{ قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين . . . }
قال الآلوسي : { قَالَ الله } كلام مستأنف ختم به - سبحانه - حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل . وأشير إلى نتيجته ومآله . والمراد بقول الله - تعالى - عقيب جواب عيسى الإِشارة إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم .
والمراد باليوم في قوله { هذا يَوْمُ } يوم القيامة الذي تجازي فيه كل نفس بما كسبت وقد قرأ الجمهور برفع { يوم } من غير تنوين على أنه خبر لاسم الإِشارة أي : قال الله - تعالى - : إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينتفع الصادقون فيه بصدقهم في إيمانهم وأعمالهم ، لأنه يوم الجزاء والعطاء على ما قدموا من خيرات في دنياهم .
أي أن صدقهم في الدنيا ينفعهم يوم القيامة ، بخلاف صدق الكفار يوم القيامة فإنه لا ينفعهم ، لأنهم لم يكونوا مؤمنين في دنياهم .
وقرأ نافع ( يوم ) بالنصب من غير تنوين على أنه ظرف لقال . أي : قال الله - تعالى - هذا القول لعيسى يوم ينفع الصادقين في هذا اليوم .
وقوله : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } جملة مستأنفة لبيان مظاهر النفع الذي ظفر به الصادقون في هذا اليوم . أي : أن هؤلاء الصادقين في دنياهم قد نالوا في آخرتهم جنات تجري من تحت أشجارها وسررها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي : مقيمين فيها إقامة دائمة لا يعتريها انقطاع وقوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } أي : رضي الله عنهم فأعطاهم بسبب إيمانهم الصادق وعملهم الصالح عطاء هو نهاية الآمال والأماني . ورضوا عنه بسبب هذا العطاء الجزيل الذي لا تحيط العبارة بوصفه .
واسم الإشارة في قوله : { ذلك الفوز العظيم } يعود إلى ما انتفع به الصادقون من جنات تجري من تحتها الأنهار . ومن رضا الله عنهم . أي : إلى النعيم الجثماني المتمثل في الجنات وما يتبعها من عيشة هنيئة ، وإلى النعيم الروحاني المتمثل في رضا الله عنهم .
قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب . وحقيقة الثواب : أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فقوله : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم ، وقوله { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } إشارة إلى الدوام . واعتبر هذه الدقيقة : فإنه أينما ذكر الثواب قال { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } وأينما ذكر العقاب للفساق من أهل الإِيمان ، ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأييد ، وأما قوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } فتحته أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اللّهُ هََذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } . .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : " هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ " فقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والمدينة : «هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ » بنصب «يوم » . وقرأ بعض أهل الحجاز وبعض أهل المدينة وعامّة قرّاء أهل العراق : هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ برفع يوم . فمن رفعه رفعه بهذا ، وجعل «يوم » اسما ، وإن كانت إضافته غير محضة ، لأنه صار كالمنعوت . وكان بعض أهل العربية يزعم أن العرب يعملون في إعراب الأوقات مثل اليوم والليلة عملهم فيما بعدها ، إن كان ما بعدها رفعا رفعوها ، كقولهم : هذا يومُ يركب الأمير ، وليلةُ يصدر الحاج ، ويومُ أخوك منطلق وإن كان ما بعدها نصبا نصبوها ، وكذلك كقولهم : هذا يومَ خرج الجيش وسار الناس ، وليلةَ قتل زيد ونحو ذلك ، وإن كان معناها في الحالين : «إذ » ، و«إذا » . وكأنّ من قرأ هذا هكذا رفعا وجه الكلام إلى أنه من قيل الله يوم القيامة ، وكذلك كان السديّ يقول في ذلك .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " قالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ " هذا فصل من كلام عيسى ، وهذا يوم القيامة .
يعني السدي بقوله : «هذا فصل من كلام عيسى » أن قوله : " سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَق . . . إلى قوله : فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " من خبر الله عزّ وجلّ عن عيسى أنه قاله في الدنيا بعد أن رفعه إليه ، وأن ما بعد ذلك من كلام الله لعباده يوم القيامة . وأما النصب في ذلك ، فإنه يتوجه من وجهين : أحدهما : أن إضافة «يوم » ما لم تكن إلى اسم تجعله نصبا ، لأن الإضافة غير محضة ، وإنما تكون الإضافة محضة إذا أضيف إلى اسم صحيح . ونظير اليوم في ذلك الحين والزمان وما أشبههما من الأزمنة ، كما قال النابغة :
على حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ على الصّبا ***وقَلْتُ أَلمّا أصْحُ والشّيْبُ وَازِعُ
والوجه الآخر : أن يكون مرادا بالكلام هذا الأمر وهذا الشأن ، «يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ » فيكون اليوم حينئذ منصوبا على الوقت والصفة ، بمعنى : هذا الأمر في يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ .
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب : «هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ » بنصب اليوم على أنه منصوب على الوقت والصفة ، لأن معنى الكلام : أن الله تعالى أجاب عيسى حين قال : " سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ . . . . إلى قوله : فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " فقال له عزّ وجلّ : هذا القول النافع أو هذا الصدق النافع يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فاليوم وقت القول والصدق النافع .
فإن قال قائل : فما موضع «هذا » ؟ قيل رفع فإن قال : فأين رافعه ؟ قيل مضمر ، وكأنه قال : قال الله عزّ وجلّ : هذا ، هذا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ، كما قال الشاعر :
أما تَرَى السّحابَ كَيْفَ يَجْرِي ***هَذَا وَلا خَيْلُكَ يا ابْنَ بِشْرِ
فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا لما بينا : قال الله لعيسى : هذا القول النافع في يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ في الدنيا صِدْقُهُمْ ذلك في الآخرة عند الله . " لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ " يقول : للصادقين في الدنيا جناتٌ تجري من تحتها الأنهار في الآخرة ثوابا لهم من الله عزّ وجلّ ، على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه ، فوفوا به لله ، فوفى الله عزّ وجلّ لهم ما وعدهم من ثوابه . " خالِدِينَ فِيها أبَداً " يقول : باقين في الجنات التي أعطاهموها أبدا دائما لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول . وقد بينا فيما مضى أن معنى الخلود : الدوام والبقاء .
القول في تأويل قوله تعالى : " رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ " .
يقول تعالى ذكره : رضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين صدقوا في الوفاء له بما وعدوه من العمل بطاعته واجتناب معاصيه ، " ورَضُوا عَنْهُ " يقول : ورضوا هم عن الله تعالى في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه ، فيما أمرهم ونهاهم من جزيل ثوابه . " ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ " يقول : هذا الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها ، مرضيّا عنهم ، وراضين عن ربهم ، هو الظفر العظيم بالطّلِبة وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا ، ولها كانوا يعملون فيها ، فنالوا ما طلبوا وأدركوا ما أملوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.