غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

1

البحث الثاني في قوله . { ذلك الكتاب } وفيه مسائل :

الأولى : إنما صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد لأنه وقعت الإشارة بذلك إلى { الم } بعد ما سبق التكلم به ، والمنقضي في حكم المتباعد ولهذا يحسب الحاسب ثم يقول فذلك كذا ، أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً : احتفظ بذلك ، أو لأنه وإن كان حاضراً نظراً إلى ألفاظه لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه ، أو لأنه على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي ، أو لأنه إشارة إلى ما نزل بمكة قبل سورة البقرة . وقد يسمى بعض القرآن قرآناً ، أو لأنه إشارة إلى ما وعد به الرسول عند مبعثه { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] أو لأنه إشارة إلى ما أخبر به الأنبياء أن الله سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل ، أو المراد أن هذا المنزل هو ذلك المثبت في اللوح المحفوظ كقوله { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } [ الزخرف : 4 ] .

الثانية : إنما ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة في بعض الوجوه نظراً إلى صفته وهو الكتاب كقولك " هند ذلك الإنسان " قال الذبياني :

نبئت نعمي على الهجران عاتبة *** سقياً ورعياً لذاك العاتب الزاري

وإن جعلت الكتاب خبراً فنظراً إلى أن ذلك في معناه ومسماه فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير كما أجري عليه في التأنيث في قولهم : " من كان أمك " .

الثالثة : للقرآن أسماء كثيرة منها : الكتاب -وقد تقدم- ومنها الفرقان { تبارك الذي نزل الفرقان } [ الفرقان : 1 ] لأنه نزل متفرقاً في نيف وعشرين سنة ، أو لأنه يفرق بين الحق والباطل . ومنها التذكرة والذكرى والذكر { وإنه لتذكرة للمتقين } [ الحاقة : 48 ] { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } [ الذاريات : 55 ] { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] أي ذكر من الله تعالى به ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه أو شرف وفخر . ومنها التنزيل { وإنه لتنزيل رب العالمين } [ الشعراء : 192 ] ومنها الحديث { الله نزل أحسن الحديث } [ الزمر : 23 ] شبهه بما يتحدث به فإن الله تعالى خاطب به المكلفين . ومنها الموعظة { قد جاءتكم موعظة من ربكم } [ يونس : 57 ] ومنها الحكم والحكمة والحكيم والمحكم { وكذلك أنزلناه حكماً عربياً } [ الرعد : 37 ] { حكمة بالغة } [ القمر : 5 ] { يسَ والقرآن الحكيم } [ يس : 1 ، 2 ] { كتاب أحكمت آياته } [ فصلت : 2 ] ومنها الشفاء والرحمة { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } [ الإسراء : 82 ] ومنها الهدى والهادي { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ] ومنها الصراط المستقيم { وأن هذا صراطي مستقيماً }[ الأنعام : 153 ] ومنها حبل الله { واعتصموا بحبل الله جميعاً } [ آل عمران : 103 ] ومنها الروح { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] لأنه سبب لحياة الأرواح . ومنها القصص { إن هذا لهو القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] ومنها البيان والتبيان والمبين

{ هذا بيان للناس } [ آل عمران : 138 ] { تبياناً لكل شيء } [ النحل : 89 ] { تلك آيات الكتاب المبين } [ يوسف : 1 ] ومنها البصائر { هذا بصائر من ربكم } [ الأعراف : 203 ] ومنها الفصل { إنه لقول فصل } [ الطارق : 13 ] ومنها النجوم { فلا أقسم بمواقع النجوم }

[ الواقعة : 75 ] لأنه نزل نجماً نجماً . ومنها المثاني { مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } [ الزمر : 23 ] لأنه يثنى فيه القصص والأخبار . ومنها النعمة

{ وأما بنعمة ربك فحدث } [ الضحى : 11 ] قال ابن عباس : أي القرآن . ومنها البرهان

{ قد جاءكم برهان من ربكم } [ النساء : 174 ] ومنها البشير والنذير { قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً } [ فصلت : 3 ، 4 ] ومنها القيم { قيماً لينذر بأساً شديداً } [ الكهف : 2 ] ومنها المهيمن { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [ المائدة : 48 ] ومنها النور { واتبعوا النور الذي أنزل معه } [ الأعراف : 157 ] ومنها الحق { وإنه لحق اليقين } [ الحاقة : 51 ] ومنها العزيز { وإنه لكتاب عزيز } [ فصلت : 41 ] ومنها الكريم { إنه لقرآن كريم } [ الواقعة : 77 ] ومنها العظيم { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] ومنها المبارك { كتاب أنزلناه إليك مبارك } [ ص : 29 ] فهذه جملة الأسماء وسيجيء تفاسيرها في مواضعها .

