ثم حكى القرآن بعض الأقاويل الباطلة التي افتراها أصحاب القلوب المريضة فقال - تعالى - : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ . . . }
قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك وقالت اليهود ليست النصارى على شيء إلخ " .
واتخذ : من الاتخاذ وهو الصنع والجعل والعمل . والولد : يطلق على الذكر والأنثى ، والواحد والجمع .
والذين قالوا اتخذ الله ولدا هم اليهود والنصارى والمشركون ، فقد حكى الله عن اليهود أنه قالوا : { عُزَيْرٌ ابن الله } وحكى عن النصارى أنهم قالوا : { المسيح ابن الله } وحكى عن المشركين أنهم قالوا " الملائكة بنات الله " فيصح أن يكون الضمير في قالوا عائداً على الفرق الثلاث أو على بعضهم . فمن المعروف أن القرآن يجري على الأسلوب المعروف في المخاطبات حيث يسند إلى القوم ما صدر من بعضهم فحين قال : { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله } أصبح من السائغ في صحة المعنى أن يكون هذا القول قد صدر من طائفة منهم :
وقوله : { سُبْحَانَهُ } تنزيه له عما هو نقص في حقه ومحال عليه من اتخاذ الولد ، لاقتضاء الوالدية : النوعية والجنسية والتناسل والافتقار ، والتشبيه والحدوث وفي الصحيحن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولداً ، وهو يرزقهم ويعافيهم " .
وسبحانه : مصدر لسبح بمعنى نزه ، وهو منصوب بفعل لم يسمع من العرب التصريح به معه ، والأصل : أسبحه سبحانه ، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ، وأضيف إلى ضمير المنزه .
وقوله : { بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض } إضراب عن مقالاتهم التي نسبوا بها إلى الله اتخاذ الولد ، وشروع في الاستدلال على بطلانها .
واللام في قوله : { لَّهُ } للاختصاص الكامل وهو الملك الحقيقي ، و ( ما ) اسم موصول يراد منه الكائنات : ما يعقل وما لا يعقل ومن جملة هذه الكائنات من ادعوا أنه ولد لله .
والمقصود إثبات أن قولهم { اتخذ الله وَلَداً } زعم باطل ، فإن جميع ما احتوت عليه السموات والأرض مملوك لله يتصرف فيه كيف يشاء ، فلا حاجة إلى اتخاذ الولد ، إذ الولد إنما يسعى إليه الوالد ، أو يرغب فيه ليعتزبه أو ليحيى ذكره ، أوليستعين به على القيام بأعباء الحياة . والله - تعالى - منزه عن أمثال هذه الأغراض التي لا تليق إلا بمن خلق ضعيفاً كالإِنسان ثم إن الحكمة من التوالد بقاء النوع محفوظاً بتوارد أمثال الوالد حيث لا سبيل إلى بقائه بعينه ، أما الخالق - تعالى - فهو الواحد في ذاته وصفاته ، الباقي على الدوام ، كما قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام } وقوله - تعالى - { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } .
معناه : كل له مطيعون طاعة تسخير وانقياد ، خاضعون لا يستعصي منهم شيء على مشيئته وإرادته : شاهدون بلسان الحال والمقال على وحدانيته من القنوت وهو لزوم الطاعة مع الخضوع ، وإنما جاء { قَانِتُونَ } بجمع المذكر المختص بالعقلاء ، مع أن الخضوع لله يكون من العقلاء وغيرهم تغليباً للعقلاء على غيرهم ، لأنهم أهل القنوت عن إرادة وبصيرة ، ولأن ظهوره فيهم أكمل من ظهوره في غيرهم .
وفصلت جملة { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } عن سابقتها ، لقصد استقلالها بالاستدلال على نفي أن يكون لله ولد ، حتى لا يظن السامع أنها مكملة للدليل المسوق له قوله - تعالى - : { لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض } .
{ وَقَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَقَالُوا اتّخَذَ اللّهُ وَلَدا } الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، وقالوا معطوف على قوله : وَسَعَى في خَرَابِها .
