25- ومن لم يستطع منكم نكاح الحرائر المؤمنات فله أن يتجاوزهن إلى ما يستطيع من المملوكات المؤمنات ، والله أعلم بحقيقة إيمانكم وإخلاصكم ، ولا تستنكفوا من نكاحهن ، فأنتم وهن سواء في الدين ، فتزوجوهن بإذن أصحابهن وأدوا إليهن مهورهن التي تفرضونها لهن حسب المعهود بينكم في حسن التعامل وتوفية الحق ، واختاروهن عفيفات ، فلا تختاروا زانية معلنة ولا خليلة ، فإن أتين الزنا بعد زواجهن فعقوبتهن نصف عقوبة الحرة . وإباحة نكاح المملوكات عند عدم القدرة جائز لمن خاف منكم المشقة المفضية إلى الزنا وصبركم عن نكاح المملوكات مع العفة خير لكم ، والله كثير المغفرة ، عظيم الرحمة .
وبعد أن بين - سبحانه - المحرمات من النساء ، وبين من يحل نكاحه منهن ، عقب ذلك ببيان ما ينبغى أن يفعله من لا يستطيع نكاح المحصنات المؤمنات فقال - تعالى - { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ . . . . } .
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 25 )
قوله { طَوْلاً } أى سعة وقدرة وغنى فى المال .
قال صاحب الكشاف : الطول : الفضل . يقال : لفلان على فلان طول أى : زيادة وفضل . وقد طاله طولا فهو طائل . قال الشاعر :
لقد زادنى حبا لنفسى أننى . . . بغيض إلى كل امرئ غير طائل
ومنه قولهم : ما خلا منه بطائل . أى بشئ يعتد به مما له فضل وخطر . ومنه الطول فى الجسم لأنه زيادة فيه .
والمراد بالمحصنات هنا الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات ، وعبر عنهن بذلك ، لأن حريتهن أحصنتهن عن النقص الذى فى الإِماء .
والمراد بقوله { مِّن فَتَيَاتِكُمُ } أى من إمائكم وأرقائكم .
والمعنى : ومن لم يستطع منكم يا معشر المؤمنين الأحرار أن يحصل زيادة فى المال تمكنه من أن ينكح الحرائر المؤمنات ، فله فى هذه الحالة أن ينكح بعض الإِماء المؤمنات اللائى هن مملوكات لغيركم .
و { مَن } فى قوله { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } شرطية ، وجوابها قوله ، فمما ملكت أيمانكم ، ويصح أن تكون موصولة ويكون قوله { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } هو الخبر .
وقوله { مِنكُمْ } حال من الضمير فى { يَسْتَطِعْ } وقوله { طَوْلاً } مفعول به ليستطع . هذا ، والآية تفيد بمضمونها أنه لا يحل الزواج من الإِماء إلا إذا كان المسلم الحر ليس فى قدرته أن يتزوج امرأة حرة .
ولذا قال بعضهم : إن الله - تعالى - شرط فى نكاح الإِماء شرائط ثلاثة : اثنان منها فى الناكح ، والثالث فى المنكوحة .
أما اللذان فى الناكح فأحدهما أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق .
والثاني هو المذكور فى آخر الآية وهو قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ } .
وأما الشرط الثالث المعتبر فى المنكوحة فهو أن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة . . وقد خالف الإِمام أبو حنيفة هذا الشرط الثالث فأباح للمسلم الزواج من الأمة الكتابية إن لم يكن عنده زوجة حرة فإن كان متزوجا بحرة فإنه لا يجوز له أن يتزوج أمة مطلقا لا مسلمة ولا كتابية ، وإن عقد عليها كان عقده باطلا وقد بنى حكمه هذا على أساس تفسيره للطول بأنه الزواج بحرة .
أما المالكية والشافعية فقد قالوا : الطول : السعة والقدرة على المهر والنفقة فمن عجز عن مهر الحرة ونفقتها وهو قادر على الزواج من أمة فإنه يجوز له الزواج بها ولو كانت عنده زوجة حرة .
وفى التعبير عن الإِماء بقوله { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات } تكريم لهؤلاء الأرقاء ، وإعزاز لإِنسانيتهن ، وتعليم للمسلمين أن يلتزموا الأدب فى مخاطبتهم لأرقائهم ولذا ورد فى الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقولن أحدكم عبدى وأمتى ، ولكن ليقل فتاى وفتاتى " .
وقوله - تعالى - { والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ } جملة معترضة سيقت بين إباحة النكاح من الاماء المؤمنات وبين صورة العقد عليهن تأنيسا للقلوب ، وإزالة للنفرة عن ناكح الاماء ببيان أن مناط التفاخر إنما هو الايمان لا التباهى بالأحساب والأنساب .
والمعنى : أنه - تعالى - أعلم منكم بمراتب إيمانكم الذى هو مناط التفضيل وأنتم وفتياتكم من أصل واحد فلا ينبغى أن يستعلى حر على عبد ، ولا حرة على أمة ، فرب إنسان غير حر أفضل عند الله بسبب إيمانه وعمله الصالح من إنسان حر .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة إزالة ما كانت تستهجنه العرب من الزواج بالاماء ، ونهيهم عما كان متداولا بينهم من احتقارهم لولد الأمة وتسميتهم إياه بالهجين - أى الذى أبوه عربى وأمه أمة .
وإلى هذا أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : فما معنى قوله { والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ } ؟ قلت : معناه : أن الله أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم فى الايمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم . وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة والمرأة أرجح فى الايمان من الرجل . وحق المؤمنين أن لا يعيروا إلا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب . وهذا تأنيس بنكاح الاماء وترك الاستنكاف منه . وقوله { بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ } أى : أنتم وأرقاؤكم متناسبون متواصلون لاشتراككم فى الايمان لا يفضل حر عبدا إلا برجحان فيه .
ثم بين - سبحانه - كيفية الزواج بهن فقال : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعروف مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } والمراد بأهلهن : مواليهن الذين يملكونهن : عبر عن المالكين لهن بالأهل ، حملا للناس على الأدب فى التعبير ، ولأنه يجب أن تكون العلاقة بين العبد ومالكه علاقة أهل لا علاقة استعلاء .
والمراد بالأجور هنا : المهور التى تدفع لهن فى مقابل نكاحهن .
والمراد بالمحصنات هنا : العفائف البيدات عن الفاحشة والريبة . والمرأة المسافحة هى التى تؤاجر نفسها لكل رجل أرادها . والتى تتخذ الخدن هى التى تتخذ لها صاحبا معينا . وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين فيستقبحون الزنا العلنى ويستحلون السرى ، فجاءت شريعة الإِسلام بتحريم القسمين . قال - تعالى { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وقال - تعالى { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وقوله { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } مترتب ومتفرع على ما قبله من أحكام .
والمعنى : إذا عرفتم حكم الله فى شأن فتياتكم المؤمنات فانكحوهن بعد أن يأذن لكم فى ذلك مواليهن ويرضون عن هذا النكاح ، وأدوا إليهن مهورهن بالقدر المتعارف عليه شرعا وعادة عن طيب نفس منكم ، وبدون مطل أو بخس . فإنه لا يصح أن تتخذوا من كون المنكوحة أمة سبيلا لغمط حقها ، وتصغير شأنها .
