102- ولقد صدَّقوا ما تَتَقَوَّله شياطينهم وفجرتهم على ملك سليمان ، إذ زعموا أن سليمان لم يكن نبياً ولا رسولاً ينزل عليه الوحي من الله ، بل كان مجرد ساحر يستمد العون من سحره ، وأن سحره هذا هو الذي وطَّد له الملك وجعله يسيطر على الجن والطير والرياح ، فنسبوا بذلك الكفرَ لسليمان ، وما كفر سليمان ، ولكن هؤلاء الشياطين الفجرة هم الذين كفروا ، إذ تقوَّلوا عليه هذه الأقاويل ، وأخذوا يعلِّمون الناس السحر من عندهم ومن آثار ما أنزل ببابل على الملكين هاروت وماروت ، مع أن هذين الملكين ما كانا يعلِّمان أحداً حتى يقولا له : إنما نعلِّمك ما يؤدى إلى الفتنة والكفر فاعرفه واحذره وتَوَقَّ العمل به . ولكن الناس لم ينتصحوا بهذه النصيحة ، فاستخدموا ما تعلَّموه منهما فيما يفرقون به بين المرء وزوجه . نعم كفر هؤلاء الشياطين الفجرة إذ تقوَّلوا هذه الأقاويل من أقاويلهم وأساطيرهم ذريعة لتعليم اليهود السحر ، وما هم بضارين بسحرهم هذا من أحد ، ولكن الله هو الذي يأذن بالضرر إن شاء ، وأن ما يؤخذ عنهم من سحر سيضر من تعلَّمه في دينه ودنياه ولا يفيده شيئاً ، وهم أنفسهم يعلمون حق العلم أن من اتجه هذا الاتجاه لن يكون له حظ في نعيم الآخرة ، ولبئس ما اختاروه لأنفسهم لو كانت بهم بقية من علم .
ثم حكى - سبحانه - لوناً آخر من زيغهم وضلالهم واتباعهم للأباطيل بعد أن وبخهم على نبذهم لكتابه فقال تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } .
اتبعوا : من الاتباع وهو الاقتداء ، والضمير فيه يعود على اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم .
وتتلو : من التلاوة بمعنى الاتباع أو القراءة ، وقال الراغب : تلا عليه كذب عليه .
والشياطين : جمع شيطان ، وهو كائن حي خلق من النار ، ويطلق على الممتلئ شراً من الأنس .
والمعنى : إن هؤلاء اليهود نبذوا كتاب الله ، واتبعوا الذي كانت تتلوه وتقصه الشياطين على عهد ملك سليمان ، وفي زمانه ، من الأكاذيب والكفر ومن ذلك زعمهم أن ملكه قام على أساس السحر ، وأنه ارتد في أواخر حياته ، وعبد الأصنام إرضاء لنسائه والوثنيات إلى غير ذلك من الأكاذيب التي ألصقوها به - عليه السلام - وهو برئ منها .
قال صاحب الكشاف : وقوله تعالى : { على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي على عهد ملكه وفي زمانه ، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة ، وقد دونوها في كتب يقرءونها ويعلمونها للناس ، وفشا ذلك في زمان سليمان - عليه السلام - حتى قالوا : إن الجن تعلم الغيب ، وكانوا يقولون : ما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الإِنس والجن والريح التي تجري بأمره .
وقوله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ } معناه : وما كفر سليمان ولكن الشياطين هم الذين كفروا إذ تعلموا السحر وعلموه لغيرهم بقصد إضلالهم ، وصرفهم عن عبادة - الله - تعالى - إلى عبادة غيره من المخلوقات .
ففي الجملة الكريمة تنزيه لسليمان - عليه السلام - عن الردة والشرك وتبرئه له من عمل السحر الذي كان يتعاطاه أولئك الشياطين وينسبونه إليه زوراً وبهتاناً ، ودلالة على أن ذلك السحر الذي نسبوه إليه وباشرته الشياطين نوع من الكفر .
وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان ، وأنه ارتد في آخر عمره ، وعبد الأصنام وبني لها المعابد ، وكانوا عندما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم سليمان بين الأنبياء يقولون : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل ، يذكر سليمان مع الأنبياء ، وإنما كان ساحراً يركب الريح .
فإن قال قائل : ما الحكمة في نفي الكفر عن سليمان مع أن صدر الآية لا يفيد أن أحداً نسب إليه ذلك .
فالجواب : أن اليهود الذين نبذوا كتاب الله ، واتبعوا ما تلته الشياطين من السحر أضافوا هذا السحر إلى سليمان ، وقالوا إنه كان يسخر به الجن والإِنس والريح ، فأكذبهم الله - تعالى - بقوله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ } كما بينا .
وللضمير في قوله تعالى : { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } : وجهان :
أحدهما : أنه متصل بقوله تعالى : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } أي : أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر .
والثاني : وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود وأن الكلام في الشياطين قد انتهى عند قوله تعالى { كَفَرُواْ } وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهوراً في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم ، أي أن فريقاً من اليهود نبذوا كتاب الله اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان في رميه بالكر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه ؟ فأجاب على طريق الاستئناف البياني { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } .
ونفي الكفر عن سليمان والصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض ، فعلم أيضاً - أنهم اتبعوا الشياطين بهذه القرية ، وإنما كان القصد إلى صوف اليهود بتعلم السحر ، لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها ، ويضرون بها الناس خداعاً وتمويها وتلبساً .
وإنما أضاف الله - تعالى - إلى اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان خاصة مع أنه كان معروفاً قبل سليمان - عليه السلام - كما أخبر به القرآن عن سحرة فرعون ، وإنما أضاف ذلك إليهم ، لأن هذا كان هو الواقع منهم ، ولأن سحر هؤلاء الشياطين الذين كانوا على عهد سليمان ، كان مدوناً في صحف اليهود من قديم ، وتوارثه خلفهم عن سلفهم إلى أن صول إلى من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم منهم ولأن سليمان - عليه السلام - أعطاه الله تعالى ملكاً واسعاً وسخر له الإِنس والجن والريح ، فعزت الشياطين ذلك كله إلى تعلمه السحر .
و { مَآ } في قوله تعالى : { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } موصولة ، وهي معطوفة على السحر في قوله تعالى : { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } أي يعلمون الناس السحر ، ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين .
والذي أنزل عليهما هو وصف السحر وما هيته وكيفية الاحتيال به . ليعرفاه الناس فيجتنبوه على حد قول الشاعر :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه . . . ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه
فالشياطين عرفوه فعملوا به ، وعلموه للناس ليستعملوه في الشرر والمآثم بينما المؤمنون عرفوه واستفادوا من الاطلاع عليه فتجنبوه .
هذا ، واختصت بابل بالإِنزال ، لأنها كانت أكثر البلاد عملا بالسحر ، وكان سحرتها قد اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم ، ثم جروهم إلى عبادة الأصنام والكواكب فحدث فساد عظيم ، وعمت الأباطيل فألهم الله - تعالى - هاروت وماروت أن يكشفا للناس حقيقة السحر ودقائقه ، حتى يعلموا أن السحرة الذين صرفوهم عن عبادة الله إلى عبادة الكواكب وغيرها قد خدعوهم وأضلوهم ، وبذلك يعودون إلى الصراط المستقيم .
واللام في { الملكين } مفتوحة في القراءات العشر المتواترة ، وقرئ شاذاً { الملكين } بكسر اللام .
قال بعض المفسرين : المراد بالملكين - بفتح اللام - رجلان صالحان اطلعا على أسرار السحر التي كانت تفعلها السحرة ، فعلماها للناس ليحذراهم من الانقياد لتلبيسات الشياطين ، وسميا ملكين مع أنهما من البشر لصلاحهما وتقواهما ، ويؤيد هذا الرأي قراءة الملكين - بكسر اللام - وإن كانت شاذة :
وقال جمهور المفسرين : إنما ملكان على الحقيقة أنزلهما الله - تعالى - ليعلما الناس السحر ابتلاء لهم ، ليفضحا مزاعم السحرة الذين كانوا يدعون النبوة كذبا ، ويسخرون العامة لهم ويخرجونهم إلى عبادة غير الله ، { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } اسمان للملكين الذين أنزل عليهما السحر ، وهما بدل أو عطف بيان للملكين .
وقوله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } بيان لما كان ينصح به الملكان من يريد تعلم السحر منهما . والجملة حالية من هاروت وماروت .
والفتنة ، المراد هنا الابتلاء والاختبار ، تقول : فتنت الذهب في النار ، أي : اختبرته لتعرف جودته ورداءته .
والمعنى : أن الملكين لا يعلمان أحداً من الناس السحر إلا وينصحانه بقولهما إن ما نعلمك إياه من فنون السحر الغرض منه الابتلاء والاختبار لتمييز المطيع من العاصي . فمن عمل به ضل وقوي ، ومن تركه فهو على هدى ونور من الله ، ولإِظهار الفرق بين المعجزة والسحر . فحذار أن تستعمل ما تعلمته فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين : كما كفر السحرة بنسبتهم التأثيرات إلى الكواكب وغيرها من المخلوقات .
فالمقصود من تعليم الملكين للناس السحر ، فضح أمر السحرة الذين كثروا في تلك الأيام ، وادعو ما لم يأذن به الله ، وإظهار الفرق بين المعجزة والسحر حتى يعلم الناس أن هؤلاء السحرة الذين قد يزعمون بمرور الأيام أنهم أنبياء ليسوا كذلك ، وإنما هم أفاكون ، وأخبروا على أنفسهم بطريق القصر بأنهم فتنة للمبالغة في الإقرار بأنهما لا يملكان نفعاً ولا ضراً لأحد ، وإنما هما فتنة محضة ، وابتلاء من الله لعباده لتمييز المطيع من العاصي .
ثم بين - سبحانه - لوناً من السحر البغيض الذي استعمله أولئك السحرة في الأذى فقال تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } أي فيتعلم بعض الناس من الملكين ما يحصل به الفراق بين المرء وزوجه .
فالجملة الكريمة تفريع عما دل عليه قوله تعالى قبل ذلك : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } لأنه يقتضي أن التعليم حاصل ، وأن بعض المتعلمين قد استعملوه في التفريق بين الزوجين .
وخصص سبحانه ها اللون من السحر بالنص عليه للتنبيه على شدة فساده . وعلى شناعة ذنب من يقوم به . لأنه تسبب عنه التفريق بين الزوجين اللذين جمعت بينهما أواصر المودة والرحمة .
والضمير في قوله تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ } راجع لأحد ، وصح عود ضمير الجمع عليه مع أنه مفرد ، لوقوعه في سياق النفي ، والنكرة إذا وردت بعد نفي كانت في معنى أفراد كثيرة ، فصح أن يعود ضمير الجمع إليه كذلك .
ثم نفى - سبحانه - أن يكون السحر مؤثراً بذاته فقال تعالى : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : أن أولئك السحرة لن يضروا أو ينفعوا أحداً بسحرهم إلا بإذن الله وقدرته ، فالسحر سبب عادي لما ينشأ عنه من الأضرار ويجوز أن يتخلف عنه مسببه إذا أذن الله بذلك .
والجملة الكريمة معترضة لدفع توهم أن يكون السحر مضراً بذاته ، بحيث لا يتخلف عنه الضرر متى تعاطاه الساحر .
والمراد { بِإِذْنِ الله } هنا . تخليته - سبحانه - بين السحور وضرر السحر ، أي : إن شاء حصل الضرر بسبب السحر ، وإن شاء منعه فلا يصيب المسحور منه شيء من الأذى .
وعبر - سبحانه - عن هذا المعنى بطريق القصر ، مبالغة في نفي أي تأثير للسحر بذاته ، وإغراء للناس بتكذيب ما يزعمه السحرة من أن لهم قوي غيبية سوى الأسباب التي ربط الله بها المسببات ، وإرشاداً لهم إلى حسن الاعتقاد ، وسلامة اليقين .
ثم بين - سبحانه - أن أولئك المتعليمن السحر للأذى وللتفرقة بين المتحابين يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، فقال تعالى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } أي : أن أولئك الذين تعلموا السحر ليضروا به غيرهم ، ولم يتعلموه ليفرقوا به بين الحق والباطل ، أو ليدفعوا به الشر عن أنفسهم ، قد سلكوا بهذا التعليم الطريق الذي يضرهم ولا ينفعهم ، وأصبحوا بذلك عاصين لما نصحهم به الملكان عند تعليم السحر .
وفي هذه الجملة الكريمة زيادة تنبيه على تفاهة عقول المشتغلين بالسحر للأذى ومبالغة في تجهيل المصدقين لهم ، لأن الساحر - مهما بلغت براعته - فلن يستطيع أن يمنع شيئاً أراده الله ، ولا أن يأتي بشيء منعه الله ما دام الأمر كذلك فالمشتغل به ، والمصدق له كلاهما وقع في ضلال مبين .
وقد أفادت الجملة الكريمة يجمعهها بين إثبات الضر ونفي النفع مفاد الحصر فكأنه - سبحانه - يقول : ويتعلمون ما ليس إلا ضرراً بحتاً .
ثم بين - سبحانه - مآل أولئك اليهود التاركين للحق ، والمتبعين للباطل فقال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } أي : ولقد علم أولئك اليهود الذين بنذوا تعاليم كتابهم واتبعوا السحر ، أن من استبدل السحر بكتاب الله بكتاب الله ليس له من حظ في الجنة ، لأنه قد اختار الضلال وترك الهدى ، وعلمهم مرجعه إلى أن التوراة قد حرمت عليهم تعلم السحر أو تعليمه للأذى والضرر ، وشددت العقوبة على مرتكبه ، وعلى متبع الجن والشياطين والكهان .
فالضمير في { عَلِمُواْ } يعود إلى أولئك اليهود الذي تركوا كتاب الله واستبدلوا به السحر .
والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره ، والمراد أنهم اكتسبوا السحر الذي تتلوه الشياطين بعد أن بذلوا في سبيل ذلك إيمانهم ونصيبهم من الجنة ، وغدوا مفلسين من حظوظ الآخرة ، لإقبالهم على التمويه والكذب ، واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير .
وأكد - سبحانه - علمهم بضرر السحر بقوله { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } للإِشارة إلى أن اختيارهم للسحر لم ينشأ عن جهلهم بضرره ، وإنما هم الذين اختاروه ومالوا إليه متعمدين وعالمين بعاقبته السيئة .
ثم قال تعالى : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
شروا : بمعنى باعوا ، وبيع الأنفس هنا معناه بيع نصيبها من الجنة . ونعيمها .
والمعنى : ولبئس شيئا باع به أولئك السحرة حظوظ أنفسهم تعلم ما يضر من السحر والعمل به ، ولو كانوا ممن ينتفعون بعلمهم لما فعلوا ذلك .
وأثبت لهم العلم في قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه } ثم نفاه عنه في قوله تعالى : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جرياً على الأسلوب المعروف في فنون البلاغة من أن العالم بالشيء إذا لم يعمل بموجب علمه نزل منزلة الجاهل ونفي عنه العلم كما ينفي عن الجاهلين .
وإلأى هذا المعنى الذي قررناه أشار صاحب الكشاف بقوله .
فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه } على سبيل التوكيد القسمي ، ثم نفاه عنهم في قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
قلت : معناه لو كانوا يعملون بعلمهم . جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسخلون عنه .
{ وَاتّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشّيَاطِينُ عَلَىَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلََكِنّ الشّيْاطِينَ كَفَرُواْ ، يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ، وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّىَ يَقُولاَ إِنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ، فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، وَمَا هُم بِضَآرّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ ، وَيَتَعَلّمُونَ مَا يَضُرّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ، وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ، وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
يعني بقوله : { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ } الفريق من أحبار اليهود وعلمائها الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى وراء ظهورهم ، تجاهلاً منهم وكفرا بما هم به عالمون ، كأنهم لا يعلمون . فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه ، وآثروا السحر الذي تَلَتْه الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه وذلك هو الخسار والضلال المبين .
واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بقوله : { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } . فقال بعضهم : عنى الله بذلك اليهودَ الذين كانوا بين ظهرانيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة ، فوجدوا التوراة للقرآن موافقةً ، تأمره من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه بمثل الذي يأمر به القرآن ، فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } على عهد سليمان . قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فتقعد منها مقاعد للسمع ، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم ، فتحدّث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا . حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم ، فأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة . فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب وفشا في بني إسرائيل أن الجنّ تعلم الغيب . فبعث سليمان في الناس ، فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ، ثم دفنها تحت كرسيه ، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق ، وقال : «لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه » . فلما مات سليمان ، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ، وخلف بعد ذلك خَلْفٌ ، تمثل الشيطان في صورة إنسان ، ثم أتى نفرا من بني إسرائيل ، فقال : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا ؟ قالوا : نعم . قال : فاحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان . فقام ناحية ، فقالوا له : فادْنُ قال : لا ولكني هاهنا في أيديكم ، فإن لم تجدوه فاقتلوني . فحفروا فوجدوا تلك الكتب ، فلما أخرجوها قال الشيطان : إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر . ثم طار فذهب . وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب . فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها ، فذلك حين يقول : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ } .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ }قالوا : إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة ، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه فيَخْصِمهم . فلما رأوا ذلك قالوا : هذا أعلم بما أنزل إلينا منا . وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله جلّ وعزّ : { واتّبَعوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ } . وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك ، فدفنوه تحت مجلس سليمان ، وكان سليمان لا يعلم الغيب ، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر ، وخدعوا به الناس وقالوا : هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه . فأخبرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث . فرجعوا من عنده ، وقد حزنوا وأدحض الله حجتهم .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمانَ } قال : لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصَدّقا لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ الآية . قال : اتبعوا السحر ، وهم أهل الكتاب . فقرأ حتى بلغ : { وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ } .
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان فاتبعته اليهود على ملكه يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام ، فكتبوا أصناف السحر : من كان يحبّ أن يبلغ كذا وكذا ، فليفعل كذا وكذا . حتى إذا صنعوا أصناف السحر ، جعلوه في كتاب ، ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان ، وكتبوا في عنوانه : «هذا ما كتب آصف بن برخيا الصدّيق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم » . ثم دفنوه تحت كرسيه ، فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا ، فلما عثروا عليه قالوا : ما كان سليمان بن داود إلا بهذا . فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه ، فليس في أحد أكثر منه في يهود . فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعدّه فيمن عدّه من المرسلين ، قال من كان بالمدينة من يهود : ألا تعجبون لمحمد صلى الله عليه وسلم يزعم أن سليمان بن داود كان نبيّا والله ما كان إلا ساحرا فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم : { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانَ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا } قال : كان حين ذهب ملك سليمان ارتدّ فِئَامٌ من الجنّ والإنس واتبعوا الشهوات . فلما رجع الله إلى سليمان ملكه ، قام الناس على الدين كما كانوا . وإن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه . وتوفي سليمان حِدْثان ذلك ، فظهرت الجنّ والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان ، وقالوا : هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه منا . فأخذوا به فجعلوه دينا ، فأنزل الله : { وَلَمّا جاءَهُمْ رَسُول مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ، نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كأنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ، وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ } وهي المعازف واللعب وكلّ شيء يصدّ عن ذكر الله .
والصواب من القول في تأويل قوله : { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجحدوا نبوّته وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل ، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله ، وهجرهم العمل به وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنه كتاب الله ، واتّباعهم واتّباع أوائلهم وأسلافهم ما تَلَتْهُ الشياطين في عهد سليمان . وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وإنما اخترنا هذا التأويل لأن المتبعة ما تلته الشياطين في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحقّ وأمر السحر لم يزل في اليهود ، ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله : واتبعوا بعضا منهم دون بعض ، إذ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله : واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ إلى أخلافهم بعدهم . ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول ، ولا حجة تدلّ عليه ، فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال : كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود داخل في معنى الآية ، على النحو الذي قلنا .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا تَتْلُوا الشّياطِينُ } . يعني جل ثناؤه بقوله : ما تَتْلُوا الشّياطِينُ : الذي تتلو . فتأويل الكلام إذا : واتبعوا الذي تتلو الشياطين .
واختلف في تأويل قوله : تَتْلُوا فقال بعضهم : يعني بقوله : تَتْلُوا تحدّث وتروى وتتكلم به وتخبر ، نحو تلاوة الرجل للقرآن وهي قراءته . ووجه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن عمرو ، عن مجاهد في قول الله : { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } قال : كانت الشياطين تسمع الوحي ، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها ، فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه . فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس وهو السحر .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } من الكهانة والسحر وذكر لنا والله أعلم أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم ، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : قوله : { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشياطِينُ } قال : نراه ما تحدّث .
حدثني سالم بن جنادة السوائي ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلى فيها سليمان ، فكتبت فيها كُتبا فيها سحر وكفر ، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها فقرءوها على الناس .
وقال آخرون : معنى قوله : ما تَتْلُوا ما تتبعه وترويه وتعمل به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن عمرو العبقري ، قال : حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : تَتْلُوا قال : تتبع .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي ، قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم ، عن سفيان الثوري ، عن منصور ، عن أبي رزين مثله .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عزّ وجلّ أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان باتباعهم ما تلته الشياطين . ولقول القائل : «هو يتلو كذا » في كلام العرب معنيان : أحدهما الاتباع ، كما يقال : تلوت فلانا إذا مشيت خلفه وتبعت أثره ، كما قال جل ثناؤه : { هُنالِكَ تَبْلُو كُلّ نَفْسٍ ما أسَلَفَتْ } يعني بذلك تتّبع . والاَخر : القراءة والدراسة ، كما تقول : فلان يتلو القرآن ، بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه ، كما قال حسان بن ثابت :
نَبِيّ يَرَى مَا لا يَرَى النّاسُ حَوْلَهُ *** ويَتْلُو كِتابَ اللّهِ في كُلّ مَشْهَدِ
ولم يخبرنا الله جل ثناؤه بأيّ معنى التلاوة كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان بخبر يقطع العذر . وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسةً وروايةً وعملاً ، فتكون كانت متبعته بالعمل ، ودارسته بالرواية فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك وعملت به وروته .
القول في تأويل قوله تعالى : على مُلْكِ سُلَيْمان .
يعني بقوله جل ثناؤه : على مُلْكِ سُلَيْمَانَ في ملك سليمان وذلك أن العرب تضع «في » موضع «على » و«على » في موضع «في » ، من ذلك قول الله جل ثناؤه : { ولاصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ } يعني به : على جذوع النخل ، وكما قال : «فعلت كذا في عهد كذا وعلى عهد كذا » بمعنى واحد . وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان في تأويله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : { عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } يقول : في ملك سليمان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق في قوله : { على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي في ملك سليمان .
القول في تأويل قوله تعالى : { وما كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِين كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ } .
إن قال لنا قائل : وما هذا الكلام من قوله : { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } ولا خير معنا قبلُ عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان ، بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين ؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود ؟ قيل : وجه ذلك أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود ، نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى الشياطين من ذلك إلى سليمان بن داود ، وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته ، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجنّ والشياطين وسائر خلق الله بالسحر . فحسّنوا بذلك من ركوبهم ما حرّم الله عليهم من السحر أَنْفُسَهم عند من كان جاهلاً بأمر الله ونهيه ، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة ، وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان من سليمان ، وهو نبيّ الله صلى الله عليه وسلم منهم بشرٌ ، وأنكروا أن يكون كان لله رسولاً ، وقالوا : بل كان ساحرا . فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها ، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها . وأكذب الاَخرين الذين كانوا يعملون بالسحر ، متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك بأن سليمان كان يعمله . فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا ، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا في عملهم السحر ما تلته الشياطين في عهد سليمان ، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه . ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والاَثار :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر ، فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته . فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه ، فدَنَتْ إلى الإنس ، فقالوا لهم : أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا : نعم : قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه . فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به . فقال أهل الحجاز : كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر . فأنزل الله جل ثناؤه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان ، فقال : { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ }الآية ، فأنزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام .
حدثني أبو السائب السوائي ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان الذي أصاب سليمان بن داود في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة ، وكانت من أكرم نسائه عليه ، قال : فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم ، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحد . قال : وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من نسائه أعطى الجرادة خاتمه . فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به ، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي فأخذه فلبسه ، فلما لبسه دانت له الشياطين والجنّ والإنس . قال : فجاءها سليمان فقال : هاتي خاتمي فقالت : كذبت لست بسليمان . قال : فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به . قال : فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها فقرءوها على الناس وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب . قال : فبرىء الناس من سليمان وأكفروه ، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فأنزل جل ثناؤه : { وَاتّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمَانَ }يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر { وَما كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا }فأنزل اللّهُ جل وعزّ وعذره .
حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، عن أبي مجلز ، قال : أخذ سليمان من كل دابة عهدا ، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد خُلّي عنه ، فرأى الناس السجعَ والسحرَ وقالوا : هذا كان يعمل به سليمان فقال الله جل ثناؤه : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ } .
