والاعتبارات السائدة في الأرض كلها يومذاك - إنما يذكر بالأصل الواحد ، ويجعل الآصرة الإنسانية والآصرة الإيمانية هما محور الارتباط :
( والله أعلم بإيمانكم ، بعضكم من بعض ) . .
وهو لا يسمي من هن ملك لهم سادة . إنما يسميهم " أهلا " :
وهو لا يجعل مهر الفتاة لسيدها . فمهرها إنما هو حق لها . لذلك يخرج من قاعدة أن كسبها كله له . فهذا ليس كسبا ، إنما هو حق ارتباطها برجل :
وهو يكرمهن عن أن يكن بائعات أعراض بثمن من المال ، إنما هو النكاح والإحصان :
( محصنات غير مسافحات ولامتخذات أخدان ) . .
وكلها لمسات واعتبارات تحمل طابع التكريم لإنسانية هؤلاء الفتيات ، حتى وهن في هذا الوضع ، الذي اقتضته ملابسات وقتية ، لا تطعن في أصل الكرامة الإنسانية .
وحين يقاس هذا التكريم إلى ما كان سائدا في جاهلية الأرض كلها يومذاك من النظرة إلى الرقيق ، وحرمانه حق الانتساب إلى " إنسانية " السادة ! وسائر الحقوق التي تترتب على هذه " الإنسانية " . . يبدو مدى النقلة التي نقل الإسلام إليه كرامة " الإنسان " وهو يرعاها في جميع الأحوال ، بغض النظر عن الملابسات الطارئة التي تحد من أوضاع بعض الأناسي ، كوضع الاسترقاق .
ويبدو مدى النقلة البعيدة حين يقاس صنيع الإسلام هذا ، وتنظيمه لأوضاع هذه الحالة الطارئة بما تصنعه الجيوش الفاتحة في هذه الجاهلية الحديثة بنساء وفتيات البلاد المفتوحة . وكلنا يعرف حكاية " الترفيه " أو قصة الوحل الذي تلغ فيه جيوش الجاهلية الفاتحة في كل مكان ! وتخلفه وراءها للمجتمع حين ترحل يعاني منه السنوات الطوال !
ثم يقرر الإسلام عقوبة مخففة على من ترتكب الفاحشة من هؤلاء الفتيات بعد إحصانها بالزواج ، واضعا في حسابه واقعها وظروفها التي تجعلها أقرب إلى السقوط في الفاحشة ، وأضعف في مقاومة الإغراء من الحرة ، مقدرا أن الرق يقلل من الحصانة النفسية ، لأنه يغض من الشعور بالكرامة ، والشعور بشرف العائلة - وكلاهما شعور يثير الإباء في نفس الحرة - كما يقدر الحالة الاجتماعية والاقتصادية ، واختلافها بين الحرة والأمة . وأثرها في جعل هذه أكثر تسامحا في عرضها ، وأقل مقاومة لإغراء المال وإغراء النسب ممن يراودها عن نفسها ! يقدر الإسلام هذا كله فيجعل حد الأمة - بعد إحصانها - نصف حد الحرة المحصنة بالحرية قبل زواجها .
( فإذا أحصن . فإن أتين بفاحشة ، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب )
ومفهوم أن النصف يكون من العقوبة التي تحتمل القسمة . وهي عقوبة الجلد . ولا يكون في عقوبة الرجم . إذ لا يمكن قسمتها ! فإذا زنت الجارية المؤمنة المتزوجة عوقبت بنصف ما تعاقب به الحرة البكر . أما عقوبة الجارية البكر فمختلف عليها بين الفقهاء . هل تكون هذا الحد نفسه - وهو نصف ما على الحرة البكر - ويتولاه الإمام ؟ أم تكون تأديبا يتولاه سيدها ودون النصف من الحد ؟ وهو خلاف يطلب في كتب الفقه .
أما نحن - في ظلال القرآن - فنقف أمام مراعاة هذا الدين لواقع الناس وظروفهم ، في الوقت الذي يأخذ بأيديهم في المرتقى الصاعد النظيف .
