198- ولقد كان منكم من يجد حرجاً في مزاولة التجارة وابتغاء الرزق في موسم الحج ، فلا حرج عليكم في ذلك ، بل لكم أن تزاولوا التكسب بطرقه المشروعة وتبتغوا فضل الله ونعمته ، وإذا صدر الحجاج راجعين من عرفات بعد الوقوف بها ، ووصلوا المزدلفة ليلة عيد النحر فليذكروا الله عند المشعر الحرام - وهو جبل المزدلفة - بالتهليل والتلبية والتكبير ، وليمجدوه وليحمدوه على هدايته إياهم إلى الدين الحق والعبادة القويمة في الحج وغيره ، وقد كانوا من قبل ذلك في ضلال عن صراط الهدى والرشاد .
ثم بين - سبحانه - أن التزود بالزاد الروحي لا يتنافى مع التزود بالزاد المادي متى توافرت التقوى ، فقال - تعالى - : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } .
الجناح : أصله من جنح الشيء إذا مال : يقال جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها والمراد بالجناح هنا الإِثم والذنب ، لأنه لما كان الإِثم يميل بالإِنسان عن الحق إلى الباطل سمى جناحاً .
والابتغاء : الطلب بشدة ، وجملة { أَن تَبْتَغُواْ } في موضع جر بتقدير في .
والفضل : الزيادة وتكون في الخير والشر إلأا أنه جرى العرف أن يعبر عن الزيادة الحسنة بالفضل وعن الزيادة القبيحة بالفضول .
والمراد به هنا : المال الحلال المكتسب عن طريق التجارة المشروعة أو غيرها من وجوه الرزق الحلال .
أي : لا إثم ولا حرج عليهكم في أن تطلبوا رزقا حلالا ومالا طيباً عن طريق التجارة أو غيرها من وسائل الكسب المشروعة في موسم الحج .
وقد ذكر المفسرون أن الناس كانوا يتحاشون من التجارة في الحج ، حتى إنهم كانوا يتجنبون البيع والشراء في العشر الأوائل من ذي الحجة ، فنزلت هذه الآية لتخبرهم أنه لا حرج عليهم في ذلك .
روى البخاري عن ابن عباس قال : كان ذو المجاز وعظام متجر الناس في الجاهلية فلما جاء الإِسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } .
وقال ابن كثير : وروى الإِمام أحمد عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر : إنا نُكْرَى فهل لنا من حج ؟ قال : أليس تطوفون بالبيت وترمون الجمخار وتحلقون رءوسكم وتقضون المناسك قال : قلت بلى . فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له " أنتم حجج " .
فالآية الكريمة صريحة في إباحة طلب الرزق لمن هو في حاجة إلأى ذلك في موسم الحج ، بشرط ألا يشغله عن أداء فرائض الله .
ثم قال - تعالى - : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } .
الفاء في قوله : فإذا لتفصيل بعض ما أجمل من قبل في قوله : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج . . } وأفضتم . اندفعتم بكثرة متزاحمين . وذلك تشبيه لهم بالماء إذا كثر ودفع بعضه بعضاً فانتشر وسال من حافتي الوادي والإِناء والإِفاضة في الحديث الاندافع فيه بإكثار وتصرف في وجوهه ومنه قوله - تعالى - { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء بكثرة حتى يتفرق .
والتقدير : أفضتم أنفسكم فحذف المفعول للعلم به .
والمراد : خروجهم من عرفات بشيء ، من السرعة في تكاثر وازدحام متجهين إلى المزدلفة .
وعرفات : اسم للجبل المعروف ، قيل سمي بذلك لأن الناس يتعارفون به فهم يجتمعون عليه في وقت واحد فيجري التعارف بينهم .
وقد اتفق العلماء على أن الوقوف بعرفات هو ركن الحج الأكبر ففي الحديث الشريف " الحج عرفة " ويكون ذلك في اليوم التاسع من ذي الحجة .
قال القرطبي : أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد ذلك قبل الزوال . وأجمعوا على تمام الحج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهاراً قبل الليل إلا مالك بن أنس فإنه قال : لابد أن يأخذ من الليل شيئاً ، وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأمة في تمام حجه . والحجة للجمهور مطلق قوله : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } : فإنه لم يختص ليلا من نهار . وحديث عروة بن مضرس قال : " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الموقف من جَمْع - أي من المزدلفة - قلت : يا رسول الله ، جئتك من جبل طيء أكللت مطيتي وأتعبت نفسي . . فهل لي من حج يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهاراً فقد تم "
ومن في قوله : { مِّنْ عَرَفَاتٍ } ابتدائية . أي ، فإذا أفضتم خارجين من عرافت إلى المشعر الحرام .
والمشعر الحرام : هو المزدلفة وقيل هو موضع بها . والمشعر : اسم مشتق من الشعور أي : العلم ، أو من الشعار أي : العلامة .
ووصف المشعر بوصف الحرام لأنه من أرض الحرم ، وهو منسك له حرمة وتقديس .
والمزدلفة من الازدلاف وهو القرب وسميت بذلك لأن الحجاج يزدلفون إليها من عرفات ليبيتوا بها قاصدين الاقتراب من منى .
وتسمى المزدلفة - أيضاً - " جَمْع " لاجتماع الناس في هذا المكان أو جمعهم فيه بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير . وتسمى كذلك " قزح " .