وقد اتفق العلماء على أن نكاح الأمة بغير إذن سيدها غير جائز ، عملا بظاهر هذه الآية الكريمة ، فان قوله - تعالى - : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } يقتضى كون الإِذن شرطا فى جواز النكاح ، ولأن منافع الأمَّة لسيدها وهى ملك له فلا يجوز نكاحها إلا بإذنه .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { فانكحوهن } أى بولاية أرباهن المالكين وإذنهم . وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيده ، لأن العبد مملوك لا أمر له ، وبدنه كله مستغرق ، لكن الفرق بينما أن العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فإن أجازه السيد جاز ، هذا المذهب مالك واصحاب الرأى ، والأمة إذا تزوجت بغير إذن أهلها فسخ ولم يجز ولو بإجازة السيد .
وقوله { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } صريح فى وجوب دفع مهر فى مقابل نكاح الأمة ولكن من الذى يستلم هذا المهر ؟
يرى كثير من العلماء أن الذى يتسلم المهر هو السيد المالك للأمة . لأن المهر قد وجب عوضا عن منافع بضع المملوكة للسيد ، وهو الذى أباحها للزوج فوجب أن يكون هو المستحق لستلم المهر ؛ ولأن العبد وما ملكت يداه لسيده أى آتوا أهلهن أجورهن فالكلام على حذف مضاف .
ويرى الإِمام مالك أن الآية على ظاهرها ، وأن المهر إنما يدفع للأمة لأنها أحق به من سيدها ، وأنه ليس للسيد أن يأخذ من أمته ويدعها بلا جهاز فالعقد يتولاه السيد أما المهر فيعطى للأمة لتتولى إعداد نفسها للزواج منه .
وقوله { مُحْصَنَاتٍ } حال من المفعول فى قوله { فانكحوهن } أى : فانحكوهن حال كونهن عفائف عن الفاحشة .
وقوله { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } تأكيد له أى غير مجاهرات بالزنا .
وقوله { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } تأكيد آخر لبعدهن عن الريبة . والأخدان جمع خدن وهو الصاحب والصديق .
والمراد به هنا : من تتخذه المرأة صاحبا لها لارتكاب الفاحشة معه سراً .
وقد وصف الله - تعالى - الزوجات الإِماء بذلك ، لتحريضهن على التمسك بأهداب الفضيلة والشرف ، إذ الرق مظنة الانزلاق والوقوع فى الفاحشة لما يصاحبه من هوان وضعف ، ولا شئ كالهوان يفتح الباب أمام الرذيلة والفاحشة ومن هنا قالت هند بنت عتبة - باستغراب واستنكار - لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخذ العهد عليها وعلى المؤمنات بقوله { وَلاَ يَزْنِينَ } قالت يا رسول الله : أو تزنى الحرة ؟ ! !
ثم بين - سبحانه - عقوبة الإِماء إذا ما ارتكبن الفاحشة فقال - تعالى - { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } .
ومعنى الإِحصان هنا : الزواج . والمراد بالفاحشة : الزنا . والمراد بالعذاب : الحد الشرعى أى : فإذا أحسن أى بالتزويج ، فإن أتين بفاحشة الزنا وثبت ذلك عليهن ، ففى هذه الحالة حدهن نصف حد الحرائر من النساء .
أى أن الأمة إذا زنت فحدها أنت تجدل خمسين جدلة ولا رجم عليها لأنه لا يتنصف فلا يكون مرادا هنا .
وظاهر الجملة الكريمة يفيد أن الأمة لا تحد إذا زنت متى كانت غير متزوجة وقد أخذ بهذا الظاهر بعض العلماء . ولكن جمهور العلماء يرون أن الأمة يقام عليها الحد إذا زنت سواء أكانت متزوجة أم غير متزوجه .
فالآية الكريمة صرحت بأن الأمة إذا ارتكبت الفحشاء تكون عقوبتها نصف عقوبة الحرة ، لأن الجريمة يضعف أثرها بضعف مرتكبها ، ويقوى أثرها بقوة مرتكبها ، فكان من العدل أن يعاقب الأرقاء لضعفهم بنصف عقوبة الأحرار الأقوياء .
فأين هذا السمو والرحمة والدالة فى التشريع من مظالم القوانين الوضعية ففى القانون الرومانى كان العبد إذا زنى بحرة قتل ، وإذا زنى الشريف حكم عليه بغرامة . ولقد حذر النبى صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله : " إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا : إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . . . " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
واسم الإِشارة " ذلك " يعود إلى نكاح الإِماء .
والعنت : المشقة الشديدة التى يخشى معها التلف أو الوقوع فى الفاحشة التى نها الله - تعالى - عنها . ولذا قال بعضهم المراد به هنا : الزنا .
أى : ذلك الذى شرعناه لكم من إباحة الزواج بالإِماء عند الضرورة يكون بالنسبة لمن خشى على نفسه العزبة التى قد تفضى به إلى الوقوع فى الفاحشة والآثام . { وَأَن تَصْبِرُواْ } على تحمل المشقة متعففين عن نكاحهن حتى يرزقكم الله الزواج بالحرة ، فصبركم هذا خير لكم من نكاح الإِسماء وإن رخص لكم فيه .
وقوله { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى واسع المغفرة كثيرها ، فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحن - وفى ذلك تنفير عنه حتى لكأنه ذنب - وهو - سبحانه - واسع الرحمة بعباده حيث شرع لهم ما فيه تيسير عليهم ورأفة بهم .
قالوا : وإنما كان الصبر عن نكاح الإِماء خيراً من نكاحهن ، لأن الولد الذى يأتى عن طريقهن يكون معرضا للرق ، ولأن الأمة فى الغالب لا تستطيع أن تهيئ البيت الصالح للزوجية من كل الوجوه لانشغالها بخدمة سيدها .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله : فإن قلت : لم كان نكاح الأمة منحطا عن نكاح الحرة ؟ قلت : لما فيه من اتباع الولد الأم فى الرق . ولثبوت حق المولى فيها وفى استخدامها . ولأنها ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة ، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ومهانة .
وبذلك نرى أن الآية الكريمة وإن كانت قد رخصت فى زواج الإِماء عند الضرورة الشديدة إلا أنها حضت المؤمنين على الصبر عن نكاحهن لما فى نكاحهن من أضرار يأباها الشخص العزيز النفس ، الكريم الخلق . والسبيل الأمثل للزواج بهن يكون بعد شرائهن وإعتاقهن ، وبذلك يقل الرقيق ويكثر الأحرار ولذا لو جامعها مولاها كان ابنه حراً وكان طريقا لحريتها ومنع بيعها .
{ وَمَن لّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ وَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ } . .
اختلف أهل التأويل في معنى الطول الذي ذكره الله تعالى في هذه الاَية ، فقال بعضهم : هو الفضل والمال والسعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } قال : الغنى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَمَنْ لَم يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } يقول : من لم يكن له سعة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } يقول : من لم يستطع منكم سعة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قوله : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } قال : الطّوْل : الغنى .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } قال : الطول : السعة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } أما قوله طولاً : فسعة من المال .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } . . . الاَية ، قال : طولاً : لا يجد ما ينكح به حرّة .