إن هذا الدين يأخذ في اعتباره - كما قلنا - واقع الناس ، دون أن يدعهم يتلبطون في الوحل باسم هذا الواقع !
وقد علم الله ما يحيط بحياة الرقيق من مؤثرات . تجعل الواحدة - ولو كانت متزوجة - أضعف من مقاومة الإغراء والوقوع في الخطيئة . فلم يغفل هذا الواقع ويقرر لها عقوبة كعقوبة الحرة . ولكن كذلك لم يجعل لهذا الواقع كل السلطات ، فيعفيها نهائيا من العقوبة .
قوام وسط . يلحظ كل المؤثرات وكل الملابسات .
كذلك لم يجعل من انحطاط درجة الرقيق سببا في مضاعفة العقوبة ، كما كانت قوانين الجاهلية السائدة في الارض كلها تصنع مع الطبقات المنحطة والطبقات الراقية ؛ أو مع الوضعاء والأشراف تخفف عن الأشراف ، وتقسو على الضعاف .
كان المعمول به في القانون الروماني الشهير أن تشدد العقوبة كلما انحطت الطبقة . فكان يقول : " ومن يستهو أرملة مستقيمة أو عذراء ، فعقوبته - إن كان من بيئة كريمة - مصادرة نصف ماله . وإن كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد والنفي من الأرض "
وكان المعمول به في القانون الهندي الذي وضعه " منو " وهو القانون المعروف باسم " منوشاستر " أن البرهمي إن استحق القتل ، فلا يجوز للحاكم إلا أن يحلق رأسه . أما غيره فيقتل ! وإذا مد أحد المنبوذين إلى برهمي يدا أو عصا ليبطش به قطعت يده . . . الخ
وكان اليهود إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد .
وجاء الإسلام ليضع الحق في نصابه ؛ ولياخذ الجاني بالعقوبة ، مراعيا جميع اعتبارات " الواقع " . وليجعل حد الامة - بعد الإحصان - نصف حد الحرة قبل الإحصان . فلا يترخص فيعفيها من العقوبة ، ويجعل إرادتها ملغاة كلية من ارتكاب الفعل تحت وطأة الظروف . فهذا خلاف الواقع . ولا يغفل واقعها كذلك فيعاقبها عقاب الحرة - وواقعها يختلف عن واقع الحرة . ولا يتشدد تشدد الجاهلية مع الضعاف دون الأشراف ! ! !
وما تزال الجاهلية الحديثة في أمريكا وفي جنوب أفريقية وفي غيرها تزاول هذه التفرقة العنصرية ، وتغفر للأشراف " البيض " ما لا تغفره للضعاف " الملونين " والجاهلية هي الجاهلية حيث كانت . والإسلام هو الإسلام . . حيث كان . .
ثم تنتهي الآية ببيان أن الزواج من الإماء رخصة لمن يخشى المشقة أو الفتنة . فمن استطاع الصبر - في غير مشقة ولا فتنة - فهو خير . لما أسلفناه من الملابسات التي تحيط بالزواج من الإماء :
( ذلك لمن خشي العنت منكم . وأن تصبروا خير لكم . والله غفور رحيم )
إن الله لا يريد أن يعنت عباده ، ولا أن يشق عليهم ، ولا أن يوقعهم في الفتنة . وإذا كان دينه الذي اختاره لهم ، يريد منهم الاستعلاء والارتفاع والتسامي ، فهو يريد منهم هذا كله في حدود فطرتهم الإنسانية ، وفي حدود طاقتهم الكامنة ، وفي حدود حاجاتهم الحقيقية كذلك . . ومن ثم فهو منهج ميسر ، يلحظ الفطرة ، ويعرف الحاجة ، ويقدر الضرورة . كل ما هنالك أنه لا يهتف للهابطين بالهبوط ، ولا يقف أمامهم - وهم غارقون في الوحل - يبارك هبوطهم ، ويمجد سقوطهم . أو يعفيهم من الجهد في محاولة التسامي ، أو من التبعة في قلة مقاومة الإغراء !
وهو هنا يهيب بالصبر حتى تتهيأ القدرة على نكاح الحرائر ؛ فهن أولى أن تصان نفوسهن بالزواج ، وان تقوم عليهن البيوت ، وأن ينجبن كرام الأبناء ، وأن يحسن الإشراف على الجيل الناشى ء ، وأن يحفظن فراش الأزواج . . فأما إذا خشي العنت : عنت المشقة عند الصبر ، وعنت الفتنة التي لا تقاوم ، فهناك الرخصة ، والمحاولة لرفع مستوى الإماء ، بذلك التكريم الذي يضفيه عليهن . فهن( فتياتكم ) وهم( أهلهن ) . والجميع بعضهم من بعض يربطهم الإيمان . والله أعلم بالإيمان . ولهن مهورهن فريضة . وهو نكاح لا مخادنة ولا سفاح . . وهن مسؤولات إن وقعن في الخطيئة . . ولكن مع الرفق والتخفيف ومراعاة الظروف :
يعقب بها على الاضطرار لنكاح غير الحرائر . ويعقب بها على تخفيف عقوبة الإماء . . وهي في موضعها المناسب عقب هذه وتلك ، فمغفرة الله ورحمته وراء كل خطيئة ، ووراء كل اضطرار .
يقول [ تعالى ]{[7043]} ومن لم يجد { طَوْلا } أي : سعة وقدرة { أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } أي الحرائر .
وقال ابن وَهْب : أخبرني عبد الجبار ، عن ربيعة : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ } قال ربيعة الطوْل الهوى ، ينكح الأمة إذا كان هواه فيها . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
ثم شرع يشنع على هذا القول ويَرُدّه { فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } أي : فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون ، ولهذا قال : { مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات } قال ابن عباس وغيره : فلينكح من إماء المؤمنين ، وكذا قال السدي ومقاتل بن حَيَّان .
ثم اعترض{[7044]} بقوله : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } أي : هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها ، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور .
ثم قال : { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } فدلَّ على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه ، وكذلك هو ولي عبده ، ليس لعبده أن يتزوج إلا{[7045]} بإذنه ، كما جاء في الحديث : " أيما عبد تَزَوّج بغير إذن مَوَاليه فهو عَاهِر " {[7046]} أي زان .
فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها ؛ لما جاء في الحديث : " لا تُزَوِّجُ المرأةُ [ المرأةَ ، ولا المرأةُ نفسها ]{[7047]} فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " {[7048]} .
وقوله : { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : وادفعوا{[7049]} مهورهن بالمعروف ، أي : عن طيب نفس منكم ، ولا تبخسوا{[7050]} منه شيئًا استهانة بهن ؛ لكونهن إماء مملوكات .
وقوله : { مُحْصَنَاتٍ } أي : عفائف عن الزنا لا{[7051]} يتعاطينه ؛ ولهذا قال : { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } وهن الزواني اللاتي لا يمتنعن من أرادهن بالفاحشة .
وقوله : { ولا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } قال ابن عباس : المسافحات ، هن الزواني المعالنات{[7052]} يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحدًا أرادهن بالفاحشة . ( ومتخذات أخدان ) يعني : أخلاء .
وكذا روي عن أبي هريرة ، ومجاهد والشعبي ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، ويحيى بن أبي كثير ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، قالوا : أخلاء . وقال الحسن البصري : يعني : الصديق . وقال الضحاك أيضا : { وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } ذات الخليل الواحد [ المسيس ]{[7053]} المقرة به ، نهى الله عن ذلك ، يعني [ عن ]{[7054]} تزويجها{[7055]} ما دامت كذلك .
وقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } اختلف{[7056]} القراءُ في { أُحْصِنَّ } فقرأه{[7057]} بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد ، مبني لما لم يسم فاعله ، وقُرئ بفتح الهمزة والصاد فعل لازم ثم قيل : معنى القراءتين{[7058]} واحد . واختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : أن المراد بالإحصان هاهنا الإسلام . رُوي ذلك عن عبد الله بن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، والأسود بن يزيد ، وزِرّ بن حُبَيْش ، وسعيد بن جُبَير ، وعطاء ، إبراهيم النَّخعي ، والشعبي ، والسُّدِّي . وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب ، وهو منقطع . وهذا هو القول{[7059]} الذي نص عليه الشافعي [ رحمه الله تعالى ]{[7060]} في رواية الربيع ، قال : وإنما قلنا [ ذلك ]{[7061]} استدلالا بالسنة وإجماع أكثر أهل العلم .
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثًا مرفوعًا ، قال : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله [ الدمشقى ]{[7062]} حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن رجل ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قال : " إحصانها إسلامها وعفافها " . وقال{[7063]} المراد به هاهنا التزويج ، قال : وقال علي : اجلدوهن .
[ ثم ]{[7064]} قال ابن أبي حاتم : وهو حديث منكر .
قلت : وفي{[7065]} إسناده ضعف ، ومنهم من لم يسم ، و [ مثله ]{[7066]} لا{[7067]} تقوم به حجة{[7068]} .
وقال القاسم وسالم : إحصانها : إسلامها وعفافها .
وقيل : المراد به هاهنا : التزويج . وهو قولُ ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وطاوس ، وسعيد بن جُبَير ، والحسن ، وقتادة وغيرهم . ونقله أبو علي الطبري في كتابه " الإيضاح " عن الشافعي ، فيما رواه أبو الحكم بن عبد الحكم عنه وقد رواه لَيْث بن أبي سليم ، عن مجاهد أنه قال : إحصان الأمة أن ينكحها الحر ، وإحصان العبد أن ينكح الحرة . وكذا رَوَى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، رواهما ابن جرير في تفسيره ، وذكره ابن أبي حاتم عن الشعبي والنخعي .
وقيل{[7069]} معنى القراءتين متباين{[7070]} فمن قرأ { أُحْصِنَّ } بضم الهمزة ، فمراده التزويج ، ومن قرأ " أحصن " بفتحها ، فمراده الإسلام اختاره الإمام أبو جعفر ابن جرير في تفسيره ، وقرره ونصره .
والأظهر - والله أعلم - أن المراد بالإحصان هاهنا التزويج ؛ لأن سياق الآية يدل عليه ، حيث يقول سبحانه وتعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ } والله أعلم . والآية الكريمة سياقها كلها{[7071]} في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } أي : تزوجن ، كما فسره ابن عباس ومن تبعه .
وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور ؛ وذلك أنهم يقولون : إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة ، سواء كانت مسلمة أو كافرة ، مزوجة أو بكرا ، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنا من الإماء ، وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك ، فأما الجمهور فقالوا : لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم . وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء ، فقدمناها على مفهوم الآية ، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه ، عن علي ، رضي الله عنه ، أنه خطب فقال : يا أيها الناس ، أقيموا على أرقَّائكم الحد من أحْصَنَ منهم ومن لم يُحْصَن ، فَإنَّ أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زَنَتْ فأمرني أن أجلدها ، فإذا هي حديثة عهد بنفاس ، فخشيت إنْ جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أحْسَنْتَ ، اتركها حتى تَماثَل{[7072]} " {[7073]} .
وعند عبد الله بن أحمد ، عن غير أبيه : " فإذا تَعالتْ من نَفْسِها{[7074]} حدَّها{[7075]} خمسين " .
وعن أبي هريرة قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها ، فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زَنَتِ الثانية فليجلدها الحد ولا يُثَرِّبْ عليها ، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها ، فليبعها ولو بِحَبْل من شَعَر " ولمسلم{[7076]} إذا زَنتْ ثلاثا فليبعها في الرابعة " {[7077]} .
وقال مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يَسار ، عن عبد الله بن عيَّاش{[7078]} بن أبي ربيعة{[7079]} المخزومي قال : أمَرَني عُمَر بن الخطاب في فتية من قريش ، فجلدنا من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا .
الجواب الثاني : جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها ، وإنما تضرب تأديبا ، وهو المحكي عن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنه ، وإليه ذهب طاوس ، وسعيد بن جُبَير ، وأبو عُبَيد القاسم بن سلام ، وداود بن علي الظاهري في رواية عنه . وعمْدتهُم مفهوم الآية وهو من مفاهيم الشرط ، وهو حجة عند أكثرهم فهو مقدم على العموم عندهم . وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة إذا زنت ولم تحْصنْ ؟ قال : " إن زنت فحدوها{[7080]} ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير " {[7081]} قال ابن شهاب : لا أدري أبعد{[7082]} الثالثة أو الرابعة .
أخرجاه في الصحيحين{[7083]} وعند مسلم : قال ابن شهاب : الضفير{[7084]} الحبل .
قالوا : فلم يُؤَقَّت في هذا الحديث{[7085]} عدد كما وقت في المحصنة بنصف ما على المحصنات من العذاب ، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك والله أعلم .
وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن مسعر ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس على أمة حد حتى تحصن - أو{[7086]} حتى تزوج - فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات " .
وقد رواه ابن خزيمة ، عن عبد الله بن عمران العابدي{[7087]} عن سفيان به مرفوعا . وقال : رفعه خطأ ، إنما هو من قول ابن عباس ، وكذا رواه البيهقي من حديث عبد الله بن عمران ، وقال مثل ما قاله ابن خزيمة{[7088]} .
قالوا : وحديث علي وعمر [ رضي الله عنهما ]{[7089]} قضايا أعيان ، وحديث أبي هريرة عنه أجوبة :
أحدها : أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعا بينه وبين هذا الحديث .
الثاني : أن لفظ الحد في قوله : فليجلدها{[7090]} الحد ، لفظ مقحم{[7091]} من بعض الرواة ، بدليل الجواب الثالث وهو :
أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط ، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقدم{[7092]} من رواية واحد ، وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم ، من حديث عَبَّاد بن تميم ، عن عمه - وكان قد شهد بدرًا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا زنت الأمة فاجلدوها ، ثم إذا زَنتِ فاجْلِدوها ، ثم إذا زنت فاجلدوها ، ثم إذا زنت فبيعوها ولو بضفير " .
الرابع : أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ الحد في الحديث على الجلد ؛ لأنه لما كان الجلد اعتقد{[7093]} أنه حد ، أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب ، كما أطلق الحد على ضرب من زنى من المرضى بُعثْكال نخل فيه مائة شمراخ ، وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة ، وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كالإمام أحمد وغيره من السلف . وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة ، ورجم الثيب أو اللائط ، والله أعلم .
وقد روى ابن جرير في تفسيره : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ؛ أنه سمع سعيد بن جبير يقول : لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج{[7094]} .
وهذا إسناد صحيح عنه ، ومذهب غريب إن أراد أنها لا تضرب أصلا لا حدا ، وكأنه أخذ بمفهوم الآية ولم يبلغه الحديث ، وإن كان أراد أنها لا تضرب حدا ، ولا ينفي ضربها تأديبا ، فهو{[7095]} كقول ابن عباس ومن تبعه في ذلك ، والله أعلم .
الجواب الثالث : أن الآية دلت على أن الأمة المحصنة تحد نصف حد الحرة ، فأما قبل الإحصان فعمومات{[7096]} الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة ، كقوله تعالى{[7097]} { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : 2 ] وكحديث عبادة بن الصامت : " خُذوا عَنِّي ، خذوا عني ، قد جَعلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البِكر بالبِكْر جَلْدُ مائة وتَغْرِيبُ عام ، والثيب جَلْدُ مائة ورَجْمُهَا بالحجارة " والحديث في صحيح مسلم وغير ذلك من الأحاديث .