ويرى الحنفية والشافعية أن الوقوف بالمزدلفة واجب وليس بركن ، ومن فاته لا يبطل حجه ويجب عليه دم .
ويرى أكثر المالكية أن الوقوف بها سنة مؤكدة .
ويرى بعض التابعين وبعض الشافعية أن الوقوف بها ركن كالوقوف بعرفات .
والمعنى : فإذا سرتم - يا معشر الحجاج - من عرفات متدافعين متزاحمين متجهين إلى المزدلفة فأكثروا من ذكر الله - تعالى - بالتلبية والتهليل والدعاء بقلوب مخبتة ، ونفوس صافية ، لأن ذكر الله - تعالى - في تلك المواطن المقدسة والأوقات الفاضلة من شأنه أن يرفع الدرجات ، ويوصل إلى أعلا المقامات .
ثم قال - تعالى - : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } الكاف للتشبيه : ومعنى التشبيه في مثل هذا التركيب المشابهة في التساوي في الحسن والكمال . كما تقول : اخدمه كما أكرمك تعني : لا تتقاصر خدمتك عن إكرامه .
والمعنى : اذكروا الله - تعالى - ذكراً حسناً مماثلا لهدايته لكم ، وأنتم تعلمون أن هذه الهداية شأنها عظيم فبسببها خرجتم من الظلمات إلى النور ، فيجب عليهكم أن تكثروا من ذكر الله ومن الثناء عليه .
قال الآلوسي : و " ما " تحتمل أن تكون مصدرية فمحل { كَمَا هَدَاكُمْ } النصب على المصدرية ، بحذف الموصوف . أي : ذكراً مماثلا لهداكم . . . وتحتمل أن تكون كافلة فلا محل لها من الإِعراب . والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة ، لذا لا تطلب عاملا تفضي بمعناه إلى مدخولها . وقيل : إن الكاف للتعليل ، وما مصدرية . أي ، اكذروه وعظموه لأجل هدايته السابقة منه - تعالى - لكم .
و { وَإِن } في قوله : { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين } هي المخففة من الثقيلة والضمير في { مِّن قَبْلِهِ } يعود إلى الهدى المأخوذ من ما المصدرية وما دخلت عليه .
والمراد بالضلال هنا : الجهل بالإِيمان وبالتكاليف التي كلف الله بها عباده .
أي : اذكروا الله - تعالى - ذكراً مشابهاً لهدايته لكم ، وإنكم لولا هذه الهداية لهلكتم فأكثروا من ذكره وشكره عليها .
ثم يمضي في بيان أحكام الحج وشعائره ، فيبين حكم مزاولة التجارة أو العمل بأجر بالنسبة للحاج . وحكم الإفاضة ومكانها . وما يجب من الذكر والاستغفار بعدها :
( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم . فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين . ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ، إن الله غفور رحيم ) . .
قال البخاري - بإسناده - عن ابن عباس . قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية . فتأثموا أن يتجروا في الموسم . فنزلت : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم )في مواسم الحج .
وروى أبو داود - بإسناده من طريق آخر - إلى ابن عباس . قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج ، يقولون : أيام ذكر . فأنزل الله : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) . .
وفي رواية عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر : إنا نكري . فهل لنا من حج ؟ قال : أليس تطوفون بالبيت ، وتأتون بالمعروف ، وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم ؟ قال : قلنا : بلى . فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي [ ص ] فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) .
وفي رواية عن أبي صالح مولى عمر [ رواها ابن جرير ] قال : قلت : يا أمير المؤمنين . كنتم تتجرون في الحج ؟ قال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج ؟
وهذا التحرج الذي تذكره الروايتان الأوليان من التجارة ، والتحرج الذي تذكره الرواية الثالثة عن الكراء أو العمل بأجر في الحج . . هو طرف من ذلك التحرج الذي أنشأه الإسلام في النفوس من كل ما كان سائغا في الجاهلية ، وانتظار رأي الإسلام فيه قبل الإقدام عليه . وهي الحالة التي تحدثنا عنها في أوائل هذا الجزء ، عند الكلام عن التحرج من الطواف بالصفا والمروة .
وقد نزلت إباحة البيع والشراء والكراء في الحج ، وسماها القرآن ابتغاء من فضل الله :
( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) . .
ليشعر من يزاولها أنه يبتغي من فضل الله حين يتجر وحين يعمل بأجر وحين يطلب أسباب الرزق : إنه لا يرزق نفسه بعمله . إنما هو يطلب من فضل الله ، فيعطيه الله . فأحرى ألا ينسى هذه الحقيقة ؛ وهي أنه يبتغي من فضل الله ، وأنه ينال من هذا الفضل حين يكسب وحين يقبض وحين يحصل على رزقه من وراء الأسباب التي يتخذها للارتزاق . ومتى استقر هذا الإحساس في قلبه ، وهو يبتغي الرزق ، فهو إذن في حالة عبادة لله ، لا تتنافى مع عبادة الحج ، في الاتجاه إلى الله . . ومتى ضمن الإسلام هذه المشاعر في قلب المؤمن أطلقه يعمل وينشط كما يشاء . . وكل حركة منه عبادة في هذا المقام .
لهذا يجعل الحديث عن طلب الرزق جزءاً من آية تتحدث عن بقية شعائر الحج ، فتذكر الإفاضة والذكر عند المشعر الحرام :
( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام . واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) . .