وقال آخرون : معنى الطول في هذا الموضع : الهَوَى . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنى عبد الجبار بن عمر ، عن ربيعة أنه قال في قول الله : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً } قال : الطّوْلُ : الهوى ، قال : ينكح الأمة إذا كان هواه فيها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان ربيعة يلين فيه بعض التليين ، كان يقول : إذا خشي على نفسه إذا أحبها أي الأمة وإن كان يقدر على نكاح غيرها فإني أرى أن ينكحها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن جابر أنه سئل عن الحرّ يتزوّج الأمة ، فقال : إن كان ذا طول فلا . قيل : إن وقع حبّ الأمة في نفسه ؟ قال : إن خشي العنت فليتزوّجها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عبيدة ، عن الشعبي ، قال : لا يتزوّج الحرّ الأمة إلا أن لا يجد . وكان إبراهيم يقول : لا بأس به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : سمعت عطاء يقول : لا نكره أن ينكح ذو اليسار الأمة إذا خشي أن يُسْعَى بها .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى الطول في هذا الموضع : السعة والغنى من المال ، لإجماع الجميع على أن الله تبارك وتعالى لم يحرّم شيئا من الأشياء سوى نكاح الإماء لواجد الطول إلى الحرّة ، فأحلّ ما حرّم من ذلك عند غلبته المحرم عليه له لقضاء لذة . فإذ كان ذلك إجماعا من الجميع فيما عدا نكاح الإماء لواجد الطول ، فمثله في التحريم نكاح الإماء لواجد الطول : لا يحلّ له من أجل غلبة هوى سرّه فيها ، لأن ذلك مع وجوده الطول إلى الحرة منه قضاء لذة وشهوة وليس بموضع ضرورة تدفع ترخصه كالميتة للمضطر الذي يخاف هلاك نفسه فيترخص في أكلها ليحيى بها نفسه ، وما أشبه ذلك من المحرّمات اللواتي رخص الله لعباده في حال الضرورة والخوف على أنفسهم الهلاك منه ما حرم عليهم منها فيغيرها من الأحوال . ولم يرخص الله تبارك وتعالى لعبد في حرام لقضاء لذة ، وفي إجماع الجميع على أن رجلاً لو غلبه هوى امرأة حرة أو امرأة أنها لا تحلّ له إلا بنكاح أو شراء على ما أذن الله به ، ما يوضح فساد قول من قال : معنى الطول في هذا الموضع : الهوى ، وأجاز لواجد الطول لحرة نكاح الإماء .
فتأويل الاَية إذ كان الأمر على ما وصفنا : ومن لم يجد منكم سعة من مال لنكاح الحرائر ، فلينكح مما ملكت أيمانكم . وأصل الطّوْل : الإفضال ، يقال منه : طال عليه يَطُول طَوْلاً في الإفضال ، وطال يَطُول طُولاً في الطول الذي هو خلاف القصر .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ } .
يعني بذلك : ومن لم يستطع منكم أيها الناس طولاً ، يعني : من الأحرار أن ينكح المحصنات وهنّ الحرائر المؤمنات اللواتي قد صدّقن بتوحيد الله وبما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحقّ .
وبنحو ما قلنا في المحصنات قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ } يقول : أن ينكح الحرائر ، فلينكح من إماء المؤمنين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { أنْ يَنْكَحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } قال : المحصنات الحرائر ، فلينكح الأمة المؤمنة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : أما فيتاتكم : فإماؤكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير : { أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ } قال : أما من لم يجد ما ينكح به الحرّة فيتزوّج الأمة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمْ المُؤْمِناتِ } قال : من لم يجد ما ينكح به حرة فينكح هذه الأمة فيتعفف بها ويكفيه أهلها مؤنتها ، ولم يحل الله ذلك لأحد إلا لمن لا يجد ما ينكح به حرّة وينفق عليها ، ولم يحلّ له حتى يخشى العنت .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا سفيان ، عن هشام الدستوائي ، عن عامر الأحول ، عن الحسن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرة وتنكح الحرة على الأمة ، ومن وجد طَوْلاً لحرة فلاينكح أمة .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة من قراء الكوفيين والمكيين : { أنْ يَنْكِحَ المُحْصِناتِ } بكسر الصاد مع سائر ما في القرآن من نظائر ذلك سوى قوله : { والمُحْصَناتِ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيَمَانُكُمْ } فإنهم فتحوا الصاد منها ، ووجهوا تأويله إلى أنهنّ محصنات بأزواجهنّ ، وأن أزواجهنّ هم أحصنوهنّ . وأما سائر ما في القرآن فإنهم تأوّلوا في كسرهم الصاد منه إلى أن النساءهنّ أحصنّ أنفسهنّ بالعفة . وقرأت عامة قراء المدينة والعراق ذلك كله بالفتح ، بمعنى أن بعضهن أحصنّهن أزواجهن ، وبعضهن أحضهن حريتهن أو إسلامهن . وقرأ بعض المتقدمين كل ذلك بالكسر ، بمعنى أنهن عففن وأحصن أنفسهنّ . وذكرت هذه القراءة أعني بكسر الجميع عن علقمة على الاختلاف في الرواية عنه .
قال أبو جعفر : والصواب عندنا من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار مع اتفاق ذلك في المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب ، إلا في الحرف الأوّل من سورة النساء ، وهو قوله : { والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكمْ } فإني لا أستجيز الكسر في صاده لاتفاق قراءة الأمصار على فتحها . ولو كانت القراءة بكسرها مستفيضة استفاضتها بفتحها كان صوابا [ القراءة بكسرها مستفيضة استفاضتها بفتحها كان صوابا ] القراءة بها كذلك لما ذكرنا من تصرّف الإحصان في المعاني التي بيناها ، فيكون معنى ذلك لو كسر : والعفائف من النساء حرام عليكم ، إلا ما ملكت أيمانكم ، بمعنى أنهنّ أحصنّ أنفسهنّ بالعفة . وأما الفتيات فإنهنّ جمع فتاة ، وهنّ الشواب من النساء ، ثم يقال لكل مملوكة ذات سنّ أو شابة فتاة ، والعبد فتى .
ثم اختلف أهل العلم في نكاح الفتيات غير المؤمنات ، وهل عنى الله بقوله : { مِنْ فَتَياتِكُمْ المُؤْمناتِ } تحريم ما عدا المؤمنات منهنّ ، أم ذلك من الله تأديب للمؤمنين ؟ فقال بعضهم : ذلك من الله تعالى ذكره دلالة على تحريم نكاح إماء المشركين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ } قال : لا ينبغي أن يتزوّج مملوكة نصرانية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ } قال : لا ينبغي للحرّ المسلم أن ينكح المملوكة من أهل الكتاب .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت أبا عمرو ، وسعيد بن عبد العزيز ، ومالك ابن أنس ، ومالك بن عبد الله بن أبي مريم ، يقولون : لا يحلّ لحرّ مسلم ولا لعبد مسلم الأمة النصرانية ، لأن الله يقول : { مِنْ فَتَياتِكُمْ المُؤْمِناتِ } يعني بالنكاح .
وقال آخرون : ذلك من الله على الإرشاد والندب ، لا على التحريم . وممن قال ذلك جماعة من أهل العراق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مغيرة ، قال : قال أبو ميسرة ، أما أهل الكتاب بمنزلة الحرائر .
ومنهم أبو حنيفة وأصحابه . واعتلوا لقولهم بقول الله : { أُحِلّ لَكُمُ الطّيّباتُ وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُو الكِتابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلّ لَهُمْ والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ وَالمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ } قالوا : فقد أحلّ الله محصنات أهل الكتاب عاما ، فليس لأحد أن يخصّ منهنّ أمة ولا حرّة . قالوا : ومعنى قوله : { فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ } : غير المشركات من عبدة الأوثان .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : هو دلالة على تحريم نكاح إماء أهل الكتاب فإنهن لا يحللن إلا بملك اليمين¹ وذلك أن الله جلّ ثناؤه أحلّ نكاح الإماء بشروط ، فما لم تجتمع الشروط التي سماها فيهنّ ، فغير جائز لمسلم نكاحهنّ .