الرابعة : في تأليف ذلك الكتاب مع { الم } اسماً للسورة ففي التأليف وجوه : أن يكون { الم } مبتدأ أو { ذلك } مبتدأ ثانياً { والكتاب } خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول أي هو الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتاباً كما تقول : هو الرجل أي الكامل في الرجولية وكقوله : هم القوم كل القوم يا أم خالد . وأن يكون الكتاب صفة ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود ، وأن يكون { الم } خبر مبتدأ محذوف أي هذه { الم } ، ويكون { ذلك } خبراً ثانياً أو بدلاً على أن الكتاب صفة ، وأن يكون هذه { الم } جملة ، { ذلك الكتاب } جملة أخرى ، وفقد العاطف لأن الثانية بيان للأولى . وإن جعلت { الم } بمنزلة الصوت كان { ذلك } مبتدأ خبره { الكتاب } أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل ، أو { الكتاب } صفة والخبر ما بعده ، أو قدر مبتدأ محذوف أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف { ذلك الكتاب } . وفي قراءة عبد الله بن مسعود { الم تنزيل الكتاب } . البحث الثالث في قوله { لا ريب فيه } الريب مصدر رابني وحقيقته قلق النفس . روى الحسن بن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة أي كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ، وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له . ومنه ريب الزمان لنوائبه المقلقة ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بظبي حاقف أي معوج مضطجع وهم محرمون فقال : لا يريبه أحد بشيء أي لا يزعجه . والحاصل أن الريب شك وزيادة ظن سوء ، فإن قلت : كيف نفي الريب على سبيل الاستغراق ، وكم من شقي مرتاب فيه ؟ قلت : ما نفي أن أحداً لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه ومثله

{ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] لم يقل { وإذا كنتم } مع وقوع الشك منهم في الواقع دلالة على أن الشك فيه مما لا ينبغي أن يوجد إلا على سبيل الفرض والتقدير ، ولو فرض فوجه إزالته أن يجردوا أنفسهم ويبرزوا قواهم في البلاغة هل تتم للمعارضة أن تتضاءل دونها . فإن قلت : فهلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله تعالى { لا فيها غَوْل } [ الصافات : 47 ] قلنا : لأن المقصود منها ليس إلا نفي الريب عنه وإثبات أنه حق وصدق ، ولو عكس لأفاد ذلك مع ما ليس بمراد ولا هو بصادق في نفس الأمر وهو التعريض بأن ريباً في غيره من الكتب كما أن في قوله : { لا فيها غول } [ الصافات : 47 ] تعريضاً بأن خمور الدنيا تغتال العقول . وقرأ أبو الشعثاء { لا ريب } فيه بالرفع . قيل : والفرق بينها وبين المشهورة ، أن المشهورة توجب الاستغراق ، وهذه تجوزه . ويمكن أن يقال : كلاهما يوجب الاستغراق إلا أن الأول بطريق نفي الماهية ، والثاني لأن قوله { لا ريب } جواب قول القائل هل ريب فيه ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحد فنقيضه يكون سلب جميع الأفراد .

البحث الرابع في قوله { هدى للمتقين } وفيه مسائل :

الأولى : في حقيقة الهدى هو مصدر على فعل كالسرى وهو على الأصح عبارة عن الدلالة . وقيل : بشرط كونها موصلة إلى البغية بدليل وقوعه في مقابل الضلالة

{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] ولأنه يقال مهدي في معرض المدح . فلو احتمل أن يقال هدى فلم يهتد لم يكن مدحاً ، ولأن مطاوعه " اهتدى " فيلزمه . وأجيب بأن مقابل الضلالة الاهتداء لا الهدى . وبأن قولنا " مهدي " إنما أفاد المدح لأنه من المعلوم أن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت كالعدم ، وبالمنع من أن اهتدى لازم هدى لزوماً كلياً إذ يصح في العرف أن يقال : هديته فلم يهتد ، قال عز من قائل : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } [ فصلت : 17 ] وقال بعضهم : الهدى الاهتداء ، فإن زعم مطلقاً فخطأ لوقوع صفة للقرآن ، وإن زعم حيناً فصحيح لوقوعه في مقابلة الضلالة .