حدثنا أبو حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمران بن الحارث ، قال : بينا نحن عند ابن عباس إذ جاءه رجل ، فقال له ابن عباس : من أين جئت ؟ قال : من العراق ، قال : من أَيّهِ ؟ قال : من الكوفة . قال : فما الخبر ؟ قال : تركتهم يتحدثون أن عليّا خارج إليهم . ففزع فقال : ما تقول لا أبا لك لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه ، أما إني أحدثكم من ذلك أنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيأتي أحدهم بكلمة حقّ قد سمعها ، فإذا حدث منه صدق كذب معها سبعين كذبة ، قال : فيشربها قلوب الناس فأطلع الله عليها سليمانَ فدفنها تحت كرسيه . فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنزه الممَنّع الذي لا كنز مثله ؟ تحت الكرسي . فأخرجوه فقالوا : هذا سحر . فتناسخها الأمم ، حتى بقاياهم ما يتحدّث به أهل العراق . فأنزل الله عذر سليمان : { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمانُ ولَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ } .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا والله أعلم أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم ، ثم أفشوه في الناس وأعلموهم إياه . فلما سمع بذلك سليمان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم تتبّع تلك الكتب ، فأتى بها فدفنها تحت كرسيه كراهية أن يتعلمها الناس . فلما قبض الله نبيه سليمان عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس ، فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به . فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك ، فقال جل ثناؤه : { وَما كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك ، ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان . فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب ، فقالوا : هذا علم كَتَمَنَاهُ سليمان . فقال الله جل وعزّ : { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، حدثنا الحسين قال : عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } قال : كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء ، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها . وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن شهر بن حوشب ، قال : لما سُلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان ، فكتبت : من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا ، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا . فكتبته وجعلت عنوانه : «هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم » ، ثم دفنته تحت كرسيه . فلما مات سليمان قام إبليس خطيبا فقال : يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبيا ، وإنما كان ساحرا ، فالتَمِسُوا سحره في متاعه وبيوته ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه ، فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرا ، هذا سحره ، بهذا تعبّدَنا ، وبهذا قهرَنا . فقال المؤمنون : بل كان نبيا مؤمنا . فلما بعث الله النبيّ محمدا صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان ، فقالت اليهود : انظروا إلى محمد يخلط الحقّ بالباطل ، يذكر سليمان مع الأنبياء ، وإنما كان ساحرا يركب الريح . فأنزل الله عذر سليمان : { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } الآية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ }وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين ، قال بعض أحبار اليهود : ألا تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبيّا ، والله ما كان إلا ساحرا فأنزل الله في ذلك من قولهم : { وَما كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا } أي بإتباعهم السحر وعملهم به { وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ } .
قال أبو جعفر : فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وتأويل قوله : { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا } ما ذكرنا فتبين أن في الكلام متروكا ترك ذكره اكتفاءً بما ذكر منه ، وأن معنى الكلام : { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ } من السحر { على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } فتضيفه إلى سليمان ، { وَما كَفَرَ سُلَيْمَانُ } فيعمل بالسحر { وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ } .
وقد كان قتادة يتأوّل قوله : { وَما كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا } على ما قلنا .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَما كَفَرَ سُلَيْمَان وَلَكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا } يقول : ما كان عن مشورته ، ولا عن رضا منه ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه .
وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى «تتلو » ، وتوجيه من وجه ذلك إلى أن «تتلوا » بمعنى تلت ، إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله : وَاتّبَعُوا وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك . وبيّنا فيه وفي نظيره الصواب من القول ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وأما معنى قوله : { ما تَتْلُوا } فإنه بمعنى الذي تتلو وهو السحر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ أي السحر } .
قال أبو جعفر : ولعلّ قائلاً أن يقول : أَوَ ما كان السحر إلا أيام سليمان ؟ قيل له : بلى قد كان ذلك قبل ذلك ، وقد أخبر الله عن سَحَرة فرعون ما أخبر عنهم ، وقد كانوا قبل سليمان ، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر قال : فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان ؟ قيل : لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان على ما قد قدمنا البيان عنه ، فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نَحلوه وأضافوا إليه مما كانوا وجدوه إما في خزائنه وإما تحت كرسيه ، على ما جاءت به الاَثار التي قد ذكرناها من ذلك . فحصر الخبر عْما كانت اليهود اتبعته فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب ، وإن كان الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ } .
اختلف أهل العلم في تأويل «ما » التي في قوله : وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ فقال بعضهم : معناه الجحد وهي بمعنى «لم » . ذكر من قال ذلك : .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَما أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ }فإنه يقول : لم ينزل الله السحر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثني حكام عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس : { وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ } قال : ما أنزل الله عليهما السحر .
فتأويل الآية على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع من توجيههما معنى قوله : { وَمَا أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ } إلى : ولم ينزل على الملكين ، { واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان } من السحر ، { وما كفر سليمان } ولا أنزل الله السحر على الملكين { ولكنّ الشّياطينَ كفرُوا يعلمونَ الناسَ السحرَ } ببابل هاروت وماروت ، فيكون حينئذ قوله : ببابل وهاروت وماروت من المؤخر الذي معناه التقديم .
فإن قال لنا قائل : وكيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال : وابتعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت . فيكون معنيّا بالملكين : جبريل وميكائيل لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود . فأكذبها الله بذلك وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط ، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر ، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس ببابل ، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت واسم الاَخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة على الناس وردا عليهم .
وقال آخرون : بل تأويل «ما » التي في قوله : وَما أُنْزلَ على المَلَكَيْنِ «الذي » . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : قال معمر ، قال قتادة والزهري عن عبد الله : { وَما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ } كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس . وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم ، قال : فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ، ثم ذهبا يصعدان ، فحيل بينهما وبين ذلك وخُيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الاَخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . قال معمر : قال قتادة : فكانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : { وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هَارُوتَ وَمارُوتَ } فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا يقول : خاصموه بما أنزل على الملكين وإن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الإنس فصنع وعمل به كان سحرا .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحرَ وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هَارُوتَ وَمارُوتَ } فالسحر سحران : سحر تعلمه الشياطين ، وسحر يعلمه هاروت وماروت .
حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ } قال : التفريق بين المرء وزوجه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ } فقرأ حتى بلغ : { فَلا تَكْفُرْ } قال : الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر .
قال أبو جعفر : فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه : واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت . وهما ملكان من ملائكة الله ، سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى .
وقالوا : إن قال لنا قائل : وهل يجوز أن ينزل الله السحر ، أم هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس ؟ قلنا له : إن الله عزّ وجلّ قد أنزل الخير والشرّ كله . وبيّن جميع ذلك لعباده ، فأوحاه إلى رسله وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحلّ لهم مما يحرم عليهم وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عَرّفُهموها ونهاهم عن ركوبها ، فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها ونهاهم عن العمل بها .
قالوا : ليس في العلم بالسحر إثم ، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب ، وإنما الإثم في عمله وتسويته .
قالوا : وكذلك لا إثم في العلم بالسحر ، وإنما الإثم في العمل به وأن يضرّ به من لا يحلّ ضرّه به .
قالوا : فليس في إنزال الله إياه على الملكين ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس إثم إذا كان تعليمهما من علّماه ذلك بإذن الله لهما بتعليمه بعد أن يخبراه بأنهما فتنة وينهاه عن السحر والعمل به والكفر وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به ، إذْ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به .
قالوا : ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك ، لم يكن من تعلمه حَرِجا ، كما لم يكونا حَرِجَيْن لعلمهما به ، إذْ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما .
وقال آخرون : معنى «ما » معنى «الذي » ، وهي عطف على «ما » الأولى ، غير أن الأولى في معنى السحر والاَخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه .
فتأويل الآية على هذا القول : واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان ، والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هَارُوتَ وَمارُوتَ } وهما يعلّمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك قول الله جل ثناؤه : { وَما كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا } وكان يقول : أما السحر فإنما يعلمه الشياطين ، وأما الذي يعلم الملكان فالتفريق بين المرء وزوجه ، كما قال الله تعالى .
وقال آخرون : جائز أن تكون «ما » بمعنى «الذي » ، وجائز أن تكون «ما » بمعنى «لم » . ذكر من قال ذلك .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، وسأله رجل عن قول الله : { يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ } فقال الرجل : يعلّمان الناس ما أنزل عليهما ، أم يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما ؟ قال القاسم : ما أُبالي أيتهما كانت .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا بشر بن عياض ، عن بعض أصحابه ، أن القاسم بن محمد سئل عن قول الله تعالى ذكره : { وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ } فقيل له : أنزل أو لم ينزل ؟ فقال : لا أبالي أيّ ذلك كان ، إلاّ أني آمنت به .
والصواب من القول في ذلك عندي قول من وجّه «ما » التي في قوله : { وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ } إلى معنى «الذي » دون معنى «ما » التي هي بمعنى الجحد . وإنما اخترت ذلك من أجل أن «ما » إن وجهت إلى معنى الجحد ، فتنفي عن الملكين أن يكونا منزلاً إليهما . ولم يَخْلُ الاسمان اللذان بعدهما أعني هاروت وماروت من أن يكونا بدلاً منهما وترجمة عنهما ، أو بدلاً من الناس في قوله : { يعلّمون النّاسَ السّحْرَ } وترجمة عنهما . فإن جُعلا بدلاً من الملكين وترجمة عنهما بطل معنى قوله : { وَما يُعَلّمانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولا إنّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ } لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرّق به بين المرء وزوجه ، فما الذي يَتَعَلّم منهما مَنْ يفرّق بين المرء وزوجه ؟ .
وبعد ، فإن «ما » التي في قوله : وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } ، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } عن سليمان أن يكون السحر من عمله ، أو من علمه أو تعليمه . فإن كان الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه ، وهاروت وماروت هما الملكان ، فمن المتعلم منه إذا ما يفرّق به بين المرء وزوجه ؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله : وَما يُعَلّمَانِ مِنْ أحَدٍ حتى يَقُولاَ إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بَيّنٌ . وإن كان قوله «هاروت وماروت » ترجمة من الناس الذين في قوله : { وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ } ، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر ، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما . فإن يكن ذلك كذلك ، فلن يخلو هاروت وماروت عند قائل هذه المقالة من أحد أمرين : إما أن يكونا مَلَكين ، فإن كانا عنده ملكين فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس ، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب ، وفي خبر الله عزّ وجلّ عنهما أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا : إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول . أو أن يكونا رجلين من بني آدم فإن يكن ذلك كذلك فقد كان يجب أن يكون بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل من بني آدم لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم ، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما ، وفي وجود السحر في كل زمان ووقت أبين الدلالة على فساد هذا القول . وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم ، لم يعدما من الأرض منذ خلقت ، ولا يعدمان بعد ما وجد السحر في الناس . فيدعي ما لا يخفى بُطُولُهُ .
فإذا فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها ، فبين أن معنى : ( ما ) التي في قوله : { وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ } بمعنى «الذي » ، وأن هاروت وماروت مترجم بهما عن الملكين ولذلك فتحت أواخر أسمائهما ، لأنهما في موضع خفض على الردّ على الملكين ، ولكنهما لما كانا لا يجرّان فتحت أواخر أسمائهما .
فإن التبس على ذي غباء ما قلنا ، فقال : وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه ؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة ؟ قيل له : إن الله جل ثناؤه عرّف عباده جَميعَ ما أمرهم به وجميعَ ما نهاهم عنه ، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه . ولو كان الأمر على غير ذلك ، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم ، فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه ، فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما : إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه وعن السحر ، فيمحّص المؤمن بتركه التعلم منهما ، ويُخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما ، ويكون الملكان في تعليمهما من علّما ذلك لله مطيعين ، إذ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان . وقد عُبد من دون الله جماعةٌ من أولياء الله ، فلم يكن ذلك لهم ضائرا إذْ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به ، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناهٍ ، فكذلك الملكان غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما بعد نهيهما إياه عنه وعِظَتهما له بقولهما : إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ إذ كانا قد أدّيا ما أُمر به بقيلهما ذلك . كما :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : { وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هَارُوتَ وَمارُوتَ } إلى قوله : { فَلاَ تَكْفُرْ } أُخِذَ عليهما ذلك .
ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين ، ومن قال إن هاروت وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله : ببابل :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، قال : حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب ، عن ابن عباس قال : إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم ، فلما أبصروهم يعملون الخطايا ، قالوا : يا ربّ هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك ، وأسجدت له ملائكتك ، وعلمته أسماء كل شيء ، يعملون بالخطايا . قال : أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم . قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا ، قال : فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض . قال : فاختاروا هاروت وماروت ، فاهبطا إلى الأرض ، وأحلّ لهما ما فيها من شيء غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا ، ولا يزنيا ، ولا يشربا الخمر ، ولا يقتلا النفس التي حرّم الله إلا بالحقّ . قال : فما استمرّا حتى عرض لهما امرأة قد قُسم لها نصف الحُسْنِ يقال لها «بيذخت » ، فلما أبصراها أرادا بها زنا ، فقالت : لا إلا أن تشركا بالله وتشربا الخمر وتقتلا النفس وتسجدا لهذا الصنم . فقالا : ما كنا لنشرك بالله شيئا . فقال أحدهما للاَخر : ارجع إليها . فقالت : لا إلا أن تشربا الخمر فشربا حتى ثملا ، ودخل عليهما سائل فقتلاه . فلما وقعا فيه من الشرّ ، أفرج الله السماء لملائكته ، فقالوا : سبحانك كنت أعلم قال : فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيّرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الاَخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فكُبّلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البُخْت وجُعلا ببابل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حجاج ، عن عليّ بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا : لما كثر بنو آدم وعصوا ، دعت الملائكة عليهم والأرض والسماء والجبال : ربنا ألا تهلكهم ؟ فأوحى الله إلى الملائكة : إني لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتم لفعلتم أيضا . قال : فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا . فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم . فاختاروا هاروت وماروت ، فاهبطا إلى الأرض وأُنزلت الزّهَرَة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس ، وكان أهل فارس يسمونها «بيذخت » . قال : فوقعا بالخطيئة ، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا . رَبنَا وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْما فَاغْفِرْ لِلّذينَ تَابُوا . فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض : أَلاَ إنّ اللّهَ هُوَ الغَفُورُ الرّحيمُ فخُيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الاَخرة فاختارا عذاب الدنيا .
حدثني المثنى ، قال : حدثني الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن خالد الحذاء ، عن عمرو بن سعيد ، قال سمعت عليّا يقول : كانت الزّهَرَة امرأة جميلة من أهل فارس ، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها ، فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به يعرج به إلى السماء . فعلماها فتكلمت فعرجت إلى السماء فمُسِخت كوكبا .
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق جميعا ، عن الثوري ، عن محمد بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن كعب ، قال : ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب ، فقيل لهم : اختاروا منكم اثنين وقال الحسن بن يحيى في حديثه : اختاروا ملكين فاختاروا هاروت وماروت ، فقيل لهما : إني أرسل إلى بني آدم رُسُلاً ، وليس بيني وبينكم رسول ، انزلا لا تشركا بي شيئا ، ولا تزنيا ، ولا تشربا الخمر قال كعب : فوالله ما أَمْسَيا من يومهما الذي أُهبطا فيه إلى الأرض ، حتى استكملا جميع ما نهيا عنه . وقال الحسن بن يحيى في حديثه : فما استكملا يومهما الذي أُنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن موسى بن عقبة ، قال : حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدّث عن كعب الأحبار ، أنه حدث أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي ، فقال الله لهم : إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب فاختاروا منكم ملكين فاختاروا هاروت وماروت ، فقال الله لهما : إني أرسل رسلي إلى الناس ، وليس بيني وبينكما رسول ، انزلا إلى الأرض ، ولا تشركا بي شيئا ، ولا تزنيا فقال كعب : والذي نفس كعب بيده ما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرّم الله عليهما .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم ، فقيل لهما : إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات فبها يعصونني . قال هاروت وماروت : ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحَكَمْنا بالعدل . فقال لهما : انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فاحكما بين الناس فنزلا ببابل دُنْباوند ، فكانا يحكمان ، حتى إذا أمسيا عرجا ، فإذا أصبحا هبطا . فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها ، فأعجبهما حسنها واسمها بالعربية «الزّهَرَة » ، وبالنبطية «بيذخت » ، واسمها بالفارسية «أناهيذ » ، فقال أحدهما لصاحبه : إنها لتعجبني . فقال الاَخر : قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك . فقال الاَخر : هل لك أن أذكرها لنفسها ؟ قال : نعم ، ولكن كيف لنا بعذاب الله ؟ قال الاَخر : إنا نرجو رحمة الله . فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ، فقالت : لا حتى تقضيا لي على زوجي ، فقضيا لها على زوجها . ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها ، فأتياها لذلك ، فلما أراد الذي يواقعها ، قالت : ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأيّ كلام تصعدان إلى السماء ؟ وبأيّ كلام تنزلان منها ؟ فأخبراها فتكلمت فصعدت . فأنساها الله ما تنزل به فبقيت مكانها ، وجعلها الله كوكبا فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال : هذه التي فتنت هاروت وماروت فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا فعرفا الهلك ، فخُيرا بين عذاب الدنيا والاَخرة ، فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الاَخرة ، فعلّقا ببابل فجعلا يكلمان الناس كلامَهما وهو السحر .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : أي ربّ هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك ، وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الحرام وأكلِ المال الحرام والسرقة والزنا وشرب الخمر فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم . فقيل لهم : إنهم في غيب فلم يعذروهم ، فقيل لهم : اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري ، وأنهاهما عن معصيتي فاختاروا هاروت وماروت ، فأهبطا إلى الأرض ، وجعل بهما شهوات بني آدم ، وأُمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا ، ونُهيا عن قتل النفس الحرام ، وأكْل المال الحرام ، والسرقة والزنا وشرب الخمر . فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحقّ ، وذلك في زمان إدريس ، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب . وإنها أتت عليهما فخضعا لها بالقول ، وأراداها على نفسها ، وإنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها ، وإنهما سألاها عن دينها التي هي عليه ، فأخرجت لهما صنما وقالت : هذا أعبد . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا . فذهبا فصبرا ما شاء الله ، ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها . فقالت : لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا . فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم ، قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما أن تعبدا الصنم ، أو تقتلا النفس ، أو تشربا الخمر . فقالا : كل هذا لا ينبغي ، وأهْوَنُ الثلاثة شرب الخمر . فسقتهما الخمر ، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها ، فمرّ بهما إنسان وهما في ذلك ، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه . فلما أن ذهب عنهما السكر عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة وأرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا ، فَحِيلَ بينهما وبين ذلك ، وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء . فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب ، فعجبوا كل العجب ، وعلموا أن من كان في غيب فهو أقلّ خشية ، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض . وإنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة ، قيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الاَخرة فقالا : أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع وأما عذاب الاَخرة فلا انقطاع له . فاختارا عذاب الدنيا ، فجُعلا ببابل ، فهما يعذّبان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا فرج بن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن نافع ، قال : سافرت مع ابن عمر ، فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع انظر طلعت الحمراء قالها مرّتين أو ثلاثا . ثم قلت : قد طلعت . قال : لا مرحبا ولا أهلاً قلت : سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع ؟ قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ المَلاَئِكَةَ قَالَتْ : يَا رَبّ كَيْفَ صَبْرُكَ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الخَطايا والذّنُوبِ ؟ قال : إني ابْتَلَيْتُهُمْ وَعافَيْتُكُمْ . قالُوا : لَوْ كُنّا مَكَانَهُمْ مَا عَصَيْنَاكَ . قالَ : فاخْتارُوا مَلَكَيْنِ مِنْكُمْ قالَ : فَلَمْ يألُوا أنْ يَخْتارُوا ، فاخْتارُوا هارُوتَ وَمارُوتَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأما شأن هاروت وماروت ، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات ، فقال لهم ربهم : اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم فاختاروا هاروت وماروت ، فقال لهما حين أنزلهما : عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم ، وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراءَ وراءَ ، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول ، فافعلا كذا وكذا ، ودعا كذا وكذا فأمرهما بأمر ونهاهما . ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما ، فحكما فعدلا ، فكانا يحكمان النهار بين بني آدم ، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة ، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان . حتى أُنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم ، فقضيا عليها . فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه ، فقال أحدهما لصاحبه : وجدت مثل ما وجدتُ ؟ قال : نعم ، فبعثا إليها أن ائتينا نَقْضِ لك . فلما رجعت قالا لها وقضيا لها : ائتينا فأتتهما ، فكشفا لها عن عورتهما . وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذّتها . فلما بلغا ذلك واستحلاّه وافتتنا ، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت . فلما أمسيا عرجا فرُدّا ولم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما فاستغاثا برجل من بني آدم ، فأتياه فقالا : ادع لنا ربك فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء ؟ قالا : سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء . فوعدهما يوما وغدا يدعو لهما . فدعا لهما فاستجيب له ، فخُيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الاَخرة . فنظر أحدهما إلى صاحبه فقالا : نعلم أن أنواع عذاب الله في الاَخرة كذا وكذا في الخلد ومع الدنيا سبع مرات مثلها . فأمرا أن ينزلا ببابل ، فثَمّ عذابهما . وزُعم أنهما معلقان في الحديد مطويان يصفّقان بأجنحتهما .
قال أبو جعفر : وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ : «وَما أُنْزِلَ على المَلِكَيْنِ » يعني به رجلين من بني آدم . وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال فأما من جهة النقل فإجماع الحجة على خطأ القراءة بها من الصحابة والتابعين وقرّاء الأمصار ، وكفى بذلك شاهدا على خطئها . وأما قوله بِبابِلَ فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض . وقد اختلف أهل التأويل فيها ، فقال بعضهم : إنها بابل دنباوند .
حدثني بذلك موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي .
وقال بعضهم : بل ذلك بابل العراق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة ، فذكرت أنها صارت في العراق ببابل ، فأتت بها هاروت وماروت فتعلمت منهما السحر .
واختلف في معنى السحر ، فقال بعضهم : هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر ، حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به نظير الذي يرى السراب من بعيد ، فيخيل إليه أنه ماء ، ويرى الشيء من بعيد فيثبته بخلاف ما هو على حقيقته . وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه . قالوا : فكذلك المسحور ذلك صفته ، يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته . كالذي :
حدثني أحمد بن الوليد ، وسفيان بن وكيع قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما سُحِرَ كان يُخَيّلُ إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : اثنا ابن نمير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زُرَيْق يقال له لبيد بن الأعصم ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان : أن يهود بني زريق عقدوا عُقَدَ سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلوها في بئر حزم حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكر بصره ودله الله على ما صنعوا . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر حزم التي فيها العقد فانتزعها ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «سَحَرَتْنِي يَهُودُ بَنِي زُرَيْقٍ » .
وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء عن حقيقته ، واستسخار شيء من خلق الله إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم ، أو إنشاء شيء من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناظرين بخلاف حقائقها التي وصفنا . وقالوا : لو كان في وُسْع السحرة إنشاء الأجسام وقلب حقائق الأعيان عما هي به من الهيئات ، لم يكن بين الحقّ والباطل فَصْل ، ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها .
قالوا : وفي وصف الله جل وعزّ سحرة فرعون بقوله : { فإذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيّهُمْ يُخَيّلُ إلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنّهَا تَسْعَى } . وفي خبر عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله ، أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين : أن الساحر ينشىء أعيان الأشياء بسحره ، ويستسخر ما يتعذّر استسخاره على غيره من بني آدم . كالموات والجماد والحيوان ، وصحة ما قلنا .
وقال آخرون : قد يقدر الساحر بسحره أن يحوّل الإنسان حمارا ، وأن يسحر الإنسان والحمار وينشىء أعيانا وأجساما . واعتلّوا في ذلك بما :
حدثنا به الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن أبي الزناد ، قال : حدثني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت : قدمت عليّ امرأةٌ من أهل دومة الجندل ، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حَدَاثة ذلك ، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به . قالت عائشة لعروة : يا ابن أختي ، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها ، كانت تبكي حتى إني لأرحمها ، وتقول : إني لأخاف أن أكون قد هلكت ، كان لي زوج فغاب عني ، فدخلت عليّ عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت : إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك ، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ، فركبت أحدهما وركبت الاَخر ، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ، فإذا برجلين معلقين بأرجلهما ، فقالا : ما جاء بك ؟ فقلت : أتعلم السحر ؟ فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي ، فأبيت وقلت : لا ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التّنور فبُولي فيه فذهبت ففزعت فلم أفعل ، فرجعت إليهما ، فقالا : أفعلت ؟ قلت : نعم ، فقالا : فهل رأيت شيئا ؟ قلت : لم أر شيئا ، فقالا لي : لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأبيت ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ، فاقشعررت وخفت . ثم رجعت إليهما فقلت : قد فعلت ، فقالا : فما رأيت ؟ فقلت : لم أر شيئا ، فقالا : كذبت لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري ، فإنك على رأس أمرك فأبيت ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت إليه فبلت فيه ، فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء وغاب عني حتى ما أراه ، فجئتهما فقلت : قد فعلت ، فقالا : ما رأيت ؟ فقلت : فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه ، فقالا : صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك اذهبي فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئا وما قالا لي شيئا ، فقالت : بلى ، لن تريدي شيئا إلا كان ، خذي هذا القمح فابذري فبذرت ، فقلت : أطلعي فأطلعت ، وقلت : أحقلي فأحقلت ، ثم قلت : أفركي فأفركت ، ثم قلت : أيبسي فأيبست ، ثم قلت : أطحني فأطحنت ، ثم قلت : أخبزي فأخبزت . فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان سقط في يدي وندمت والله يا أمّ المؤمنين ، والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا .
قال أهل هذه المقالة بما وصفنا واعتلوا بما ذكرنا ، وقالوا : لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادّعى أنه يقدر على فعله ما قدر أن يفرّق بين المرء وزوجه ، قالوا : وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرّقون به بين المرء وزوجه ، وذلك لو كان على غير الحقيقة وكان على وجه التخييل والحسبان ، لم يكن تفريقا على صحة ، وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرّقون على صحة . وقال آخرون : بل السحر أخذ بالعين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وما يُعَلّمانِ مِنْ أحَدٍ حتى يَقُولا إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } .
وتأويل ذلك : وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه حتى يقولا له : إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم فلا تكفر بربك . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : إذا أتاهما يعني هاروت وماروت إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له : لا تكفر إنما نحن فتنة . فإن أبى قالا له : ائت هذا الرماد فبُلْ عليه . فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتى يدخل السماء ، وذلك الإيمان وقيل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء منه ، فذلك غضب الله ، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر . فذلك قول الله : { وَما يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولا إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } الآية .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة والحسن : { حتى يَقُولا إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } قال : أخذ عليهما أن لا يعلّما أحدا حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال قتادة : كانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، قال : قال غير قتادة : أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يتقدما إليه فيقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : أخذ عليهما أن يقولا ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، لا يجترىء على السحر إلا كافر . وأما الفتنة في هذا الموضع ، فإن معناها الاختبار والابتلاء ، من ذلك قول الشاعر .
وَقَدْ فُتِنَ النّاسُ في دِينِهِمْ *** وخَلّى ابنُ عَفّانَ شَرّا طَوِيلاَ
ومنه قوله : فتنت الذهبَ في النار : إذا امتحنتها لتعرف جودتها من رداءتها ، أفتنه فتنة وفُتونا . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ أي بلاء .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ } .
قال أبو جعفر : وقوله جل ثناؤه : { فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا } خبر مبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنزل عليهما ، وليس بجواب لقوله : { وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } بل هو خبر مستأنف ولذلك رُفع ، فقيل : فيتعلمون .
فمعنى الكلام إذا : وما يعلمان من أحد حتى يقولا : إنما نحن فتنة . فيأبون قبول ذلك منهما فيتعلمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه .
وقد قيل : إن قوله : { فَيَتَعَلّمُونَ }خبر عن اليهود معطوف على قوله : { وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ } وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم .
والذي قلنا أشبه بتأويل الآية لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام ما كان للتأويل وجه صحيح أَوْلى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام . والهاء والميم والألف من قوله : مِنْهُمَا من ذكر الملكين . ومعنى ذلك : فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرّقون به بين المرء وزوجه . و«ما » التي مع «يفرّقون » بمعنى «الذي » . وقيل معنى ذلك : السحر الذي يفرّقون به ، وقيل : هو معنى غير السحر . وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى قبل . وأما المرء فإنه بمعنى رجل من أسماء بني آدم ، والأنثى منه المرأة يوحد ويثنى ، ولا يجمع ثلاثيه على صورته ، يقال منه : هذا امرؤ صالح ، وهذان امرآن صالحان ، ولا يقال : هؤلاء امرءو صدق ، ولكن يقال : هؤلاء رجال صدق ، وقوم صدق . وكذلك المرأة توحد وتثنى ولا تجمع على صورتها ، يقال : هذه امرأة وهاتان امرأتان ، ولا يقال : هؤلاء امرآت ، ولكن هؤلاء نسوة .
وأما الزوج ، فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل : هي زوجه ، بمنزلة الزوج الذكر ومن ذلك قول الله تعالى ذكره : أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون : هي زوجته ، كما قال الشاعر :
وَإنّ الّذِي يَمْشِي يُحَرّشُ زَوْجَتِي *** كماشٍ إلى أُسْدِ الشّرَى يَسْتَبِيلُها
فإن قال قائل : وكيف يفرّق الساحر بين المرء وزوجه ؟ قيل : قد دللنا فيما مضى على أن معنى السحر تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه . فإن كان ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه ، فتفريقه بين المرء وزوجه تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخصَ الاَخر على خلاف ما هو به في حقيقته من حُسْن وجمال حتى يقبحه عنده فينصرف بوجهه ويعرض عنه حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا ، فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة ما بينهما .
وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا على أن العرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسببه وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السبب ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع فكذلك تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قاله عدد من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ }وتفريقهما أن يُؤَخّذ كل واحد منهما عن صاحبه ، ويبغّض كلّ واحد منهما إلى صاحبه .
وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين المرء وزوجه ، فإنهم وجهوا تأويل قوله : { فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا } إلى «فيتعلمون » مكان ما علماهم ما يفرّقون به بين المرء وزوجه ، كقول القائل : ليت لنا كذا من كذا ، أي مكان كذا . كما قال الشاعر :
جَمَعْتَ مِنَ الخَيْرَاتِ وَطْبا وعُلْبَةً *** وَصرّا لأخلافِ المُزّمَمة البُزْلِ
وَمِنْ كُلّ أخْلاقِ الكِرَامِ نَمِيمَةً *** وَسَعْيا على الجارِ المُجاوِرِ بالنّجْلِ
يريد بقوله : «جمعت من الخيرات » ، مكان خيرات الدنيا هذه الأخلاق الرديئة والأفعال الدنيئة . ومنه قول الاَخر :
صَلَدَتْ صَفَاتُكَ أنْ تَلِينَ حُيُودُها *** وَوَرِثْتَ مِنْ سَلَفِ الكِرَامِ عُقُوقَا
يعني ورثت مكان سلف الكرام عقوقا من والديك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاّ باذْنِ اللّه }ِ .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وما هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاّ بإذْنِ اللّهِ } وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرّقون به بين المرء وزوجه ، بضارّين بالذي تعلموه منهما من المعنى الذي يفرّقون به بين المرء وزوجه من أحد من الناس ، إلاّ من قد قضى الله عليه أن ذلك يضرّه فأما من دفع الله عنه ضرّه وحفظه من مكروه السحر والنفث والرّقَى ، فإن ذلك غير ضارّه ولا نائله أذاه .
وللإذن في كلام العرب أوجه : منها الأمر على غير وجه الإلزام ، وغير جائز أن يكون منه قوله : { وَما هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلا بإذْنِ اللّهِ } لأن الله جل ثناؤه قد حرّم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر فكيف به على وجه السحر على لسان الأمة . ومنها التخلية بين المأذون له والمخلّى بينه وبينه . ومنها العلم بالشيء ، يقال منه : قد أذنت بهذا الأمر ، إذا علمت به ، آذنَ به إذْنا ومنه قول الحطيئة :
ألا يا هِنْدُ إنْ جَدّدْتِ وَصْلاً *** وَإلاّ فأْذَنِينِي بانْصِرَامِ
يعني فأعلميني . ومنه قوله جل ثناؤه : { فأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ } وهذا هو معنى الآية ، كأنه قال جل ثناؤه : وَما هُمْ بِضَارّينَ بالذي تعلموا من الملكين من أحد إلا بعلم الله . يعني بالذي سبق له في علم الله أنه يضرّه . كما :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان في قوله : { ومَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاّ بإذْنِ اللّهِ } قال : بقضاء الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَتَعَلّمُونَ ما يَضُرّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : { وَيَتَعَلّمُونَ } أي الناس الذين يتعلمون من الملكين ، { ما أنزل عليهما } من المعنى الذي يفرّقون به بين المرء وزوجه ، يتعلمون منهما السحر الذي يضرّهم في دينهم ولا ينفعهم في معادهم . فأما في العاجل في الدنيا ، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لِمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ في الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لِمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } الفريق الذين لما جاءهم رسول من عند الله مصدّق لما معهم ، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، { واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } فقال جل ثناؤه : لقد علم النابذون من يهود بني إسرائيل كتابي وراء ظهورهم تجاهلاً منهم ، التاركون العمل بما فيه ، من اتّباعك يا محمد واتّباع ما جئت به ، بعد إنزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم ، وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم ، المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان ، والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنزلته على رسولي فآثره عليه ماله في الاَخرة من خلاق . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }يقول : قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد الله إليهم أن الساحر لا خَلاقَ له عند الله يوم القيامة .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَن اشْتَرَاهُ مَالَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } يعني اليهود ، يقول : لقد علمت اليهود أن من تعلمه أو اختاره ما له في الاَخرة من خلاق .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } لمن اشترى ما يفرّق به بين المرء وزوجه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } قال : قد علمت يهود أن في كتاب الله في التوراة أن من اشترى السحر وترك دين الله ما له في الاَخرة من خَلاق ، فالنار مثواه ومأواه .
وأما قوله : لَمَنِ اشْتَرَاهُ فإن «من » في موضع رفع ، وليس قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُوا } بعامل فيها لأن قوله : عَلِمُوا بمعنى اليمين فلذلك كانت في موضع رفع ، لأن الكلام بمعنى : والله لمن اشترى السحر ما له في الاَخرة من خلاق . ولكون قوله : قَدْ عَلِمُوا بمعنى اليمين حققت بلام اليمين ، فقيل : لَمَنِ اشُتَرَاهُ كما يقال : أُقسم لَمَنْ قام خير ممن قعد ، وكما يقال : قد علمت لعمرو خير من أبيك . وأما «من » فهو حرف جزاء . وإنما قيل «اشتراه » ولم يقل «يشتروه » ، لدخول لام القسم على «من » ، ومن شأن العرب إذا أحدثت على حرف الجزاء لام القسم أن لا ينطقوا في الفعل معه إلا ب«فعل » دون «يفعل » إلا قليلاً كراهية أن يحدثوا على الجزاء حادثا وهو مجزوم ، كما قال الله جل ثناؤه : { لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يُخْرُجُونَ مَعَهُمْ } وقد يجوز إظهار فعله بعده على «يفعل » مجزوما ، كما قال الشاعر :
لَئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتِكُمْ *** لَيَعْلَمُ ربي أنّ بَيْتِيَ وَاسِعُ
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { ما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } فقال بعضهم : الخلاق في هذا الموضع : النصيب . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { ما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } يقول : من نصيب .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { مَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } من نصيب .
حدثني المثنى ، قال : حدثني إسحاق ، قال : حدثنا وكيع ، قال سفيان : سمعنا في : { وَمَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } أنه ما له في الاَخرة من نصيب .
وقال بعضهم : الخَلاق ههنا : الحجة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { وَمَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } قال : ليس له في الاَخرة حجة .
وقال آخرون : الخلاق : الدين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن : { ما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } قال : ليس له دين .
وقال آخرون : الخلاق ههنا : القِوَام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال ابن عباس : { مَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } قال : قِوَام .
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى الخلاق في هذا الموضع : النصيب وذلك أن ذلك معناه في كلام العرب . ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَيُؤَيّدَنّ اللّهُ هَذَا الدّينَ بأقْوَامٍ لا خَلاَقَ لَهُمْ » يعني لا نصيب لهم ولا حظّ في الإسلام والدين . ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
يَدْعُونَ بِالوَيْلِ فِيها لا خَلاَقَ لَهُمْ *** إِلاّ سَرَابِيلَ مِنْ قِطْرٍ وأغْلالِ
يعني بذلك : لا نصيب لهم ولا حظّ إلا السرابيل والأغلال .
فكذلك قوله : مَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ما له في الدار الاَخرة حظّ من الجنة من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يجازي به في الجنة ويثاب عليه ، فيكون له حظّ ونصيب من الجنة . وإنما قال جل ثناؤه : { ما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } فوصفه بأنه لا نصيب له في الاَخرة ، وهو يعني به لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار . إذ كان قد دلّ ذمه جل ثناؤه أفعالهم التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الاَخرة نصيب على مراده من الخير ، وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات ، وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } .
قال أبو جعفر رحمه الله : قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى شروا : باعوا فمعنى الكلام إذا : ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ } يقول : بئس ما باعوا به أنفسهم .
فإن قال لنا قائل : وكيف قال جل ثناؤه : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } وقد قال قَبْلُ : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم ، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بالسحر أنفسهم ؟ قيل : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به ، ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم ، وإنما معنى الكلام : وما هم ضارّون به من أحد إلا بإذن الله ، ويتعلمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاَخرة من خلاق . فقوله : { لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِه أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } ذمّ من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه ، وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم برضاهم بالسحر عِوَضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة ، جهلاً منهم بسوء عاقبة فعلهم وخسارة صفقة بيعهم ، إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله ولا يعرف حلاله وحرامه وأمره ونهيه . ثم عاد إلى الفريق الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون : وَاتّبَعُوا مَا تَتْلُو الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمانَ ، وما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ . فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر ما له في الاَخرة من خلاق ، ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها ، ويكفرون بالله ورسله ، ويؤثرون اتباع الشياطين ، والعمل بما أحدثته من السحر على العمل بكتابه ووحيه وتنزيله ، عنادا منهم وبغيا على رسله ، وتعديّا منهم لحدوده ، على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب ، فذلك تأويل قوله .
وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } يعني به الشياطين ، وأن قوله : لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ يعني به الناس . وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف وذلك أنهم مجمعون على أن قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لمَنِ اشْتَرَاهُ } معنيّ به اليهود دون الشياطين . ثم هو مع ذلك خلاف ما دلّ عليه التنزيل ، لأن الاَيات قبل قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لمَنِ اشْتَرَاهُ } وبعد قوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } جاءت من الله بذمّ اليهود ، وتوبيخهم على ضلالهم ، وذمّا لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم ، مع علمهم بخطأ فعلهم . فقوله : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } أحد تلك الأخبار عنهم .
وقال بعضهم : إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله : { وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } فنفى عنهم العلم ، هم الذين وصفهم الله بقوله : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لمنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله : وَلَقَدْ عَلِمُوا من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا ، وإنما العالم العامل بعلمه ، وأما إذا خالف عمله علمه فهو في معاني الجهال . قال : وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل وإن كان بفعله عالما : لو علمت لأقصرت كما قال كعب بن زهير المزني ، وهو يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده :
إذَا حَضَرَانِي قُلْتُ لَوْ تَعْلَمَانِهِ *** ألم تَعْلَمَا أني مِنَ الزّادِ مُرْمِلُ
فأخبر أنه قال لهما : لو تعلمانه ، فنفى عنهما العلم . ثم استخبرهما فقال : ألم تعلما . قالوا : فكذلك قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لمنِ اشْتَرَاه }ُ و { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووجهٌ فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب . أعني بقوله : وَلَقَدْ عَلِمُوا وقوله : لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وإنما هو استخراج . وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب دون الخفيّ الباطن منه ، حتى تأتي دلالة من الوجه الذي يجب التسليم له بمعنى خلاف دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن ، أَوْلَى .
{ واتبعوا ما تتلوا الشياطين } عطف على نبذ ، أي نبذوا كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرؤها ، أو تتبعها الشياطين من الجن ، أو الإنس ، أو منهما . { على ملك سليمان } أي عهده ، وتتلو حكاية حال ماضية ، قيل : كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب ، ويلقونها إلى الكهنة وهم يدونونها ويعلمون الناس ، وفشا ذلك في عهد سليمان عليه السلام حتى قيل : إن الجن يعلمون الغيب ، وأن ملك سليمان تم بهذا العلم ، وأنه تسخر به الجن والإنس والريح له . { وما كفر سليمان } تكذيب لمن زعم ذلك ، وعبر عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر ، وأن من كان نبيا كان معصوما منه . { ولكن الشياطين كفروا } باستعماله ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي و{ لكن } بالتخفيف ، ورفع { الشياطين } .
{ يعلمون الناس السحر } إغواء وإضلالا ، والجملة حال من الضمير ، والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان ، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس . فإن التناسب شرط في التضام والتعاون ، وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي ، وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم ، وتسميته سحرا عمل التجوز ، أو لما فيه من الدقة لأنه في الأصل لما خفي سببه . { وما أنزل على الملكين } عطف على السحر والمراد بهما واحد ، والعطف لتغاير الاعتبار ، أو المراد به نوع أقوى منه ، أو على ما تتلو . وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس ، وتمييزا بينه وبين المعجزة . وما روي أنهما مثلا بشرين ، وركب فيهما الشهوة فتعرضا لامرأة يقال لها : زهرة فحملتهما على المعاصي والشرك ، ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما فمحكي عن اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله لا يخفى على ذوي البصائر ، وقيل : رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما ، ويؤيده قراءة الملكين بالكسر . وقيل : ما أنزل نفي معطوف على ما كفر سليمان تكذيب لليهود في هذه القصة . { ببابل } ظرف ، أو حال من الملكين ، أو الضمير في أنزل والمشهور أنه بلد من سواد الكوفة . { هاروت وماروت } عطف بيان للملكين ، ومنع صرفهما للعلمية والعجمة ، ولو كانا من الهرت والمرت بمعنى الكسر لانصرفا . ومن جعل ما نافية أبدلهما من الشياطين بدل البعض ، وما بينهما اعتراض . وقرئ بالرفع على هما { هاروت وماروت } .
{ وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } فمعناه على الأول ما يعلمان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله ، فمن تعلم منا وعمل به كفر ، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان ، فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به . وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور ، وإنما المنع من اتباعه والعمل به . وعلى الثاني ما يعلمانه حتى يقولا إنما نحن مفتونان فلا تكن مثلنا . { فيتعلمون منهما } الضمير لما دل عليه من أحد . { ما يفرقون به بين المرء وزوجه } أي من السحر ما يكون سبب تفريقهما . { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } لأنه وغيره من الأسباب غير مؤثرة بالذات ، بل بأمره تعالى وجعله . قرئ { بضاري } على الإضافة إلى أحد ، وجعل الجار جزء منه والفصل بالظرف . { ويتعلمون ما يضرهم } لأنهم يقصدون به العمل ، أو لأن العلم يجر إلى العمل غالبا { ولا ينفعهم } إذ مجرد العلم به غير مقصود ولا نافع في الدارين . وفيه أن التحرز عنه أولى { ولقد علموا } أي اليهود . { لمن اشتراه } أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى ، والأظهر أن اللام لام الابتداء علقت علموا عن العمل { ما له في الآخرة من خلاق } نصيب { ولبئس ما شروا به أنفسهم } يحتمل المعنيين على ما مر . { لو كانوا يعلمون } يتفكرون فيه ، أو يعلمون قبحه على التعيين ، أو حقية ما يتبعه من العذاب ، والمثبت لهم أولا على التوكيد القسمي العقل الغريزي أو العلم الإجمالي يقبح الفعل ، أو ترتب العقاب من غير تحقيق وقيل ؛ معناه لو كانوا يعملون بعلمهم ، فإن من لم يعمل بما علم فهو كمن لم يعلم .
{ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر } .
قوله : { واتبعوا } عطف على جملة الشرط وجوابه في قوله : { ولما جاءهم رسول من عند الله } [ البقرة : 101 ] الآية بذكر خصلة لهم عجيبة وهي أخذهم بالأباطيل بعد ذكر خصلة أخرى وهي نبذهم للكتاب الحق ، فذلك هو مناسبة عطف هذا الخبر على الذي قبله . فإن كان المراد بكتاب الله في قوله : { كتاب الله وراء ظهورهم } [ البقرة : 101 ] القرآن فالمعنى أنهم لما جاءهم رسول الله مصدقاً لما معهم نبذوا كتابه بعلة أنهم متمسكون بالتوراة فلا يتبعون ما خالف أحكامها وقد اتبعواما تتلو الشياطين على ملك سليمان وهو مخالف للتوراة لأنها تنهى عن السحر والشرك فكما قيل لهم فيما مضى { أفتؤمنون ببعض الكتاب } [ البقرة : 85 ] يقال لهم أفتؤمنون بالكتاب تارة وتكفرون به تارة أخرى . وإن كان المراد بكتاب الله التوراة فالمعنى لما جاءهم رسول الله نبذوا ما في التوراة من دلائل صدق هذا الرسول وهم مع ذلك قد نبذوها من قبل حين { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } مع أن ذلك مخالف لأحكام التوراة .
قال القرطبي : قال ابن إسحاق لما ذكر النبيء صلى الله عليه وسلم سليمان في الأنبياء قالت اليهود : إن محمداً يزعم أن سليمان نبيء وما هو بنبيء ولكنه ساحر فنزلت هذه الآية .
و { الشياطين } يحتمل أن يكونوا شياطين من الجن وهو الإطلاق المشهور ، ويحتمل أن يراد به ناس تمردوا وكفروا وأتوا بالفظائع الخفية فأطلق عليهم الشياطين على وجه التشبيه كما في قوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] وقرينة ذلك قوله : { يعلمون الناس السحر } فإنه ظاهر في أنهم يدرسونه للناس وكذلك قوله بعده : { ولكن الشياطين كفروا } إذ هذا الاستدراك في الإخبار يدل على أنهم من الإنس لأن كفر الشياطين من الجن أمر مقرر لا يحتاج للإخبار عنه .
وعن ابن إسحاق أيضاً أنه لما مات سليمان عليه السلام عمدت الشياطين فكتبوا أصنافاً من السحر وقالوا : من أحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا لأصناف من السحر وختموه بخاتم يشبه نقش خاتم سليمان ونسبوه إليه ودفنوه وزعموا أن سليمان دفنه وأنهم يعلمون مدفنه ودلوا الناس على ذلك الموضع فأخرجوه فقالت اليهود : ما كان سليمان إلا ساحراً وما تم له الملك إلا بهذا .
وقيل كان آصف ابن برخيا كاتب سليمان يكتب الحكمة بأمر سليمان ويدفن كتبه تحت كرسي سليمان لتجدها الأجيال فلما مات سليمان أغرت الشياطين الناس على إخراج تلك الكتب وزادوا في خلال سطورها سحراً وكفراً ونسبوا الجميع لسليمان فقالت اليهود : كفر سليمان .
والمراد من الآية مع سبب نزولها إن نزلت عن سبب أن سليمان عليه السلام لما مات انقسمت مملكة إسرائيل بعده بقليل إلى مملكتين إحداهما مملكة يهوذا وملكها رحبعام ابن سليمان جعلوه ملكاً بعد أبيه وكانت بنو إسرائيل قد سئمت ملك سليمان لحمله إياهم على ما يخالف هواهم فجاءت أعيانهم وفي مقدمتهم يربعام بن نباط مولى سليمان ليكلموا رحبعام قائلين : إن أباك قاس علينا وأما أنت فخفف عنا من عبودية أبيك لنطيعك فأجابهم اذهبوا ثم ارجعوا إلي بعد ثلاثة أيام واستشار رحبعام أصحاب أبيه ووزراءه فأشاروا عليه بملاينة الأمة لتطيعه .
واستشار أصحابه من الفتيان فأشاروا عليه أن يقول للأمة إن خنصري أغلظ من متن أبي فإذا كان أبي قد أدبكم بالسياط فأنا أؤدبكم بالعقارب فلما رجع إليه شيوخ بني إسرائيل في اليوم الثالث وأجابهم بما أشار به الأحداث خلعت بنو إسرائيل طاعته وملكوا عليهم يربعام ولم يبق على طاعة رحبعام إلا سبطا يهوذا وبنيامن واعتصم رحبعام بأورشليم وكل أمته لا تزيد على مائة وثمانين ألف محارب يعني رجالاً قادرين على حمل السلاح وانقسمت المملكة من يومئذ إلى مملكتين مملكة يهوذا وقاعدتها أورشليم ، ومملكة إسرائيل ومقرها السامرة ، وذلك سنة 975 قبل المسيح كما قدمناه عند الكلام على قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابين } [ البقرة : 62 ] الآية ولا يخفى ما تكون عليه حالة أمة في هذا الانتقال فإن خصوم رحبعام لما سلبوا منه القوة المادية لم يغفلوا عما يعتضد به من القوة الأدبية وهي كونه ابن سليمان بن داود من بيت الملك والنبوءة والسمعة الحسنة فلم يأل أعداؤه جهدهم من إسقاط هاته القوة الأدبية وذلك بأن اجتمع مدبرو الأمر على أن يضعوا أكاذيب عن سليمان يبثونها في العامة ليقضوا بها وطرين أحدهما نسبة سليمان إلى السحر والكفر لتنقيص سمعة ابنه رحبعام كما صنع دعاة الدولة العباسية فيما وضعوه من الأخبار عن بني أمية والثاني تشجيع العامة الذين كانوا يستعظمون ملك سليمان وابنه على الخروج عن طاعة ابنه بأن سليمان ما تم له الملك إلا بتلك الأسحار والطلاسم وأنهم لما ظفروا بها فإنهم يستطيعون أن يؤسسوا ملكاً يماثل ملك سليمان كما صنع دعاة انقلاب الدول في تاريخ الإسلام من وضع أحاديث انتظار المهدي وكما يفعلونه من بث أخبار عن الصالحين تؤذن بقرب زوال الدولة . ولا يخفى ما تثيره هذه الأوهام في نفوس العامة من الجزم بنجاح السعي وجعلهم في مأمن من خيبة أعمالهم ولحاق التنكيل بهم فإذا قضى الوطر بذلك الخبر التصق أثره في الناس فيبقى ضر ضلاله بعد اجتناء ثماره .
