غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)

267

التفسير : لما رغب في الإنفاق وذكر أن منه ما يتبعه المن والأذى ، ومنه ما لا يتبعه ذلك ، وشرح ما يتعلق بكل من القسمين وضرب لكل واحد مثلاً ، ذكر بعد ذلك أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف يجب أن يكون فقال { أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا } أي من طيبات ما أخرجنا ، فحذف لدلالة الأول عليه . عن الحسن : أن المراد من هذا الإنفاق الفرض بناء على أن ظاهر الأمر للوجوب ، والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة ، وقيل : التطوع لما روي عن علي والحسن ومجاهد أن بعض الناس كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم فأنزل الله هذه الآية .

عن ابن عباس : " جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة لأهل الصفة على حبل بين أسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : بئسما صنع صاحب هذا " فنزلت . وقيل : يشمل الفرض والنفل ، لأن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على الترك فقط ، ويتفرع على قول الوجوب وجوب الزكاة في كل مال يكسبه الإنسان ، فيشمل زكاة التجارة وزكاة الذهب والفضة وزكاة النعم وزكاة كل ما ينبت من الأرض ، إلا أن العلماء خصصوها بالأقوات لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " الصدقة في أربعة : في التمر والزبيب والحنطة والشعير وليس فيما سواها صدقة " فهذا الخبر ينفي الزكاة في غير الأربعة ، لكن ثبت أخذ الزكاة من الذرة وغيرها بأمر صلى الله عليه وسلم فعلم وجوب الزكاة في الأقوات دون غيرها . ولا يكفي في وجوب الزكاة كون الشيء مقتاتاً على الإطلاق ، بل المعتبر حالة الاختيار لا وقت الضرورة ومثله الشافعي بالقت وحب الحنظل وسائر البذور البرية ، وشبهها ببقرة الوحش لا زكاة فيها لأن الناس لا يتعهدونها . وأيضاً لا تجب الزكاة في القوت ما لم يبلغ خمسة أوسق وبه قال مالك وأحمد لرواية أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس فيما دون خمسَة أوسق صدقة " وقال أبو حنيفة : يجب العشر في القليل والكثير استدلالاً بعموم الآية . وتفصيل الكلام في الأموال الزكوية وكيفية إخراجها ونصاب كل منها مشهور مذكور في الفروع ، فلذلك ولطولها لم نشرع فيها . وما المراد بالطيب في الآية ؟ قيل : الجيد فيكون المراد بالخبيث الرديء لما مر في سبب النزول أنهم كانوا يتصدقون برذالة أموالهم فنهوا عن ذلك ، ولأن المحرم لا يجوز أخذه بالإغماض وبغيره ، والآية دلت على جواز أخذ الخبيث بالإغماض ، وعن ابن مسعود ومجاهد : أن الطيب هو الحلال والخبيث هو الحرام ، والمراد من الإغماض هو المسامحة وترك الاستقصاء . والمعنى ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال من حلاله أو من حرامه ، ويحتمل أن يراد ما يكون طيباً من جميع الوجوه فيكون طيباً بمعنى الحلال وبمعنى الجودة أيضاً ، لأن الاستطابة قد تكون شرعاً وقد تكون عقلاً . واعلم أن المال الزكوي إن كان كله شريفاً وجب أن يكون المأخوذ منه كذلك ، وإن كان الكل خسيساً فلا يكلف صاحبه فوق طاقته ولا يكون خلافاً للآية لأن المأخوذ في هذه الحال لا يكون خبيثاً من ذلك المال وإنما الكلام فيما لو كان في المال جيد ورديء فحينئذٍ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك ، ولا تكلف أيضاً جيده لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن :

" أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم " بل الواجب حينئذٍ هو الوسط . ثم إن قلنا : المراد من الإنفاق في الآية التطوع أو هو والفرض جميعاً ، فالمعنى أن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه قضاء لحقوق التعظيم والإخلاص ، ومعنى { لا تيمموا الخبيث } لا تقصدوه . يقال : تيممته وتأممته كله بمعنى قصدته . ومحل { تنفقون } نصب على الحال ، وقدم { منه } عليه ليعلم أن المنهي عنه هو تخصيص الخبيث بالإنفاق منه أي إذا كان في المال طيب وخبيث . ويحتمل أن يتم الكلام عند قوله : { ولا تيمموا الخبيث } ثم ابتدأ مستفهماً بطريق الإنكار فقال : { منه تنفقون } وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم إلا بالإغماض وهو غض البصر وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض وهو الخفاء . يقال للبائع : أًغْمِضْ أي لا تستقص كأنك لا تبصر . وأصله أن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه كيلا يرى ذلك ، فكثر حتى جعل كل مساهلة إغماضاً أي لو أهدي لكم مثل هذه الأشياء أخذتموها إلا على استحياء وإغماض ، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم ؟ ويحتمل أن يراد إلا إذا أغمضتم بصر البائع أي كلفتموه الحط من الثمن . عن الحسن : لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه . { واعلموا أن الله غني } عن صدقاتكم { حميد } محمود على ما أنعم من البيان والتكليف بما تحوزون به النعيم الأبدي ، أو حامد شاكر على إنفاقكم كقوله :

{ فأولئك كان سعيهم مشكوراً }[ الإسراء : 19 ]

/خ274