غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

29

ثم لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق ، أراد أن يصفهم بالطمع والحرص فقال { يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان } الآية . وفيه تنبيه على أن مقصودهم من إظهار تلك الربوبية والتجبر تحصيل حطام الدنيا . قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله . ولعمري أن من تأمل في أحوال أهل الناقوس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وشرح أحوالهم ، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه من الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك ويتحمل الذل والدناءة في تحصيله . وفي قوله { كثيراً } دلالة على أن هذه الطريقة طريقة بعضهم لا كلهم ، فإن العالم لا يخلوا عن المحق وإطباق الكل على الباطل وإثبات ذلك كالممتنع ، وهذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا يحصل فكذلك في سائر الأمم . وعبر عن أخذهم أموال الناس بالأكل تسمية للشيء باسم ما هو أعظم مقاصده . وأيضاً من أكل شيئاً فقد ضمه إلى نفسه ومنعه عن الوصول إلى غيره كما لو أخذه ، ولهذا فإن من أخذ أموال الناس فإذا طولب بردها قال أكلتها وما بقيت فلا قدرة لي على ردّها . وفي تفسير الباطل وجوه : منها أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وفي إخفاء نعت محمد وتأويل الدلائل الدالة على نبوّته . ومنها أنهم كانوا يدّعون عند عوامهم الحمقى أنه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم وبذل الأموال في مرضاتهم ، والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب . ومنها أنهم قالوا لا طريق إلى تقوية دينهم إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقوياء عظماء أصحاب الجاه والحشمة والأموال كما يفعله المزوّرون في زماننا هذا .

أما قوله { ويصدّون عن سبيل الله } فمعناه يبالغون في المنع من متابعة محمد كيلا يبطل جاههم وحشمتهم عند العوام لو أقروا بدينه .