فإن قال قائل : فإن الاَية التي في المائدة تدلّ على إباحتهنّ بالنكاح ؟ قيل : إن التي في المائدة قد أبان أن حكمها في خاصّ من محصناتهم ، وأنها معنّى بها حرائرهم دون إمائهم ، قوله : { مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ } وليست إحدى الاَيتين دافعة حكمها حكم الأخرى ، بل إحداهما مبينة حكم الأخرى ، وإنما تكون إحداهما دافعة حكم الأخرى لو لم يكن جائزا اجتماع حكميهما على صحة ، فأما وهما جائز اجتماع حكمهما على الصحة ، فغير جائز أن يحكم لإحدهما بأنها دافعة حكم الأخرى إلا بحجة التسليم لها من خبر أو قياس ، ولا خبر بذلك ولا قياس ، والاَية محتملة ما قلنا : والمحصنات من حرائر الذين أوتوا الكتاب من قبلكم دون إمائهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ أعْلَمُ بإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } .
وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم وتأويل ذلك : ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات ، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، فلينكح بعضكم من بعض ، بمعنى : فلينكح هذا فتاة هذا . ف«البعض » مرفوع بتأويل الكلام ، ومعناه إذ كان قوله : { فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } في تأويل : فلينكح مما ملكت أيمانكم ، ثم ردّ بعضكم على ذلك المعنى فرفع . ثم قال جلّ ثناؤه : { واللّهُ أعْلَمُ بإيمَانِكُمْ } : أي والله أعلم بإيمان من آمن منكم بالله ورسوله ، وما جاء به من عند الله ، فصدق بذلك كله منكم ، يقول : فلينكح من لم يستطع منكم طولاً لحرة من فتياتكم المؤمنات ، لينكح هذا المقتر الذي لا يجد طولاً لحرّة من هذا الموسر فتاته المؤمنة التي قد أبدت الإيمان فأظهرته وكِلوا سرائرهنّ إلى الله ، فإن علم ذلك إلى الله دونكم ، والله أعلم بسرائركم وسرائرهن .
القول في تأويل قوله تعالى : { فانْكِحُوهُنّ بإذْنِ أهْلِهِنّ وآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ بالمَعْرُوفِ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { فانْكِحُوهُنّ } فتزوّجوهنّ ، وبقوله : { بإذْنِ أهْلِهنّ } : بإذن أربابهن وأمرهم إياكم بنكاحهنّ ورضاهم ويعني بقوله : { وآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ } : وأعطوهنّ مهورهنّ : كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ } قال : الصداق .
ويعني بقوله { بالمَعْرُوفِ } على ما تراضيتم به مما أحلّ الله لكم وأباحه لكم أن تجعلوه مهورا لهن .
القول في تأويل قوله : { مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ } .
يعني بقوله : { مُحْصَناتٍ } عفيفات ، { غيرَ مُسافِحاتٍ } غير مزانيات ، { ولا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ } يقول : ولا متخذات أصدقاء على السفاح . وقد ذكر أن ذلك قيل كذلك ، لأن الزواني كنّ في الجاهلية في العرب المعلنات بالزنا ، والمتخذات الأخدان : اللواتي قد حبسن أنفسهنّ على الخليل والصديق للفجور بها سرّا دون الإعلان بذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { مُحْصَناتٍ غيرَ مُسافِحَاتٍ وَلا مُتّخذَاتِ أخْدَانٍ } يعني : تنكحوهنّ عفائف غير زواني في سرّ ولا علانية . { وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ } يعني : أخلاّء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنى أبي ، قال : ثنى عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { غيرَ مُسافِحاتٍ } المسافحات : المعالنات بالزنا . { وَلاَ مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ } ذات الخليل الواحد . قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون ما ظهر من الزنا ، ويستحلون ما خفي ، يقولون : أما ما ظهر منه فهو لؤم ، وأما ما خفي فلا بأس بذلك . فأنزل الله تبارك وتعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها ما بَطَنَ } .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر ، قال : سمعت داود يحدّث عن عامر ، قال : الزنا زنيان : تزني بالخدن ولا تزني بغيره ، وتكون المرأة شؤما . ثم قرأ : { مُحْصَناتٍ غيرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ } .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : أما المحصنات : فالعفائف ، فلتنكح الأمة بإذن أهلها محصنة ، والمحصنات : العفائف ، غير مسافحة ، والمسافحة : المعالنة بالزنا ، ولا متخذة صديقا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ } قال : الخيلة يتخذها الرجل ، والمرأة تتخذ الخليل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشربن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مُحْصَناتٍ غيرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ } المسافحة : البغيّ التي تؤاجر نفسها مَن عرض لها ، وذات الخدن : ذات الخليل الواحد . فنهاهم الله عن نكاحهما جميعا .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : { مُحْصَناتٍ غير مُسافِحَاتٍ وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدانٍ } أما المحصنات ، فهنّ الحرائر ، يقول : تزوّج حرّة . وأما المسافحات : فهنّ المعلنات بغير مهر . وأما متخذات أخدان : فذات الخليل الواحد المسترّة به . نهى الله عن ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي ، قال : الزنا وجهان قبيحان ، أحدهما أخبث من الاَخر : فأما الذي هو أخبثهما فالمسافحة التي تفجر بمن أتاها ، وأما الاَخر فذات الخدن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { مُحْصَناتٍ غَيرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ } قال : المسافح : الذي يَلْقَى المرأة فيفجُر بها ، ثم يذهب وتذهب . والمخادن : الذي يقيم معها على معصية الله وتقيم معه ، فذاك «الأخدان » .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإذَا أُحْصِنّ } .
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : «فإذا أَحْصَنّ » بفتح الألف ، بمعنى : إذا أسلمن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالإسلام .
وقرأه آخرون : { فإذَا أُحْصِنّ } بمعنى : فإذا تزوجن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالإزواج .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في أمصار الإسلام ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب في قراءته الصواب . فإن ظنّ ظانّ أن ما قلنا في ذلك غير جائز إذ كانتا مختلفتي المعنى ، وإنما تجوز القراءة بالوجهين فيما اتفقت عليه المعاني فقد أغفل¹ وذلك أن معنيي ذلك وإن اختلفا فغير دافع أحدهما صاحبه ، لأن الله قد أوجب على الأمة ذات الإسلام وغير ذات الإسلام على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الحد ، فقال صلى الله عليه وسلم : «إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْها كِتابَ اللّهِ وَلا يُثَرّبْ عَلَيْها ، ثُمّ إنْ عادتْ فَلْيَضْرِبْها كِتابَ اللّهِ وَلاَ يُثرّبْ عَلَيْها ، ثُمّ إنْ عادَتْ فَلْيَضْرِبْها كِتابَ اللّهِ وَلا يُثَرّبْ عَلَيْها ، ثُمّ إنْ زنَتْ الرّابِعَةَ فَلْيَضْرِبْها كِتابَ اللّهِ ولْيَبِعها ولَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ » . وقال صلى الله عليه وسلم : «أقِيمُوا الحُدُودَ على ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ » . فلم يخصص بذلك ذات زوج منهنّ ولا غير ذات زوج ، فالحدود واجبة على موالي الإماء إقامتها عليهنّ إذا فجرن بكتاب الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن قال قائل : فما أنت قائل فيما :
حدثكم به ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا مالك بن أنس عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة تزني ولم تحصن ، قال : «اجْلِدْها ، فإنْ زَنَتْ فاجْلِدْها ، فإنْ زَنَتْ فاجْلِدْها ، فإنْ زَنَتْ فقال في الثالثة أو الرابعة : فَبِعْهَا وَلَوْ بِضٍفِيرٍ » والضفير : الشعر .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فذكر نحوه .