والاتباع في الأصل هوالمشي وراء الغير ويكون مجازاً في العمل بقول الغير وبرأيه وفي الاعتقاد باعتقاد الغير تقول اتبع مذهب مالك واتبع عقيدة الأشعري ، والاتباع هنا مجاز لا محالة لوقوع مفعوله مما لا يصح اتباعه حقيقة .
والتلاوة قراءة المكتوب والكتاب وعرض المحفوظ عن ظهر قلب وفعلها يتعدى بنفسه { يتلون عليكم آيات } [ الزمر : 71 ] فتعديته بحرف الاستعلاء يدل على تضمنه معنى تكذب أي تتلو تلاوة كذب على ملك سليمان كما يقال تقوّل على فلان أي قال عليه ما لم يقله ، وإنما فهم ذلك من حرف ( على ) .
والمراد بالملك هنا مدة الملك أو سبب الملك بقرينة أن التلاوة لا تتعلق بنفس الملك وحذف المضاف مع ما يدل على تعيين الوقت شائع في كلام العرب كقولهم وقع هذا في حياة رسول الله أو في خلافة عمر بن الخطاب وقول حميد بن ثور :
وما هي إلا في إزار وعِلقة *** مُغارَ ابن همام على حي خثعما{[153]}
يريد أزمان مغار ابن همام . وكذلك حذف المضاف إذا أريد به الحوادث أو الأسباب كما تقول تكلم فلان على خلافة عُمر أو هذا كتاب في مُلك العباسيين وذلك أن الاسم إذا اشتهر بصفة أو قصة صح إطلاقه وإرادة تلك الصفة أو القصة بحيث لو ظهرت لكانت مضافة إلى الاسم ، قال النابغة :
أراد متاعب ليل لأن الليل قد اشتهر عند أهل الغرام بأنه وقت الشوق والأرق .
والشياطين قيل أريد بها شياطين الإنس أي المضللون وهو الظاهر . وقيل : أريدت شياطين الجن . وأل للجنس على الوجهين . وعندي أن المراد بالشياطين أهل الحيل والسحرة كما يقولون فلان من شياطين العَرب وقد عد من أولئك ناشب الأعور أحد رجال يوم الوقيط .
وقوله : { تتلوا } جاء بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية على ما قاله الجماعة ، أو هو مضارع على بابه على ما اخترناه من أن الشياطين هم أحبارهم فإنهم لم يزالوا يتلون ذلك فيكون المعنى أنهم اتبعوا اعتقدوا ما تلته الشياطين ولم تزل تتلوه .
وسليمان هو النبيء سليمان بن داود بن يسي من سبط يهوذا ولد سنة 1032 اثنتين وثلاثين وألف قبل المسيح وتوفي في أورشليم سنة 975 خمس وسبعين وتسعمائة قبل المسيح وولي ملك إسرائيل سنة 1014 أربع عشرة وألف قبل المسيح بعد وفاة أبيه داود النبيء ملك إسرائيل ، وعظم ملك بني إسرائيل في مدته وهو الذي أمر ببناء مسجد بيت المقدس وكان نبيئاً حكيماً شاعراً وجعل لمملكته أسطولاً بحرياً عظيماً كانت تمخر سفنه البحار إلى جهات قاصية مثل شرق إفريقيا .
وقوله : { وما كفر سليمان } جملة معترضة أثار اعتراضها ما أشعر به قوله : { ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } من معنى أنهم كذبوا على سليمان ونسبوه إلى الكفر فهي معترضة بين جملة { واتبعوا } وبين قوله : { وما أنزل على الملكين } إن كان { وما أنزل } معطوفاً على { ما تتلوا } وبين { اتبعوا } وبين { ولقد علموا لَمَن اشتراه } إلخ إن كان { وما أنزل } معطوفاً على السحر ، ولك أن تجعله معطوفاً على { واتبعوا } إذا كان المراد من الشياطين أحبار اليهود لأن هذا الحكم حينئذ من جملة أحوال اليهود لأن مآله واتبعوا وكفروا وما كفر سليمان ولكنه قدم نفي كفر سليمان لأنه الأهم تعجيلاً بإثبات نزاهته وعصمته ولأن اعتقاد كفره كان سبب ضلال للذين اتبعوا ما كتبته الشياطين فلا شك أن حكم الأتباع وحكم المتبوعين واحد فكان خبراً عن اليهود كذلك .
وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان في كتبهم فقد جاء في سفر الملوك الأول أن سليمان في زمن شيخوخته أمالت نساؤه المصريات والصيدونيات والعمونيات قلبَه إلى آلهتهن مثل ( عشتروت ) إله الصيدونيين ( ومُولوك ) إله العمونيين ( الفينيقيين ) وبنى لهاته الآلهة هياكل فغضب الله عليه لأن قلبه مال عن إله إسرائيل الذي أوصاه أن لا يتبع آلهة أخرى .
وقوله : { يعلمون الناس السحر } حال من ضمير { كفروا } والمقصد منه تشنيع حال كفرهم إذ كان مصحوباً بتعليم السحر على حد قوله : كفرٌ دون كفر فهي حال مؤسسة .
والسحر الشعوذة وهي تمويه الحيل بإخفائها تحت حركات وأحوال يظن الرائي أنها هي المؤثرة مع أن المؤثر خفي قال تعالى : { ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون } [ الحجر : 14 ، 15 ] ولذلك أطلق السحر على الخديعة تقول : سحرت الصبي إذا عللته بشيء ، قال لبيد :
فإن تسألينا فيم نحن فإننا *** عصافيرُ من هذا الأنامِ المسحّر
ثم أطلق على ما علم ظاهره وخفي سببه وهو التمويه والتلبيس وتخييل غير الواقع واقعاً وترويج المحال ، تقول العرب : عنز مسحورة إذا عظم ضرعها وقل لبنها وأرض مسحورة لا تنبت ، قال أبو عطاء :
فوالله ما أدري وإني لصادق *** أداء عراني من حبابك أم سحر
أي شيء لا يعرف سببه . والعرب تزعم أن الغيلان سحرة الجن لما تتشكل به من الأشكال وتعرضها للإنسان .
والسحر من المعارف القديمة التي ظهرت في منبع المدنية الأولى أعني ببلاد المشرق فإنه ظهر في بلاد الكلدان والبابلين وفي مصر في عصر واحد وذلك في القرن الأربعين قبل المسيح مما يدل على أنها كانت في تينك الأمتين من تعاليم قوم نشأوا قبلهما فقد وجدت آثار مصرية سحرية في عصر العائلة الخامسة من الفراعنة والعائلة السادسة ( 3951 3703 ) ق . م .
وللعرب في السحر خيال واسع وهو أنهم يزعمون أن السحر يقلب الأعيان ويقلب القلوب ويطوع المسحور للساحر ولذلك كانوا يقولون إن الغول ساحرة الجن ولذلك تتشكل للرائي بأشكال مختلفة . وقالت قريش : لما رأوا معجزات رسول الله : إنه ساحر ، قال الله تعالى : { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } [ القمر : 2 ] وقال الله تعالى : { ولوفتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون } [ الحجر : 14 ، 15 ] . وفي حديث البخاري عن عمران بن حصين أن القوم عطشوا في سفر مع رسول الله فطلبوا الماء فوجدوا امرأة على بعير لها مزادتان من ماء فأتيا بها رسول الله فسقى رسول الله جميع الجيش ثم رد إليها مزادتيها كاملتين فقالت لقومها : فوالله إنه لَأَسْحَرُ من بين هذه وهذه ، تعني السماء والأرض .
وفي الحديث : " إن من البيان لسحراً " ولم أر ما يدل على أن العرب كانوا يتعاطون السحر فإن السحر مستمد من خصائص الأمور الطبيعية والتركيب ولم يكن للعرب ضلاعة في الأمور اليدوية بل كانت ضلاعتهم فكرية محضة ، وكان العرب يزعمون أن أعلم الناس بالسحر اليهود والصابئة وهم أهل بابل ، ومساق الآية يدل على شهرة هؤلاء بالسحر عند العرب . وقد اعتقد المسلمون أن اليهود في يثرب سحروهم فلا يولد لهم فلذلك استبشروا لما ولد عبدالله بن الزبير وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة كما في « صحيح البخاري » ، ولذلك لم يكثر ذِكْر السحر بين العرب المسلمين إلا بعد أن هاجروا إلى المدينة إذ قد كان فيها اليهود وكانوا يوهمون بأنهم يسحرون الناس .
ويداوى من السحر العراف ودواء السحر السلوة وهي خرزات معروفة تحك في الماء ويشرب ماؤها .
وورد في التوراة النهي عن السحر فهو معدود من خصال الشرك وقد وصفت التوراة به أهل الأصنام فقد جاء في سفر التثنية في الإصحاح 18 « إذا دخلتَ الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تتعلمْ أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم لا يوجد فيك من يَزج ابنَه أو ابنته في النار ولا مَن يَعْرُف عِرَافَة ولا عائف ولا متفائل ولا ساحر ولا من يَرقي رقية ولا من يسأل جانّاً أو تابعة ولا من يستشير الموتى لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب » .
وفي سفر اللاويين الإصحاح 20 « ( 6 ) والنفس التي تلتفت إلى الجان وإلى التوابع لتزني وراءهم أَجْعل وجهي ضد تلك النفس وأَقطعُها من شعبها ( 27 ) وإذا كان في رجل أو امرأة جانٌّ أو تابعة فإنه يُقتل بالحجارة يرجمونه دمُه عليه » .
وكانوا يجعلونه أصلاً دينياً لمخاطبة أرواح الموتى وتسخير الشياطين وشفاء الأمراض وقد استفحل أمره في بلد الكلدان وخلطوه بعلوم النجوم وعلم الطب .
وأرجع المصريون المعارف السحرية إلى جملة العلوم الرياضية التي أفاضها عليهم « طوط » الذي يزعمون أنه إدريس وهو هرمس عند اليونان . وقد استخدم الكلدان والمصريون فيه أسراراً من العلوم الطبيعية والفلسفية والروحية قصداً لإخراج الأشياء في أبهر مظاهرها حتى تكون فاتنة أو خادعة وظاهرة ، كخوارق عادات ، إلا أنه شاع عند عامتهم وبَعُدَ ضَلالهم عن المقصد العلمي منه فصار عبارة عن التمويه والتضليل وإخراج الباطل في صورة الحق ، أو القبيح في صورة حسنة أو المضر في صورة النافع .
وقد صار عند الكلدان والمصريين خاصية في يد الكهنة وهم يومئذ أهل العلم من القوم الذين يجمعون في ذواتهم الرئاسة الدينية والعلمية فاتخذوا قواعد العلوم الرياضية والفلسفية والأخلاقية لتسخير العامة إليهم وإخضاعهم بما يظهرونه من المقدرة على علاج الأمراض والاطلاع على الضمائر بواسطة الفراسة والتأثير بالعين وبالمكائد .
وقد نقلته الأمم عن هاتين الأمتين وأكثر ما نقلوه عن الكلدانيين فاقتبسه منهم السريان ( الأشوريون ) واليهود والعرب وسائر الأمم المتدينة والفرس واليونان والرومان .
الأول : زجر النفوس بمقدمات توهيمية وإرهابية بما يعتاده الساحر من التأثير النفساني في نفسه ومن الضعف في نفس المسحور ومن سوابقَ شاهدَها المسحور واعتقدها فإذا توجه إليه الساحر سُخر له وإلى هذا الأصل الإشارة بقوله تعالى في ذكر سحرة فرعون { سَحَرُوا أَعْيُنَ الناسِ واسْتَرْهَبُوهُمْ } [ الأعراف : 116 ] .
الثاني : استخدام مؤثرات من خصائص الأجسام من الحيوان والمعدن وهذا يرجع إلى خصائص طبيعية كخاصية الزئبق ومن ذلك العقاقير المؤثرة في العقول صلاحاً أو فساداً والمفترة للعزائم والمخدرات والمرقدات على تفاوت تأثيرها ، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى في سحرة فرعون : { إنَّما صنعوا كيدُ ساحر } [ طه : 69 ] .
الثالث : الشعوذة واستخدام خفايا الحركة والسرعة والتموج حتى يخيل الجماد متحركاً وإليه الإشارة بقوله تعالى : { يُخَيَّل إليه من سحرهم أنها تسعى } [ طه : 66 ] .
هذه أصول السحر بالاستقراء وقد قسمها الفخر في « التفسير » إلى ثمانية أقسام لا تَعْدُو هذه الأصول الثلاثة وفي بعضها تداخل . ولعلماء الأفرنج تقسيم آخر ليس فيه كبير جدوى .
وهذه الأصول الثلاثة كلها أعمال مباشرة للمسحور ومتصلة به ولها تأثير عليه بمقدار قابلية نفسه الضعيفة وهو لا يتفطن لها ، ومجموعها هو الذي أشارت إليه الآية ، وهو الذي لا خلاف في إثباته على الجملة دون تفصيل ، وما عداها من الأوهام والمزاعم هو شيء لا أثر له وذلك كل عمل لا مباشرة له بذات من يراد سحره ويكون غائباً عنه فيدعي أنه يؤثر فيه ، وهذا مثل رسم أشكال يعبر عنها بالطلاسم ، أو عقد خيوط والنفث عليها برقيات معينة تتضمن الاستنجاد بالكواكب أو بأسماء الشياطين والجن وآلهة الأقدمين ، وكذا كتابة اسم المسحور في أشكال ، أو وضع صورته أو بعض ثيابه وعلائقه وتوجيه كلام إليها بزعم أنه يؤثر ذلك في حقيقة ذات المسحور ، أو يستعملون إشارات خاصة نحو جهته أونحو بلده وهو ما يسمونه بالأرصاد وذكر أبو بكر ابن العربي في « القبس » أن قريشاً لما أشار النبيء صلى الله عليه وسلم بأصبعه في التشهد قالوا : هذا محمد يسحر الناس ، أو جمع أجزاء معينة وضم بعضها إلى بعض مع نية أن ذلك الرسم أو الجمع لتأثير شخص معين بضر أو خير أو محبة أو بغضة أو مرض أو سلامة ، ولا سيما إذا قرن باسم المسحور وصورته أو بطالع ميلاده ، فذلك كله من التوهمات وليس على تأثيرها دليل من العقل ولا من الطبع ولا ما يثبته من الشرع ، وقد انحصرت أدلة إثبات الحقائق في هذه الأدلة ، ومن العجائب أن الفخر في « التفسير » حاول إثباته بما ليس بمقنع .
وقد تمسك جماعة لإثبات تأثير هذا النوع من السحر بما روي في « الصحيحين » عن قول عائشة أن لبيد بن الأعصم سحر النبيء صلى الله عليه وسلم ورؤيا النبيء صلى الله عليه وسلم أن ملكين أخبراه بذلك السحر ، وفي النسائي عن زيد بن أرقم مثله مختصراً ، وينبغي التثبت في عباراته ثم في تأويله ، ولا شك أن لبيداً حاول أن يسحر النبيء صلى الله عليه وسلم فقد كان اليهود سحرة في المدينة وأن الله أطلع رسوله على ما فعله لبيد لتكون معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم في إبطال سحر لبيد وليعلم اليهود أنه نبيء لا تلحقه أضرارهم وكما لم يؤثر سحر السحرة على موسى كذلك لم يؤثر سحر لبيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عرض للنبيء صلى الله عليه وسلم عارض جسدي شفاه الله منه فصادف أن كان مقارناً لما عمله لبيد بن الأعصم من محاولة سحره وكانت رؤيا النبيء صلى الله عليه وسلم إنباء من الله له بما صنع لبيد ، والعبارة عن صورة تلك الرؤيا كانت مجملة فإن الرأي رموز ولم يرد في الخبر تعبير ما اشتملت عليه فلا تكون أصلاً لتفصيل القصة .
ثم إن لتأثير هاته الأسباب أو الأصول الثلاثة شروطاً وأحوالاً بعضها في ذات الساحر وبعضها في ذات المسحور ، فيلزم في الساحر أن يكون مفرط الذكاء منقطعاً لتجديد المحاولات السحرية جسوراً قوى الإرادة كتوماً للسر قليل الاضطراب للحوادث سالم البنية مرتاض الفكر خفي الكيد والحيلة ، ولذلك كان غالب السحرة رجالاً ولكن كان الحبشة يجعلون السواحر نساء وكذلك كان الغالب في الفرس والعرب قال تعالى : { ومن شر النفاثات في العقد } [ الفلق : 4 ] فجاء بجمع الإناث وكانت الجاهلية تقول إن الغيلان عجائز من الجن ساحرات فلذلك تستطيع التشكل بأشكال مختلفة ، وكان معلمو السحر يمتحنون صلاحية تلامذتهم لهذا العلم بتعريضهم للمخاوف وأمرهم بارتكاب المشاق تجربة لمقدار عزائمهم وطاعتهم .
وأما ما يلزم في المسحور فخور العقل ، وضعف العزيمة ، ولطاقة البنية ، وجهالة العقل ، ولذلك كان أكثر الناس قابلية له النساء والصبيان والعامة ومن يتعجب في كل شيء . ولذلك كان من أصول السحر إلقاء أقوال كاذبة على المسحور لاختبار مقدار عقله في التصديق بالأشياء الواهية والثقة بالساحر ، قال تعالى : { ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إنْ هذا إلا سحر مبين } [ هود : 7 ] فجعلوا ذلك القول الغريب سحراً .
ثم تحف بالسحر أعمال ، القصد منها التمويه وهذه الأعمال أنواع :
نوع : الغرض منه تقوية اعتقاد الساحر في نجاح عمله لتقوى عزيمته فيشتد تأثيره على النفوس وهذا مثل تلقين معلمي هذا الفن تلامذتهم عبادة كواكب ومناجاتها لاستخدام أرواحها والاستنجاد بتلك الأرواح على استخدام الجن والقوى المتعاصية ليعتقد المتعلم أن ذلك سبب نجاح عمله فيقدم عليه بعزم ، وفي ذلك تأثير نفساني عجيب ولذلك يسمون تلك الأقوال والمناجاة عزائم جمع عزيمة ويقولون فلان يعزِّم إذا كان يسحر ، ثم هو إذا استكمل المعرفة قد يتفطن لقلة جدوى تلك العزائم وقد لا يتفطن وعلى كلتا الحالتين فمعلموه لا يتعرضون له في نهاية التعليم بالتنبيه على فساد ذلك لئلا يدخلوا عليه الشكوك في مقدرته ، فلذلك بقيت تلك الأوهام يتلقاها الأخلاف عن أسلافهم ، ومن هذا النوع ضروب هي في الأصل تجارب لمقدار طاعة المتعلم لمعلمه بقيت متلقاة عندهم عن غير بصيرة مثل ارتكاب الخبائث وإهانة الصالحات والأمور المقدسةِ إيهاماً بأنها تُبلِّغ إلى مرضاة الشياطين وتسخيرها ، وذلك في الواقع اختبار لمقدار خضوع المتعلم ، لأن أكبر شيء على النفس نبذ أعز الأشياء وهو الدين ، ولأن السحرة ليسوا من المليين فهم يبلغون بمريديهم إلى مبالغهم السافلة ، وقد سمعنا أن كثيراً ممن يتعاطون السحر في المسلمين يزعمون أنهم لا يتأتى لهم نجاح إلا بعد أن يلطخوا أيديهم بالنجاسات أونحو من هذا الضلال .
ونوع : الغرض منه إخفاء الأسباب الحقيقية لتمويهاتهم حتى لا يطلعَ الناس على كنهها ، فيستندون في تعليل أعمالهم إلى أسباب كاذبة كندائهم بأسماء سموها لا مسميات لها ووضعهم أشكالاً على الورق أو في الجدران يزعمون أن لها خصائص التأثير ، واستنادهم لطوالع كواكب في أوقات معينة لا سيما القمر ، ومن هذا تظاهرهم للناس بمظهر الزهد والهمة .
ونوع : يستعان به على نفوذ السحر وهو التجسس والتطلع على خفايا الأشياء وأسرار الناس بواسطة السعي بالنميمة وإلقاء العداوات بين الأقارب والأصحاب والأزواج حتى يُفْشِيَ كل منهم سر الآخر فيتخذ الساحر تلك الأسرار وسيلة يُلقى بها الرعب في قلوب أصحابها بإظهار أنه يعلم الغيب والضمائرَ ، ثم هو يأمر أولئك الذين أرهبهم ويستخدمهم بما يشاء فيطيعونه فيأمر المرأة بمغاضبة زوجها وطلب فراقه ويأمر الزوج بطلاق زوجته وهكذا ، وفي هذا القسم تظهر مقدرة الساحر الفكرية وبه تكثر أضراره وأخطاره على الناس وجرأته على ارتكاب المرعبات والمطوِّعات باستئصال الأموال بالسرقة يسرقها من لا يتهمه المسروق ، ومنه أنه يفعل ذلك من خاصته وأبنائه وزوجه الذين يستهويهم السحرة ويسخرونهم للإخلاص لهم ، وينتهي فعل السحرة في هذا إلى حد إزهاق النفوس التي يشعرون بأنها تفطنت لخديعتهم أو التي تعاصت عن امتثال أوامرهم يُغرون بها من هي آمن الناس منه ، ثم استطلاع ضمائر الناس بتقريرات خفية وأسئلة تدريجية يوهمه بها أنه يسأله عنها ليعلمه بمستقبله .
ونوع : يُجعل اختباراً لمقدار مراتب أذهان الناس في قابلية سحره وذلك بوضع أشياء في الأطعمة خيفة الظهور ليرى هل يتفطن لها من وضَعها ، وبإبراز خيالات أو أشباح يوهم بها الناظر أنها جن أو شياطين أو أرواح ، وماهي إلا أشكال مموهة أو أعوان من أعوانه متنكرة ، لينظر هل يقتنع رائِيها بما أخبره الساحر عنها أم يتطلب كشف حقيقتها أو استقصاء أثرها .
فكان السحر قرين خباثة نفس ، وفسادِ دين ، وشرِّ عمل ، وإرعابٍ وتهويلٍ على الناس ، من أجل ذلك ما فتئت الأديان الحقة تحذر الناس منه وتعد الاشتغال به مروقاً عن طاعة الله تعالى لأنه مبني على اعتقاد تأثير الآلهة والجِن المنسوبين إلى الآلهة في عقائد الأقدمين ، وقد حذر موسى قومه من السحرِ وأهله ففي سفر التثنية الإصحاح 18 أن مما خاطب به موسى عليه السلام قومه : « متى دخلتَ الأرضَ التي يعطيك الربُ إلهك لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو ابنته في النار ولا من يَعْرُف عِرَافة ولا عائفٌ ولا متفائلٌ ولا ساحرٌ ولا من يَرقى رُقية ولا من يسأل جاناً أو تابعة ولا من يستثير الموتى » . وجعلت التوراة جزاء السحرة القتل ففي سفر اللاويين الإصحاحين 20 27 « وإذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة فإنه يقتل » . وذكروا عن مالك أنه قال : الأسماء التي يكتبها السحرة في التمائم أسماء أصنام .
وقد حذر الإسلام من عمل السحر وذمه في مواضع وليس ذلك بمقتضى إثبات حقيقة وجودية للسحر على الإطلاق ولكنه تحذير من فساد العقائد وخلع قيود الديانة ومن سخيف الأخلاق .
وقد اختلف علماء الإسلام في إثبات حقيقة السحر وإنكارها وهو اختلاف في الأحوال فيما أراه ، فكل فريق نظر إلى صنف من أصناف ما يُدعَى بالسحر . وحكى عياض في « إكمال المعلم » أن جمهور أهل السنة ذهبوا إلى إثبات حقيقته . قلت وليس في كلامهم وصف كيفية السحر الذي أثبتوا حقيقته فإنما أثبتوه على الجملة . وذهب عامة المعتزلة إلى أن السحر لا حقيقة له وإنما هو تمويه وتخييل وأنه ضرب من الخفة والشعوذة ووافقهم على ذلك بعض أهل السنة كما اقتضته حكاية عياض في « الإكمال » ، قلت وممن سُمِّي منهم أبو إسحاق الاسترابادي من الشافعية . والمسألة بحذافرها من مسائل الفروع الفقهية تدخل في عقاب المرتدين والقاتلين والمتحيلين على الأموال ، ولا تدخل في أصول الدين . وهو وإن أنكره الملاحدة لا يقتضى أن يكون إنكاره إلحاداً . وهذه الآية غير صريحة . وأما الحديث فقد علمتَه آنفاً .
وشدد الفقهاء العقوبة في تعاطيه . قال مالك : يقتل الساحر ولا يستتاب إن كان مسلماً وإن كان ذمياً لا يقتل بل يؤدب إلا إذا أدخل بسحره أضراراً على مسلم فإنه يقتل لأنه يكون ناقضاً للعهد لأن من جملة العهد أن لا يتعرضوا للمسلمين بالأذى قال الباجي في « المنتقي » رأى مالك أن السحر كفر وشرك ودليلٌ عليه وأنه لما كان يستتر صاحبه بفعله فهو كالزندقة لأجل إظهار الإسلام وإبطان الكفر ولذلك قال ابن عبد الحكم وابن المواز وأصبغ هو كالزنديق إن أسر السحر لا يستتاب وإن أظهره استتيب وهو تفسير لقول مالك لا خلافٌ له قال الباجي فلا يقتل حتى يثبت أن ما يفعله من السحر هو الذي وصفه الله بأنه كفر قال أصبغ يَكشف ذلك من يعرف حقيقته ويثبت ذلك عند الإمام .