وتأويل الآية : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها } ، { وقالوا اتخذ الله ولدا } وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله ؟ فقال الله جل ثناؤه مكذّبا قِيلَهم ما قالوا من ذلك ومنتفيا مما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم . سبحانه يعني بها : تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد ، وعلوّا وارتفاعا عن ذلك . وقد دللنا فيما مضى على معنى قول القائل : «سبحان الله » بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والأرض مِلْكا وخلقا ، ومعنى ذلك : وكيف يكون المسيح لله ولدا ، وهو لا يخلو إما أن يكون في بعض هذه الأماكن إما في السموات ، وإما في الأرض ، ولله ملك ما فيهما ؟ ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم لم يكن كسائر ما في السموات والأرض من خلقه وعبيده في ظهور آيات الصنعة فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : مطيعون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } : مطيعون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }قال : مطيعون ، قال : طاعة الكافر في سجود ظله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله ، إلا أنه زاد : بسجود ظله وهو كاره .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ } يقول : كل له مطيعون يوم القيامة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، عمن ذكره ، عن عكرمة : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }قال : الطاعة .
حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { قانِتون } : مطيعون .
وقال آخرون : معنى ذلك كلّ له مُقرّون بالعبودية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }كل مقّر له بالعبودية . وقال آخرون بما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }قال : كل له قائم يوم القيامة .
وللقنوت في كلام العرب معان : أحدها الطاعة ، والاَخر القيام ، والثالث الكفّ عن الكلام والإمساك عنه .
وأولى معاني القنوت في قوله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة ، والدلالة على وحدانية الله عز وجل ، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها . وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله : بل له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا . ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرّة بدلالتها على ربها وخالقها ، وأن الله تعالى بارئها وصانعها . وإنْ جحد ذلك بعضهم فألسنتهم مذعنة له بالطاعة بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك ، وأن المسيح أحدهم ، فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته ؟ وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وجهته أن قوله : { كُلّ لَهُ قَانِتُونَ }خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة . وغير جائز ادّعاء خصوص في آية عام ظاهرها إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في كتابنا : «كتاب البيان عن أصول الأحكام » .
وهذا خبر من الله جلّ وعزّ عن أن المسيح الذي زعمت النصارى أنه ابن الله مُكَذّبهم هو والسموات والأرض وما فيها ، إما باللسان ، وإما بالدلالة وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن جميعهم بطاعتهم إياه وإقرارهم له بالعبودية عقيب قوله : { وَقَالُوا اتّخَذَ اللّهُ وَلَدا } فدلّ ذلك على صحة ما قلنا .
{ وقالوا اتخذ الله ولدا } نزلت لما قال اليهود : { عزير ابن الله } ، والنصارى : { المسيح ابن الله } ، ومشركوا العرب : الملائكة بنات الله ، وعطفه على قالت اليهود ، أو منع ، أو مفهوم قوله تعالى ومن أظلم . وقرأ ابن عامر بغير واو { سبحانه } تنزيه له عن ذلك ، فإنه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء ، ألا ترى أن الأجرام الفلكية -مع إمكانها وفنائها- لما كانت باقية ما دام العالم ، لم تتخذ ما يكون لها كالولد اتخاذ الحيوان والنبات ، اختيارا أو طبعا . { بل له ما في السماوات والأرض } رد لما قالوه ، واستدلال على فساده ، والمعنى أنه تعالى خالق ما في السماوات والأرض ، الذي من جملته الملائكة وعزير والمسيح { كل له قانتون } منقادون لا يمتنعون عن مشيئته وتكوينه ، وكل ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكونه الواجب لذاته : فلا يكون له ولد ، لأن من حق الولد أن يجانس والده ، وإنما جاء بما الذي لغير أولي العلم ، وقال قانتون على تغليب أولي العلم تحقيرا لشأنهم ، وتنوين كل عوض عن المضاف إليه ، أي كل ما فيهما . ويجوز أن يراد كل من جعلوه ولدا له مطيعا مقرون بالعبودية ، فيكون إلزاما بعد إقامة الحجة ، والآية مشعرة على فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه ، واحتج بها الفقهاء على أن من ملك ولده عتق عليه ، لأنه تعالى نفى الولد بإثبات الملك ، وذلك يقتضي تنافيهما .