وهذا القول هو المشهور عن داود بن علي الظاهري ، وهو في غاية الضعف ؛ لأن الله تعالى{[7098]} إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة{[7099]} من العذاب وهو خمسون جلدة ، فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشد منه بعد الإحصان . وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال ، وهذا الشارع عليه السلام يسأله أصحابه عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، فقال : " اجلدوها " ولم يقل مائة ، فلو كان حكمها كما قال{[7100]} داود لوجب بيان ذلك لهم ؛ لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم{[7101]} بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء ، وإلا فما الفائدة في قولهم : " ولم تحصن " لعدم الفرق
بينهما لو لم تكن الآية نزلت ، لكن لما علموا حكم أحد الحكمين سألوا عن حكم الحال الآخر ، فبينه لهم . كما [ ثبت ]{[7102]} في الصحيحين أنهم لما سألوه عن الصلاة عليه ، فذكرها لهم ثم قال : " والسلام ما قد{[7103]} علمتم " وفي لفظ : لما أنزل الله قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [ الأحزاب : 56 ] قالوا : هذا السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ وذكر الحديث ، وهكذا هذا السؤال{[7104]} .
الجواب الرابع - عن مفهوم الآية - : جواب أبي ثور ، فإن من مذهبه ما هو أغرب من قول داود من وجوه ، ذلك أنه يقول{[7105]} فإذا أحْصن فإن عليهن نصف ما على المحصنات{[7106]} المزوجات وهو الرجم ، وهو لا يتناصف{[7107]} فيجب أن ترجم الأمة المحصنة إذا زنت ، وأما قبل الإحصان فيجب جلدها خمسين . فأخطأ في فهم الآية وخالف الجمهور في الحكم ، بل قد قال أبو عبد الله الشافعي ، رحمه الله : ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا ؛ وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، والألف واللام في المحصنات للعهد ، وهن المحصنات المذكورات في أول الآية : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ } والمراد بهن الحرائر فقط ، من غير تعرض لتزويج غيره ، وقوله : { نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تنصيفه{[7108]} وهو الجلد لا الرجم ، والله أعلم .
ثم قد روى الإمام أحمد [ حديثا ]{[7109]} نَصا في رَدِّ مذهب أبي ثور من رواية الحسن بن سعد عن أبيه أن صفية{[7110]} كانت قد زنت برجل من الحمس ، فولدت غلاما ، فادعاه الزاني ، فاختصما إلى عثمان [ بن عفان ]{[7111]} فرفعهما{[7112]} إلى علي بن أبي طالب ، فقال علي : أقضي فيهما{[7113]} بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الولد للفِرَاش وللعَاهِر الحَجَر " وجلدهما خمسين خمسين{[7114]} .
وقيل : بل المراد من المفهوم التنبيه بالأعلى على الأدنى ، أي : أن الإماء على النصف من{[7115]} الحرائر في الحد وإن كن محصنات ، وليس عليهن رجم أصلا لا قبل النكاح ولا بعده ، وإنما عليهن الجلد في الحالتين بالسنة . قال{[7116]} ذلك صاحب الإفصاح عن الشافعي ، فيما رواه ابن عبد الحكم ، عنه . وقد ذكره{[7117]} البيهقي في كتاب السنن والآثار ، وهو بعيد عن لفظ الآية ؛ لأنا إنما استفدنا تنصيف{[7118]} الحد من الآية لا من سواها ، فكيف يفهم منها التنصيف فيما عداها ، وقال : بل أريد بأنها في حال الإحصان لا يقيم الحد عليها إلا الإمام ، ولا يجوز لسيدها إقامة الحد عليها والحالة هذه - وهو قول في مذهب الإمام أحمد رحمه الله - فأما قبل الإحصان فله ذلك ، والحد في كلا الموضعين نصف حد الحرة . وهذا أيضا بعيد ؛ لأنه{[7119]} ليس في لفظ الآية ما يدل عليه .