وفي « الكافي » لابن عبد البر إذا عمل السحر لأجل القتل وقتَل به قُتل وإن لم يكن كفراً ، وقد أدخل مالك في « الموطأ » السحر في باب الغيلة ، فقال ابن العربي في « القبس » وجه ذلك أن المسحور لا يَعلم بعمل السحر حتى يقع فيه ، قلت لا شك أن السحر الذي جُعل جزاؤه القتل هو ما كان كفراً صريحاً مع الاستتار به أو حصل به إهلاك النفوس وذلك أن الساحر كان يَعِد من يأتيه للسحر بأن فلاناً يموت الليلة أو غداً أو يصيبه جنون ثم يتحيل في إيصال سموم خفية من العقاقير إلى المسحور تُلقى له في الطعام بواسطة أناس من أهل المسحور فيصبح المسحور ميتاً أو مختل العقل فهذا هو مراد مالك بأن جزاءه القتل أي إن قتل ولذلك قال : لا تقبل توبته وبدون هذا التأويل لا يصح فقه هذه المسألة ، فقول مالك في السحر ليس استناداً لدليل معين في خصوص السحر ولكنه من باب تحقيق المناط بتطبيق قواعد التعزير والإضرار ، ولبعض فقهاء المذهب في حكاية هذه المسألة إطلاقات عجيب صدورها من أمثالهم ، على أن السحر أكثر ما يتطلب لأجل تسخير المحبين محبوبيهم فهو وسيلة في الغالب للزنا أو للانتقام من المحبوب أو الزوج . سئل مالك عمن يعقد الرجال عن النساء وعن الجارية تطعم رجلاً شيئاً فيذهب عقله فقال : لا يقتلان فأما الذي يعقد فيؤدب وأما الجارية فقد أتت أمراً عظيماً قيل أفتقتل فقال : لا قال ابن رشد في « البيان » رأى أن فعلها ليس من السحر اهـ .
وقال أبو حنيفة : يقتل الرجل الساحر ولا يستتاب وأما المرأة فتحبس حتى تتركه فجعل حكمه حكم المرتد ووجَّه أبو يوسف بأنه جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد . وعن الشيخ أبي منصور أن القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا ، وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قُطاع الطريق ويستوي فيه الذكور والإناث وتقبل توبته إذا تاب ومن قال : لا تقبل فقد خلط فإن سحرة فرعون قبلت توبتهم اهـ . وهذا استدلال بشرع من قبلنا .
وقال الشافعي يُسأل الساحر عن سحره فإن ظهر منه ما هو كفر فهو كالمرتد يستتاب فإن أصر قتل وإن ظهر منه تجويز تغيير الأشكال لأسباب قراءة تلك الأساطير أو تدخين الأدوية وعَلِم أنه يفعل محرماً فحكمه حكم الجناية فإن اعترف بسحر إنسان وأنَّ سحره يقتل غالباً قُتل قوداً ( يعني إذا ثبت أنه مات بسببه ) وإن قال : إن سحْري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شِبه عمد ، وإن كان سِحره لغير القتل فمات منه فهو قتل خطأ تجب الدية فيه مخففة في ماله .
ويجب أن يستخلص من اختلافهم ومن متفرق أقوالهم ما يكون فيه بصيرة لإجراء أعمال ما يسمى بالسحر وصاحبُه بالساحر مُجْرَى جنايات أمثاله ومقدار ما أثره من الاعتداء دون مبالغة ولا أوهام ، وقد يطلق اسم الساحر اليوم على اللاعب بالشعوذة في الأسمار وذلك من أصناف اللهو فلا ينبغي عد ذلك جناية .
يتعين أن ( مَا ) موصولة وهو معطوف على قوله : { مُلْكِ سليمان } أي وما تتلوا الشياطين عَلى ما أنزل على المَلكين ، والمراد بما أنزل ضرب من السحر لكنه سحر يشتمل على كفر عظيم وتعلم الخضوع لغير الله مع الاستخفاف بالدين ومع الإضرار بالناس كما بيناه آنفاً فيكون عطفاً على { ما تتلوا } الذي هو صادق على السحر فعُطف { ما أنزل } عليه لأنه نوع منه أشد مما تتلوه الشياطين الذين كانوا يعلِّمونه الناس مع السحر الموضوع منهم ، فالعطف لتغاير الاعتبار أو للتنبيه على أن أصل السحر مقتبس مما ظهر ببابل في زمن هذين المعلِّمَيْن وعطف شيء على نفسه باعتبار تغاير المفهوم والاعتبار وارد في كلامهم كقول الشاعر : ( وهو من شواهد النحو ) :
إلى المَلك القَرْم وابنِ الهُمَا *** م ولَيثِ الكتيبة في المُزْدَحَم
وقيل : أريد من السحر أخَفُّ مما وضعته الشياطين على عهد سليمان لأن غاية ما وصف به هذا الذي ظهر ببابل في زمن هذين المعلمين أنه يُفرق بين المرء وزوجه وذلك ليس بكفر وفيه ضعف .
والقراءة المتواترة { المَلكين } بفتح لام الملكين وقرأه ابن عباس والضحاك والحَسن وابن أَبْزَى بكسر اللام .
وكل هاته الوجوه تقتضي ثبوت نزول شيء على الملكين ببابل وذلك هو الذي يعنيه سياق الآية إذا فَصَّلت كيفية تعليم هذين المعلمين عِلم السحر .
فالوجه أن قوله : { وما أنزل } عطف على { مُلك سليمان } فهو معمول لتتلوا الذي هو بمعنى تكذب فيكون المراد عدم صحة هذا الخبر أي ما تكذبه الشياطين على ما أنزل على المَلكين ببابل ، أي ينسبون بعض السحر إلى ما أنزل ببابل . قال الفخر وهو اختيار أبي مسلم وأنكر أبو مسلم أن يكون السحر نازلاً على المَلَكين إذ لا يجوز أمر الله به وكيف يتولى الملائكة تعليمه مع أنه كفر أو فسق .
وقيل : ( ما ) نافية معطوفة على { ما كفر سليمان } أي وما كفر سليمان بوضع السحر كما يزعم الذين وضعوه ، ولا أنزل السحر على المَلكين ببابل .
وتعريف الملكين تعريف الجنس أوهو تعريف العهد بأن يكون الملكان معهودين لدى العارفين بقصة ظهور السحر ، وقد قيل إن ( هاروت وماروت ) بدل من ( الشياطين ) وإن المراد بالشياطين شيطانان وضعا السحر للناس هما هاروت وماروت ، على أنه من إطلاق الجمع على المثنى كقوله :
{ قلوبكما } [ التحريم : 4 ] وهذا تأويل خطأ إذ يصير قوله : { على الملكين } كلاماً حشواً .
وعلى ظاهر هذه الآية إشكال من أربعة وجوه : أحدها كون السحر مُنْزَلاً إن حمل الإنزال على المعروف منه وهو الإنزال من الله ، الثاني كون المباشر لذلك ملكين من الملائكة على القراءة المتواترة ، الثالث كيف يَجْمَع المَلكان بين قولهما { نحن فتنة } وقولهما { فلا تكفر } فكيف يجتمع قصد الفتنة مع التحذير من الوقوع فيها الرابع كيف حصرا حالهما في الاتصاف بأنهما فتنة فما هي الحكمة في تصديهما لذلك لأنهما إن كانا ملَكين فالإشكال ظاهر وإن كانا ملِكين بكسر اللام فهما قد علما مضرة الكفر بدليل نهيهما عنه وعلِما معنى الفتنة بدليل قولهما { إنما نحن فتنة } فلماذا تورطا في هذه الحالة ؟ .
ودفع هذا الإشكال برمته أن الإنزال هو الإيصال وهو إذا تعدى بعلى دل على إيصال من علو واشتهر ذلك في إيصال العلم من وحي أو إلهام أونحوهما ، فالإنزال هنا بمعنى الإلهام وبمعنى الإيداع في العقل أو في الخلقة بأن يكون الملكان قد برعا في هذا السحر وابتكرا منه أساليب لم يسبق لهما تلقيها من معلم شأن العلامة المتصرف في علمه المبتكر لوجوه المسائل وعللها وتصاريفها وفروعها .
والظاهر عندي أن ليس المراد بالإنزال إنزال السحر إذ السحر أمر موجود من قبل ولكنه إنزال الأمرِ للملَكين أو إنزال الوحي أو الإلهام للملِكين بأن يتصديا لبث خفايا السحر بين المتعلمين ليبطل انفراد شرمذة بعلمه فيندفع الوجهان الأول والثاني .
ثم إن الحكمة من تعميم تعليمه أن السحرة في بابل كانوا اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم ثم تطلعوا منه إلى تأسيس عبادة الأصنام والكواكب وزعموا أنهم أي السحرة مترجمون عنهم وناطقون بإرادة الآلهة فحدث فساد عظيم وعمت الضلالة فأراد الله على معتاد حكمته إنقاذ الخلق من ذلك فأرسل أو أوحى أو ألْهم هاروت وماروت أن يكشفا دقائق هذا الفن للناس حتى يشترك الناس كلهم في ذلك فيعلموا أن السحرة ليسوا على ذلك ويرجع الناس إلى صلاح الحال فاندفع الوجه الثالث . وأما الوجه الرابع فستعرف دفعه عند تفسير قوله : { وما يعلمان من أحد } الآية .
وفي قراءة ابن عباس والحسن { الملِكين } بكسر اللام وهي قراءة صحيحة المعنى فمعنى ذلك أن ملكين كانا يملكان ببابل قد علما علم السحر ، وعلى قراءة فتح اللام فالأظهر في تأويله أنه استعارة وأنهما رجلان صالحان كان حكما مدينة بابل وكانا قد اطلعا على أسرار السحر التي كانت تأتيها السحرة ببابل أو هما وضعا أصله ولم يكن فيه كفر فأدخل عليه الناس الكفر بعد ذلك .
وقيل هما ملكان أنزلهما الله تعالى تشكلاً للناس يعلمانهم السحر لكشف أسرار السحرة لأن السحرة كانوا يزعمون أنهم آلهة أو رسل فكانوا يسخرون العامة لهم فأراد الله تكذيبهم ذباً عن مقام النبوءة فأنزل ملكين لذلك .
وقد أجيب بأن تعلم السحر في زمن هاروت وماروت جائز على جهة الابتلاء من الله لخلقه فالطائع لا يتعلمه والعاصي يبادر إليه وهو فاسد لمنافاته عموم قوله : { يعلمون الناس } قالوا : كما امتحن الله قوم طالوت بالنهر إلخ ولا يخفى فساد التنظير .
وبابل بلد قديم من مدن العالم وأصل الاسم باللغة الكلدانية باب إيلو أي باب الله ويرادفه بالعبرانية باب إيل وهو بلد كائن على ضفتي الفرات بحيث يخترقه الفرات يقرب موضعه من موقع بلد الحلة الآن على بعد أميال من ملتقى الفرات والدجلة . كانت من أعظم مدن العالم القديم بناها أولاً أبناء نوح بعد الطوفان فيما يقال ثم توالى عليها اعتناء أصحاب الحضارة بمواطن العراق في زمن الملك النمروذ في الجيل الثالث من أبناء نوح ولكن ابتداء عظمة بابل كان في حدود سنة 3755 ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وخمسين قبل المسيح فكانت إحدى عواصم أربعة لمملكة الكلدانيين وهي أعظمها وأشهرها ولم تزل همم ملوك الدولتين الكلدانية والأشورية منصرفة إلى تعمير هذا البلد وتنميقه فكان بلد العجائب من الأبنية والبساتين ومنبع المعارف الأسيوية والعجائب السحرية وقد نسبوا إليها قديماً الخمر المعتقة والسحر قال أبو الطيب :
سقى الله أيام الصِّبا ما يسرها *** ويفعل فعل البابلي المعتَّق
ولاشتهار بابل عند الأمم القديمة بمعارف السحر كما قدمنا في تعريف السحر صح جعل صلة الموصول قوله : { أنزل على الملكين ببابل } إشارة إلى قصة يعلمونها .
و ( هاروت وماروت ) بدل من ( الملكين ) وهما اسمان كلدانيان دخلهما تغيير التعريف لإجرائهما على خفة الأوزان العربية ، والظاهر أن هاروت معرب ( هاروكا ) وهو اسم القمر عند الكلدانيين وأن ماروت معرب ( ما روداخ ) وهو اسم المشتري عندهم وكانوا يعدون الكواكب السيارة من المعبودات المقدسة التي هي دون الآلهة لا سيما القمر فإنه أشد الكواكب تأثيراً عندهم في هذا العالم وهو رمز الأنثى ، وكذلك المشتري فهو أشرف الكواكب السبعة عندهم ولعله كان رمز الذكر عندهم كما كان بعل عند الكنعانيين الفنيقيين . ومن المعلوم أن إسناد هذا التقديس للكواكب ناشىء عن اعتقادهم أنهم كانوا من الصالحين المقدسين وأنهم بعد موتهم رفعوا للسماء في صورة الكواكب فيكون ( هاروكا ) و ( ماروداخ ) قد كانا من قدماء علمائهم وصالحيهم والحاكمين في البلاد وهما اللذان وضعا السحر ولعل هذا وجه التعبير عنهما في القصة بالملكين بفتح اللام .
ولأهل القصص هنا قصة خرافية من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة اعتاد بعض المفسرين ذكرها منهم ابن عطية والبيضاوي وأشار المحققون مثل البيضاوي والفخر وابن كثير والقرطبي وابن عرفة إلى كذبها وأنها من مرويات كعب الأحبار وقد وهم فيها بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبيء صلى الله عليه وسلم أو عن بعض الصحابة بأسانيد واهية والعجب للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى كيف أخرجها مسندة للنبيء صلى الله عليه وسلم ولعلها مدسوسة على الإمام أحمد أو أنه غرَّه فيها ظاهر حال رواتها مع أن فيهم موسى بن جبير وهو متكلم فيه واعتذر عبد الحكيم بأن الرواية صحيحة إلا أن المروي راجع إلى أخبار اليهود فهو باطل في نفسه ورواته صادقون فيما رووا وهذا عذر قبيح لأن الرواية أسندت إلى النبيء صلى الله عليه وسلم قال ابن عرفة في « تفسيره » وقدكان الشيوخ يخطئون ابن عطية في هذا الموضع لأجل ذكره القصة ونقل بعضهم عن القرافي أن مالكاً رحمه الله أنكر ذلك في حق هاروت وماروت .
وقوله : { وما يعلمان من أحد } جملة حالية من « هاروت وماروت » و ( ما ) نافية والتعبير بالمضارع لحكاية الحال إشارة إلى أن قولهما لمتعلمي السحر { إنما نحن فتنة } قول مقارن لوقت التعليم لا متأخر عنه . وقد علم من هذا أنهما كانا معلمين وطوى ذلك للاستغناء عنه بمضمون هاته الجملة فهو من إيجاز الحذف أو هو من لحن الخطاب مفهوم للغاية .
وقوله : { إنما نحن فتنة } الفتنة لفظ يجمع معنى مرج واضطراب أحوال أحد وتشتت باله بالخوف والخطر على الأنفس والأموال على غير عدل ولا نظام وقد تخصص وتعمم بحسب ما تضاف إليه أو بحسب المقام يقال فتنة المال وفتنة الدين .
ولما كانت هذه الحالة يختلف ثبات الناس فيها بحسب اختلاف رجاحة عقولهم وصبرهم ومقدرتهم على حسن المخارج منها كان من لوازمها الابتلاء والاختبار فكان ذلك من المعاني التي يكنى بالفتنة عنها كثيراً ولذلك تسامح بعض علماء اللغة ففسر الفتنة بالابتلاء وجرأه على ذلك قول الناس فتنت الذهب أو الفضة إذا أذابهما بالنار لتمييز الردىء من الجيد وهذا الإطلاق إن لم يكن مولداً فإن معنى الاختبار غير منظور إليه في لفظ الفتنة وإنما المنظور إليه ما في الإذابة من الاضطراب والمرج وقد سمى القرآن هاروت وماروت فتنة وقال : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] وقال : { لا يفتننكم الشيطان } [ الأعراف : 27 ] . والإخبار عن أنفسهم بأنهم فتنة إخبار بالمصدر للمبالغة وقد أكّدت المبالغة بالحصر الإضافي والمقصد من ذلك أنهما كانا يصرحان أن ليس في علمهما شيء من الخير الإلهي وأنه فتنة محضة ابتلاء من الله لعباده في مقدار تمسكهم بدينهم وإنما كانا فتنة لأن كل من تعلم منهما عمل به . فلا تكفر كما كفر السحرة حين نسبوا التأثيرات للآلهة وقد علمت سرها . وفي هذا ما يضعف أن يكون المقصد من تعليمهما الناس السحر إظهار كذب السحرة الذين نسبوا أنفسهم للألوهية أو النبوءة .
والذي يظهر في تفسير هذه الجملة أن قولهما : { إنما نحن فتنة } قصر ادعائي للمبالغة فجعلا كثرة افتتان الناس بالسحر الذي تصديا لتعليمه بمنزلة انحصار أوصافهما في الفتنة ووجه ابتدائهما لمن يعلمانه بهذه الجملة أن يبينا له أن هذا العلم في مبادئه يظهر كأنه فتنة وشر فيوشك أن يكفر متعلمه عند مفاجأة تلك التعاليم إياه إذا كانت نفسه قد توطنت على اعتقاد أن ظهور خوارق العادات علامة على ألوهية من يظهرها ، وقولهما : { فلا تكفر } أي لا تعجل باعتقاد ذلك فينا فإنك إذا توغلت في معارف السحر علمت أنها معلولة لعلل من خصائص النفوس أو خصائص الأشياء فالفتنة تحصل لمن يتعلم السحر حين يرى ظواهره وعجائبه على أيدي السحرة ولمن كان في مبدأ التعليم فإذا تحقق في علمه اندفعت الفتنة فذلك معنى قولهما { فلا تكفر } فالكفر هو الفتنة وقولهما { فلا تكفر } بمنزلة فلا تفتتن وقد اندفع الإشكال الرابع المتقدم .
تفريع عما دل عليه قوله : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا } المقتضي أن التعليم حاصل فيتعلمون ، والضمير في { فيتعلمون } راجع لأحد ، الواقع في حيز النفي مدخولاً لمن الاستغراقية في قوله تعالى : { وما يعلمان من أحد } فإنه بمعنى كل أحد فصار مدلوله جمعاً .
قوله : { ما يفرقون به بين المرء وزوجه } إشارة إلى جزئي من جزئيات السحر وهو أقصى تأثيراته إذ فيه التفرقة بين طرفي آصرة متينة إذ هي آصرة مودة ورحمة قال تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [ الروم : 21 ] فإن المودة وحدها آصرة عظيمة وهي آصرة الصداقة والأخوة وتفاريعهما ، والرحمة وحدها آصرة منها الأبوة والبنوة ، فما ظنكم بآصرة جمعت الأمرين وكانت بجعل الله تعالى وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان وقد كان يشير إلى هذا المعنى شيخنا الجليل سالم أبو حاجب في قوله تعالى : { وجعل بينكم مودة ورحمة } . وهذا التفريق يكون إما باستعمال مفسدات لعقل أحد الزوجين حتى يبغض زوجه وإما بإلقاء الحيل والتمويهات والنميمة حتى يفرق بينهما .
وقوله : { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } جملة معترضة . وضمير { هم } عائد إلى { أحد } من قوله : { وما يعلمان من أحد } لوقوعه في سياق النفي فيعم كل أحد من المتعلمين أي وما المتعلمون بضارين بالسحر أحداً . وهذا تنبيه على أن السحر لا تأثير له بذاته وإنما يختلف تأثير حيله باختلاف قابلية المسحور ، وتلك القابلية متفاوتة ولها أحوال كثيرة أجملتها الآية بالاستثناء منقوله : { إلا بإذن الله } أي يجعل الله أسباب القابلية لأثر السحر في بعض النفوس فهذا إجمال حسن مناسب لحال المسلمين الموجه إليهم الكلام لأنهم تخلقوا بتعظيم الله تعالى وقدرته وليس المقام مقام تفصيل الأسباب والمؤثرات ولكن المقصود إبطال أن تكون للسحر حالة ذاتية وقواعد غير مموهة ، فالباء في قوله : { بإذن الله } للملابسة .
وأصل الإذن في اللغة هو إباحة الفعل ، واستأذن طلب الإذن في الفعل أو في الدخول للبيت وقد استعمله القرآن مجازاً في معنى التمكين إما بخلق أسباب الفعل الخارقة للعادة نحو قوله : { وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني } [ المائدة : 110 ] وإما باستمرار الأسباب المودعة في الأشياء والقوى كقوله تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } [ آل عمران : 166 ] فقوله : { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } أي إلا بما أعد الله في قابل السحر من استعداد لأن يضر به فإن هذا الاستعداد وإمكان التأثر مخلوق في صاحبه فهو بإذن الله ومشيئته كذا قرره الراغب وهو يرجع إلى استعمال مما تستعمل فيه كلمة إذن ( ومن هذا القبيل ونظيره لفظة الأمر في قوله تعالى : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } [ الرعد : 11 ] أي مما خلق الله من الأشياء التي تلحق أضرارها للناس وقد اشتهر هذا الاستعمال في لسان الشرع حتى صار حقيقة عرفية في معنى المشيئة والإرادة فينبغي أن يلحق بالألفاظ التي فرق المتكلمون بين مدلولاتها وهي الرضا والمحبة والأمر والمشيئة والإرادة ) . فليس المعنى أن السحر قد يضر وقد لا يضر بل المعنى أنه لا يضر منه إلا ما كان إيصال أشياء ضار بطبعها وقوله : { ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم } يعني ما يضر الناس ضراً آخر غير التفرقة بين المرء وزوجه فضمير { يضرهم } عائد على غير ما عاد عليه ضمير { يتعلمون } والمعنى أن أمور السحر لا يأتي منها إلا الضر أي في الدنيا فالساحر لا يستطيع سحر أحد ليصير ذكياً بعد أن كان بليداً أو ليصير غنياً بعد الفقر وهذا زيادة تنبيه على سخافة عقول المشتغلين به وهو مقصد الآية وبهذا التفسير يكون عطف قوله : { ولا ينفعهم } تأسيساً لا تأكيداً والملاحظ في هذا الضر والنفع هو ما يحصل في الدنيا وأما حالهم في الآخرة فسيفيده قوله : { ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق } وقد أفادت الآية بجمعها بين إثبات الضر ونفي النفع الذي هو ضده مفاد الحصر كأنه قيل ويتعلمون ما ليس إلا ضراً كقول السموءل وعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي :
تسيل على حد الظُّبات نفوسنا *** وليس على غير الظُّبات تسيل
وعدل عن صيغة القصر لتلك النكتة المتقدمة وهي التنبيه على أنه ضر . وإعادة فعل { يتعلمون } مع حرف العطف لأجل ما وقع من الفصل بالجملة المعترضة .
{ ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الأخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } .
عطف على قوله : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } أي اتبعوا ذلك كله وهم قد علموا إلخ والضمير لليهود تبعاً لضمير { واتبعوا } ، أو الواو للحال أي في حال أنهم تحقق علمهم . واللام في { لقد علموا } يجوز أن تكون لام القسم وهي اللام التي من شأنها أن تدخل على جواب القسم لربطه بالقسم ثم يحذفون القسم كثيراً استغناء لدلالة الجواب عليه دلالة التزامية لأنه لا ينتظم جواب بدون مجاب .
ويجوز أن تكون لام الابتداء ، وهي لام تفيد تأكيد القسم ويكثر دخولها في صدر الكلام فلذلك قيل لها لام الابتداء والاحتمالان حاصلان في كل كلام صالح للقسم وليس فيه قسم فإن حذف لفظ القسم مشعر في المقام الخطابي بأن المتكلم غير حريص على مزيد التأكيد كما كان ذكر إن وحدها في تأكيد الجملة الاسمية أضعف تأكيداً من الجمع بينها وبين لام الابتداء لأنهما أداتا تأكيد . قال الرضى إن مواقع لام القسم في نظر الجمهور هي كلها لامات الابتداء . والكوفيون لا يثبتون لام الابتداء ويحملون مواقعها على معنى القسم المحذوف والخلاف في هذا متقارب .
واللام في قوله : { لمن اشتراه } يجوز كونها لام قسم أيضاً تأكيداً للمعلوم أي علموا تحقيق أنه لا خلاق لمشتري السحر ويجوز كونها لام ابتداء والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره فالمعنى أنهم اكتسبوه ببذل إيمانهم المعبر عنه فيما يأتي بقوله أنفسهم .
والخلاق الحظ من الخير خاصة . ففي الحديث : " إنما يلبس هذا من لا خلاق له " وقال البعيث بن حريث :
ولست وإن قربت يوماً ببائع *** خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب
ونفي الخلاق وهو نكرة مع تأكيد النفي بمن الاستغراقية دليل على أن تعاطي هذا السحر جرم كفر أو دونه فلذلك لم يكن لمتعاطيه حظ من الخير في الآخرة وإذا انتفى كل حظ من الخير ثبت الشر كله لأن الراحة من الشر خير وهي حالة الكفاف وقد تمناها الفضلاء أو دونه خشية من الله تعالى .