والوقوف بعرفة عمدة أفعال الحج . . روى أصحاب السنن بإسناد صحيح عن الثوري عن بكير ، عن عطاء ، عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي . قال : سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " الحج عرفات - ثلاثا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك . وأيام منى ثلاثة . فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه " . .
ووقت الوقوف بعرفة من الزوال [ الظهر ] يوم عرفة - وهو اليوم التاسع من ذي الحجة - إلى طلوع الفجر من يوم النحر . . وهناك قول ذهب إليه الإمام أحمد ، وهو أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة . استنادا إلى حديث رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي . عن الشعبي عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي قال : " أتيت رسول الله [ ص ] بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت : يا رسول الله إني جئت من جبل طيء . أكللت راحلتي وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه . فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله [ ص ] : " من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه وقضى تفثه " .
وقد سن رسول الله [ ص ] للوقوف هذا الوقت - على أي القولين - ومد وقت الوقوف بعرفة إلى فجر يوم النحر - وهو العاشر من ذي الحجة - ليخالف هدي المشركين في وقوفهم بها . . روى ابن مردويه والحاكم في المستدرك كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشي - بإسناده - عن المسور ابن مخرمة قال : " خطبنا رسول الله [ ص ] وهو بعرفات . فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد - وكان إذا خطب خطبة قال : أما بعد - فإن هذا اليوم الحج الأكبر . ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس ، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها . وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس ، مخالفا هدينا هدي أهل الشرك " . .
والذي ورد عن فعل رسول الله [ ص ] أنه دفع بعد غروب شمس يوم عرفة ، وقد جاء في حديث جابر بن عبد الله - في صحيح مسلم - " فلم يزل واقفا - يعني بعرفة - حتى غربت الشمس وبدتالصفرة قليلا ، حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول الله [ ص ] وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : " أيها الناس ، السكينة السكينة " كلما اتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد . حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا . ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام . فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس " . .
وهذا الذي فعله رسول الله [ ص ] هو الذي تشير إليه الآية :
( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام . واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) . .
والمشعر الحرام هو المزدلفة . والقرآن هنا يأمر بذكر الله عنده بعد الإفاضة من عرفات . ثم يذكر المسلمين بأن هذا الذكر من هداية الله لهم ؛ وهو مظهر الشكر على هذه الهداية . ويذكرهم بما كان من أمرهم قبل أن يهديهم :
( وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) . .
والجماعة المسلمة الأولى كانت تدرك حق الإدراك مدى وعمق هذه الحقيقة في حياتها . . لقد كانت قريبة عهد بما كان العرب فيه من ضلال . . ضلال في التصور ، مظهره عبادة الأصنام والجن والملائكة ، ونسبة بنوة الملائكة إلى الله ، ونسبة الصهر إلى الله مع الجن . . إلى آخر هذه التصورات السخيفة المتهافتة المضطربة ، التي كانت تنشىء بدورها اضطرابا في العبادات والشعائر والسلوك : من تحريم بعض الأنعام ظهورها أو لحومها بلا مبرر إلا تصور علاقات بينها وبين شتى الآلهة . ومن نذر بعض أولادهم للآلهة وإشراك الجن فيها . ومن عادات جاهلية شتى لا سند لها إلا هذا الركام من التصورات الاعتقادية المضطربة . . وضلال في الحياة الاجتماعية والأخلاقية . . تمثله تلك الفوارق الطبقية التي تشير الآية التالية في السياق : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) إلى إزالتها كما سيجيء . وتمثله تلك الحروب والمشاحنات القبلية التي لم تكن تجعل من العرب أمة يحسب لها حساب في العالم الدولي . وتمثله تلك الفوضى الخلقية في العلاقات الجنسية ، والعلاقات الزوجية ، وعلاقات الأسرة بصفة عامة . وتمثله تلك المظالم التي يزاولها الأقوياء ضد الضعاف في المجتمع بلا ميزان ثابت يفيء إليه الجميع . . وتمثلها حياة العرب بصفة عامة ووضعهم الإنساني المتخلف الذي لم يرفعهم منه إلا الإسلام .
( واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) . .
كانت ولا شك تتواكب على خيالهم وذاكرتهم ومشاعرهم صور حياتهم الضالة الزرية الهابطة التي كانت تطبع تاريخهم كله ؛ ثم يتلفتون على أنفسهم ليروا مكانهم الجديد الذي رفعهم إليه الإسلام ، والذي هداهم الله إليه بهذا الدين ، فيدركون عمق هذه الحقيقة وأصالتها في وجودهم كله بلا جدال . .
وهذه الحقيقة ما تزال قائمة بالقياس إلى المسلمين من كل أمة ومن كل جيل . . من هم بغير الإسلام ؟ وما هم بغير هذه العقيدة ؟ إنهم حين يهتدون إلى الإسلام ، وحين يصبح المنهج الإسلامي حقيقة في حياتهم ينتقلون من طور وضيع صغير ضال مضطرب إلى طور آخر رفيع عظيم مهتد مستقيم . ولا يدركون هذه النقلة إلا حين يصبحون مسلمين حقا ، أي حين يقيمون حياتهم كلها على النهج الإسلامي . . وإن البشرية كلها لتتيهفي جاهلية عمياء ما لم تهتد إلى هذا النهج المهتدي . . لا يدرك هذه الحقيقة إلا من يعيش في الجاهلية البشرية التي تعج بها الأرض في كل مكان ، ثم يحيا بعد ذلك بالتصور الإسلامي الرفيع للحياة ، ويدرك حقيقة المنهج الإسلامي الشامخة على كل ما حولها من مقاذر ومستنقعات وأوحال !