فقد بين أن الحدّ الذي وجب إقامته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإماء هو ما كان قبل إحصانهنّ¹ فأما ما وجب من ذلك عليهنّ بالكتاب ، فبعد إحصانهنّ ؟ قيل له : قد بينا أن أحد معاني الإحصان : الإسلام ، وأن الاَخر منه التزويج وأن الإحصان كلمة تشتمل على معان شتى ، وليس في رواية من روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأمة تزنى قبل أن تحصن ، بيان أن التي سئل عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم هي التي تزنى قبل التزويج ، فيكون ذلك حجة لمحتجّ في أن الإحصان الذي سنّ صلى الله عليه وسلم حدّ الإماء في الزنا هو الإسلام دون التزويج ، ولا أنه هو التزويج دون الإسلام . وإذ كان لا بيان في ذلك ، فالصواب من القول ، أن كل مملوكة زنت فواجب على مولاها إقامة الحدّ عليها ، متزوّجة كانت أو غير متزوّجة ، لظاهر كتاب الله والثابت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا من أخرجه من جوب الحدّ عليه منهنّ بما يجب التسليم له . وإذ كان ذلك كذلك تبين به صحة ما اخترنا من القراءة في قوله : { فإذَا أُحْصِنّ } . فإن ظنّ ظانّ أن في قول الله تعالى ذكره : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ } دلالة على أن قوله : { فإذَا أُحْصِنّ } معناه : تزوّجن ، إذ كان ذكر ذلك بعد وصفهنّ بالإيمان بقوله : { مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ } وحسب أن ذلك لا يحتمل معنى غير معنى التزويج ، مع ما تقدم ذلك من وصفهنّ بالإيمان ، فقد ظنّ خطأ¹ وذلك أنه غير مستحيل في الكلام أن يكون معنى ذلك : ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فيتاتكم المؤمنات ، فإذا هنّ آمن فإن أتين بفاحشة ، فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب ، فيكون الخبر بيانا عما يجب عليهنّ من الحدّ إذا أتين بفاحشة بعد إيمانهنّ بعد البيان عما لا يجوز لناكحهنّ من المؤمنين من نكاحهنّ ، وعمن يجوز نكاحه له منهنّ . فإذ كان ذلك غير مستحيل في الكلام فغير جائز لأحد صرف معناه إلى أنه التزويج دون الإسلام ، من أجل ما تقدّم من وصف الله إياهنّ بالإيمان غير أن الذي نختار لمن قرأ : «مُحْصَناتٍ غيَرَ مُسافِحاتٍ » بفتح الصاد في هذا الموضع أن يقرأ { فإذَا أُحْصِنّ فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ } بضم الألف ، ولمن قرأ { مُحْصِناتٍ } بكسر الصاد فيه ، أن يقرأ : «فإذَا أحْصَنّ » بفتح الألف ، لتأتلف قراءة القارىء على معنى واحد وسياق واحد ، لقرب قوله : «محصنات » من قوله : { فإذَا أُحْصِنّ } ولو خالف من ذلك لم يكن لحنا ، غير أن وجه القراءة ما وصفت .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك نظير اختلاف القراء في قراءته ، فقال بعضهم : معنى قوله { فإذَا أُحْصِنّ } : فإذا أسلمن . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن سعيد ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، أن ابن مسعود ، قال : إسلامها إحصانها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني جرير بن حازم أن سليمان بن مهران حدثه عن إبراهيم بن يزيد ، عن همام بن الحرث : أن النعمان بن عبد الله بن مقرّن سأل عبد الله بن مسعود ، فقال : أَمَتي زنت ؟ فقال : اجلدها خمسين جلدة ! قال : إنها لم تحصن ! فقال ابن مسعود : إحصانها إسلامها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم : أن النعمان بن مقرن سأل ابن مسعود عن أمة زنت وليس لها زوج ، فقال : إسلامها إحصانها .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن إبراهيم أن النعمان قال : قلت لابن مسعود : أمتي زنت ؟ قال : اجلدها ، قلت : فإنها لم تحصن ! قال : إحصانها إسلامها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، قال : كان عبد الله يقول : إحصانها : إسلامها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي أنه تلا هذه الاَية : { فإذَا أُحْصِنّ } قال : يقول : إذا أسلمن .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن أشعث ، عن الشعبي ، قال : قال عبد الله : الأمة إحصانها : إسلامها .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال مغيرة : أخبرنا عن إبراهيم أنه كان يقول : { فإذَا أُحُصنّ } يقول : إذا أسلمن .
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن أشعث ، عن الشعبي ، قال : الإحصان : الإسلام .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن برد بن سنان ، عن الزهري ، قال : جلد عمر رضي الله عنه ولائد أبكارا من ولائد الإمارة في الزنا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فإذَا أُحْصِنّ } يقول : إذا أسلمن .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن سالم والقاسم ، قالا : إحصانها : إسلامها وعفافها ، في قوله : { فإذَا أُحْصِنّ } .
وقال آخرون : معنى قوله : { فإذا أُحْصِنّ } : فإذا تزوّجن . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { فإذا أُحْصِنّ } يعني : إذا تزوّجن حرّا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : { فإذَا أُحْصِنّ } يقول : إذا تزوّجن .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عكرمة أن ابن عباس كان يقرأ : { فإذَا أُحْصِنّ } يقول : تزوّجن .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قال : إحصان الأمة أن ينكحها الحرّ ، وإحصان العبد أن ينكح الحرّة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، أنه سمع سعيد بن جبير يقول : لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوّج .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : { فإذَا أُحْصِنّ } قال : أحصنتهن البُعُولة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فإذا أُحْصِنّ } قال : أحصنتهن البعولة .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عياض بن عبد الله ، عن أبي الزناد أن الشعبي أخبره ، أن ابن عباس أخبره أنه أصاب جارية له قد كانت زنت ، وقال : أحصنتها .
قال أبو جعفر : وهذا التأويل على قراءة من قرأ : { فإذَا أُحْصِنّ } بضمّ الألف ، وعلى تأويل من قرأ : «فإذا أَحْصَنّ » بفتحها . وقد بينا الصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ ما على المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ } :
يعني جل ثناؤه بقوله : { فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ } : فإن أتت فتياتكم ، وهنّ إماؤكم ، بعد ما أَحْصنّ باسلام ، أو أحصنّ بنكاح بفاحشة ، وهي الزنا ، { فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ ما على المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ } يقول : فعليهنّ نصف ما على الحرائر من الحدّ إذا هن زنين قبل الإحصان بالأزواج والعذاب الذي ذكره الله تبارك وتعالى في هذا الموضع هو الحدّ . وذلك النصف الذي جعله الله عذابا لمن أتى بالفاحشة من ازاء إذا هنّ أحصنّ خمسون جلدة ، ونفي ستة أشهر ، وذلك نصف عام ، لأن الواجب على الحرّة إذا هي أتت بفاحشة قبل الإحصان بالزوج : جلد مائة ، ونفي حَوْل ، فالنصف من ذلك خمسون جلدة ، ونفي نصف سنة ، وذلك الذي جعله الله عذابا للإماء المحصنات إذا هن أتين بفاحشة . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ ما على المُحْصَناتِ مِنَ الَعذَابِ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلى المُحْصَناتِ مِنَ الَعذَابِ } خمسون جلدة ، ولا نفي ولا رجم .