قوله : { ولبئس ما شروا به أنفسهم } عطف على { ولقد علموا } عطف الإنشاء على الخبر و { شروا } بمعنى باعوا بمعنى بذلوا وهو مقابل قوله : { لمن اشتراه } ومعنى بذل النفس هو التسبب لها في الخسار والبوار .
وقوله : { لو كانوا يعلمون } مقتض لنفي العلم بطريق لو الامتناعية والعلم المنفي عنهم هنا هو غير العلم المثبت لهم في قوله : { ولقد علموا } إلا أن الذي علموه هو أن مكتسب السحر ماله خلاق في الآخرة والذي جهلوه هنا هو أن السحر شيء مذموم وفيه تجهيل لهم حيث علموا أن صاحبه لا خلاق له ولم يهتدوا إلى أن نفي الخلاق يستلزم الخسران إذ ما بعد الحق إلا الضلال وهذا هو الوجه لأن { لو كانوا يعلمون } ذيل به قوله : { ولبئس ما شروا به أنفسهم } فدل على أنه دليل مفعوله وبذلك يندفع الإشكال عن إثبات العلم ونفيه في معلوم واحد بناءً على أن العلم بأنه لا خلاق لصاحب السحر عين معنى كون السحر مذوماً فكيف يعدون غير عالمين بذمه وقد علمت وجهه وهذا هو الذي تحمل عليه الآية .
ولهم في الجواب عن دفع الإشكال وجوه أخرى أحدها ما ذهب إليه صاحب « الكشاف » وتبعه صاحب « المفتاح » من أن المراد من نفي العلم هو أنهم لما كانوا في علمهم كمن لا يعلم بعدم عملهم به نفي العلم عنهم لعدم الاعتداد به أي فيكون ذلك على سبيل التهكم بهم .
الثاني أن المراد بالعلم المنفي هو علم كون ما يتعاطونه من جملة السحر المنهي عنه فكأنهم علموا مذمة السحر علماً كلياً ولم يتفطنوا لكون صنيعهم منه كما قالوا إن الفقيه يعلم كبرى القياس والقاضي والمفتي يعلمان صغراه وأن الفقيه كالصيدلاني والقاضي والمفتي كالطبيب وهذا الوجه الذي اخترناه . الثالث أن المراد لو كانوا يعلمون ما يتبعه من العذاب في الآخرة أي فهم ظنوا أن عدم الخلاف لا يستلزم العذاب وهذا قريب من الذي ذكرناه . الرابع أن المراد من العلم المنفي التفكر ومن المثبت العلم الغريزي وهذا وجه بعيد جداً إذ لا يمكن أن يكون علمهم بأن من اكتسب السحر لا خلاق له علماً غريزياً فلو قيل العلم التصوري والعلم التصديقي . وفي الجمع بين { لقد علموا } و { لو كانوا يعلمون } طباق عجيب .
وهنالك جواب آخر مبني على اختلاف معاد ضمير { علموا } وضمير { لو كانوا يعلمون } فضمير { لقد علموا } راجع إلى الجن الذين يعلمون السحر وضميرا { لو كانوا يعلمون } راجعان إلى الإنس الذين تعلموا السحر وشروا به أنفسهم ، قاله قطرب والأخفش وبذلك صار الذين أثبت لهم العلم غير المنفي عنهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله: {واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ} الفريق من أحبار اليهود وعلمائها الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى وراء ظهورهم، تجاهلاً منهم وكفرا بما هم به عالمون، كأنهم لا يعلمون. فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه، وآثروا السحر الذي تَلَتْه الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه وذلك هو الخسار والضلال المبين.
واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بقوله: {واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ}؛
فقال بعضهم: عنى الله بذلك اليهودَ الذين كانوا بين ظهرانيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة، فوجدوا التوراة للقرآن موافقةً، تأمره من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه بمثل الذي يأمر به القرآن، فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان...
{واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمانَ}: اتبعوا السحر.
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان.
والصواب من القول في تأويل قوله: {واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوّته وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله، وهجرهم العمل به وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنه كتاب الله، واتّباعهم واتّباع أوائلهم وأسلافهم ما تَلَتْهُ الشياطين في عهد سليمان.
وإنما اخترنا هذا التأويل لأن المتبعة ما تلته الشياطين في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحقّ وأمر السحر لم يزل في اليهود، ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله: واتبعوا بعضا منهم دون بعض، إذ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله:"واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ" إلى أخلافهم بعدهم، ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول، ولا حجة تدلّ عليه، فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال: كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود داخل في معنى الآية، على النحو الذي قلنا.
{مَا تَتْلُوا الشّياطِينُ}: الذي تتلو. فتأويل الكلام إذا: واتبعوا الذي تتلو الشياطين.
واختلف في تأويل قوله: "تَتْلُوا"؛
فقال بعضهم: "تَتْلُوا": تحدّث وتروي وتتكلم به وتخبر، نحو تلاوة الرجل للقرآن وهي قراءته. ووجه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم.
وقال آخرون: معنى قوله: "ما تَتْلُوا": ما تتبعه وترويه وتعمل به.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عزّ وجلّ أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان باتباعهم ما تلته الشياطين. ولقول القائل: «هو يتلو كذا» في كلام العرب معنيان: أحدهما الاتباع، كما يقال: تلوت فلانا إذا مشيت خلفه وتبعت أثره. والاَخر: القراءة والدراسة، كما تقول: فلان يتلو القرآن، بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه...
ولم يخبرنا الله جل ثناؤه بأيّ معنى التلاوة كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان بخبر يقطع العذر، وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسةً وروايةً وعملاً، فتكون كانت متبعته بالعمل، ودارسته بالرواية فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك وعملت به وروته.
"على مُلْكِ سُلَيْمَانَ": في ملك سليمان؛ وذلك أن العرب تضع «في» موضع «على» و«على» في موضع «في»، من ذلك قول الله جل ثناؤه: {ولأصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ} يعني به: على جذوع النخل...
{وما كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّياطِين كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ}.
إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام من قوله: {واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ولا خبر معنا قبلُ عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان، بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟ قيل: وجه ذلك أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود، نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى الشياطين من ذلك إلى سليمان بن داود، وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجنّ والشياطين وسائر خلق الله بالسحر. فحسّنوا بذلك من ركوبهم ما حرّم الله عليهم من السحر أَنْفُسَهم عند من كان جاهلاً بأمر الله ونهيه، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة، وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان من سليمان، وهو نبيّ الله صلى الله عليه وسلم منهم بشرٌ، وأنكروا أن يكون كان لله رسولاً، وقالوا: بل كان ساحرا. فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها. وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر، متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك بأن سليمان كان يعمله. فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا في عملهم السحر ما تلته الشياطين في عهد سليمان، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه...فتبين أن في الكلام متروكا ترك ذكره اكتفاءً بما ذكر منه، وأن معنى الكلام: {وَاتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ} من السحر {على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فتضيفه إلى سليمان، {وَما كَفَرَ سُلَيْمَانُ} فيعمل بالسحر {وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ}... {ما تَتْلُوا}: الذي تتلو وهو السحر.
ولعلّ قائلاً أن يقول: أَوَ ما كان السحر إلا أيام سليمان؟ قيل له: بلى قد كان ذلك قبل ذلك، وقد أخبر الله عن سَحَرة فرعون ما أخبر عنهم، وقد كانوا قبل سليمان، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر قال: فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان؟ قيل: لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان على ما قد قدمنا البيان عنه، فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نَحلوه وأضافوا إليه مما كانوا وجدوه إما في خزائنه وإما تحت كرسيه، على ما جاءت به الاَثار التي قد ذكرناها من ذلك. فحصر الخبر عْما كانت اليهود اتبعته فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب، وإن كان الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك.
{وَمَا أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ}، اختلف أهل العلم في تأويل «ما» التي في قوله: "وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ"؛
فقال بعضهم: معناه الجحد، وهي بمعنى «لم»...عن ابن عباس قوله: {وَما أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} فإنه يقول: لم ينزل الله السحر.
فتأويل الآية على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع من توجيههما معنى قوله: {وَمَا أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ} إلى: ولم ينزل على الملكين، {واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان} من السحر، {وما كفر سليمان} ولا أنزل الله السحر على الملكين {ولكنّ الشّياطينَ كفرُوا يعلمونَ الناسَ السحرَ} ببابل هاروت وماروت، فيكون حينئذ قوله: ببابل وهاروت وماروت من المؤخر الذي معناه التقديم.
فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. فيكون معنيّا بالملكين: جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود. فأكذبها الله بذلك وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت واسم الاَخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة على الناس وردا عليهم.
وقال آخرون: بل تأويل «ما» التي في قوله: "وَما أُنْزلَ على المَلَكَيْنِ":«الذي».
فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه: واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وهما ملكان من ملائكة الله.
وقالوا: إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن ينزل الله السحر، أم هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس؟ قلنا له: إن الله عزّ وجلّ قد أنزل الخير والشرّ كله. وبيّن جميع ذلك لعباده، فأوحاه إلى رسله وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحلّ لهم مما يحرم عليهم؛ وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عَرّفهموها ونهاهم عن ركوبها، فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها ونهاهم عن العمل بها.
قالوا: ليس في العلم بالسحر إثم، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب، وإنما الإثم في عمله وتسويته.
قالوا: وكذلك لا إثم في العلم بالسحر، وإنما الإثم في العمل به، وأن يضرّ به من لا يحلّ ضرّه به.
قالوا: فليس في إنزال الله إياه على الملكين ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس إثم، إذا كان تعليمهما من علّماه ذلك بإذن الله لهما بتعليمه بعد أن يخبراه بأنهما فتنة وينهاه عن السحر والعمل به والكفر، وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به، إذْ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به.
قالوا: ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك، لم يكن من تعلمه حَرِجا، كما لم يكونا حَرِجَيْن لعلمهما به، إذْ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما.
وقال آخرون: معنى «ما» معنى «الذي»، وهي عطف على «ما» الأولى، غير أن الأولى في معنى السحر والاَخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه.
فتأويل الآية على هذا القول: واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان، والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.
وقال آخرون: جائز أن تكون «ما» بمعنى «الذي»، وجائز أن تكون «ما» بمعنى «لم».
والصواب من القول في ذلك عندي: قول من وجّه «ما» التي في قوله: {وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ} إلى معنى «الذي» دون معنى «ما» التي هي بمعنى الجحد. وإنما اخترت ذلك من أجل أن «ما» إن وجهت إلى معنى الجحد، فتنفي عن الملكين أن يكونا منزلاً إليهما. ولم يَخْلُ الاسمان اللذان بعدهما أعني هاروت وماروت من أن يكونا بدلاً منهما وترجمة عنهما، أو بدلاً من الناس في قوله: {يعلّمون النّاسَ السّحْرَ} وترجمة عنهما. فإن جُعلا بدلاً من الملكين وترجمة عنهما بطل معنى قوله: {وَما يُعَلّمانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولا إنّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ} لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرّق به بين المرء وزوجه، فما الذي يَتَعَلّم منهما مَنْ يفرّق بين المرء وزوجه؟.
وبعد، فإن «ما» التي في قوله: وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} عن سليمان أن يكون السحر من عمله، أو من علمه أو تعليمه. فإن كان الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه، وهاروت وماروت هما الملكان، فمن المتعلم منه إذا ما يفرّق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله: "وَما يُعَلّمَانِ مِنْ أحَدٍ حتى يَقُولاَ إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ"؟ إن خطأ هذا القول لواضح بَيّنٌ. وإن كان قوله «هاروت وماروت» ترجمة من الناس الذين في قوله: {وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ}، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما. فإن يكن ذلك كذلك، فلن يخلو هاروت وماروت عند قائل هذه المقالة من أحد أمرين: إما أن يكونا مَلَكين، فإن كانا عنده ملكين فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب، وفي خبر الله عزّ وجلّ عنهما أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا: "إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ "ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول. أو أن يكونا رجلين من بني آدم، فإن يكن ذلك كذلك فقد كان يجب أن يكون بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل من بني آدم لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما، وفي وجود السحر في كل زمان ووقت أبين الدلالة على فساد هذا القول. وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم، لم يعدما من الأرض منذ خلقت، ولا يعدمان بعد ما وجد السحر في الناس. فيدعي ما لا يخفى بُطُولُهُ.
فإذا فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها، فبين أن معنى: (ما) التي في قوله: {وَما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ} بمعنى «الذي»، وأن هاروت وماروت مترجم بهما عن الملكين ولذلك فتحت أواخر أسمائهما، لأنهما في موضع خفض على الردّ على الملكين، ولكنهما لما كانا لا يجرّان فتحت أواخر أسمائهما.
فإن التبس على ذي غباء ما قلنا، فقال: وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة؟ قيل له: إن الله جل ثناؤه عرّف عباده جَميعَ ما أمرهم به وجميعَ ما نهاهم عنه، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الأمر على غير ذلك، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم، فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه، فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما: "إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ" ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه وعن السحر، فيمحّص المؤمن بتركه التعلم منهما، ويُخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما، ويكون الملكان في تعليمهما من علّما ذلك لله مطيعين، إذ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان. وقد عُبد من دون الله جماعةٌ من أولياء الله، فلم يكن ذلك لهم ضائرا إذْ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناهٍ، فكذلك الملكان غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما بعد نهيهما إياه عنه وعِظَتهما له بقولهما: "إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ" إذ كانا قد أدّيا ما أُمر به بقيلهما ذلك... وأما قوله: "بِبابِلَ": فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض. وقد اختلف أهل التأويل فيها، فقال بعضهم: إنها بابل دنباوند.
وقال بعضهم: بل ذلك بابل العراق.
{وما يُعَلّمانِ مِنْ أحَدٍ حتى يَقُولا إنّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}: وتأويل ذلك: وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم فلا تكفر بربك.
{فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ}.
وقوله جل ثناؤه: {فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا} خبر مبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنزل عليهما، وليس بجواب لقوله: {وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} بل هو خبر مستأنف ولذلك رُفع، فقيل: فيتعلمون.
فمعنى الكلام إذا: وما يعلمان من أحد حتى يقولا: إنما نحن فتنة. فيأبون قبول ذلك منهما فيتعلمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه.
وقد قيل: إن قوله: {فَيَتَعَلّمُونَ} خبر عن اليهود معطوف على قوله: {وَلَكِنّ الشّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمَارُوتَ فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا ما يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ} وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم.
والذي قلنا أشبه بتأويل الآية لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام ما كان للتأويل وجه صحيح أَوْلى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام. والهاء والميم والألف من قوله: "مِنْهُمَا" من ذكر الملكين. ومعنى ذلك: فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرّقون به بين المرء وزوجه. و«ما» التي مع «يفرّقون» بمعنى «الذي». وقيل معنى ذلك: السحر الذي يفرّقون به، وقيل: هو معنى غير السحر... وأما "المرء": فإنه بمعنى رجل من أسماء بني آدم، والأنثى منه المرأة يوحد ويثنى، ولا يجمع ثلاثيه على صورته...
وأما الزوج، فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل: هي زوجه، بمنزلة الزوج الذكر ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: "أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ" وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون: هي زوجته.
فإن قال قائل: وكيف يفرّق الساحر بين المرء وزوجه؟ قيل: قد دللنا فيما مضى على أن معنى السحر تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه. فإن كان ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه، فتفريقه بين المرء وزوجه تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخصَ الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته من حُسْن وجمال حتى يقبحه عنده فينصرف بوجهه ويعرض عنه حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا، فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة ما بينهما.
وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا على أن العرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسببه وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السبب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع فكذلك تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه... وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين المرء وزوجه، فإنهم وجهوا تأويل قوله: {فَيَتَعَلّمُونَ مِنْهُمَا} إلى «فيتعلمون» مكان ما علماهم ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، كقول القائل: ليت لنا كذا من كذا، أي مكان كذا.
{وما هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاّ بإذْنِ اللّهِ}: وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، بضارّين بالذي تعلموه منهما من المعنى الذي يفرّقون به بين المرء وزوجه من أحد من الناس، إلاّ من قد قضى الله عليه أن ذلك يضرّه، فأما من دفع الله عنه ضرّه وحفظه من مكروه السحر والنفث والرّقَى، فإن ذلك غير ضارّه ولا نائله أذاه.
وللإذن في كلام العرب أوجه: منها الأمر على غير وجه الإلزام، وغير جائز أن يكون منه قوله: {وَما هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلا بإذْنِ اللّهِ} لأن الله جل ثناؤه قد حرّم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر، فكيف به على وجه السحر على لسان الأمة. ومنها التخلية بين المأذون له والمخلّى بينه وبينه. ومنها العلم بالشيء، يقال منه: قد أذنت بهذا الأمر، إذا علمت به... ومنه قوله جل ثناؤه: {فأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ} وهذا هو معنى الآية، كأنه قال جل ثناؤه: وَما هُمْ بِضَارّينَ بالذي تعلموا من الملكين من أحد إلا بعلم الله، يعني بالذي سبق له في علم الله أنه يضرّه...عن سفيان في قوله: {ومَا هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أحَدٍ إلاّ بإذْنِ اللّهِ} قال: بقضاء الله.
{وَيَتَعَلّمُونَ ما يَضُرّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ}.
{وَيَتَعَلّمُونَ}: أي الناس الذين يتعلمون من الملكين، {ما أنزل عليهما} من المعنى الذي يفرّقون به بين المرء وزوجه، يتعلمون منهما السحر الذي يضرّهم في دينهم ولا ينفعهم في معادهم. فأما في العاجل في الدنيا، فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا.
يعني بقوله جل ثناؤه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لِمَنِ اشْتَرَاهُ مالَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} الفريق الذين لما جاءهم رسول من عند الله مصدّق لما معهم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، {واتّبَعُوا ما تَتْلُوا الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فقال جل ثناؤه: لقد علم النابذون من يهود بني إسرائيل كتابي وراء ظهورهم تجاهلاً منهم، التاركون العمل بما فيه، من اتّباعك يا محمد واتّباع ما جئت به، بعد إنزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم، وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم، المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان، والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنزلته على رسولي فآثره عليه ماله في الاَخرة من خلاق... فالنار مثواه ومأواه.
" لَمَنِ اشْتَرَاهُ": فإن «من» في موضع رفع، وليس قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} بعامل فيها لأن قوله: عَلِمُوا بمعنى اليمين فلذلك كانت في موضع رفع، لأن الكلام بمعنى: والله لمن اشترى السحر، ما له في الاَخرة من خلاق. ولكون قوله: قَدْ عَلِمُوا بمعنى اليمين حققت بلام اليمين، فقيل: "لَمَنِ اشُتَرَاهُ" كما يقال: أُقسم لَمَنْ قام خير ممن قعد. وأما «من» فهو حرف جزاء...
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {ما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}؛
فقال بعضهم: الخلاق في هذا الموضع: النصيب.
وقال بعضهم: الخَلاق ههنا: الحجة.
وقال آخرون: الخلاق ههنا: القِوَام.
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى الخلاق في هذا الموضع: النصيب، وذلك أن ذلك معناه في كلام العرب. ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لَيُؤَيّدَنّ اللّهُ هَذَا الدّينَ بأقْوَامٍ لا خَلاَقَ لَهُمْ» يعني لا نصيب لهم ولا حظّ في الإسلام والدين...
فكذلك قوله: "مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ": ما له في الدار الآخرة حظّ من الجنة من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يجازي به في الجنة ويثاب عليه، فيكون له حظّ ونصيب من الجنة. وإنما قال جل ثناؤه: {ما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} فوصفه بأنه لا نصيب له في الآخرة، وهو يعني به لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار. إذ كان قد دلّ ذمه جل ثناؤه أفعالهم التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب على مراده من الخير، وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات، وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا.
{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى شروا: باعوا؛ فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته.
فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وقد قال قَبْلُ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم، وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بالسحر أنفسهم؟ قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به، ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما معنى الكلام: وما هم ضارّون به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرّهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاَخرة من خلاق. فقوله: {لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِه أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ذمّ من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه، وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم برضاهم بالسحر عِوَضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة، جهلاً منهم بسوء عاقبة فعلهم وخسارة صفقة بيعهم، إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله ولا يعرف حلاله وحرامه وأمره ونهيه. ثم عاد إلى الفريق الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون: وَاتّبَعُوا مَا تَتْلُو الشّياطِينُ على مُلْكِ سُلَيْمانَ، وما أُنْزِلَ على المَلَكَيْنِ. فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق، ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها، ويكفرون بالله ورسله، ويؤثرون اتباع الشياطين، والعمل بما أحدثته من السحر على العمل بكتابه ووحيه وتنزيله، عنادا منهم وبغيا على رسله، وتعديّا منهم لحدوده، على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب، فذلك تأويل قوله.
وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ما لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} يعني به الشياطين، وأن قوله: "لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" يعني به الناس. وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف، وذلك أنهم مجمعون على أن قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لمَنِ اشْتَرَاهُ} معنيّ به اليهود دون الشياطين. ثم هو مع ذلك خلاف ما دلّ عليه التنزيل، لأن الآيات قبل قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لمَنِ اشْتَرَاهُ} وبعد قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} جاءت من الله بذمّ اليهود، وتوبيخهم على ضلالهم، وذمّا لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم، مع علمهم بخطأ فعلهم. فقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أحد تلك الأخبار عنهم.
وقال بعضهم: إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله: {وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فنفى عنهم العلم، هم الذين وصفهم الله بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لمنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا، وإنما العالم العامل بعلمه، وأما إذا خالف عمله علمه فهو في معاني الجهال. قال: وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل وإن كان بفعله عالما: لو علمت لأقصرت...وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووجهٌ فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب. أعني بقوله: "وَلَقَدْ عَلِمُوا" وقوله: "لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" وإنما هو استخراج. وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب دون الخفيّ الباطن منه، حتى تأتي دلالة من الوجه الذي يجب التسليم له بمعنى خلاف دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن أَوْلَى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان}
والآية في موضع الاحتجاج على اليهود لأنهم ادعوا أن الذي هم عليه أخذ عن سليمان عليه السلام، فإن كان كفرا فقد كفر سليمان. فأخبر الله عز وجل نبيه أن سليمان ما {كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} بما علموا الناس من السحر.
ويحتمل: أتباع الشياطين كفروا باعتقادهم السحر وعملهم به بتعليم الشياطين، فنسب ذلك إلى الشياطين بما بهم كفروا كما نسبت عبادة الأصنام بما بهم عبدوا، والله أعلم... فلا ندري كيف كانت القصة. غير أن اليهود تركت كتب الأنبياء والرسل، واتبعوا كتب الشياطين وما دعوهم إليه من السحر والكفر، وبالله التوفيق...
وفيه دلالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بما أخبرهم عن قصتهم على ما كان، فدل أنه كان عرف ذلك بالله عز وحل وفي ذلك أن قد نسب إلى سليمان عليه السلام ما برأه الله من غير أن يبين ماهيته؛
ذكره الله عز وجل لوجهين: دلالة لرسوله وتكذيبا للذين نحلوه بما هو كفر. وقوله: {على ملك سليمان} أي في ملكه، إذ كان ذلك الوقت هو وقت ظهورهم، ثم سخرهم عز وجل لسليمان، فأمكن ذلك منهم؛ ألقاه على ألسن المعاندين لسليمان في السر، فرووه عنه بعد الوفاة، فكذبهم الله عز وجل وبرأ نبيه عليه السلام من ذلك، وبين كيف كان بدؤه. فإنما بينها للخلق لئلا يتبعوا في الرواية كل من لقي النبي؛ إذ قد يكون من أمثالهم اختراع الرواية وإلزام السامعين الأمور غير المعتادة من الرسل ورد ما لا يوافق ذلك من الرواية. ولذلك أبطل أصحابنا خبر الخاص في ما يبلى به العام...
ثم السحر يكون على وجهين. سحر يكفر به صاحبه؛ فإن كان ذلك منه بعد الإسلام يقتل به صاحبه لأنه ارتداد منه، وسحر لا يكفر به صاحبه فلا يقتل به إلا أن يسعى في الأرض بالفساد من قتل الناس وأخذ الأموال، فهو كقاطع الطريق يحكم بحكمهم من القتل وسائر العقوبات، وإذا تاب قبلت توبته.
ألا ترى أن سحرة فرعون لما رأوا الآيات آمنوا بالله تعالى، وتابوا توبة لا يطمع في مثل تلك التوبة من المسلم الذي نشأ على الإسلام؛ حين أوعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب وأنواع العذاب، فقالوا: {لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون}؟ [الشعراء: 50]...
وقال بعض [الناس]: لا تقبل توبة الساحر، وهو غلط، وأحق من تقبل توبته الساحر؛ إذ هو أبلغ في تمييز ما هو حجة مما لا حجة. وهذا هو الأصل: إن المدعي لشيء على عهد الأنبياء، إذا استقبلهم بمثلة الأنبياء عليهم السلام فهو أحق من يلزمهم الإيمان به لعلمهم بالحق منه، والعوام لا يعرفون إلا ظاهر ما يلزمهم من تصديق الحجج، والله أعلم...
