غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرٖ} (4)

1

قول سبحانه : { تنزل الملائكة } ظاهره يقتضي نزول كل الملائكة إما إلى سماء الدنيا وإما إلى الأرض ، وهو قول الأكثرين ، وعلى التقديرين فإن المكان لا يسعهم إلا على سبيل التناوب والنزول فوجاً فوجاً كأهل الحج ، فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة أفواجاً . وعن كعب : إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة ، وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي ، فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله ، ومقام جبرائيل في وسطها ليس فيها ملك إلا وقد أعطي الرأفة والرحمة للمؤمنين ، ينزلون مع جبرائيل ليلة القدر فلا يبقى بقعة في الأرض إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات ، وجبرائيل لا يدع أحداً من الناس إلا صافحهم ، وعلامة ذلك أن يقشعر جلده ، ويرق قلبه ، وتدمع عيناه ، من قال فيها : لا إله إلا الله ثلاث مرات غفر له بواحدة ، ونجاه من النار بواحدة ، وأدخله الجنة بواحدة ، وأول من يصعد جبرائيل حتى يصير أمام الشمس ، فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلا تلك الساعة من يوم تلك الليلة ، ثم يدعو ملكاً ملكاً فيصعد الكل فيجتمع نور الملائكة ونور جناح جبرائيل ، فيقيم جبرائيل ومن معه من الملائكة بين الشمس وسماء الدنيا يومهم ذلك مشتغلين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين ، ولمن صام رمضان احتساباً ، فيسألونهم عن رجل رجل ، وعن امرأة امرأة ، حتى يقولوا : ما فعل فلان ، كيف وجدتموه ؟ فيقولون : وجدناه عام أول مبتدعاً ، وفي هذا العام متعبداً ، وفي بعضهم بالعكس ، فيدعون للأول دون الآخر . ووجدنا فلاناً تالياً ، وفلاناً راكعاً ، وفلاناً ساجداً ، فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدوا إلى السماء الثانية ، وهكذا يفعلون في كل سماء حتى ينتهوا إلى سدرة المنتهى ، فتقول لهم السدرة : يا سكاني حدثوني عن الناس ، فإن لي عليكم حقاً ، وإني أحب من أحب الله . وتقول الجنة : عجلهم اللهم إليّ ، والملائكة وأهل السدرة يقولون : آمين . وإنما نزول الملائكة على فضيلة هذه الليلة لأن الجماعة كلما كانت أكثر كان نزول الرحمة أوفر ، والطاعة في حضور الملائكة الذين هم العلماء بالله والعباد له تكون أدخل في الإخلاص ، وأجلب لأسباب القبول . أما الروح فالأظهر أنه جبرائيل ، خص بالذكر لزيادة شرفه . وقيل : ملك يقوم صفاً ، والملائكة كلهم صفاً ، وقيل : طائفة من الملائكة لا يراهم غيرهم إلا في هذه الليلة . وقيل : خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس ، ولعلهم خدم أهل الجنة . وقيل : عيسى عليه السلام ينزل في جماعة من الملائكة ليطالع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : القرآن { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى :52 ] وقيل : الرحمة . وقيل : هم كرام الكتابين . يروى أنهم يطالعون اللوح فيرون فيه طاعة المكلفين مفصلة ، فإذا وصلوا إلى معاصيهم أرخي الستر فلا يرونها ، فحينئذ يقولون : سبحان من أظهر الجميل وستر القبيح ، ويشتاقون إلى لقائهم فينزلون لذلك . ومن فوائد نزولهم أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات ما لم يروها في سكان السماوات ، ويسمعون أنين العصاة الذي هو أحب إلى الله من زجل المسبحين ، فيقولون : تعالوا نسمع صوتاً هو أحب إلى ربنا من تسبيحنا . ولعل للطاعة في الأرض خاصية في هذه الليلة ، فالملائكة أيضاً يطلبونها طمعاً في مزيد الثواب ، كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعاته هناك أكثر ثواباً . وفي قوله { بإذن ربهم } إشارة إلى أنهم لا يفعلون شيئاً إلا بإذن الله لقوله { وما نتنزل إلا بأمر ربك }

[ مريم : 64 ] وفي قوله { ربهم } توبيخ للعصاة ، وتعظيم لشأن الملائكة ، كأنه قال : كانوا لي فكنت لهم . يروى أن داود عليه السلام في مرض الموت قال : إلهي كن لسليمان كما كنت لي ، فنزل الوحي ، قل لسليمان : فليكن لي كما كنت لي . وقوله { من كل أمر } إشارة عند الأكثرين إلى فائدة نزولهم ، أي من أجل كل أمر قدر في تلك الليلة إلى قابل . ومعنى العدول من لام التعليل إلى " من " أن السائل كأنه يقول : من أين جئتم ؟ فيقولون : ما لكم وهذا السؤال ؟ ولكن قولوا : لأي أمر جئتم ؛ لأنه حظكم . وقيل : { من كل أمر } أي من أجل كل منهم ، فبعضهم للركوع وبعضهم للسجود ، وبعضهم للتسليم . يروى أنهم لا يتلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلا سلموا عليه . عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يقدر المقدر في ليلة البراءة ، فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها " . وقيل : يقدر ليلة البراءة للآجال والأرزاق ، وليلة القدر للخير والبركة . وقيل : يقدر في ليلة القدر ما يتعلق به صلاح معاش المكلف ومعاده ، ويكتب في ليلة البراءة أسماء من يموت فتسلم إلى ملك الموت .

/خ5