فإن قال قائل : وكيف { فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ } وهل يكون الجلد على أحد ؟ قيل : إن معنى ذلك فلازم أبدانهنّ أن تجلد نصف ما يلزم أبدان المحصنات ، كما يقال : عليّ صلاة يوم ، بمعنى : لازم عليّ أن أصلي صلاة يوم ، وعليّ الحجّ والصيام مثل ذلك ، وكذلك عليه الحدّ بمعنى لازم له إمكان نفسه من الحدّ ليقام عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ لَمِنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ } .
يعني تعالى ذكره بقوله ذلك : هذا الذي أبحت أيها الناس من نكاح فتياتكم المؤمنات لمن لا يستطيع منكم طولاً لنكاح المحصنات المؤمنات ، أبحته لمن خشي العنت منكم دون غيره ممن لا يخشى العنت .
واختلف أهل التأويل في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هو الزنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن مجاهد ، قوله : { لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ } قال : الزنا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن العوّام ، عمن حدثه ، عن ابن عباس أنه قال : ما ازْلَحَفّ ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : العنت : الزنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبيد بن يحيى ، قال : حدثنا شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : العنت : الزنا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : ما ازلحفّ ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلاً ، ذلك لمن خشي العنت منكم .
حدثنا أبو سلمة ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ } قال : الزنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي حماد ، قال : حدثنا فضيل ، عن عطية العوفي ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ } قال : الزنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبيد ، عن الشعبي وجويبر ، عن الضحاك ، قالا : العنت : الزنا .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ } قال : العنت : الزنا .
وقال آخرون : معنى ذلك : العقوبة التي تُعْنِتُهُ ، وهي الحدّ .
والصواب من القول في قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ } : ذلك لمن خاف منكم ضررا في دينه وبدنه . وذلك أن العنت هو ما ضرّ الرجل ، يقال منه : قد عَنِتَ فلان فهو يَعْنَتُ عَنتا : إذا أتى ما يضره في دين أو دنيا ، ومنه قول الله تبارك وتعالى : { وَدّوا ما عَنِتّمْ } ويقال : قد أعنتني فلان فهو يعنتني : إذا نالني بمضرّة¹ وقد قيل : العنت : الهلاك . فالذين وجهوا تأويل ذلك إلى الزنا ، قالوا : الزنا ضرر في الدين ، وهو من العنت . والذين وجهوه إلى الإثم ، قالوا : الاَثام كلها ضرر في الدين وهي من العنت . والذين وجهوه إلى العقوبة التي تعنته في بدنه من الحدّ ، فإنهم قالوا : الحدّ مضرّة على بدن المحدود في دنياه ، وهو من العنت . وقد عمّ الله بقوله : { لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ } جميع معاني العنت ، ويجمع جميع ذلك الزنا ، لأنه يوجب العقوبة على صاحبه في الدنيا بما يعنت بدنه ، ويكتسب به إثما ومضرّة في دينه ودنياه . وقد اتفق أهل التأويل الذي هم أهله ، على أن ذلك معناه . فهو وإن كان في عينه لذّة وقضاء شهوة فإنه بأدائه إلى العنت منسوب إليه موصوف به أن كان للعنت سببا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
يعني جلّ ثناؤه بذلك : وأن تصبروا أيها الناس عن نكاح الإماء خير لكم ، والله غفور لكم نكاح الإماء أن تنكحوهنّ على ما أحلّ لكم وأذن لكم به ، وما سلف منكم في ذلك إن أصلحتم أمور أنفسكم فيما بينكم وبين الله ، رحيم بكم ، إذ أذن لكم في نكاحهنّ عند الافتقاء وعدم الطول للحرة .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير : { وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : عن نكاح الأمة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا عن مجاهد : { وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : عن نكاح الإماء .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } يقول : وأن تصبرَ ولا تنكح الأمة فيكون ولدك مملوكين فهو خير لك .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } يقول : وأن تصبروا عن نكاح الإماء خير لكم ، وهو حلّ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } يقول : وأن تصبروا عن نكاحهنّ ، يعني : نكاح الإماء خير لكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : { وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : أن تصبروا عن نكاح الإماء خير لكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرنا ابن طاوس ، عن أبيه : { وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : أن تصبروا عن نكاح الأمة خير لكم .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وأنْ تَصْبرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : وأن تصبروا عن الأمة خير لكم .
و«أن » في قوله : { وأنْ تَصْبرُوا } في موضع رفع ب«خير » ، بمعنى : والصبر عن نكاح الإماء خير لكم .
عطف قوله : { ومن لم يستطع منكم طولاً } على قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] تخصيصاً لعمومه بغير الإماء ، وتقييداً لإطلاقه باستطاعة الطَّول .
والطَّول بفتح الطاء وسكون الواو القدرة ، وهو مصدر طال المجازي بمعنى قدر ، وذلك أنّ الطُّول يستلزم المقدرة على المناولة ؛ فلذلك يقولون : تطاول لكذا ، أي تمطَّى ليأخذه ، ثم قالوا : تطاول ، بمعنى تكلّف المقدرة « وأين الثريا من يد المتطاول » فجعلوا لطال الحقيقي مصدراً بضم الطاء وجعلوا لطال المجازي مصدراً بفتح الطاء وهو ممّا فرّقت فيه العرب بين المعنيين المشتركين .
{ والمحصنات } [ النساء : 24 ] قرأه الجمهور بفتح الصاد وقرأه الكسائي بكسر الصاد على اختلاف معنيي ( أحصن ) كما تقدّم آنفاً ، أي اللاَّتي أحصنّ أنفسهنّ ، أو أحصنهنّ أولياؤهن ، فالمراد العفيفات . والمحصنات هنا وصف خرج مخرج الغالب ، لأنّ المسلم لا يقصد إلاّ إلى نكاح امرأة عفيفة ، قال تعالى : { والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } [ النور : 30 ] أي بحسب خلق الإسلام ، وقد قيل : إنّ الإحصان يطلق على الحرية ، وأنّ المراد بالمحصنات الحرائر ، ولا داعي إليه ، واللغة لا تساعد عليه .
وظاهر الآية أنّ الطوْل هنا هو القدرة على بذل مهر لامرأة حرّة احتاج لتزوّجها : أولى ، أو ثانية ، أو ثالثةً ، أو رابعة ، لأنّ الله ذكر عدم استطاعة الطوْل في مقابلة قوله : { أن تبتغوا بأموالكم } [ النساء : 24 ] { فأتوهن أجورهن فريضة } [ النساء : 24 ] ولذلك كان هذا الأصحّ في تفسير الطوْل . وهو قول مالك ، وقاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، والسدّي ، وجابر بن زيد . وذهب أبو حنيفة إلى أنّ من كانت له زوجة واحدة فهي طَوْل فلا يباح له تزوّج الإماء ؛ لأنّه طالب شهوة إذْ كانت عنده امرأة تعفّه عن الزنا . ووقع لمالك ما يقرب من هذا في كتاب محمد بن الموّاز ، وهو قول ابن حبيب ، واستحسنه اللخمي والطبري ، وهو تضييق لا يناسب يسر الإسلام على أنّ الحاجة إلى امرأة ثانية قد لا يكون لشهوة بل لحاجة لا تسدّها امرأة واحدة ، فتعيّن الرجوع إلى طلب التزوّج ، ووجودِ المقدرة . وقال ربيعة ، والنخعي ، وقتادة ، وعطاء ، والثوري ، الطوْل : الصبر والجلَد على نكاح الحرائر .