ثم قال سبحانه { والذين يكنزون } الكنز هو المال المدفون وقد كنزه يكنزه . والتركيب يدل على الجمع ومنه ناقة كناز مكتنزة اللحم ، واكتنز الشيء اجتمع . قيل : المراد بقوله { والذين يكنزون } الأحبار والرهبان لما وصفهم بالحرص الشديد ، أراد أن يصفهم بالامتناع من إخراج الواجبات عن أموالهم . وقيل : المقصود مانعو الزكاة من المسلمين . ووجه النظم أنه لما كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والخديعة ؟ ! عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له : ما أنزلك هذه البلاد ؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب . وقلت : نزلت فينا وفيهم فصار ذلك سبباً للوحشة . فكتب إلي عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة ، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل ، فذكرت ذلك لعثمان فقال : إن شئت تنحيت فكنت قريباً . قلت : إني والله لا أدع ما كنت أقول . وعن الأحنف قال : لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول : بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه . فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم . فقال : ما عسى يصنع بي قريش . واختلف علماء الصحابة في هذا الكنز المذموم فقال الأكثرون : هو المال الذي لم تؤّد زكاته . عن عمر بن الخطاب : مال أديت زكاته فليس بكنز . وقال ابن عمر : كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكل مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض . وقال جابر : إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز . وعن ابن عباس : قوله { ولا ينفقونها في سبيل الله } يريد الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم . قال القاضي : ويندرج فيه سائر الحقوق من الكفارات والديون ونفقة الحج والجهاد والإنفاق على الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات . وقال الأقلون : كل مال كثير فهو مذموم سواء أديت زكاته أو لم تؤد . وحجة الأولين قوله تعالى { لها ما كسبت } [ البقرة : 286 ] { ولا يسألكم أموالكم } { محمد : 36 ] وقوله عليه السلام : «كل امرئ أحق بكسبه » «نعم المال الصالح للرجل الصالح ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً ، وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً » ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع من الأغنياء كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكان يعدّهم من أكابر المؤمنين ، وقد ندب إلى إخراج الثلث أو الأقل في المرض ولو كان جمع المال محرماً لكان يأمر المريض أن يتصدق بالكل بل الصحيح في حال صحته . حجة الأقلين عموم الآية وما روى سالم بن الجعد أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تباً للذهب تباً للفضة قالها ثلاثاً » فقالوا له صلى الله عليه وسلم : أي مال نتخذ ؟ قال : «لساناً ذاكراً وقلباً خاشعاً وزوجة تعين أحدكم على دينه » وقوله : «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها » وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كية . وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال : كيتان . وعن عليّ رضي الله عنه : كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد . ومن المعقول أن الله تعالى خلق الأموال لدفع الحاجات فإذا حصل للمرء منه ما زاد على قدر حاجته ومنع منه الغير كان مانعاً من ظهور حكمة الله ودافعاً لوجوه الإحسان إلى عبيده . وقد رام طائفة من العلماء الجمع بين القولين فقالوا : كان هذا قبل أن تفرض الزكاة ، فأما بعد فرض الزكاة فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن له فيه ويؤدي عنه ما أوجب عليه ثم يعاقبه . وقال أهل التحقيق : النهي عن جمع المال محمول على التقوى لأن تزايد المال لا حد له يقف هنالك فينجز إلى تضييع العمر تارة في تحصيله وأخرى في حفظه ، لأنه كلما ازداد المال ازدادت لذته بذلك فيشتد حرصه ولا ينقطع البتة ، وقد يفضي إلى الطغيان والخذلان كقوله تعالى { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } [ العلق : 6 ، 7 ] ولو لم يكن في الفقر سوى الانكسار وقلة التعلق وفراغ البال لكفى بها منقبة وفخراً ، وكل ما يلهيك عن الله ولم يكن في سبيل الله فعدمه خير من وجوده . وأما ظاهر الفتوى فهو أن صاحب المال الكثير لا عتب عليه إذا أدّى منه حقوقه . هذا ومن حمل الآية على وعيد مانعي الزكاة في النقود قاس الزكاة في المواشي عليه . وقد ورد أيضاً في الحديث : «ما من صاحب إبل أو بقر أو غنم » وهو مشهور . ولا ريب أن الأصل المعتبر في الأموال هو النقدان ، وسائر الأمتعة إنما تحصيل بهما وتدور عليهما . ولمن أوجب الزكاة في الحلي المباح الاستدلال بالآية لأن الذهب والفضة يشمله ، ومن لم يوجب الزكاة فيه خصص عموم الآية بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : «لا زكاة في الحلي المباح » ولم يصححه أبو عيسى الترمذي . وبتقدير أن يصح حملوه على اللآلئ لقوله تعالى { وتستخرجون حلية تلبسونها } [ فاطر : 12 ] ولقائل أن يقول : لو حملنا الحلي في الحديث على اللآلئ لم تبق لقيد المباح فائدة ، ثم إنه تعالى ذكر شيئين الذهب والفضة ثم قال { ولا ينفقونها } فقيل : الضمير عائد إلى المعنى وهو الكنوز أو الأموال ، أو لأن كل واحد منهما جملة واحدة وافية وعدة كثيرة ودراهم ودنانير فهو كقوله { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] وقيل : إلى اللفظ أي ولا ينفقون الفضة . وحذف الذهب إما لأنه داخل في الفضة من حيث كونهما جوهرين ثمينين نفيسين مقصودين بالكنز فأغنى ذكر أحدهما عن الآخر كقوله { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً } [ النساء : 112 ] وإما لأن التقدير والذهب كذلك كما أن معنى قوله :

فإني وقيار بها لغريب *** . . .

وقيار كذلك . ثم قال { فبشرهم بعذاب أليم } تهكماً مثل قولهم : تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم . ولو قيل : البشارة وهي الخبر الذي يؤثر في القلب فيتغير بسببه لون بشرة الوجه سواء كان من الفرح أو من الغم كان حقيقة .

/خ37