ولولا هذه لم ندر ما حكم الإمام{[7120]} في التنصيف ، ولوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحد{[7121]} مائة أو رجمهن ، كما{[7122]} أثبت في الدليل عليه ، وقد تقدم عن علي أنه قال : أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من{[7123]} أحصن منهم ومن لم يحصن ، وعموم الأحاديث المتقدمة ليس فيها تفصيل بين المزوجة{[7124]} وغيرها ، لحديث أبي هريرة الذي احتج به الجمهور : " إذا زَنَتْ أمةُ أحدِكم فتبين زِناهَا فَليجْلِدها{[7125]} الحدَّ ولا يثرب عَلَيْها " .
ملخص الآية : أنها{[7126]} إذا زنت أقوال : أحدها : أنها{[7127]} بجلد خمسين قبل الإحصان وبعده ، وهل تنفى ؟ فيه ثلاثة أقوال :
[ أحدها ]{[7128]} أنها{[7129]} تنفى عنه{[7130]} والثاني : لا تنفى عنه{[7131]} مطلقًا . [ وهو قول علي وفقهاء المدينة ]{[7132]} والثالث : أنها تنفى نصف سنة وهو نفي نصف{[7133]} الحرة . وهذا الخلاف في مذهب الشافعي ، وأما أبو{[7134]} حنيفة فعنده أن النفي تعزير ليس من تمام الحد ، وإنما هو{[7135]} رأي الإمام ، إن شاء فعله وإن شاء تركه في حق الرجال والنساء ، وعند مالك أن النفي إنما هو على الرجال ، وأما{[7136]} النساء فلا{[7137]} ؛ لأن{[7138]} ذلك مضاد لصيانتهن ، [ وما ورد شيء من النفي في الرجال ولا في النساء نعم حديث عُبَادَة وحديث أبي هريرة ]{[7139]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وبإقامة{[7140]} الحد عليه ، رواه البخاري ، و [ كل ]{[7141]} ذلك مخصوص بالمعنى ، وهو أن المقصود من النفي الصون وذلك مفقود في نفي النساء والله أعلم .
والثاني : أن الأمة إذا زنت تُجلد خمسين بعد الإحصان ، وتضرب [ قبله ]{[7142]} تأديبا غير محدود بعدد محصور ، وقد تقدم ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير : أنها لا تضرب قبل الإحصان ، وإن{[7143]} أراد نفيه فيكون مذهبًا بالتأويل{[7144]} وإلا فهو كالقول الثاني .
القول الآخر : أنها تجلد قبل الإحصان مائة وبعده خمسين ، كما هو المشهور عن داود ، و[ هو ]{[7145]} أضعف الأقوال : أنها تجلد قبل الإحصان خمسين وترجم بعده ، وهو قول أبي ثور ، وهو ضعيف أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
وقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } أي : إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا ، وشق عليه الصبر عن الجماع ، وعنت بسبب ذلك [ كله ، فحينئذ يتزوج الأمة ، وإن ترك تزوج الأمة ]{[7146]} وجاهد نفسه في الكف عن الزنا ، فهو خير له ؛ لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها إلا أن يكون الزوج عربيا فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي ، ولهذا قال : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
ومن هذه الآية الكريمة استدل جمهورُ العلماء في جواز نكاح الإماء ، على أنه لا بد من عدم الطَّوْل لنكاح الحرائر ومن خوف العنت ؛ لما في نكاحهن من مفْسَدة رق الأولاد ، ولما فيهن من الدناءة{[7147]} في العدول عن الحرائر إليهن . وخالف الجمهورَ أبو حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين ، فقالوا : متى لم يكن الرجل مزوجا بحرّة جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضا ، سواء كان واجدًا الطول لحرة أم{[7148]} لا وسواء خاف العنت أم{[7149]} لا وعمدتهم{[7150]} فيما ذهبوا إليه [ عموم ]{[7151]} قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] أي : العفائف ، وهو يعم الحرائر والإماء ، وهذه الآية عامة ، وهذه{[7152]} أيضا ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور والله أعلم .