ووقع لمالك في كتاب محمد : أنّ الذي يجد مهر حرّة ولا يقدر على نفقتها ، لا يجوز له أن يتزوّج أمة ، وهذا ليس لكون النفقة من الطوْل ولكن لأنّ وجود المهر طول ، والنفقة لا محيص عنها في كليهما ، وقال أصبغ : يجوز لهذا أن يتزوّج أمة لأنّ نفقة الأمة على أهلها إن لم يضمَّها الزوج إليه ، وظاهرٌ أنّ الخلاف في حالٍ . وقوله : { أن ينكح } معمول ( طَوْلا ) بحذف ( اللاَّم ) أو ( على ) إذ لا يتعدّى هذا المصدر بنفسه .
ومعنى { أن ينكح المحصنات } أي ينكح النساء الحرائر أبكاراً أو ثيّبات ، دلّ عليه قوله : { فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } .
وإطلاق المحصنات على النساء اللاتي يتزوجهنّ الرجال إطلاق مجازي بعلاقة المآل ، أي اللائي يَصِرن محصنات بذلك النكاح إن كنّ أبكاراً ، كقوله تعالى : { قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً } [ يوسف : 36 ] أي عنباً آيلا إلى خمر ؛ أو بعلاقة ما كان ، إن كنّ ثيّبات كقوله : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] وهذا بيِّن ، وفيه غنية عن تأويل المحصنات بمعنى الحرائر ، فإنّه إطلاق لا تساعد عليه اللغة ، لا على الحقيقة ولا على المجاز ، وقد تساهل المفسّرون في القول بذلك .
وقد وُصف المحصنات هنا بالمؤمنات ، جريا على الغالب ، ومُعظم علماء الإسلام على أنّ هذا الوصف خرج للغالب ولعلّ الذي حملهم على ذلك أنّ استطاعة نكاح الحرائر الكتابيات طول ، إذْ لم تكن إباحة نكاحهنّ مشروطة بالعجز عن الحرائر المسلمات ، وكان نكاح الإماء المسلمات مشروطاً بالعجز عن الحرائر المسلمات ، فحصل من ذلك أن يكون مشروطاً بالعجز عن الكتابيات أيضاً بقاعدة قياس المساواة . وعلّة ذلك أنّ نكاح الأمة يُعرّض الأولاد للرقّ ، بخلاف نكاح الكتابية ، فتعطيل مفهوم قوله : { المؤمنات } مع { المحصنات } حصل بأدلّة أخرى ، فلذلك ألغَوْا الوصف هنا ، وأعملوه في قوله : { من فتياتكم المؤمنات } . وشذّ بعض الشافعية ، فاعتبروا رخصة نكاح الأمة المسلمة مشروطة بالعجز عن الحرّة المسلمة ، ولو مع القدرة على نكاح الكتابية ، وكأنَّ فائدة ذكر وصف المؤمنات هنا أنّ الشارع لم يكترث عند التشريع بذكر غير الغالب المعتبر عنده ، فصار المؤمنات هنا كاللَّقب في نحو ( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ) .
والفتيات جمع فتاة ، وهي في الأصل الشابّة كالفتى ، والمراد بها هنا الأمة أطلق عليها الفتاة كما أطلق عليها الجَارية ، وعلى العبد الغلام ، وهو مجاز بعلاقة اللزوم ، لأنّ العبد والأمة يعاملان معاملة الصغير في الخدمة ، وقلّة المبالاة . ووصف المؤمنات عقب الفتيات مقصود للتقييد عند كافّة السلف ، وجمهور أيّمة الفقه ، لأنّ الأصل أن يكون له مفهوم ، ولا دليل يدلّ على تعطيله ، فلا يجوز عندهم نكاح أمة كتابية . والحكمة في ذلك أنّ اجتماع الرقّ والكفر يُباعد المرأة عن الحرمة في اعتبار المسلم ، فيقلّ الوفاق بينهما ، بخلاف أحد الوصفين . ويظهر أثر ذلك في الأبناء إذ يكونون أرقّاء مع مشاهدة أحوال الدّين المخالف فيمتدّ البون بينهم وبين أبيهم . وقال أبو حنيفة : موقع وصف المؤمنات هنا كموقعه مع قوله : { المحصنات المؤمنات } ، فلم يشترط في نكاح الأمة كونها مؤمنة ، قال أبو عُمر بن عبد البرّ : ولا أعرف هذا القول لأحد من السلف إلاّ لعَمْرو بن شرحبيل وهو تابعيّ قديم روى عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ؛ ولأنَّ أبا حنيفة لا يرى إعمال المفهوم .
وتقدّم آنفاً معنى { ملكت أيمانكم } .
والإضافة في قوله : { أيمانكم } وقوله : { من فتياتكم } للتقريب وإزالة ما بقي في نفوس العرب من احتقار العبيد والإماء والترفّع عن نكاحهم وإنكاحهم ، وكذلك وصف المؤمنات ، وإن كنّا نراه للتقيد فهو لا يخلو مع ذلك من فائدة التقريب ، إذ الكفاءة عند مالك تعتمد الدين أوَّلاً .
وقوله : { والله أعلم بإيمانكم } اعتراض جمع معاني شتّى ، أنّه أمر ، وقيدٌ للأمر في قوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولاً } إلخ ؛ وقد تَحول الشهوة والعجلة دون تحقيق شروط الله تعالى ، فأحالهم على إيمانهم المطلّع عليه ربّهم . ومن تلك المعاني أنّه تعالى أمر بنكاح الإماء عند العجز عن الحرائر ، وكانوا في الجاهلية لا يرضون بنكاح الأمة وجعْلَها حليلة ، ولكن يقضون منهنّ شهواتهم بالبغاء ، فأراد الله إكرام الإماء المؤمنات ، جزاء على إيمانهنّ ، وإشعاراً بأنّ وحدة الإيمان قرّبت الأحرار من العبيد ، فلمَّا شَرَع ذلك كلّه ذيّله بقوله : { والله أعلم بإيمانكم } ، أي بقوّته ، فلمّا كان الإيمان ، هو الذي رفع المؤمنين عند الله درجات كان إيمان الإماء مُقنعا للأحرار بترك الاستنكاف عن تزوجهنّ ، ولأنّه رُبّ أمةٍ يكون إيمانها خيراً من إيمان رجل حرّ ، وهذا كقوله { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] . وقد أشار إلى هذا الأخير صاحب « الكشاف » ، وابن عطية .
وقوله : { بعضكم من بعض } تذييل ثان أكّد به المعنى الثاني المراد من قوله : { والله أعلم بإيمانكم } فإنّه بعد أن قرّب إليهم الإماء من جانب الوحدة الدينية قرّبهنّ إليهم من جانب الوحدة النوعية ، وهو أنّ الأحرار والعبيد كلّهم من بني آدم ف ( مِن ) اتّصالية .
وفرّع عن الأمر بنكاح الإماء بيان كيفية ذلك فقال : { فأنكحوهن بإذن أهلهن } وشرط الإذن لئلاّ يكون سرّا وزني ، ولأنّ نكاحهنّ دون ذلك اعتداء على حقوق أهل الإماء .
والأهْل هنا بمعنى السَّادة المالكين ، وهو إطلاق شائع على سادة العبيد في كلام الإسلام . وأحسب أنّه من مصطلحات القرآن تلطّفا بالعبيد ، كما وقع النهي أن يقول العبد لسيّده : سيّدي ، بل يقول : مولاي . ووقع في حديث بريرة « أنّ أهلها أبوا إلاّ أن يكون الولاء لهم » .
