افتتحت هذه السورة باستحقاق الله وحده الثناء والمدح على ما أنعم به على عباده فكل ما في السماوات والأرض له سبحانه خلقا وملكا ، وتحكي السورة قالة الكافرين في الساعة ، واستبعادهم للبعث ، ورميهم الرسول بالكذب وبالجنون ، ويردهم سبحانه إلى دلائل قدرته ، ويخوفهم من أن ينزل بهم مثل ما نزل بأشباههم فيخسف بهم الأرض ، أو يسقط عليهم قطعا من السماء ، ويذكرهم بفعله مع أوليائه . فقد ألان الحديد لداود ، ومكن سليمان وسخر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ، وداود وسليمان قد شكرا النعمة ، وقليل من عباد الله الشكور ، وأتبع ذلك بما أنعم الله على سبأ من نعم لم يشكروها ، فكان لهم جنتان عن يمين وشمال ، فكانت قراهم متقاربة يسيرون إليها آمنين ، فأبطرتهم النعمة وطلبوا بعد الأسفار ، فجازاهم الله بما يجازي به الجاحدين لنعمه ، وهم قد حققوا ظن إبليس واتبعوه ، وما كان له عليهم من سلطان ، وإنما هو فتنة تميز المؤمن بالآخرة ممن هو في شك منها . ثم أخذت السورة نصف من جعلوهم آلهة بالعجز ، وتذكر أن كل نفس مسئولة عن جرمها ، وتثبت عموم رسالة الرسول ، وتنقل استبطاء المشركين ليوم الوعيد ، وله وقت معلوم .
وتحكي السورة قول الكافرين في القرآن ومحاورة المستكبرين والضعفاء ، وتضع حدا للتفاخر بالأموال والأولاد ، وأنها لا تقرب إلى الله إلا بقدر ما توجه إليه من نفع عام ، فهي ملكه ، وهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وتعرض صورا للمشركين ، فقد قالوا في رسولهم : إنه يريد أن يصدهم عما يعبد آباؤهم ، وقالوا فيما نزل عليه من آيات : إفك مفترى وسحر مبين ، وما أتوا كتبا من قبل ؟ ، وما أرسا إليهم قبلك من رسول ، وقد أرسلنا إلى من قبلهم ممن علموا قوتهم وعزتهم وأخبارهم ، فلما لم يستجيبوا أخذناهم بالعذاب . ويؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوضح مهمته معهم ، وأنها التذكير دون الإلجاء ، ويؤمرون بالنظر في صاحبهم ، فما به جنون ، ولا هو طالب لمال ، ودعوته للناس إلى الحق بوحي من الله تعالى ليتحقق لهم الأمن ، فإذا جاءت الساعة وفزعوا ولا مهرب أخذوا من مكان قريب ، وقالوا عند ذلك : آمنا . وأنى لهم الإيمان وقد كفروا من قبل ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأمثالهم ، إنهم جميعا كانوا في شك من أمر الدين موقع في الريبة .
1- الثناء كله حق لله - وحده - الذي له ما في السماوات وما في الأرض خلقا ومُلْكا وتدبيرا ، وله - وحده - الثناء في الآخرة لملكه الشامل ، وهو الحكيم الذي لا يخطئ ، الخبير الذي لا يغيب عنه سر .
1- سورة [ سبأ ] هي السورة الرابعة والثلاثون في ترتيب المصحف ، أما في ترتيب النزول فهي السورة السابعة والخمسون ، وكان نزولها بعد سورة [ لقمان ] .
2- وسورة [ سبأ ] من السور المكية الخالصة ، وقيل هي مكية إلا الآية السادسة منها وهي قوله –تعالى- : [ ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ] .
3- وعدد آياتها خمس وخمسون آية في المصحف الشامي ، وأربع وخمسون آية في غيره . وسميت بهذا الاسم ، لاشتمالها على قصة أهل سبأ ، وما أصابهم من نقم بسبب عدم شكرهم لنعم الله –تعالى- عليهم .
4- وتبدأ سورة [ سبأ ] بالثناء على الله –تعالى- : [ الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور ] .
ثم تحكي السورة الكريمة جانبا من أقوال الكافرين في تكذيبهم ليوم القيامة ، كما تحكي –أيضا- بعض أقوالهم الباطلة التي قالوها في شأن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ترد عليهم بما يخرس ألسنتهم .
5- ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب قصة داود وسليمان –عليهما السلام- ، فتحكي ما آتاهم الله –تعالى- إياه من خير وقوة وكيف أنهما قابلا نعم الله –تعالى- بالشكر والطاعة ، فزادهما –سبحانه- من فضله وعطائه : [ اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ] .
وكعادة القرآن الكريم في جمعه بين الترغيب والترهيب ، وبين حسن عاقبة الشاكرين ، وسوء عاقبة الجاحدين . . جاءت في أعقاب قصة داود وسليمان –عليهما السلام- ، قصة قبيلة سبأ ، وكيف أنهم قابلوا نعم الله الوفيرة بالجحود والإعراض ، فمحقها –سبحانه- من بين أيديهم ، كما قال –تعالى- : [ ذلك جزيناهم بما كفروا ، وهل نجازي إلا الكفور ] .
6- ثم ساقت السورة بعد ذلك بأسلوب تلقيني ألوانا من الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وقدرته ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له .
نرى ذلك في قوله –تعالى- : [ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ، لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض . . ] .
وفي قوله –تعالى- : [ قل من يرزقكم من السموات والأرض ] .
وفي قوله –عز وجل- [ قل أروني الذين ألحقتم به شركاء ، كلا بل هو الله العزيز الحكيم ] .
7- ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم [ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ] .
وعن أحوال الكافرين السيئة عندما يقفون أمام ربهم للحساب ، وكيف أن كل فريق منهم يلقى التبعة على غيره [ ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم ، يرجع بعضهم إلى بعض القول ، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين . قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ، بل كنتم مجرمين ] .
8- ثم ترد السورة الكريمة على أولئك المترفين ، الذين زعموا أن أموالهم وأولادهم ستنفعهم يوم القيامة ، فتقرر أن ما ينفع يوم القيامة إنما هو الإيمان والعمل الصالح ، وأن الله –تعالى- هو صاحب الإعطاء والمنع والإغناء والإفقار .
قال –تعالى- : [ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ، قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ، إلا من آمن وعمل صالحا ، فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا ، وهم في الغرفات آمنون ] .
9- وبعد أن ساقت السورة ما ساقت من شبهات المشركين حول دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وردت عليهم بما يزيد المؤمنين ثباتا على ثباتهم ، ويقينا على يقينهم ، أتبعت ذلك بدعوة هؤلاء الكافرين إلى التفكير والتدبر على انفراد ، في شأن دعوة هذا الرسول الكريم الذي يدعوهم إلى الحق ، لعل هذا التفكر يهديهم إلى الرشد .
قال –تعالى- : [ قل إنما أعظكم بواحدة ، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما يصاحبكم من جنة ، إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ] .
ثم ختمت السورة الكريمة بتهديدهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا في كفرهم وعنادهم ، وأنهم سيندمون –إذا ما استمروا على كفرهم- ولن ينفعهم الندم .
قال –تعالى- : [ وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل ، إنهم كانوا في شك مريب ] .
10- وهكذا نرى سورة سبأ قد ساقت أنواعا من الأدلة على وحدانية الله –تعالى- ، وعلى أن يوم القيامة حق ، وعلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه . . كما أنها حكت شبهات المشركين ، وردت عليهم بما يبطلها ، والحمد لله حمدا كثيرا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
افتتحت سورة ( سبأ ) بتقرير الحقيقة الأولى فى كل دين ، وهى أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء الكامل ، هو الله رب العالمين .
والحمد : هو الثناء باللسان على الجميل الصدر عن اختيار من نعمة أو غيرها .
و ( أل ) فى الحمد للاستغراق ، بمعنى أن المستحق لجيمع المحامد ، ولكافة ألوان الثناء ، هو الله - تعالى - .
وإنما كان الحمد مقصورا فى الحقيقة عليه وحده - سبحانه - ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء ، فهو صادر عنه ، ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شئ ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، هو فى الحقيقة حمد له - لأنه - سحبانه - هو الذى وفقهم لذلك ، وأعانهم عليه .
