غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (6)

6

التفسير : وفيه مسائل :

الأولى : فيما يتعلق ب " إن " . أما عمله من نصب الاسم ورفع الخبر فمعلوم من علم النحو . وأما فائدته فما ذكره المبرد في جواب الكندي من أن قولهم " عبد الله قائم " إخبار عن قيامه ، وقولهم : " إن عبد الله قائم " جواب عن سؤال سائل ، وقولهم : " إن عبد الله لقائم " جواب عن إنكار منكر لقيامه . وقد يضاف إليه القسم أيضاً نحو " والله إن عبد الله لقائم " . قال أبو نواس :

عليك باليأس من الناس *** إن غنى نفسك في اليأس

حسن موقع " إن " لأن الغالب على الناس خلاف هذا الظن ، وقد يجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لم يوجد كقولك " إنه كان مني إليه إحسان فقابلني بالسوء " وكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ فيما توهمت كقوله تعالى حكاية عن أم مريم { قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت } [ آل عمران : 36 ] وكذلك قول نوح { رب إن قومي كذبون } [ الشعراء : 117 ] .

الثانية : لما قدم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم الموجبة لامتداحه إياهم بها ، عقب ذلك بذكر أضدادهم وهم المردة من الكفار الذين لا ينجع فيهم الهدى وسواء عليهم الإنذار وعدمه . وإنما فقد العاطف بين القصتين خلاف ما في نحو قوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } [ الانفطار : 13 ، 14 ] لتباين الجملتين ههنا في الغرض والأسلوب ، إذ الأولى مسبوقة بذكر الكتاب وإنه هدى للمتقين ، والثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت ، وذلك إذا جعلت { الذين يؤمنون } مبتدأ و { أولئك } خبره ، لأن الكلام المبتدأ على سبيل الاستئناف مبني على تقدير سؤال ، وذلك إدراج له في حكم المتقين وتصييره تبعاً له في المعنى ، فحكمه حكم الأول . وكذا إذا جعلت الموصول الثاني مبتدأ و{ أولئك } خبره ، لأن الجملة برأسها من مستتبعات { هدى للمتقين } لارتباط بينهما من حيث المعنى .

الثالثة : التعريف في { الذين } إما أن يراد به ناس معهودون بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم ، وإما أن يراد به الجنس متناولاً كل من صمم على كفره تصميماً لا يرعوي بعده فقط دون من عداهم من الكفار الذين أسلموا بدليل الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم .

الرابعة : الكفر نقيض الإيمان فيختلف تعريفه باختلاف تعريف الإيمان ، وقد تقدم . وأصل الكفر الستر والتغطية ومنه الكافر لأنه يستر الحق ويجحده ، والزارع كافر لأنه يستر الحب ، والليل المظلم كافر لأنه بظلمته يستر كل شيء ، والكافر الذي كفر درعه بثوب أي غطى ولبسه فوقه . قال في التفسير الكبير : { كفروا } إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي فيقتضي كون المخبر عنه متقدماً على ذلك الإخبار . فللمعتزلة أن يحتجوا بهذا على أن كلام الله محدث ، فإن القديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير . قلت : التحقيق في هذا وأمثاله أن كلامه تعالى أزلي إلا أن حكمته في باب التفهيم والتعليم اقتضت أن يكون كلامه على حسب وصوله إلى السامعين ضرورة كونهم متزمنين ، فكل ما هو متقدم على زمان الوصول وقع الإخبار عنه في الأزل بلفظ الماضي ، وكل ما هو متأخر عن زمان الوصول وقع الإخبار عنه بلفظ المستقبل نحو { لتدخلن المسجد الحرام } [ الفتح : 27 ] { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران : 151 ] وإلا اختل نظام التفاهم والتخاطب . ومن هذا يعلم أن قوله { سنلقي } ليس كونه مستقبلاً بالنظر إلى الأزل مقصوداً بالنسبة إلى المخاطبين ، وإنما المقصود استقباله بالنظر إلى زمان نزول الآية فافهم .

الخامسة : { سواء } اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } [ آل عمران : 64 ] { في أربعة أيام سواء للسائلين } [ فصلت : 10 ] يعني مستوية ، وارتفاعه على أنه خبر { إن } و{ أأنذرتهم أم لم تنذرهم } في موضع الفاعل أي مستو عليهم إنذارك وعدمه نحو : إن زيداً مختصم أخوه وابن عمه . ويحتمل أن يكون { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } في موضع الابتداء ، و{ سواء } خبر مقدم ، والجملة خبر { إن } . و إنما صح وقوع الفعل مخبراً عنه مع أنه أبداً خبر نظراً إلى المعنى كقولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن . معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل ، فإن " أن " مع الفعل في تقدير المصدر على الفعل وهو النهي ، وقد جردت الهمزة . و{ أم } لمعنى الاستواء وسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً . قال سيبويه : هذا مثل قولهم " اللهم اغفر لنا أيتها العصابة " يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام ، كما أن ذاك جرى على صورة النداء ولا نداء . ومعنى الاستواء في الداخل عليهما " الهمزة " و{ أم } استواؤهما في علم المستفهم ، لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن لكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين . والحاصل أن الاستفهام يلزمه معنيان : أحدهما استواء طرفي الحكم في ذهن المستفهم ، والثاني طلب معرفة أحدهما فجرد هذا الترتيب لمعنى الاستواء وسلخ عنه الطلب . وفائدة العدول عن العبارة الأصلية وهي سواء عليهم الإنذار وعدمه ، أن يعلم أن قطع الرجاء وحصول اليأس عنهم إنما حصل بعد إصرارهم وكانوا قبل ذلك مرجواً منهم الإيمان ، لا في علم الله تعالى بل في علمنا ، فنزلت الآية بحسب ما يليق بحالنا في باب التقرير والتصوير . أو نقول : فائدته أن يعلم أن استواء الطرفين بلغ مبلغاً يصح أن يستفهم عنه لكونه خالياً عن شوب التخمين وترجيح أحد الطرفين بوجه ، فإن قول القائل " الإنذار وعدمه مستويان عليهم " يمكن أن يحمل على التقريب لا التحقيق ، بخلاف ما لو أخبر عن الأمرين بطريق الهمزة وأم فافهم . والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي ، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن المقام مقام المبالغة ، وتأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع . وقوله { لا يؤمنون } إما جملة مؤكدة للتي قبلها ، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض .