مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

{ إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْيِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها . وأصل الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم ، ولا يجوز على القديم التغير خوف والذم ولكن الترك لما كان من لوازمه عبر عنه به ، ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت ، فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال ، وهو فن من كلامهم بديع وفيه لغتان : التعدي بنفسه وبالجار . يقال : استحييته واستحييت منه وهما محتملتان هنا ، وضرب المثل صنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم . و «ما » هذه إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته عموماً كقولك : «أعطني كتاباً ما » تريد أي كتاب كان ، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله تعالى :

{ فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم } [ النساء : 155 ] ، كأنه قال : لا يستحي أن يضرب مثلاً ألبتة . وبعوضة عطف بيان ل «مثلاً » أو مفعول ل «يضرب » و«مثلاً » حال من النكرة مقدمة عليه ، أو انتصبا مفعولين على أن «ضرب » بمعنى «جعل » واشتقاقها من البعض وهو القطع كالبضع والعضب . يقال بعضه البعوض ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه ، والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت . { فَمَا فَوْقَهَا } فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلاً وهو القلة والحقارة ، أو فما زاد عليها في الحجم كأنه أراد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة . ولا يقال كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر لأن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات وقد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا . { فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَهُ الحق } الضمير للمثل أو لأن يضرب والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يقال حق الأمر إذا ثبت ووجب { مّن رَّبِّهِمْ } في موضع النصب على الحال والعامل معنى الحق وذو الحال الضمير المستتر فيه { وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } ويوقف عليه إذ لو وصل لصار ما بعده صفة له وليس كذلك . وفي قولهم «ماذا أراد الله بهذا مثلاً » استحقار كما قالت عائشة رضي الله عنها في عبد الله ابن عمرو : يا عجباً لابن عمرو هذا محقرة له . و«مثلاً » نصب على التمييز أو على الحال كقوله { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءَايَةً } [ الأعراف : 73 ] وأما حرف فيه معنى الشرط ولذا يجاب بالفاء ، وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد . تقول : زيد ذاهب . فإذا قصدت توكيده وأنه لا محالة ذاهب قلت : أما زيد فذاهب ، ولذا قال سيبويه في تفسيره : مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، وهذا التفسير يفيد كونه تأكيداً وأنه في معنى الشرط . وفي إيراد الجملتين مصدرتين به وإن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون ، إحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بليغ بعلمهم أنه الحق ، ونعي على الكافرين إغفالهم حظهم ورميهم بالكلمة الحمقاء . و«ماذا » فيه وجهان : أن يكون «ذا » اسماً موصولاً بمعنى الذي و«ما » استفهاماً فيكون كلمتين ، وأن تكون «ذا » مركبة مع «ما » مجعولتين اسماً واحداً للاستفهام فيكون كلمة واحدة ، ف «ما » على الأول رفع بالابتداء وخبره «ذا » مع صلته أي أراد ، والعائد محذوف . وعلى الثاني منصوب المحل ب «أراد » والتقدير : أي شيء أراد الله . والإرادة مصدر أردت الشيء إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك ، وهي عند المتكلمين معنى يقتضي تخصيص المفعولات بوجه دون وجه ، والله تعالى موصوف بالإرادة على الحقيقة عند أهل السنة . وقال معتزلة بغداد : إنه تعالى لا يوصف بالإرادة على الحقيقة .

فإذا قيل أراد الله كذا فإن كان فعله فمعناه أنه فعل وهو غير ساهٍ ولا مكره عليه ، وإن كان فعل غيره فمعناه أنه أمر به . { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } جارٍ مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين ب «أما » ، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة ، وأن العلم بكونه حقاً من باب الهدى ، وأن الجهل بحسن مورده من باب الضلالة . وأهل الهدى كثير في أنفسهم وإنما يوصفون بالقلة بالقياس إلى أهل الضلال ، ولأن القليل من المهتدين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة .

إن الكرام كثير في البلاد وإن*** قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا

والإضلال : خلق فعل الضلال في العبد ، والهداية خلق فعل الاهتداء ، هذا هو الحقيقة عند أهل السنة ، وسياق الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل ليس بموضع الاستنكار والاستغراب لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى وإدناء المتوهم من المشاهد . فإن كان المتمثل له عظيماً كان المتمثل به كذلك ، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك ، ألا ترى أن الحق لما كان واضحاً جلياً تمثل له بالضياء والنور ، وأن الباطل لما كان بضد صفته تمثل له بالظلمة ، ولما كانت حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله لا حال أحقر منها وأقل ، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن ، وجعلت أقل من الذباب وضربت لها البعوضة ؟ فالذي دونها مثلاً لم يستنكر ولم يستبدع ولم يقل للمتمثل استحى من تمثيلها بالبعوضة لأنه مصيب في تمثيله ، محق في قوله ، سائق للمثل على قضية مضربه ، ولبيان أن المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والنظر في الأمور يناظر العقل إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أن الحق ، وأن الكفار الذين غلب الجهل على عقولهم إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقضوا عليه بالبطلان وقابلوه بالإنكار ، وأن ذلك سبب هدى المؤمنين وضلال الفاسقين . والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وخشاش الأرض فقالوا : أجمع من ذرة ، وأجرأ من الذباب ، وأسمع من قراد ، وأضعف من فراشة ، وآكل من السوس ، وأضعف من البعوضة ، وأعز من مخ البعوض ، ولكن ديدن المحجوج والمبهوت أن يرضى لفرط الحيرة بدفع الواضح وإنكار اللائح . { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } هو مفعول «يضل » وليس بمنصوب على الاستثناء لأن «يضل » لم يستوف مفعوله . والفسق : الخروج عن القصد . والفاسق في الشريعة : الخارج عن الأمر بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين المنزلتين أي بين منزلة المؤمن والكافر عند المعتزلة وسيمر عليك ما يبطله إن شاء الله .