وحين يطل الإنسان من قمة التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي ، على البشرية كلها في جميع تصوراتها ، وجميع مناهجها ، وجميع نظمها - بما في ذلك تصورات أكبر فلاسفتها قديما وحديثا ، ومذاهب أكبر مفكريها قديما وحديثا - حين يطل الإنسان من تلك القمة الشامخة يدركه العجب من انشغال هذه البشرية بما هي فيه من عبث ، ومن عنت ومن شقوة ، ومن ضآلة ، ومن اضطراب لا يصنعه بنفسه عاقل يدعي - فيما يدعي - أنه لم يعد في حاجة إلى إله ! أو لم يعد على الأقل - كما يزعم - في حاجة لاتباع شريعة إله ومنهج إله !
فهذا هو الذي يذكر الله به المسلمين ، وهو يمتن عليهم بنعمته الكبرى :
القول في تأويل قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضّآلّينَ ]
يعني بذلك جل ذكره : ليس عليكم أيها المؤمنون جناح . والجناح : الحرج كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ وهو لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده .
وقوله : أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ يعني أن تلتمسوا فضلاً من عند ربكم ، يقال منه : ابتغيت فضلاً من الله ومن فضل الله أبتغيه ابتغاء : إذا طلبته والتمسته ، وبغيته أبغيه بغيا ، كما قال عبد بني الحسحاس :
بَغاكَ وَما تَبْغِيهِ حّتى وَجَدْتَهُ كأنّكَ قَدْ وَاعَدْتَهُ أمْسِ مَوْعِدَا
يعني طلبك والتمسك . وقيل : إن معنى ابتغاء الفضل من الله : التماس رزق الله بالتجارة ، وأن هذه الآية نزلت في قوم كانوا لا يرون أن يتجروا إذا أحرموا يلتمسون البرّ بذلك ، فأعلمهم جل ثناؤه أن لا برّ في ذلك وأن لهم التماس فضله بالبيع والشراء . ذكر من قال ذلك :
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي ، عن عمر بن ذر ، عن مجاهد ، قال : كانوا يحجون ولا يتجرون ، فأنزل الله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : في الموسم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عمر بن ذرّ ، قال : سمعت مجاهدا يحدّث ، قال : كان ناس لا يتجرون أيام الحجّ ، فنزلت فيهم لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو ليلى ، عن بريدة في قوله تبارك وتعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : إذا كنتم محرمين أن تبيعوا وتشتروا .
حدثنا طليق بن محمد الواسطي ، قال : أخبرنا أسباط ، قال : أخبرنا الحسن بن عمرو ، عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر : إنا قوم نكري فهل لنا حجّ ؟ قال : أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعروف وترمون الجمار وتحلقون رءوسكم ؟ فقلنا : بلى . قال : جاء رجل إلى النبي : صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه ، فلم يدر ما يقول له حتى نزل جبريل عليه السلام عليه بهذه الآية : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ إلى آخر الآية ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أنْتُمْ حُجّاجٌ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : أخبرنا أيوب ، عن عكرمة ، قال : كانت تقرأ هذه الآية : «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ في مواسم الحجّ » .
حدثنا عبد الحميد ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن منصور بن المعتمر في قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : هو التجارة في البيع والشراء ، والاشتراء لا بأس به .
حدثت عن أبي هشام الرفاعي ، قال : حدثنا وكيع ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ في مواسم الحج » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن عليّ بن مسهر ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : كان مَتْجَر الناس في الجاهلية عكاظ وذو المجاز ، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك ، حتى أنزل الله جل ثناؤه : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا شبابة بن سوار ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي أميمة ، قال : سمعت ابن عمر ، وسئل عن الرجل يحج ومعه تجارة ، فقرأ ابن عمر : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كانوا لا يتجرون في أيام الحجّ ، فنزلت : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أنه قال : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فِي مواسم الحج .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي ، عن عطاء قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ في مواسم الحج ، هكذا قرأها ابن عباس .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ليث ، عن مجاهد في قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : التجارة في الدنيا ، والأجر في الاَخرة .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : التجارة أحلت لهم في المواسم ، قال : فكانوا لا يبيعون ، أو يبتاعون في الجاهلية بعرفة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ كان هذا الحيّ من العرب لا يعرّجون على كسير ولا ضالة ليلة النفر ، وكانوا يسمونها ليلة الصّدَر ، ولا يطلبون فيها تجارة ولا بيعا ، فأحلّ الله عز وجل ذلك كله للمؤمنين أن يعرجوا على حوائجهم ويبتغوا من فضل ربهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن الزبير يقول : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ في مواسم الحج .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال : قال ابن عباس : كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ في مواسم الحجّ .