الواجب أن نقدم القول في السحر لخفائه على كثير من أهل العلم فضلاً عن العامة، ثم نعقبه بالكلام في حكمه في مقتضى الآية في المعاني والأحكام، فنقول: إن أهل اللغة يذكرون أن أصله في اللغة لما لَطُفَ وخَفِيَ سَبَبُهُ، والسَّحَرُ عندهم بالفتح هو الغذاءُ لخفائه ولطف مجاريه،والسَّحْرُ الرئة وما يتعلق بالحلقوم، وهذا يرجع إلى معنى الخفاء، ومنه قول عائشة:"توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين سَحْرِي ونَحْرِي". وقوله تعالى {إنما أنت من المسحرين} [الشعراء: 153، 185] يعني من المخلوق الذي يُطْعم ويُسقَى؛ ويدل عليه قوله تعالى {وما أنت إلا بشر مثلنا} [الشعراء: 154]؛ وكقوله تعالى: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7]. ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا. وإنما يُذكر السحر في مثل هذه المواضع لضعف هذه الأجساد ولطافتها ورقّتها وبها مع ذلك قَوَامُ الإنسان، فمن كان بهذه الصفة فهو ضعيف محتاج؛ وهذا هو معنى السحر في اللغة، ثم نقل هذا الاسم إلى كل أمر خَفِيَ سَبَبُهُ؛ وتُخُيِّلَ على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخِداع، ومتى أُطلق ولم يُقَيَّدْ أفاد ذمّ فاعله. وقد أجري مقيداً فيما يُمتدح ويُحمد كما روي: "إِنَّ منَ البَيَانِ لَسِحْراً". فسمى النبي عليه السلام بعض البيان سحراً، لأن صاحبه بين أن ينبئ عن حق فيوضحه ويجليه بحسن بيانه بعد أن كان خفياً -فهذا من السحر الحلال الذي أقرّ النبي عليه السلام عمرو بن الأهتم عليه ولم يَسْخَطْهُ منه.
ومتى أُطلق فهو اسم لكل أمر مُمَوَّهٍ باطل لا حقيقة له ولا ثبات، قال الله تعالى: {سحروا أعين الناس} [الأعراف: 116] يعني مَوَّهُوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعِصِيَّهم تسعى. وقال: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} [طه: 166] فأخبر أن ما ظنوه سَعياً منها لم يكن سعياً وإنما كان تخييلاً. وقد قيل: إنها كانت عِصِيّاً مجوفة قد مُلئت زئبقاً، وكذلك الحبال كانت معمولة من أدم محشوَّة زئبقاً، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسراباً وجعلوا آزاجاً وملؤوها ناراً، فلما طُرحت عليه وحَمِي الزئبقُ حَرّكها، لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فأخبر الله أن ذلك كان مموّهاً على غير حقيقته. والعرب تقول لضرب من الحلي "مسحور "أي مُمَوَّهٌ على من رآه مسحور به عينُه. فما كان من البيان على حق ويوضحه فهو من السحر الحلال، وما كان منه مقصوداً به إلى تمويه وخديعة وتصويرِ باطلٍ في صورة الحق فهو من السحر المذموم.
واسم السحر إنما أُطلق على البيان مجازاً لا حقيقةً، والحقيقةُ ما وصفنا، ولذلك صار عند الإطلاق إنما يتناول كل أمرٍ مموَّهٍ قد قُصد به الخديعة والتلبيس وإظهار ما لا حقيقة له ولا ثبات.
ثم قوله تعالى {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} يدّل على أن ما أخبرت به الشياطين وادّعته من السحر على سليمان كان كفراً، فنفاه الله عن سليمان وحَكَمَ بكفر الشياطين الذين تعاطوه وعملوه،
ثم عطف على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ ببَابِلَ هَاروتَ ومَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فلا تَكْفُرْ} فأخبر عن الملكين أنهما يقولان لمن يعلمانه ذلك: لا تكفر بعمل هذا السحر واعتقاده! فثبت أن ذلك كفر إذا عمل به واعتقده.
ثم قال: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ في الآخرة من خلاق} يعني، والله أعلم: من استبدل السحر بدين الله ما له في الآخرة من خلاقٍ، يعني من نصيب.
ثم قال: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعلَمُونَ}؛ فجعل ضد هذا الإيمان فعل السحر؛ لأنه جعل الإيمان في مقابلة فعل السحر.وإنما خصّ الملكين بالذكر وإن كانا مأمورين بتعريف الكافة، لأن العامة كانت تَبعاً للملكين، فكان أبلغ الأشياء في تقرير معاني السحر والدلالة على بطلانه تخصيص الملكين به ليتبعهما الناس، كما قال لموسى وهارون: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44] وقد كانا عليهما السلام رسولين إلى رعاياه كما أُرسلا إليه، ولكنه خصّه بالمخاطبة لأن ذلك أنفع في استدعائه واستدعاء رعيته إلى الإسلام... 75]. قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ بإِذْنِ الله}؛ الإذن هنا العلم فيكون اسماً إذا كان مخففاً، وإذا كان محركاً كان مصدراً، كما يقول: حَذِرَ الرجل حَذَراً فهو حَذِرٌ؛ فالحذرُ الاسم والحَذَرُ المصدر. ويجوز أيضاً أن يكون مما يقال على وجهين كشِبْهٍ وشَبَهٍ ومِثْلٍ ومَثَلٍ. وقيل فيه {إلاّ بإِذْنِ اللهِ} أي بتخليته. وقال الحسن: "من شاء الله منعه فلم يضره السحر ومن شاء خلّى بينه وبينه فضره".
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ولَمَّا قال الله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ} عَلِم أهل التحصيل أن العلم بكل معلوم -وإن كان صفةَ مدح- ففيه غيرُ مرغوبٍ فيه، بل هو مستعاذٌ منه قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أعوذ بك من علم لا ينفع".
{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. لو علم المغبونُ ماذا أبقى وماذا أبلى لتقطعت أحشاؤه حسراتٍ، ولكن سيعلم: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] الذي فاته من الكرائم...
اعلم أن هذا هو نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو اشتغالهم بالسحر وإقبالهم عليه ودعاؤهم الناس إليه...
أما قوله: {على ملك سليمان}... الأقرب أن يكون المراد واتبعوا ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان لأنهم كانوا يقرءون من كتب السحر ويقولون إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب هذا العلم، فكانت تلاوتهم لتلك الكتب كالافتراء على ملك سليمان...
اختلفوا في المراد بملك سليمان... والأصح عندي أن يقال: إن القوم لما ادعوا أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان...
السبب في أنهم أضافوا السحر إلى سليمان عليه السلام وجوه.
(أحدها): أنهم أضافوا السحر إلى سليمان تفخيما لشأنه وتعظيما لأمره وترغيبا للقوم في قبول ذلك منهم،
(وثانيها): أن اليهود ما كانوا يقرون بنبوة سليمان بل كانوا يقولون إنما وجد ذلك الملك بسبب السحر.
(وثالثها): أن الله تعالى لما سخر الجن لسليمان فكان يخالطهم ويستفيد منهم أسرارا عجيبة فغلب على الظنون أنه عليه الصلاة والسلام استفاد السحر منهم...
أما قوله تعالى: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} فظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون الناس السحر، لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية وتعليم ما لا يكون كفرا لا يوجب الكفر، فصارت الآية دالة على أن تعليم السحر كفر، وعلى أن السحر أيضا كفر.
ولمن منع ذلك أن يقول: لا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، بل المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون الناس السحر،
فإن قيل: هذا مشكل لأن الله تعالى أخبر في آخر الآية أن الملكين يعلمان الناس السحر، فلو كان تعليم السحر كفرا لزم تكفير الملكين، وإنه غير جائز لما ثبت أن الملائكة بأسرهم معصومون وأيضا فلأنكم قد دللتم على أنه ليس كل ما يسمى سحرا فهو كفر.
قلنا: اللفظ المشترك لا يكون عاما في جميع مسمياته، فنحن نحمل هذا السحر الذي هو كفر على النوع الأول من الأشياء المسماة بالسحر، وهو اعتقاد إلهية الكواكب والاستعانة بها في إظهار المعجزات وخوارق العادات، فهذا السحر كفر، والشياطين إنما كفروا لإتيانهم بهذا السحر لا بسائر الأقسام...
أحدها: أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبوابا غريبة في السحر، وكانوا يدعون النبوة ويتحدون الناس بها، فبعث الله تعالى هذين الملكين لأجل أن يعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذبا، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد،
وثانيها: أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسحر متوقف على العلم بماهية المعجزة وبماهية السحر، والناس كانوا جاهلين بماهية السحر، فلا جرم هذا تعذرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة، فبعث الله هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض.
وثالثها: لا يمتنع أن يقال: السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أولياء الله كان مباحا عندهم أو مندوبا، فالله تعالى بعث الملكين لتعليم السحر لهذا الغرض، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما واستعملوه في الشر وإيقاع الفرقة بين أولياء الله والألفة بين أعداء الله،
ورابعها: أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ولما كان السحر منهيا عنه وجب أن يكون متصورا معلوما لأن الذي لا يكون متصورا امتنع النهي عنه،
وخامسها: لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أمورا يقدرون بها على معارضة الجن، وسادسها: يجوز أن يكون ذلك تشديدا في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب به الثواب الزائد كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال: {فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني} فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السحر والله أعلم...
قوله تعالى: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه}... أنه تعالى لم يذكر ذلك لأن الذي يتعلمون منهما ليس إلا هذا القدر، لكن ذكر هذه الصورة تنبيها على سائر الصور، فإن استكانة المرء إلى زوجته وركونه إليها معروف زائد على كل مودة، فنبه الله تعالى بذكر ذلك على أن السحر إذا أمكن به هذا الأمر على شدته فغيره به أولى...
أما قوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد} فإنه يدل على ما ذكرناه لأنه أطلق الضرر، ولم يقصره على التفريق بين المرء وزوجه، فدل ذلك على أنه تعالى إنما ذكره لأنه من أعلى مراتبه...
{ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق}... فيه مسائل: [منهاكونه] إنما ذكر لفظ الشراء على سبيل الاستعارة لوجوه،
أحدها: أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وأقبلوا على التمسك بما تتلوا الشياطين فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله،
وثانيها: أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة فلما استعمل السحر فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا.
وثالثها: أنه لما استعمل السحر علمنا أنه إنما تحمل المشقة ليتمكن من ذلك الاستعمال فكأنه اشترى بالمحن التي تحملها قدرته على ذلك الاستعمال...
بقي في الآية سؤال: وهو أنه كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله: {ولقد علموا} ثم نفاه عنهم في قوله: {لو كانوا يعلمون} والجواب من وجوه،
أحدها: أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا، فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه وهم الذين قال الله في حقهم: {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} وأما الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر فهم الذين لا يعلمون، وهذا جواب الأخفش وقطرب.
وثانيها: لو سلمنا كون القوم واحدا ولكنهم علموا شيئا وجهلوا شيئا آخر، علموا أنهم ليس لهم في الآخرة خلاق ولكنهم جهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة، وما حصل لهم من مضارها وعقوباتها.
وثالثها: لو سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد ولكنهم لم ينتفعوا بعلمهم بل أعرضوا عنه فصار ذلك العلم كالعدم كما سمى الله تعالى الكفار: {عميا وبكما وصما} إذ لم ينتفعوا بهذه الحواس. ويقال للرجل في شيء يفعله لكنه لا يضعه موضعه: صنعت ولم تصنع...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
إن قوله: {يعلمون الناس السحر} نمنع أنه تفسير لقوله:"كفروا"، بل إخبار عن حالهم بعد تقرر كفرهم بغير السحر، وإنما يتم المقصود إذا كانت الجملة الثانية مفسرة للأولى، سلمنا أنها مفسرة لها، لكن يتعين حمله على أن ذلك السحر كان مشتملا على الكفر، وكانت الشياطين تعتقد موجب تلك الألفاظ كالنصراني إذا علم المسلم دينه فإنه يعتقد موجبه، وأما الأصولي إذا علم تلميذه المسلم دين النصراني ليرد عليه ويتأمل فساد قواعده فلا يكفر المعلم و ولا المتعلم. وهذا التقييد على وفق القواعد.
وأما جعل التعلم والتعليم مطلقا كفرا فهو خلاف القواعد. ولأن السحر لا يتأتى إلا ممن يعتقد أنه بقدرته على تغيير الأجسام، والجزم بذلك كفر. أو نقول: هو علامة الكفر بإخبار الشرع، فلو قال الشارع: من دخل موضع كذا فهو كافر، اعتقدنا كفر الداخل وإن لم يكن الدخول كفرا، وإن أخبرنا هو أنه مؤمن لم نصدقه.
قوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} الاستثناء في هذه الآية واقع في الأسباب، لأن الباء في المستثنى للسببية. وتقدير الكلام: ما هم بضارين بالسحر من أحد إلا بسبب من الأسباب إلا بإذن الله، أي: إلا بقدرة الله تعالى وإرادته. فهذا هو السبب الذي إذا تيسر حصل الضرر بالسحر، وإلا فلا يحصل أصلا. ويكون الاستثناء متصلا لحصول شرائطه، وهي الاستثناء من الجنس، والحكم بالنقيض على ما بعد "إلا". فإن المتقدم قبلها عدم الضرر، وبعدها الضرر إذا حصل السبب المذكور.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{واتبعوا ما تتلوا الشياطين} عطف على نبذ، أي نبذوا كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرأها، أو تتبعها الشياطين من الجن، أو الإنس، أو منهما.
{وما كفر سليمان} تكذيب لمن زعم ذلك، وعبر عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر، وأن من كان نبيا كان معصوما منه.
{يعلمون الناس السحر} إغواء وإضلالا، والجملة حال من الضمير، والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس. فإن التناسب شرط في التضام والتعاون، وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم، وتسميته سحرا عمل التجوز، أو لما فيه من الدقة لأنه في الأصل لما خفي سببه.
{وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} فمعناه
على الأول ما يعلمان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله، فمن تعلم منا وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان، فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به. وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور، وإنما المنع من اتباعه والعمل به.
وعلى الثاني ما يعلمانه حتى يقولا إنما نحن مفتونان فلا تكن مثلنا.
{لمن اشتراه} أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى، والأظهر أن اللام لام الابتداء علقت علموا عن العمل {ما له في الآخرة من خلاق} نصيب {ولبئس ما شروا به أنفسهم} يحتمل المعنيين على ما مر.
{لو كانوا يعلمون} يتفكرون فيه، أو يعلمون قبحه على التعيين، أو حقية ما يتبعه من العذاب، والمثبت لهم أولا على التوكيد القسمي العقل الغريزي أو العلم الإجمالي يقبح الفعل، أو ترتب العقاب من غير تحقيق وقيل؛ معناه لو كانوا يعملون بعلمهم، فإن من لم يعمل بما علم فهو كمن لم يعلم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين، كمجاهد والسدي والحسن [البصري] وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
قال عياض: وأما ما ذكره أهل الأخبار، ونقله المفسِّرون في قصَّة هَارُوت ومَارُوت، وما رُوِيَ عن عليٍّ، وابنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما- في خَبَرِهما وابتلائهما، فاعلم -أكرمك اللَّه- أن هذه الأخبار لم يُرْو منها سقيمٌ ولا صحيحٌ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وليس هو شَيْئاً يؤخذ بقياسٍ، والذي منه في القرآن، اختلف المفسِّرون في معناه، وأنكَرَ ما قال بعضهم فيه كثيرٌ من السلف، وهذه الأخبار من كتب اليهود وافترائهم، كما نصَّه اللَّه أول الآيات...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت سنة الله جارية بأنه ما أمات أحد سنة إلا زاد في خذلانه بأن أحيى على يده بدعة، أعقبهم نبذهم لكلام الله أولى الأولياء إقبالهم على كلام الشياطين الذين هم أعدى الأعداء فقال تعالى:
{واتبعوا ما تتلوا} أي تقرأ أو تتبع، وعبر بالمضارع إشارة إلى كثرته وفشوه واستمراره
{سليمان} من السحر الذي هو كفر.
قال الحرالي: من حيث إن حقيقته أمر يبطل بذكر اسم الله ويظهر أثره فيما قصر عليه من التخييل والتمريض ونحوه بالاقتصار به من دون اسم الله الذي هو كفر وكأن السحر كان في تلك الأيام ظاهراً عالياً على ما يفهمه التعبير بعلى، وأحسن من هذا أن يضمن {تتلوا} تكذب، فيكون التقدير: تتلو كذباً على ملكه والحاصل أنهم مع تركهم للكتب المصدقة لما معهم، الكفيلة بكل هدى وبركة، الآتية من عند الله المتحبب إلى عباده بكل جميل، على ألسنة رسله الذين هم أصدق الناس وأنصحهم وأهداهم، لا سيما هذا الكتاب المعجز الذي كانوا يتباشرون بقرب زمن صاحبه، اتبعوا السحر الذي هو أضر الأشياء وأبشعها، الآتي به الشياطين الذين هم أعدى الأعداء وأفظعها، وأعجب ما في ذلك أنهم نسبوا السحر إلى سليمان عليه السلام كذباً وفجوراً وكفروه به ثم كانوا هم أشد الناس تطلباً له ومصاحبة علماً وعملاً وأكثر ما يوجد فيهم، فكانوا بذلك شاهدين على أنفسهم بالكفر؛
ومن المحاسن أيضاً أنه لما كان قوله: "ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} [البقرة: 87] وما بعده في الكتب والأنبياء والرسل من البشر والملائكة كانت فذلكته أن الكفرة من أهل الكتاب نبذوا ذلك كله ونابذوه وأقبلوا على السحر الذي كان إبطاله من أول معجزات نبيهم وأعظمها؛ فهو أشد شيء منافاة لشرعهم مع علمهم بأن ذلك يضرهم في الدارين ولا ينفعهم.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
الخلاصة: أن معنى الآية من أولها إلى آخرها هكذا: أن اليهود كذبوا القرآن ونبذوه وراء ظهورهم، واعتاضوا عنه بالأقاصيص والخرافات التي يسمعونها من خبثائهم عن سليمان وملكه. وزعموا أنه كفَر، وهو لم يكفر. ولكن شياطينهم هم الذين كفروا، وصاروا يعلمون الناس السحر، ويدعون أنه أنزل على هاروت وماروت، اللذين سمَّوْهما ملكين، ولم ينزل عليهما شيء، وإنما كانا رجلين يدّعيان الصلاح لدرجة أنهما كانا يوهمان الناس أنهما لا يقصدان إلا الخير، ويحذرانهم من الكفر. وبلغ من أمر ما يتعلمونه منهما من طرق الحيل والدهاء أنهم يفرقون به بين المجتمعين، ويحلون به عقد المتحدين. فأنت ترى من هذا أن المقام كله للذم، فلا يصح أن يرد فيه مدح هاروت وماروت. والذي يدل على صحة ما قلناه فيهما أن القرآن أنكر نزول أي ملك إلى الأرض ليعلم الناس شيئا من عند الله، غير الوحي إلى الأنبياء، ونص نصا صريحا أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني نوعهم فقال: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم* فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون}، وقال منكرا على من طلب إنزال الملك {وقالوا لولا أنزل عليه ملك* ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون}، وقال في سورة الفرقان: {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا –إلى قوله- فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا}.
{وما هم بضارّين به من أحد إلا بإذن الله} قال الراغب: الإذن قد يقال في الإعلام بالرخصة، ويقال للعلم، ومنه آذنته بكذا، ويقال للأمر الحتم.
وينبغي أن يعلم أن الإذن في الشيء من الله تعالى ضربان:
أحدهما: الإذن لقاصد الفعل في مباشرته. نحو قولك: أذن الله لك أن تصل الرحم.
والثاني: الإذن في تسخير الشيء على وجه تسخير السم في قتله من يتناوله، والترياق في تخليصه من أذيته. فإذن الله تعالى في وقوع التسخير وتأثيره من القبيل الثاني، وذلك هو المشار إليه بالقضاء، وعلى هذا يقال: (الأشياء كلها بإذن الله وقضائه) ولا يقال: الأشياء كلها بأمره ورضاه
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(قال الأستاذ الإمام ما مثاله): بينا غير مرة أن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين، وإنه ليحكي من عقائدهم الحق والباطل، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب، ومن عاداتهم النافع والضار، لأجل الموعظة والاعتبار، فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز موطن الهداية، ولا بدّ أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ما يدل على استحسان الحسن واستهجان القبيح. وقد يأتي في الحكاية بالتعبيرات المستعملة عند المخاطبين أو المحكي عنهم وإن لم تكن صحيحة في نفسها كقوله {كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} وكقوله {بلغ مطلع الشمس}.
وهذا الأسلوب مألوف فإننا نرى كثيرا من كتاب العربية وكتاب الإفرنج يذكرون آلهة الخير والشر في خطبهم ومقالاتهم لا سيما في سياق كلامهم عن اليونان والمصريين القدماء ولا يعتقد أحد منهم شيئا من تلك الخرافات الوثنية. ويقول أهل السواحل غربت الشمس أو سقط قرص الشمس في البحر أو في الماء، ولا يعتقدون ذلك وإنما يعبرون به عن المرئي...
(قال الأستاذ الإمام): في قوله تعالى {يعلمون الناس السحر} وجهان؛
(أحدهما) أنه متصل بقوله {ولكن الشياطين كفروا} أي إن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر.
(والثاني) وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود وإن الكلام في الشياطين قد انتهى عند القول بكفرهم. وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهورا في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم. أي إن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وهاهنا يقول القائل: بماذا اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان في رميه بالكفر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه؟ فأجاب على طريق الاستئناف البياني (يعلمون الناس السحر) الخ، ونفي الكفر عن سليمان. وإلصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض فعلم أيضا أنهم اتبعوا الشياطين بهذه الفرية أيضا.
وإنما كان القصد إلى وصف اليهود بتعليم السحر لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها ويضرون به الناس خداعا وتمويها وتلبيسا...
ثم قال {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فأجمل بهذه العبارة الوجيزة خبر قصة كانوا يتحدثون بها كما أجمل في ذكر تعليم السحر فلم يذكر ما هو؟ أشعوذة وتخييل؛ أم خواص طبيعية، وتأثيرات نفسية؟ وهذا ضرب من الإعجاز في الإيجاز انفرد به القرآن – يذكر الأمر المشهور بين الناس في وقت من الأوقات لأجل الاعتبار به فينظمه في أسلوب يمكن لكل أحد أن يقبله فيه مهما يكن اعتقاده لذلك الشيء في تفصيله، ألا ترى كيف ذكر السحر هنا وفي مواضع أخرى بأساليب لا يستطيع أن ينكرها من يدعي أن السحر حيلة وشعوذة أو غير ذلك مما ذكرناه ولا يستطيع أن يردها من يدعي أنه من خوارق العادات؟ والحكمة في ذلك أن الله عز وجل قد وكل معرفة هذه الحقائق الكونية إلى بحث الإنسان واشتغاله بالعلم لأنه من الأمور الكسبية، ولو بين مسائلها بالنص القاطع لجاءت مخالفة لعلم الناس واختبارهم في كل جيل لم يرتق العلم فيه إلى أعلى درجة، ولكانت تلك المخالفة من أسباب الشك أو التكذيب فإننا نرى من الناس من يطعن في كتب الوحي لتفسير بعض تلك الأمور المجملة بما يتراءى لهم وإن تكن نصا ولا ظاهرا فيه، ويزعمون أن كتاب الدين جاء مخالفا للعلم وإن كان ذلك الذي يطلقون عليه اسم العلم ظنيا أو فرضيا...
{وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} أي أنهم ليس لهم قوة غيبية وراء الأسباب التي ربط الله بها المسببات فهم يفعلون بها ما يوهمون الناس أنه فوق استعداد البشر، وفوق ما منعوا من القوى والقدر، فإذا اتفق أن أصيب أحد بضرر من أعمالهم فإنما ذلك بإذن الله أي بسبب من الأسباب التي جرت العادة بأن تحصل المسببات من ضر ونفع عند حصولها بإذن الله تعالى. وهذا الحكم التوحيدي هو المقصد الأول من مقاصد الدين فالقرآن لا يترك بيانه عند الحاجة بل يبينه عند كل مناسبة وربما ترد في القرآن قصة مثل هذه القصة لأجل بيان الحق في مسألة اعتقادية كهذه المسألة لأن إيراد الأحكام في سياق الوقائع أوقع في النفس وأعصى على التأويل والتحريف...
ثم قال بعد نفي القوة التي وراء الأسباب عنهم {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} يضرهم لأنه سبب في الإضرار بالناس وهو محرم يعاقب الله تعالى عليه في الآخرة ومن عرف بإيذاء الناس يمقته الناس ويكونون عليه.