وقد اختار - سبحانه - افتتاح هذه السورة بصفة الحمد ، دون المدح أو الشكر ، لأنه وسط بينهما ، إذ المدح أعم من الحمد ، لأن المدح يكون للعاقبل وغيره ، فقد يمدح الإِنسان لعقله ، وتمدح اللؤلؤة لجماها ، أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر عنه من إحسان .
والحمد أخص من الشكر ، لأن الشكر من أجل نعمه وصلت إليك أما الحمد فيكون من أجل نعمة وصلت إليك أو إلى غيرك .
وفى القرآن الكريم خمس سور اشتركت فى الافتتاح بقوله - تعالى - : { الحمد للَّهِ . . } وهى سورة الفاتحة ، والأنعام ، وسبأ وفاطر .
ولكن لكل سورة من هذه السور ، منهج خاص فى بيان أسباب الحمد لله - تعالى - وحده .
وقد أحسن القرطبى - رحمه الله - عندما قال : فإن قيل : قد افتتح غيرها أى : سورة الأنعام - بالحمد لله ، فكان الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره ؟ فالجواب أن لكل واحد منه معنى فى موضعه ، لا يؤدى عن غيره ، من أجل عقده بالنعم المختلفة ، و - أيضا - فلما فيه من الحجة فى هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون .
والمعنى : الحمد الكامل الشامل لله - تعالى - وحده ، لأنه هو ، الذى له ما فى السماوات وما فى الأرض ، خلقا وملكا وتصرفا ، بحيث لا يخرج شئ فيهما عن إرادته ومشيئته .
وقوله : وله الحمد فى الآخرة ، تنبيه إلى أن حمده - عز وجل - ليس مقصورا على الدنيا ، بل يشمل الدنيا والآخرة .
فالمؤمنون فى الدنيا على ما وهبهم من نعم الإِيمان والإِحسان ، ويحمدونه فى الآخرة على ما منحهم من جنة عرضها السماوات والأرض ، ويقولون : { الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } قال صاحب الكشاف : ولما قال - سبحانه - : الحمد لله ، ثم وصف ذاته بالإِنعام بجميع النعم الدنيوية ، كان معناه : أنه المحمود على نعم الدنيا ، تقول : احمد أخاك الذى كساك وحملك ، تريد : احمده على كسوته وحملانه .
ولما قال : { وَلَهُ الحمد فِي الآخرة } علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب .
وقال الآلوسى : والفرق بين الحمدين مع كون نعم الدنيا ونعم الآخرة بطريق التفضل ، أن الأول على نهج العبادة ، والثانى على وجه التلذذ والاغتباط وقد ورد فى الخبر أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس .
وقال الجمل : فإن قلت : الحمد مدح للنفس ، ومدحها مستقبح فيما بين الخلق ، فما وجه ذلك ؟
فالجواب : ان هذا المدح دليل على أن حاله - تعالى - بخلاف حال الخلق ، وأنه يحسن منه ما يقبح من الخلق ، وذلك يدل على أنه - تعالى - مقدس عن أن تقاس أفعاله ، على افعال العباد .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَهُوَ الحكيم الخبير } أى : وهو - تعالى - الذى أحكم أمور الدارين ، ودبرها بحكمته ، وهو العليم بظواهر عباده وبواطنهم ، لا يخفى عليه شئ من أحوالهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَمْدُ للّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الاَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : الشكر الكامل ، والحمد التامّ كله ، للمعبود الذي هو مالك جميع ما في السموات السبع ، وما في الأرَضين السبع دون كل ما يعبدونه ، ودون كل شيء سواه ، لا مالك لشيء من ذلك غيره فالمعنى : الذي هو مالك جميعه وَلهُ الحَمْدُ فِي الاَخِرَةِ يقول : وله الشكر الكامل في الاَخرة ، كالذي هو له ذلك في الدنيا العاجلة ، لأن منه النعم كلها على كل من في السموات والأرض في الدنيا ، ومنه يكون ذلك في الاَخرة ، فالحمد لله خالصا دون ما سواه في عاجل الدنيا ، وآجل الاَخرة ، لأن النعم كلها من قِبله لا يُشركه فيها أحد من دونه ، وهو الحكيم في تدبيره خلقه وصرفه إياهم في تقديره ، خبير بهم وبما يصلحهم ، وبما عملوا ، وما هم عاملون ، محيط بجميع ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَهوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ حكيم في أمره ، خبير بخلقه .