حدثنا أحمد بن حازم والمثنى ، قالا : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن سوقة ، قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : كان بعض الحاج يسمون الداجّ ، فكانوا ينزلون في الشقّ الأيسر من منى ، وكان الحاج ينزلون عند مسجد منى ، فكانوا لا يتجرون ، حتى نزلت : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فحجّوا .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عمر بن ذر ، عن مجاهد ، قال : كان ناس يحجون ولا يتجرون ، حتى نزلت : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فرخص لهم في المتجر والركوب والزاد .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ ، قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ : هي التجارة ، قال : اتجروا في الموسم .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني فأبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : كان الناس إذا أحرموا لم يتبايعوا حتى يقضوا حجهم ، فأحله الله لهم .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة أيام الموسم ، يقولون أيام ذكر ، فأنزل الله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فحجوا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الحَج » .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : لا بأس بالتجارة في الحجّ ، ثم قرأ : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : كان هذا الحيّ من العرب لا يعرّجون على كسير ولا على ضالة ولا ينتظرون لحاجة ، وكانوا يسمونها ليلة الصدَر ، ولا يطلبون فيها تجارة فأحلّ الله ذلك كله أن يعرجوا على حاجتهم ، وأن يطلبوا فضلاً من ربهم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن عبد الرحمن بن المهاجر ، عن أبي صالح مولي ، عمر ، قال : قلت لعمر : يا أمير المؤمنين ، كنتم تتجرون في الحجّ ؟ قال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن العلاء بن المسيب ، عن رجل من بني تيم الله ، قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمر ، فقال : يا أبا عبد الرحمن : إنا قوم نُكري فيزعمون أنه ليس لنا حج ؟ قال : ألستم تحرمون كما يحرمون ، وتطوفون كما يطوفون ، وترمون كما يرمون ؟ قال : بلى ، قال : فأنت حاجّ ، جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألت عنه ، فنزلت هذه الآية : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : كانوا إذا أفاضوا من عرفات لم يتجروا بتجارة ، ولم يعرّجوا على كسير ، ولا على ضالة فأحلّ الله ذلك ، فقال : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ . . . إلى آخر الآية .
3حدثني سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية ، فكانوا يتجرون فيها ، فلما كان الإسلام كأنهم تأثموا منها ، فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جَناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ في مواسم الحج .
القول في تأويل قوله تعالى : فإذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ .
يعني جل ثناؤه بقوله : فإذَا أفَضْتُمْ فإذا رجعتم من حيث بدأتم . ولذلك قيل للذي يضرب القداح بين الأيسار مفيض ، لجمعه القداح ثم إفاضته إياها بين الياسرين ، ومنه قول بشر بن أبي حازم الأسدي :
فَقُلْتُ لَهَا رُدّي إلَيْهِ جَنَانَهُ فَرَدّتْ كمَا رَدّ المَنِيحَ مُفِيضُ
ثم اختلف أهل العربية في عرفات ، والعلة التي من أجلها صرفت وهي معرفة ، وهل هي اسم لبقعة واحدة أم هي لجماعة بقاع ؟
فقال بعض نحويي البصريين : هي اسم كان لجماعة مثل مسلمات ومؤمنات ، سميت به بقعة واحدة فصرف لمّا سميت به البقعة الواحدة ، إذ كان مصروفا قبل أن تسمى به البقعة تركا منهم له على أصله لأن التاء فيه صارت بمنزلة الياء والواو في مسلمين ومسلمون لأنه تذكيره ، وصار التنوين بمنزلة النون ، فلما سمي به ترك على حاله كما يترك «المسلمون » إذا سمي به على حاله . قال : ومن العرب من لا يصرفه إذا سميّ به ، ويشبه التاء بهاء التأنيث وذلك قبيح ضعيف . واستشهدوا بقوله الشاعر :
تَنَوّرْتُها مِنْ أذْرِعَاتٍ وأهْلُها بَيْثربَ أدنى دَارِهَا نَظَرٌ عالي
ومنهم من لا ينوّن أذرعات ، وكذلك عانات ، وهو مكان .
وقال بعض نحويي الكوفيين : إنما انصرفت عرفات لأنهن على جماع مؤنث بالتاء . قال : وكذلك ما كان من جماع مؤنث بالتاء ، ثم سمّيتْ به رجلاً أو مكانا أو أرضا أو امرأة انصرفت .
قال : ولا تكاد العرب تسمي شيئا من الجماع إلا جماعا ، ثم تجعله بعد ذلك واحدا .
وقال آخرون منهم : ليست عرفات حكاية ، ولا هي اسم منقول ولكن الموضع مسمى هو وجوانبه بعرفات ، ثم سميت بها البقعة اسم للموضع ، ولا ينفرد واحدها . قال : وإنما يجوز هذا في الأماكن والمواضع ، ولا يجوز ذلك في غيرها من الأشياء . قال : ولذلك نصبت العرب التاء في ذلك لأنه موضع ، ولو كان محكيا لم يكن ذلك فيه جائزا ، لأن من سمى رجلاً مسلمات أو بمسلمين لم ينقله في الإعراب عما كان عليه في الأصل ، فلذلك خالف عانات وأذرعات ما سمي به من الأسماء على جهة الحكاية .
واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لعرفات عرفات فقال بعضهم : قيل لها ذلك من أجل أن إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه لما رآها عرفها بنعتها الذي كان لها عنده ، فقال : قد عرفت ، فسميت عرفات بذلك . وهذا القول من قائله يدل على أن عرفات اسم للبقعة ، وإنما سميت بذلك لنفسها وما حولها ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وأرض سباسب ، فتجمع بما حولها . ذكر من قال ذلك :
3حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي ، قال : لما أذّن إبراهيم في الناس بالحج ، فأجابوه بالتلبية ، وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات ونعتها فخرج ، فلما بلغ الشجرة عند العقبة ، استقبله الشيطان يردّه ، فرماه بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة . فطار فوقع على الجمرة الثانية ، فصدّه أيضا ، فرماه وكبر فطار فوقع على الجمرة الثالثة ، فرماه وكبر فلما رأى أنه لا يطيقه ، ولم يدر إبراهيم أين يذهب ، انطلق حتى أتى ذا المجاز ، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز ، فلذلك سمي ذا المجاز . ثم انطلق حتى وقع بعرفات فلما نظر إليها عرف النعت ، قال : قد عرفتُ ، فسمي عرفات . فوقف إبراهيم بعرفات ، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع ، فسميت المزدلفة ، فوقف بجمع .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن سليمان التيمي ، عن نعيم بن أبي هند ، قال : لما وقف جبريل بإبراهيم عليهما السلام بعرفات ، قال : عرفت ، فسميت عرفات لذلك .
3حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال ابن المسيب : قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : بعث الله جبريل إلى إبراهيم فحجّ به ، فلما أتى عرفة قال : قد عرفت ، وكان قد أتاها مرّة قبل ذلك ، ولذلك سميت عرفة .
وقال آخرون : بل سميت بذلك بنفسها وببقاع أخر سواها . ذكر من قال ذلك :
3حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن مسلم القرشي ، عن أبي طِهفة ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس قال : إنما سميت عرفات ، لأن جبريل عليه السلام ، كان يقول لإبراهيم : هذا موضع كذا ، وهذا موضع كذا ، فيقول : قد عرفت ، فلذلك سميت عرفات .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء قال : إنما سميت عرفة أن جبريل كان يُرِي إبراهيم عليهما السلام المناسك ، فيقول : عرفتُ عرفت ، فسمي عرفات .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن زكريا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قال ابن عباس : أصل الجبل الذي يلي عُرَنة وما وراءه موقف حتى يأتي الجبل جبل عرفة . وقال ابن أبي نجيح : عرفات : النّبْعة والنّبَيْعَة وذات النابت ، وذلك قول الله : فإذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ وهو الشعب الأوسط .
وقال زكريا : ما سال من الجبل الذي يقف عليه الإمام إلى عرفة ، فهو من عرفة ، وما دبَر ذلك الجبل فليس من عرفة .
وهذا القول يدلّ على أنها سميت بذلك نظير ما يسمى الواحد باسم الجماعة المختلفة الأشخاص .
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي أن يقال : هو اسم لواحد سمي بجماع ، فإذا صرف ذهب به مذهب الجماع الذي كان له أصلاً ، وإذا ترك صرفه ذهب به إلى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة ، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى المعارف .
القول في تأويل قوله تعالى : { فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : فإذَا أفَضْتُمْ فكررتم راجعين من عرفة إلى حيث بدأتم الشخوص إليها منه فاذْكُرُوا اللّهَ يعني بذلك الصلاة ، والدعاء عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ . وقد بينا قبل أن المشاعر هي المعالم من قول القائل : شعرت بهذا الأمر : أي علمت ، فالمشعر هو المَعْلَم ، سمي بذلك لأن الصلاة عنده والمقام والمبيت والدعاء من معالم الحجّ وفروضه التي أمر الله بها عباده . وقد :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن زكريا ، عن ابن أبي نجيح ، قال : يستحبّ للحاج أن يصلي في منزله بالمزدلفة إن استطاع ، وذلك أن الله قال : فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كما هَدَاكُمْ .
فأما المشعر فإنه هو ما بين جبلي المزدلفة من مَأزِمي عرفة إلى محسر ، وليس مأزما عرفة من المشعر .
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : رأى ابن عمر الناس يزدحمون على الجبيل بجمع فقال : أيها الناس إن جمعا كلها مشعر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه سئل عن قوله : فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ قال : هو الجبل وما حوله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن ابن عباس قال : ما بين الجبلين اللذين بجمع مشعر .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا الثوري ، عن السدي ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، وحدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألته عن المشعر الحرام فقال : ما بين جبلي المزدلفة .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : المشعر الحرام : المزدلفة كلها . قال معمر : وقاله قتادة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، قال : أنبأنا الثوري ، عن السدي ، عن سعيد بن جبير : فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ قال : ما بين جبلي المزدلفة هو المشعر الحرام .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا أبي ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، قال : سألت عبد الله بن عمر عن المشعر الحرام ، فقال : إذا انطلقت معي أعلمتكه . قال : فانطلقت معه ، فوقفنا حتى إذا أفاض الإمام سار وسرنا معه ، حتى إذا هبطت أيدي الركاب ، وكنا في أقصى الجبال مما يلي عرفات قال : أين السائل عن المشعر الحرام ؟ أخذت فيه ، قلت : ما أخذت فيه ؟ قال : كلها مشاعر إلى أقصى الحرم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون الأوديّ ، قال : سألت عبد الله بن عمر ، عن المشعر الحرام . قال : إن تلزمني أركه . قال : فلما أفاض الناس من عرفة وهبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال ، قال : أين السائل عن المشعر الحرام ؟ قال : قلت : ها أنا ذاك ، قال : أخذتَ فيه ، قلت : ما أخذت فيه ؟ قال : حين هبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال فهو مشعر إلى مكة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن عمارة بن زاذان ، عن مكحول الأزدي ، قال : سألت ابن عمر يوم عرفة عن المشعر الحرام ؟ فقال : الْزَمْني فلما كان من الغد وأتينا المزدلفة ، قال : أين السائل عن المشعر الحرام ؟ هذا المشعر الحرام .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا داود ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : المشعر الحرام : المزدلفة كلها .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا داود ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : أين المزدلفة ؟ قال : إذا أفضت من مأزِمي عرفة ، فذلك إلى محسّر . قال : وليس المأزمان مأزما عرفة من المزدلفة ، ولكنّ مفاضاهما . قال : قف بينهما إن شئت ، وأحبّ إليّ أن تقف دون قُزَح ، هلمّ إلينا من أجل طريق الناس .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح ، فقال علام يزدحم هؤلاء كل ما ههنا مشعر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : المشعر الحرام المزدلفة كلها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فإذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وذلك ليلة جمع . قال قتادة : كان ابن عباس يقول : ما بين الجبلين مشعر .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : المشعر الحرام هو ما بين جبال المزدلفة ، ويقال : هو قرن قزح .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وهي المزدلفة ، وهي جمع .