و [لما] كان بعض الضار من جهة نافعا من جهة أخرى وربما كانت منفعته أكبر من إثمه نفى المنفعة بعد إثبات المضرة، فهذا النفي واجب في قانون البلاغة لا بد منه. وقد صدق الله تعالى فإننا نرى منتحلي السحر وما في معناه أفقر الناس وأحقرهم، ولو عقل السفهاء الذين يختلفون إليهم يلتمسون المنافع لأنفسهم والإيقاع لأعبائهم لعلموا أن الشقي في نفسه لا يمكن أن يهب السعادة لغيره، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. هذه حالهم في الدنيا فكيف يكونون في الآخرة يوم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. لا جرم أنها تكون سوءى،
واليهود يعلمون ذلك كما قال {ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق} أي إنهم يعلمون أن من اختار هذا واستبدله بما آتاه الله من أصول الدين الحق وأحكام الشريعة العادلة الموصلين إلى سعادة الدنيا والآخرة فليس له نصيب في نعيم الآخرة، وذلك أن التوراة قد حظرت تعليم السحر وجعلته كعبادة الأوثان وشددت العقوبة على فاعله وعلى اتباع الجن والشياطين والكهان، ولا ينافي هذا العلم قوله {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} فإن العلم علمان – علم تفصيلي متمكن من النفس متسلط على إرادتها يحركها إلى العمل. وعلم إجمالي يلوح في الذهن مبهما عند ما يعرض ما يذكر به ككتاب وإلقاء سؤال، وهو يقبل التحريف والتأويل، وليس له منفذ إلى الإرادة ولا سبيل، فقد كانوا يستحلون أكل السحت كالرشوة والربا بالتأويل كما يفعل غيرهم اليوم وقبل اليوم. ولو كانوا يعلمون حرمة ما ذكر علما تفصيليا يستغرق جميع جزيئات المحرم ويفقهون علة التحريم وسره ويصدقون بما توعد الله مرتكبه من العقوبة في الآخرة تصديقا جازما ويتذكرونه وقت العمل بما للعقيدة من السلطان على الإرادة لما ارتكبوا ما ارتكبوه مع الإصرار عليه، ولكنهم فقدوا هذا النوع من العلم ولم يغن عنهم تصور أن السحر والخداع كلاهما حرام كالربا والرشوة لأن في الكتاب عبارة تدل على ذلك فإن العبارة تحتمل ضروبا من التأويل ككون النهي خاصا بمعاملة شعب إسرائيل وكانوا يقولون (ليس علينا في الأميين سبيل) إذا أكلنا أموالهم بالباطل، وكاشتراط الضرر في السحر مع ادعاء أن ما يأتونه منه نافع غير ضار وغير ذلك...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ولما كان من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع، ابتلي بالاشتغال بما يضره، فمن ترك عبادة الرحمن، ابتلي بعبادة الأوثان، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه، ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان، ومن ترك الذل لربه، ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل. كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر، وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم...
ثم ذكر مفاسد السحر فقال: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما، لأن الله قال في حقهما: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضر بإذن الله، أي: بإرادة الله...
ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة، ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي، كما قال تعالى في الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فهذا السحر مضرة محضة، فليس له داع أصلا، فالمنهيات كلها إما مضرة محضة، أو شرها أكبر من خيرها. كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ماذا؟ ماذا بعد أن نبذوا كتاب الله المصدق لما معهم؟؟ ألعلهم قد لاذوا بما هو خير منه؟ ألعلهم قد لجأوا إلى حق لا شبهة فيه؟ ألعلهم قد استمسكوا بكتابهم الذي جاء القرآن يصدقه؟
كلا.. لا شيء من هذا كله. إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ليجروا خلف أساطير غامضة لا تستند إلى حقيقة ثابتة...
(فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه).. وهو الأذى والشر الذي حذرهم منه الملكان.. وهنا يبادر القرآن فيقرر كلية التصور الإسلامي الأساسية، وهي أنه لا يقع شيء في هذا الوجود إلا بإذن الله: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله).. فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها وتنشئ آثارها وتحقق نتائجها.. وهذه قاعدة كلية في التصور لا بد من وضوحها في ضمير المؤمن تماما. وأقرب ما يمثل هذه القاعدة في مثل هذا المقام، أنك إذا عرضت يدك للنار فإنها تحترق. ولكن هذا الاحتراق لا يكون إلا بإذن الله. فالله هو الذي أودع النار خاصية الحرق وأودع يدك خاصية الاحتراق بها. وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها؛ كما وقع لإبراهيم -عليه السلام- وكذلك هذا السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، ينشئ هذا الأثر بإذن الله. وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية فيه حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها.. وهكذا بقية ما نتعارف عليه بأنه مؤثرات وآثار.. كل مؤثر مودع خاصية التأثير بإذن الله، فهو يعمل بهذا الإذن، ويمكن أن يوقف مفعوله كما أعطاه هذا المفعول حين يشاء...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولكن حال السحر أهو حقيقة ثابتة أم هو تخييل وتصوير للأمور بغير صورتها فيخيل إليه أنه يرى؟.
ونقول في الجواب عن ذلك: جاء السحر في القرآن ووصف بأوصاف، نتعرف حقيقته من هذه الأوصاف..
[و] أول وصف جاء من أخبار موسى عليه السلام مع فرعون، فقد قال تعالى في سحر آل فرعون: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين (115) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم (116)} [الأعراف] ونرى أنه يتصف بأنه سحر أعين الناس، أي أنهم لم يجعلوا الحبال أفاعي بل إن تأثيره أنه كان في الأعين لا في الوقائع، فتأثيرهم في الرؤية لا في تغيير الحقيقة وتحويلها من حبال إلى ثعابين، وفي سورة طه قال الله تعالى حكاية عنهم عندما التقوا يوم الزينة: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى (65) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66)} [طه]. ونرى أن السحر تأثير في الأعين المبصرة وليس تغييرا للحقائق الواقعة فلا يكون تغييرا، ولكن يكون تأثيرا في العيون، ولكنه تأثير نفسي قبل أن يؤثر في العين؛ ولذا قال تعالى فيما تلونا من سورة الأعراف {استرهبوهم} أي اتجهوا إلى إلقاء الرهبة في قلوبهم؛ ولذا جاء في سحر بابل أرض السحر أنه لا يؤثر في النفوس إلا بما يسبق إليها من تصديقه...
{وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فاليهود كانوا يعلمون ما أنزل على الملكين هاروت وماروت، فهل هما ملكان حقيقيان نزلا لتعليم الناس السحر، أو طرق الوقاية منه، ولا يمكن أن نعرف طرق الوقاية إلا بمعرفة طريقة التأثير. الظاهر أنهما ملكان؛ لأن الله تعالى سماهما ملكين، ولأن الله تعالى سمى ما كان يقومان به أنزله تعالى عليهما، ولم يبين المدة التي أقاماها في بابل، لتعليم الوقاية منه وإنذار الناس منه، كما قال إمام الهدى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه، وإن نزول الملك للتعليم كما ثبت بنزول جبريل في حديث الإيمان الذي رويناه آنفا. وإننا نسير فيما نكتب في فقه الإسلام وعلم القرآن على أساس أننا لا نعدل عن الظاهر إلا إذا تعذر تحقيق الظاهر، ولا ننتقل منه إلى غيره إلا مهتدين بنص؛ ولذا نرى أنهما ملكان نزلا لبيان السحر في ذاته والتضليل به وطريق الوقاية منه فهما منذران كما قال الإمام علي...
ونحن نقول إن نزوله ليس مستحيلا، والله لم يرد عليهم بأنه مستحيل، ولكن علم أنهم متعنتون، وقد طلبوا غير ذلك، وقالوا في طلبهم آيات أخرى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (92) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93)} [الإسراء]. فهم طلبوا هذه الآيات الحسية الكونية كما طلبوا أن ينزل ملك بقرطاس من السماء، وذلك كله كفر بالقرآن الذي تحداهم فعجزوا. فهل هذا كله مستحيل أن يأتي الله به، أم أن الله تعالى لا يريد أن يأتي بآية أخرى وهو يعلم أنهم لن يؤمنوا؛ ولهذا نقول إنه لا يوجد دليل على استحالة أن ينزل الله تعالى ملكا إلى الأرض، وقد نزل جبريل عليه السلام في سورة رجل للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإيمان الذي رواه البخاري. لهذا نحن نرى كما ذكرنا أنهما ملكان؛ لأن الله تعالى ذكر أنهما ملكان، وسماهما وذكر أنه أنزل عليهما، وأنهما كانا يحتاطان في بيان السحر، ويقولان {إنما نحن فتنة فلا تكفر}. كان هذان الملكان غير مضلين للناس، إنما جاءا لإنقاذ الناس من فتنة السحر إذ كانا يعلمان الحيل والتمويهات، وطرق الاستهواء التي أشرنا إليها من قبل آخذين لها من القرآن أدلة، كانا يعلمان الناس ذلك حتى لا يضلوا بالسحر، وقد اشتد ظلامه، وطم سيله
{وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة}، أي إن ما نعلمه فتنة يختبر الناس به.
{فلا تكفر}، أي فلا تأخذ به لأنه كفر، وإنما علمناك هذا لتتخذ منه وقاية، ولتحذره، وليكون ذلك إنذارا حتى لا تصدقه بعد ذلك، ولتعلم أنه يضل السحر والساحر...
[و لقد] اتبع اليهود ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وتعلموا السحر، وأخذوا يعلمونه، وجاء الملكان ليبينا زيفه وطرق التمويه فبدل أن يحذروه تعلموه منهما. وهكذا هم دائما يأخذون من كل شيء ما يضر ويتركون ما ينفع، فهم دائما يأخذون من التحذير طريق الوقوع في المحظور، كما أخذ إخوة يوسف من قول أبيهم يعقوب: {وأخاف أن يأكله الذئب} [يوسف 13]، فقالوا عندما ألقوه في غيابة الجب: أكله الذئب...
ولقد بين سبحانه وتعالى أن اليهود الذين اختاروا السحر على علم الكتاب يتعلمون ما يضرهم ولا نفع فيه فقال تعالى: {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} والضرر في السحر واضح لأنه يفسد العقول، فالساحر الدائب على السحر، ينتهي سحره بذهاب عقله، فيضطرب وتسارع إليه الوساوس، فلا يكون عنده ميزان عقلي سليم، يدرك منه الحق من الباطل، ويكون في وسواس مستمر، ويضر المجتمع؛ إذ به تفسد القلوب وتضطرب الأفهام، ولا يكون حق واضح، ولقد كان لنا صديق كان يتخذ السحر والتنويم المغناطيسي، وكان عالما رياضيا منظم العقل مستقيم الفكر، فلما أكثر من هذا التنويم الذي هو السحر، اضطربت موازين تقديره، وصار يصدق ما لا يقبل التصديق ويقبل من القول ما لا يصدقه. وآخر كان مؤمنا أشد الإيمان، وأكثر من هذا التنويم الذي هو السحر حتى فسد التقدير عنده، وصار يهرف بقول لا يصدر عن مؤمن عاقل، فيفضل الرسول على رب العالمين...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ينتقل الحديث بعد ذلك إلى وصف ما اشتهر به بنو إسرائيل بين الأمم من إقبال على السحر وتهالك عليه، واستغلال لبسطاء العقول بواسطته، ولا سيما بين مشركي العرب الأميين. ويشير القرآن الكريم إلى أن بني إسرائيل كانوا يذيعون بين الناس أن السحر إنما هو تراث أخذوه عن سليمان عليه السلام، كما كانوا ينسبونه إلى الملكين هاروت وماروت، وقصدهم من ذلك أن يجعلوا للسحر سندا صحيحا مرفوعا إلى الأنبياء ومقام الملائكة جميعا. وهكذا ينفي القرآن الكريم تهمة السحر عن سليمان، كما ينفيها عن الملكين هاروت وماروت، وبذلك يهدم الأساس المزور الذي يبني عليه بنو إسرائيل سحرهم، ويثبت القرآن الكريم في نفس الوقت أن السحر إنما هو في الحقيقة من صنع الشياطين ووحيهم، وأن سند بني إسرائيل من السحر إنما مرده إلى الشياطين وحدهم أولا وأخيرا {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}. أي ما تكذب به الشياطين عليه، وتنسبه إليه.
{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. وواضح أن كلمة (الشياطين) كما تطلق على شياطين الجن تطلق على شياطين الإنس، على حد قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبِئٍ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُمُ إلَى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُوراً}. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: {هَل أنَبِّئُكُم عَلَى من تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلَّ أَفَّاكٍ أثِيمِ، يُلقُونَ السَّمعَ وَأَكثَرُهُم كَاذِبُونَ}...
ومن هذه الآيات الكريمة تتضح للمسلمين أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أن تعلم السحر لاستعماله يضر ولا ينفع {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ}.
الأمر الثاني: أن عمل السحر واستعماله كفر أو يؤدي إلى الكفر {وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ، ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا} – {إنَّمَا نَحنُ فِتنَةُ فَلاَ تَكفُر} وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد".
الأمر الثالث: أن الضرر الذي يراد إلحاقه بالمسحور عن طريق السحر لا يتحقق إلا إذا كان أمره قدرا مقدورا {وَمَا هُم بضارين بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ}...
يخبرنا الحق تبارك وتعالى أن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين.. لأن النبذ يقابله الاتباع.. واتبعوا يعني اقتدوا وجعلوا طريقهم في الاهتداء هو ما تتوله الشياطين على ملك سليمان..
وكان السياق يقتضي أن يقال ما تلته الشياطين على ملك سليمان.. ولكن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم أن هذا الاتباع مستمر حتى الآن كأنهم لم يحددوا المسألة بزمن معين. إنه حتى هذه اللحظة هناك من اليهود من يتبع ما تلته الشياطين على ملك سليمان، ونظرا لأن المعاصرين من اليهود قد رضوا وأخذوا من فعل أسلافهم الذين اتبعوا الشياطين فكأنهم فعلوا. الحق سبحانه يقول: {واتبعوا ما تتلو الشياطين} ولكن الشياطين تلت وانتهت.. واستحضار اليهود لما كانت تتلوه الشياطين حتى الآن دليل على أنهم يؤمنون به ويصدقونه..
[و] الشياطين هم العصاة من الجن.. والجن فيهم العاصون والطائعون والمؤمنون.. واقرأ قوله تعالى: {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً "11 "} (سورة الجن). وقوله سبحانه عن الجن: {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون} (من الآية 14 سورة الجن). إذن الجن فيهم المؤمن والكافر.. المؤمنون من الجن فيهم الطائع والعاصي.. والشياطين هم مردة الجن المتمردون على منهج الله.. وكل متمرد على منهج الله نسميه شيطانا.. سواء [أكان] من الجن [أم كان] من الإنس.. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} (من الآية 112 سورة الأنعام). إذن فالشياطين هم المتمردون على منهج الله..
{واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان}.. يعني ما كانت تتلو الشياطين أيام ملك سليمان...
ما هو السحر؟ الكلمة مشتقة من سحر وهو آخر ساعات الليل وأول طلوع النهار.. حيث يختلط الظلام بالضوء ويصبح كل شيء غير واضح.. هكذا السحر شيء يخيل إليك أنه واقع وهو ليس بواقع.. إنه قائم على شيئين..
سحر العين لترى ما ليس واقعا على أنه حقيقة.. ولكنه لا يغير طبيعة الأشياء.. ولذلك قال الله تبارك وتعالى في سحرة فرعون: {سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيمٍ} (من الآية 116 سورة الأعراف). إذن فالساحر يسيطر على عين المسحور ليرى ما ليس واقعا وما ليس حقيقة.. وتصبح عين المسحور خاضعة لإرادة الساحر.. ولذلك فالسحر تخيل وليس حقيقة.. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى "66 "} (سورة طه) إذن مادام الله سبحانه وتعالى قال: {يخيل إليه}.. فهي لا تسعى..
إذن فالسحر تخيل.. وما الدليل على أن السحر تخيل؟.. الدليل هو المواجهة التي حدثت بين موسى وسحرة فرعون.. ذلك أن الساحر يسحر أعين الناس ولكن عينيه لا يسحرهما أحد.. حينما جاء السحرة و موسى.. اقرأ قوله سبحانه: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى "65" قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى "66 "} (سورة طه). عندما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم خيل للموجودين إنها حيات تسعى.. ولكن هل خيل للسحرة إنها حيات؟ طبعا لا.. لأن أحدا لم يسحر أعين السحرة.. ولذلك ظل ما ألقوه في أعينهم حبالا وعصيا.. حين ألقى موسى عصاه واقرأ قوله تبارك وتعالى: {وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى" 69 "فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى" 70 "} (سورة طه). هنا تظهر حقيقة السحر.. لماذا سجد السحرة؟ لأن حبالهم وعصيهم ظلت كما هي حبالا وعصيا.. ذلك أن أحدا لم يسحر أعينهم.. ولكن عندما ألقى موسى عصاه تحولت إلى حية حقيقية.. فعرفوا أن هذا ليس سحرا ولكنها معجزة من الله سبحانه وتعالى لماذا؟ لأن السحر لا يغير طبيعة الأشياء، وهم تأكدوا أن عصا موسى قد تحولت إلى حية.. ولكن حبالهم وعصيهم ظلت كما هي وإن كان قد خيل إلى الناس أنها تحولت إلى حيات. إذن فالسحر تخيل والساحر يرى الشيء على حقيقته لذلك فإنه لا يخاف.. بينما المسحورون الذين هم الناس يتخيلون أن الشيء قد تغيرت طبيعته.. ولذلك سجد السحرة لأنهم عرفوا أن معجزة موسى ليست سحرا.. ولكنها شيء فوق طاقة البشر. السحر إذن تخيل والشياطين لهم قدرة التشكل بأي صورة من الصور، ونحن لا نستطيع أن ندرك الشيطان على صورته الحقيقية، ولكنه إذا تشكل نستطيع أن نراه في صورة مادية.. فإذا تشكل في صورة إنسان رأيناه إنسانا، وإذا تشكل في صورة حيوان رأيناه حيوانا، وفي هذه الحالة تحكمه الصورة.. فإذا تشكل كإنسان وأطلقت عليه الرصاص مات، وإذا تشكل في صورة حيوان ودهمته بسيارتك مات، ذلك لأنه الصورة تحكمه بقانونها.. وهذا هو السر في إنه لا يبقى في تشكله إلا لمحة ثم يختفي في ثوان.. لماذا؟ لأنه يخشى ممن يراه في هذه الصورة أن يقتله خصوصا أن قانون التشكل يحكمه.. ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تشكل له الشيطان في صورة إنسان قال: {ولقد هممت أن أربطه في سارية المسجد ليتفرج عليه صبيان المدينة ولكني تذكرت قول أخي سليمان: "رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي". فتركته)...
ومن رحمة الله بنا أنه إذا تشكل الشيطان فإن الصورة تحكمه.. وإلا لكانوا فزعونا وجعلونا حياتنا جحيما.. فالله سبحانه وتعالى جعل الكون يقوم على التوازن حتى لا يطغى أحد على أحد.. بمعنى أننا لو كنا في قرية وكلنا لا نملك سلاحا وجد التوازن.. فإذا ملك أحدنا سلاحا وادعى أنه يفعل ذلك ليدافع عن أهل القرية، ثم بعد ذلك استغل السلاح ليسيطر على أهل القرية ويفرض عليهم إتاوات وغير ذلك، يكون التوازن قد اختل وهذا مالا يقبله الله. السحر يؤدي لاختلال التوازن في الكون.. لأن الساحر يستعين بقوة أعلى في عنصرها من الإنسان وهو الشيطان وهو مخلوق من نار خفيف الحركة قادر على التشكل وغير ذلك.. الإنسان عندما يطلب ويتعلم كيف يسخر الجن.. يدعي أنه يفعل ذلك لينشر الخير في الكون، ولكنها ليست حقيقة.. لأن هذا يغريه على الطغيان.. والذي يخل بأمن العالم هو عدم التكافؤ بين الناس.. إنسان يستطيع أن يطغى فإذا لم يقف أمامه المجتمع كله اختل التوازن في المجتمع. والله سبحانه وتعالى يريد تكافؤ الفرص ليحفظ أمن وسلامة الكون.. ولذلك يقول لنا لا تطغو وتستعينوا بالشياطين في الطغيان حتى لا تفسدوا أمن الكون. ولكن الله جل جلاله شاءت حكمته أن يضع في الكون ما يجعل كل مخلوق لا يغتر بذاتيته.. ولا يحسب أنه هو الذي حقق لنفسه العلو في الأرض...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
من فوائد الآية: أن اليهود أخذوا السحر عن الشياطين؛ لقوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين}؛ ويدل على هذا أن أحدهم. وهو لبيد بن الأعصم. سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن السحر من أعمال الشياطين؛ لقوله تعالى: {ما تتلو الشياطين]...
ومنها: أن الشياطين كانوا يأتون السحر على عهد سليمان مع قوة سلطانه عليهم؛ لقوله تعالى: {ما تتلو الشياطين على ملك سليمان}...
ومنها: أن سليمان لا يقر ذلك؛ لقوله تعالى: {وما كفر سليمان}؛ إذ لو أقرهم على ذلك. وحاشاه. لكان مُقراً لهم على كفرهم...
ومنها: أن تعلم السحر، وتعليمه كفر؛ وظاهر الآية أنه كفر أكبر مخرج عن الملة؛ لقوله تعالى: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر}، وقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر}؛ وهذا فيما إذا كان السحر عن طريق الشياطين؛ أما إذا كان عن طريق الأدوية، والأعشاب، ونحوها ففيه خلاف بين العلماء.. واختلف العلماء. رحمهم الله. هل تقبل توبته، أو لا؟ والراجح أنها تقبل فيما بينه وبين الله عز وجل؛ أما قتله فيرجع فيه إلى القواعد الشرعية، وما يقتضيه اجتهاد الحاكم...
ومن فوائد الآية: أن الله تعالى قد ييسر أسباب المعصية فتنةً للناس. أي ابتلاءً.، وامتحاناً؛ لقوله تعالى: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة}؛ فإياك إياك إذا تيسرت لك أسباب المعصية أن تفعلها؛ واذكر قصة بني إسرائيل حين حُرِّم عليهم الصيد يوم السبت. أعني صيد البحر.؛ فلم يصبروا حتى تحيلوا على صيدها يوم السبت؛ فقال لهم الله تعالى: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65]؛ واذكر قصة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين ابتلاهم الله عز وجل وهم محرِمون بالصيد تناله أيديهم، ورماحهم؛ فلم يُقدم أحد منهم عليه حتى يتبين لك حكمة الله. تبارك وتعالى. في تيسير أسباب المعصية؛ ليبلوَ الصابر من غيره...
ومن فوائد الآية: أنه يجب على الإنسان أن ينصح للناس. وإن أوجب ذلك إعراضهم عنه.؛ لقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما فتنة فلا تكفر}؛ فإذا كانت عندك سلعة رديئة، وأراد أحد شراءها يجب عليك أن تُحذِّره...
ومنها: أنّ من عِظم السحر أن يكون أثره التفريق بين المرء، وزوجه؛ لقوله تعالى: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه}؛ لأنه من أعظم الأمور المحبوبة إلى الشياطين، كما ثبت في الحديث الصحيح أن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول:"نِعْم أنت"؛ وفيه سحر مقابل لهذا: وهو الربط بين المرء، وزوجه؛ حتى إنه. والعياذ بالله. يُبتلى بالهيام؛ فلا يستطيع أن يعيش. ولا لحظة. إلا وزوجته أمامه؛ وبعضهم يقضي عليه هذا الأمر. نسأل الله العافية...
ومن فوائد الآية: أن الأسباب. وإن عظمت. لا تأثير لها إلا بإذن الله عز وجل؛ لقوله تعالى: (وما هم بضارِّين به من أحد إلا بإذن الله)
ومنها: أن قدرة الله عز وجل فوق الأسباب؛ وأنه مهما وجدت الأسباب. والله لم يأذن. فإن ذلك لا يؤثر؛ وهذا لا يوجب لنا أن لا نفعل الأسباب؛ لأن الأصل أن الأسباب مؤثرة بإذن الله...
ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي اللجوء إلى الله دائماً؛ لقوله تعالى: {إلا بإذن الله}؛ فإذا علمت أن كل شيء بإذن الله فإذاً تلجأ إليه سبحانه وتعالى في جلب المنافع، ودفع المضار...
. ومنها: أنّ تعلم السحر ضرر محض، ولا خير فيه؛ لقوله تعالى: {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم}؛ فأثبت ضرره، ونفى نفعه...
ومنها: أن كفر الساحر كفر مخرج عن الملة؛ لقوله تعالى: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} يعني: من نصيب؛ وليس هناك أحد ليس له نصيب في الآخرة إلا الكفار؛ فالمؤمن مهما عذب فإن له نصيباً من الآخرة...
ومنها: أن هؤلاء اليهود تعلموا السحر عن علم؛ لقوله تعالى: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق}...
ومنها: إثبات الجزاء، وأنه من جنس العمل؛ فإن الكافر لما لم يجعل لله نصيباً في دنياه لم يجعل الله له نصيباً من الآخرة...
ومنها: ذم هؤلاء اليهود بما اختاروه لأنفسهم؛ لقوله تعالى: (ولبئس ما شروا به أنفسهم).
ومنها: أن صاحب العلم الذي يَنتفِع بعلمه هو الذي يحذر مثل هذه الأمور؛ لقوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} يعني: لو كانوا ذوي علم نافع ما اشتروا هذا العلم الذي يضرهم، ولا ينفعهم؛ والذي علموا: أنّ من اشتراه ما له في الآخرة من خلاق.