غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (1)

مقدمة السورة:

( سورة لم يكن مدنية ، حروفها ثلاثمائة وستة وتسعون ، كلمها أربع وتسعون ، آياتها ثمان ) .

1

التفسير : استصعب بعض العلماء - ومنهم الواحدي - حل هذه الآية ؛ لأنه تعالى لم يبين أنهم منفكون عن أي شيء ، إلا أن الظاهر أنه يريد انفكاكهم عن كفرهم ، ثم إنه فسر البينة بالرسول صلى الله عليه وسلم ، ومعلوم أن " حتى " لانتهاء الغاية ، فالآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول ، وهذا ينافي قوله { وما تفرق } الآية . والجواب على ما قال صاحب الكشاف ، أن هذه حكاية كلام الكفار ، وتقديره أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم : لا ننفك عما نحن فيه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي صلى الله عليه وسلم الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه . ثم قال { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول . ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول ، ونظيره من كلام البشر أن يقول الفاسق لمن يعظه : لست بممتنع مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى ، فلما رزقه الغنى ازداد فسقاً ، فيقول واعظه : لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر ، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار ، يذكره ما كان يقوله توبيخاً وإلزاماً ؛ لأن الذي وقع كان خلاف ما ادعى . وقيل : إن " حتى " للمبالغة ، فيؤول المعنى إلى قولك مثلاً : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة . وقال قوم : إنا لا نحمل قوله { منفكين } على الكفر ؛ بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بالمناقب والفضائل ، ثم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم تفرقوا ، وقال كل واحد فيه قولاً آخر رديئاً ، فتكون الآية كقوله { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به }

[ البقرة :89 ] ولا يبعد في هذا الوجه أن يكون بعضهم قد قال في محمد قولاً حسناً وآمن به لأن التفرق يحصل بأن لا يكون الجميع باقين على حالهم الأولى ، فإذا صار بعضهم مؤمناً وبعضهم كافراً على اختلاف طرق الكفر حصل التفرقة . ولا يبعد أيضاً أن يراد أنهم لم يكونوا منفكين عن اتفاق كلمتهم على كفرهم حتى جاءهم الرسول فحينئذ تفرقوا ، وما بقوا على ذلك الائتلاف واضطربت أقوالهم . وفي قوله { منفكين } إشارة إلى هذا ؛ لأن انفكاك الشيء هو انفصاله عنه بعد التحامه والتئامه ، كالعظم إذا انفك عن مفصله ، فالمعنى أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد وعن الجزم بصحتها إلا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله { من أهل الكتاب والمشركين } بيان للذين كفروا ، والمراد أن الكفار فريقان بعضهم أهل الكتاب ومن يجري مجراهم كالمجوس ، وبعضهم مشركون ، وقيل : المشركون هم أهل الكتاب أيضاً ، وذلك أن النصارى هم أهل التثليث ، واليهود أهل التشبيه . وقد يقول القائل : جاءني العقلاء والظرفاء ، وأراد قوماً بأعيانهم . وفائدة الواو أنهم جامعون بين الوصفين ، ومما يؤيد هذا الوجه أنه لم يعد إلا ذكر أهل الكتاب في قوله { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } والأولون اعتذروا عن ذلك بأنهم إنما خصصوا بالذكر لفضلهم وبركة علمهم ولمزيد توبيخهم ، فإن العصيان والعناد من العالم أقبح ، ولعل هذا هو السبب في تقديم ذكرهم أولاً . والبينة الحجة الواضحة .

/خ8