الثانية : المتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى . والوقاية فرط الصيانة ، وهذه الدابة تقي من وجئها إذا أصابها طلع من غلظ الأرض ورقة الحافر فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء . وهو في الشرع المؤتمر للمأمورات المجتنب عن المحظورات . واختلف في الصغائر أنه إذا لم يتقها فهل يستحق هذا الاسم ؟ روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس " فحقيقة التقوى الخشية { يا أيها الناس اتقوا ربكم } [ لقمان : 33 ] وقد يراد بها الإيمان { وألزمهم كلمة التقوى } [ الفتح : 26 ] أي التوحيد . وقد يراد التوبة { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } [ الأعراف : 96 ] أي تابوا . وقد يراد الطاعة { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } [ النحل : 2 ] وقد يراد ترك المعصية { وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله }

[ البقرة : 189 ] وقد يراد الإخلاص { فإنها من تقوى القلوب } [ الحج : 32 ] أي من إخلاصها والتقوى مقام شريف { إن الله مع الذين اتقوا } [ النحل : 128 ] { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } [ البقرة : 197 ] { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] . وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده " وقال علي عليه السلام : التقوى ترك الإصرار على المعصية ، وترك الاغترار بالطاعة . وعن إبراهيم بن أدهم : أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً ، ولا الملائكة المقربون في أفعالك عيباً ، ولا ملك العرش في سرك عيباً . الواقدي : أن تزين سرك للحق كما زينت ظهرك للخلق . ويقال : التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك . ولله در القائل : خل الذنوب صغيرها . وكبيرها فهو التقي .

كن مثل ماش في طري *** ق الشوق يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة *** إن الجبال من الحصى

وفي قوله { هدى للمتقين } ثم في موضع آخر { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس } [ البقرة : 185 ] دليل على أن الناس محصورون في المتقين ، والباقون

{ كالأنعام بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] .

الثالثة : لم اختص كون القرآن هدى للمتقين ، وأيضاً المتقي مهتد فكيف يهتدي ثانياً ؟ والجواب أن المتقين لما كانوا هم المنتفعين بالهداية خصوا بالذكر مدحاً لهم كقوله تعالى { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] { إنما تنذر من اتبع الذكر } [ يس : 11 ] مع أنه صلى الله عليه وسلم منذر كل الناس . وأيضاً قوله { هدى للمتقين } كقولك للعزيز المكرم { أعزك الله وأكرمك } تريد طلب الزيادة واستدامة ما هو ثابت فيه . وبوجه آخر سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين نحو " من قتل قتيلاً فله سلبه " فهذا مجاز من باب تسمية الشيء بما هو آيل إليه واللطف فيه أنه لو قال هدى للصائرين إلى التقوى بعد الضلال كان إطناباً في غير موضعه ، فإن تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده هو اللائق بالمقام ، فاختص الكلام فإجرائه على الطريقة التي ذكرنا .

فإن قلت : كيف وصفت القرآن بأنه كله هدى وفيه مجمل ومتشابه لا يهتدي فيه إلى المقصود إلا بحكم العقل ، فيكون الهدى في ذلك للعقل لا للقرآن ؟ ومما يؤكد ما قلنا ، ما نقل عن علي عليه السلام أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولاً إلى الخوارج : لا تحتج عليهم بالقرآن فإنه خصم ذو وجهين . ولهذا كان فرق الإسلام المحق منهم والمبطل يحتجون به ، قلنا : المتشابه لما لم ينفك عما يبين المراد معه على التعيين عقلاً كان أو سمعاً صار كله هدى . فإن قيل : كل ما يتوقف صحة كون القرآن هدى على صحته كمعرفة الله تعالى وصفاته وكمعرفة النبوة ، فالقرآن ليس هدى فيه فكيف جعل هدى على الإطلاق ؟ قلنا : المراد كونه هدى في تعريف الشرائع والمطلق لا يقتضي العموم ، أو كونه هدى في تأكيد ما في العقول أيضاً فيعم .

الرابعة : محل { هدى للمتقين } الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر مع { لا ريب فيه } لذلك أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدم خبراً عنه ، ويجوز أن ينتصب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أنه يقال : { الم } جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ، و{ ذلك الكتاب } جملة ثانية ، و { لا ريب فيه } ثالثة ، و{ هدى للمتقين } رابعة . وفقد العاطف بينها لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بحجرة بعض ، لأنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريراً لجهة التحدي ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان تسجيلاً بكماله ، فلا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، ثم في كل من الجمل نكتة ذات جزالة . ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه كما مر في الوجه الثامن ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة أي الكتاب الذي يستأهل أن يقال له الكتاب ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الذي هو هدى موضع هاد وإيراده منكراً والإيجاز في ذكر المتقين .