وذكر عن عبد الرحمن بن الأسود ما :
حدثنا به هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، قال : لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : المشعر الحرام : ما بين جبلي مزدلفة .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا قيس ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألت ابن عمر عن المشعر الحرام ؟ فقال : ما أدري ، وسألت ابن عباس ، فقال : ما بين الجبلين .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل : عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : الجبيل وما حوله مشاعر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن ثوير ، قال : وقفت مع مجاهد على الجبيل ، فقال : هذا المشعر الحرام .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حسن بن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، الجبيل وما حوله مشاعر .
وإنما جعلنا أول حدّ المشعر مما يلي منى منقطع وادي محسر مما يلي المزدلفة ، لأن المثنى ، حدثني قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «عَرَفَةُ كُلّها مَوْقِفٌ إلا عُرَنَةَ ، وَجمْعٌ كُلّها مَوْقِفٌ إلا مُحَسّرا » .
حدثني يعقوب ، قال : ثني هشيم ، عن حجاج ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبد الله بن الزبير ، أنه قال : كل مزدلفة موقف إلا وادي محسر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حجاج ، قال : أخبرني من سمع عروة بن الزبير يقول مثل ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن هشام بن عروة ، قال : قال عبد الله بن الزبير في خطبته : تَعَلّمُنّ أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة ، تعلّمُنّ أن مزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر .
غير أن ذلك وإن كان كذلك فإني أختار للحاج أن يجعل وقوفه لذكر الله من المشعر الحرام على قزح وما حوله ، لأن أبا كريب حدثنا ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ، عن عبد الرحمن بن الحرث المخزومي ، عن زيد بن عليّ ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن عليّ قال : لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ، غدا فوقف على قزح ، وأردف الفضل ، ثم قال : «هذا المَوْقِفُ ، وكل مُزْدِلفة مَوْقِفٌ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ، عن عبد الرحمن بن الحرث ، عن زيد بن عليّ بن الحسين ، عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا هناد وأحمد الدولابي ، قالا : حدثنا سفيان ، عن ابن المنكدر ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن ابن الحويرث ، قال : رأيت أبا بكر واقفا على قزح وهو يقول : أيها الناس أصبحوا أيها الناس أصبحوا ثم دفع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عبد الله بن عثمان ، عن يوسف بن ماهك ، حججت مع ابن عمر ، فلما أصبح بجمع صلى الصبح ، ثم غدا وغدونا معه حتى وقف مع الإمام على قزح ، ثم دفع الإمام فدفع بدفعته .
وأما قول عبد الله بن عمر حين صار بالمزدلفة : «هذا كله مشاعر إلى مكة » ، فإن معناه أنها معالم من معالم الحج ينسك في كل بقعة منها بعض مناسك الحجّ ، لا أن كل ذلك المشعر الحرام الذي يكون الواقف حيث وقف منه إلى بطن مكة قاضيا ما عليه من الوقوف بالمشعر الحرام من جمع .
وأما قول عبد الرحمن بن الأسود : «لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام » فلأنه يحتمل أن يكون أراد : لم أجد أحدا يخبرني عن حدّ أوله ومنتهى آخره على حقه وصدقه لأن حدود ذلك على صحتها حتى لا يكون فيها زيادة ولا نقصان لا يحيط بها إلا القليل من أهل المعرفة بها ، غير أن ذلك وإن لم يقف على حدّ أوله ومنتهى آخره وقوفا لا زيادة فيه ولا نقصان إلا من ذكرت ، فموضع الحاجة للوقوف لا خفاء به على أحد من سكان تلك الناحية وكثير من غيرهم ، وكذلك سائر مشاعر الحجّ والأماكن التي فرض الله عز وجل على عباده أن ينسكوا عندها كعرفات ومنى والحرم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرُوهُ كمَا هَدَاكُمْ وَإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضالّينَ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : واذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام بالثناء عليه ، والشكر له على أياديه عندكم ، وليكن ذكركم إياه بالخضوع لأمره ، والطاعة له والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق ، لما وفقكم له من سنن إبراهيم خليله بعد الذي كنتم فيه من الشرك والحيرة والعمى عن طريق الحقّ وبعد الضلالة كذكره إياكم بالهدى ، حتى استنقذكم من النار به بعد أن كنتم على شفا حفرة منها ، فنجاكم منها . وذلك هو معنى قوله : كمَا هَدَاكُمْ .
