الأولى : فيما يتعلق ب " إن " . أما عمله من نصب الاسم ورفع الخبر فمعلوم من علم النحو . وأما فائدته فما ذكره المبرد في جواب الكندي من أن قولهم " عبد الله قائم " إخبار عن قيامه ، وقولهم : " إن عبد الله قائم " جواب عن سؤال سائل ، وقولهم : " إن عبد الله لقائم " جواب عن إنكار منكر لقيامه . وقد يضاف إليه القسم أيضاً نحو " والله إن عبد الله لقائم " . قال أبو نواس :
عليك باليأس من الناس *** إن غنى نفسك في اليأس
حسن موقع " إن " لأن الغالب على الناس خلاف هذا الظن ، وقد يجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لم يوجد كقولك " إنه كان مني إليه إحسان فقابلني بالسوء " وكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ فيما توهمت كقوله تعالى حكاية عن أم مريم { قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت } [ آل عمران : 36 ] وكذلك قول نوح { رب إن قومي كذبون } [ الشعراء : 117 ] .
الثانية : لما قدم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم الموجبة لامتداحه إياهم بها ، عقب ذلك بذكر أضدادهم وهم المردة من الكفار الذين لا ينجع فيهم الهدى وسواء عليهم الإنذار وعدمه . وإنما فقد العاطف بين القصتين خلاف ما في نحو قوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } [ الانفطار : 13 ، 14 ] لتباين الجملتين ههنا في الغرض والأسلوب ، إذ الأولى مسبوقة بذكر الكتاب وإنه هدى للمتقين ، والثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت ، وذلك إذا جعلت { الذين يؤمنون } مبتدأ و { أولئك } خبره ، لأن الكلام المبتدأ على سبيل الاستئناف مبني على تقدير سؤال ، وذلك إدراج له في حكم المتقين وتصييره تبعاً له في المعنى ، فحكمه حكم الأول . وكذا إذا جعلت الموصول الثاني مبتدأ و{ أولئك } خبره ، لأن الجملة برأسها من مستتبعات { هدى للمتقين } لارتباط بينهما من حيث المعنى .
الثالثة : التعريف في { الذين } إما أن يراد به ناس معهودون بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم ، وإما أن يراد به الجنس متناولاً كل من صمم على كفره تصميماً لا يرعوي بعده فقط دون من عداهم من الكفار الذين أسلموا بدليل الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم .
الرابعة : الكفر نقيض الإيمان فيختلف تعريفه باختلاف تعريف الإيمان ، وقد تقدم . وأصل الكفر الستر والتغطية ومنه الكافر لأنه يستر الحق ويجحده ، والزارع كافر لأنه يستر الحب ، والليل المظلم كافر لأنه بظلمته يستر كل شيء ، والكافر الذي كفر درعه بثوب أي غطى ولبسه فوقه . قال في التفسير الكبير : { كفروا } إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي فيقتضي كون المخبر عنه متقدماً على ذلك الإخبار . فللمعتزلة أن يحتجوا بهذا على أن كلام الله محدث ، فإن القديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير . قلت : التحقيق في هذا وأمثاله أن كلامه تعالى أزلي إلا أن حكمته في باب التفهيم والتعليم اقتضت أن يكون كلامه على حسب وصوله إلى السامعين ضرورة كونهم متزمنين ، فكل ما هو متقدم على زمان الوصول وقع الإخبار عنه في الأزل بلفظ الماضي ، وكل ما هو متأخر عن زمان الوصول وقع الإخبار عنه بلفظ المستقبل نحو { لتدخلن المسجد الحرام } [ الفتح : 27 ] { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران : 151 ] وإلا اختل نظام التفاهم والتخاطب . ومن هذا يعلم أن قوله { سنلقي } ليس كونه مستقبلاً بالنظر إلى الأزل مقصوداً بالنسبة إلى المخاطبين ، وإنما المقصود استقباله بالنظر إلى زمان نزول الآية فافهم .
الخامسة : { سواء } اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } [ آل عمران : 64 ] { في أربعة أيام سواء للسائلين } [ فصلت : 10 ] يعني مستوية ، وارتفاعه على أنه خبر { إن } و{ أأنذرتهم أم لم تنذرهم } في موضع الفاعل أي مستو عليهم إنذارك وعدمه نحو : إن زيداً مختصم أخوه وابن عمه . ويحتمل أن يكون { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } في موضع الابتداء ، و{ سواء } خبر مقدم ، والجملة خبر { إن } . و إنما صح وقوع الفعل مخبراً عنه مع أنه أبداً خبر نظراً إلى المعنى كقولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن . معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل ، فإن " أن " مع الفعل في تقدير المصدر على الفعل وهو النهي ، وقد جردت الهمزة . و{ أم } لمعنى الاستواء وسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً . قال سيبويه : هذا مثل قولهم " اللهم اغفر لنا أيتها العصابة " يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام ، كما أن ذاك جرى على صورة النداء ولا نداء . ومعنى الاستواء في الداخل عليهما " الهمزة " و{ أم } استواؤهما في علم المستفهم ، لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن لكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين . والحاصل أن الاستفهام يلزمه معنيان : أحدهما استواء طرفي الحكم في ذهن المستفهم ، والثاني طلب معرفة أحدهما فجرد هذا الترتيب لمعنى الاستواء وسلخ عنه الطلب . وفائدة العدول عن العبارة الأصلية وهي سواء عليهم الإنذار وعدمه ، أن يعلم أن قطع الرجاء وحصول اليأس عنهم إنما حصل بعد إصرارهم وكانوا قبل ذلك مرجواً منهم الإيمان ، لا في علم الله تعالى بل في علمنا ، فنزلت الآية بحسب ما يليق بحالنا في باب التقرير والتصوير . أو نقول : فائدته أن يعلم أن استواء الطرفين بلغ مبلغاً يصح أن يستفهم عنه لكونه خالياً عن شوب التخمين وترجيح أحد الطرفين بوجه ، فإن قول القائل " الإنذار وعدمه مستويان عليهم " يمكن أن يحمل على التقريب لا التحقيق ، بخلاف ما لو أخبر عن الأمرين بطريق الهمزة وأم فافهم . والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي ، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن المقام مقام المبالغة ، وتأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع . وقوله { لا يؤمنون } إما جملة مؤكدة للتي قبلها ، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.