والآية دليل على ولاية السيّد لأمته ، وأنّه إذا نَكحت الأمة بدون إذن السيّد فالنكاح مفسوخ ، ولو أجازه سيّدها . واختلف في العبد : فقال الشعبي : والأوزاعي ، وداود : هو كالأمة . وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وجماعة من التابعين : إذا أجازه السيد جاز ، ويُحتجّ بها لاشتراط أصل الولاية في المرأة ، احتجاجاً ضعيفاً ، واحتجّ بها الحنفية على عكس ذلك ، إذ سمّى الله ذلك إذناً ولم يسمّه عقداً ، وهو احتجاج ضعيف ، لأنّ الإذن يطلق على العقد لا سيما بعد أن دخلت عليه باء السببية المتعلّقة ب ( انكحوهنّ ) .
والقول في الأجور والمعروف تقدّم قريباً . غير أنّ قوله : { وأتوهن } وإضافة الأجور إليهنّ ، دليل على أنّ الأمة أحقّ بمهرها من سيّدها . ولذلك قال مالك في كتاب الرهون ، من المدونة : إنّ على سيّدها أن يجهّزها بمهرها . ووقع في كتاب النكاح الثاني منها : إنّ لسيّدها أن يأخذ مَهرها ، فقيل : هو اختلاف من قول مالك ، وقيل : إنّ قوله في كتاب النكاح : إذا لم تُبَوَّأ أو إذا جهّزها من عنده قبل ذلك ، ومعنى تُبَوَّأ إذا جعل سكناها مع زوجها في بيت سيّدها .
وقوله : { محصنات } حال من ضمير الإماء ، والإحصان التزوّج الصحيح ، فهي حال مقدّرة ، أي ليصرن محصنات .
وقوله : { غير مسافحات } صفة للحال ، وكذلك { ولا متخذات أخدان } قصد منها تفظيع ما كانت ترتكبه الإماء في الجاهلية بإذن مواليهنّ لاكتساب المَال بالبغاء ونحوه ، وكان الناس يومئذ قريبا عصرهم بالجاهلية .
والمسافحات الزواني مع غير معيّن . ومتّخذاتُ الأخذَان هنّ متّخذات أخلاّء تتّخذ الواحدة خليلاً تختصّ به لا تألف غيره . وهذا وإن كان يشبه النكاح من جهة عدم التعدّد ، إلاّ أنّه يخالفه من جهة التستّر وجهل النسب وخلع برقع المروءة ، ولذلك عطفه على قوله : { غير مسافحات } سدّ المداخل الزني كلّها . وتقدّم الكلام على أنواع المعاشرة التي كان عليها أهل الجاهلية في أول هذه السورة .
وقرأه الكسائي بكسر الصاد وقرأه الجمهور بفتح الصاد .
وقوله : { فإذا أُحْصنّ } أي أحصنهنّ أزواجُهن ، أي فإذا تزوجن . فالآية تقتضي أنّ التزوّج شرط في إقامة حدّ الزنا على الإماء ، وأنّ الحدّ هو الجلد المعيّن لأنّه الذي يمكن فيه التنصيف بالعدد . واعلم أنّا إذا جرينا على ما حقّقناه ممّا تقدّم في معنى الآية الماضية تعيّن أن تكون هذه الآية نزلت بعد شرع حدّ الجلد للزانية والزاني بآية سورة النور . فتكون مخصّصة لعموم الزانية بغير الأمة ، ويكون وضع هذه الآية في هذا الموضع ممّا ألحق بهذه السورة إكمالا للأحكام المتعلّقة بالإماء كما هو و اقع في نظائر عديدة ، كما تقدّم في المقدّمة الثامنة من مقدّمات هذا التفسير . وهذه الآية تحيّر فيها المتأوّلون لاقتضائها أن لا تحدّ الأمة في الزنى إلاّ إذا كانت متزوّجة ، فتأوّلها عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وابن عُمَر بأنّ الإحصان هنا الإسلام ، ورأوا أنّ الأمة تحدّ في الزنا سواء كانت متزوّجة أم عزبى ، وإليه ذهب الأيّمة الأربعة . ولا أظنّ أنّ دليل الأيّمة الأربعة هو حمل الإحصان هنا على معنى الإسلام ، بل ما ثبت في « الصحيحين » أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ؛ فأوجب عليها الحدّ . قال ابن شهاب فالأمة المتزوّجة محدودة بالقرآن ، والأمة غير المتزوّجة محدودة بالسنّة . ونِعْم هذا الكلام . قال القاضي إسماعيل بن إسحاق : في حمل الإحصان في الآية على الإسلام بُعد ؛ لأنّ ذكر إيمانهن قد تقدّم في قوله : { من فتياتكم المؤمنات } وهو تدقيق ، وإن أباه ابن عطية .
وقد دلّت الآية على أنّ حدّ الأمة الجلد ، ولم تذكر الرجم ، فإذا كان الرجم مشروعاً قبل نزولها دلّت على أنّ الأمة لا رجم عليها ، وهو مذهب الجمهور ، وتوقّف أبو ثور في ذلك ، وإن كان الرجم قد شرع بعد ذلك فلا تدلّ الآية على نفي رجم الأمة ، غير أنّ قصد التنصيف في حدّها يدلّ على أنّها لا يبلغ بها حدّ الحرّة ، فالرجم ينتفي لأنّه لا يقبل التجزئة ، وهو ما ذَهِل عنه أبو ثور .
وقد روي عن عمر بن الخطاب : أنّه سئل عن حدّ الأمة فقال : « الأمة ألقت فَروة رأسها من وراء الدار » أي ألقت في بيت أهلها قناعها ، أي أنّها تخرج إلى كلّ موضع يرسلها أهلها إليه لا تقدر على الامتناع من ذلك ، فتصير إلى حيث لا تقدر على الامتناع من الفجور ، قالوا : فكان يرى أن لا حدّ عليها إذا فجرت ما لم تتزوّج ، وكأنّه رأى أنّها إذا تزوّجت فقد منعها زوجها . وقولُه هذا وإن كان غير المشهور عنه ، ولكنّنا ذكرناه لأنّ فيه للمتبصّر بتصريف الشريعة عبرة في تغليظ العقوبة بمقدار قوّة الخيانة وضعف المعذرة .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب : { أحصن } بضمّ الهمزة وكسر الصاد مبنيّا للنائب ، وهو بمعنى مُحْصَنات المفتوح الصاد . وقرأه حمزة ، والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، وخلَف : بفتح الهمزة وفتح الصاد ، وهو معنى محصِنات بكسر الصاد .
وقوله : { ذلك لمن خشى العنت منكم } إشارة إلى الحكم الصالح لأن يتقيّد بخشية العنت ، وذلك الحكم هو نكاح الإماء .
والعنت : المشقّة ، قال تعالى : { ولو شاء الله لأعنتكم } [ البقرة : 220 ] وأريد به هنا مشقّة العُزبة التي تكون ذريعة إلى الزنا ، فلذلك قال بعضهم : أريد العَنت الزنا .
وقوله : { وأن تصبروا خير لكم } أي إذا استطعتم الصبر مع المشقّة إلى أن يتيسّر له نكاح الحرّة فذلك خير ، لئلا يوقع أبناءه في ذلّ العبودية المكروهة للشارع لولا الضرورة ، ولئلا يوقع نفسه في مذّلة تصرّف الناس في زوجه .
وقوله : { والله غفور رحيم } أي إن خفتم العَنت ولم تصبروا عليه ، وتزوّجتم الإماء ، وعليه فهو مؤكّد لمعنى الإباحة . مؤذن بأنّ إباحة ذلك لأجل رفع الحرج ، لأنّ الله رحيم بعباده . غفور فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عمّا ما يقتضي مقصدُ الشريعة تحريمَه ، فليس هنا ذنب حتّى يغفر .