وأما قوله : وَإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالّينَ فإن من أهل العربية من يوجه تأويل «إن » إلى تأويل «ما » ، وتأويل اللام التي في «لَمِنَ » إلى «إلا » .
فتأويل الكلام على هذا المعنى : وما كنتم من قبل هداية الله إياكم لما هداكم له من ملة خليله إبراهيم التي اصطفاها لمن رضي عنه من خلقه إلا من الضالين . ومنهم من يوجه تأويل «إن » إلى «قد » ، فمعناه على قول قائل هذه المقالة : واذكروا الله أيها المؤمنون كما ذكركم بالهدى ، فهداكم لما رضيه من الأديان والملل ، وقد كنتم من قبل ذلك من الضالين .
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } ( 198 )
وقوله تعالى : { ليس عليكم جناح } الآية ، الجناح أعم من الإثم لأنه فيما يقتضي العقاب وفيما يقتضي العتاب والزجر ، و { تبتغوا } معناه تطلبون بمحاولتكم .
وقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء : إن الآية نزلت لأن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية كعكاظ وذي المجاز ومجنة ، فأباح الله تعالى ذلك ، أي لا درك في أن تتجروا وتطلبوا الربح( {[1881]} ) .
وقال مجاهد : «كان بعض العرب لا يتجرون مذ يحرمون ، فنزلت الآية في إباحة ذلك » .
وقال ابن عمر فيمن أكرى ليحج : «حجه تام ولا حرج عليه في ابتغاء الكراء » ، وقرأ ابن ( {[1882]} )عباس وابن مسعود وابن الزبير : «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج » .
وقوله تعالى : { فإذا أفضتم من عرفات } أجمع أهل العلم على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهاراً قبل الليل إلا مالك بن أنس ، فإنه قال : «لا بد أن يأخذ من الليل شيئاً ، وأما من وقف بعرفة بالليل فلا خلاف بين الأمة في تمام حجه » وأفاض القوم أو الجيش إذا اندفعوا جملة ، ومنه أفاض الرجل في الكلام ، ومنه فاض الإناء ، وأفضته ، ومنه المفيض في القداح ، والتنوين في عرفات على حده في مسلمات ، الكسرة مقابلة للياء في مسلمين والتنوين مقابل النون ، فإذا سميت به شخصاً ترك ، وهو معرف على حده قبل أن تسمي به ، فإن كان { عرفات } اسماً تلك البقعة كلها فهو كما ذكرناه ، وإن كان جمع عرفة فهو كمسلمات دون أن يسمى به( {[1883]} ) ، وحكى سيبويه كسر التاء من «عرفاتِ » دون تنوين في حال النصب والخفض مع التعريف ، وحكى الكوفيون فتحها في حال النصب والخفض تشبيهاً بتاء فاطمة وطلحة ، وسميت تلك البقعة { عرفاتَ } لأن إبراهيم عرفها حين رآها على ما وصفت له ، قال السدي .
وقال ابن عباس : «سميت بذلك لأن جبريل عليه السلام كان يقول لإبراهيم عليه السلام : هذا موضع كذا ، فيقول قد عرفت » ، وقيل : سميت بذلك لأن آدم عرف بها حواء حين لقيها هناك .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع ، وعرفة هي نعمان الأراك( {[1884]} ) ، وفيها يقول الشاعر :
تزودت من نعمان عود أراكة . . . لهند ولكن من يبلغه هندا ؟( {[1885]} )
و { المشعر الحرام } جمع كله ، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى مأزمي عرفة( {[1886]} ) ، قال ذلك ابن عباس وابن جبير والربيع وابن عمر ومجاهد ، فهي كلها مشعر إلى بطن محسر ، كما أن عرفة كلها موقف إلا بطن عُرَنة ، بفتح الراء وضمها ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة ، والمزدلفة كلها مشعر ، وارتفعوا عن بطن محسر »( {[1887]} ) وذكر هذا عبد الله بن الزبير في خطبته ، وفي المزدلفة قرن قزح الذي كانت قريش تقف عليه ، وذكر الله تعالى عند المشعر الحرام ندب عند أهل العلم .
وقال مالك : «من مر به ولم ينزل فعليه دم » ،
وقال الشافعي : «من خرج من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه دم ، وإن كان بعد نصف الليل فلا شيء عليه » ؟ .
وقال الشعبي والنخعي : من فاته الوقوف بمزدلفة فاته الحج .
وقوله : { واذكروه كما هداكم } تعديد للنعمة وأمر بشكرها ، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام ، والكاف في { كما } نعت لمصدر محذوف و[ ما ] مصدرية أو كافة( {[1888]} ) ، و { إن } مخففة من الثقيلة ، ويدل على ذلك دخول اللام في الخبر ، هذا قول سيبويه .
وقال الفراء : «هي النافية( {[1889]} ) بمعنى ما ، واللام بمعنى إلاّ » والضمير في { قبله } عائد على الهدي .