روى العوفي عن ابن عباس : " نزلت سورة النساء بالمدينة " . وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت . وقد زعم النحاس أنها مكية . مستندا إلى أن قوله تعالى : ( إن الله يأمركم ) الآية{[1]} نزلت بمكة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة . وذلك مستند واه . لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سور طويلة ، نزل معظمها بالمدينة ، أن تكون مكية . خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني . ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه . ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت : " ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده " . ودخولها عليه كان بعد الهجرة اتفاقا . وقيل : نزلت عند الهجرة . وآياتها مائة وسبعون وخمس وقيل ست وقيل سبع . كذا في ( الإتقان ) . وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : " إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة ) . الآية{[2]} ، و ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) . الآية{[3]} ، / و ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) {[4]} ، ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك ) . الآية{[5]} " . وروى عبد الرزاق عنه أيضا قال : " خمس آيات من النساء لهن أحب إلي من الدنيا جميعا : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) . وقوله : ( وان تك حسنة يضاعفها ) . وقوله : ( ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) {[6]} . وقوله : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) {[7]} " . وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : " ثماني آيات نزلت في سورة النساء ، خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت . أولهن : ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم ، والله عليم حكيم ) {[8]} ، والثانية : ( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ) {[9]} ، والثالثة : ( يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الإنسان ضعيفا ) {[10]} " ثم ذكر قول ابن مسعود سواء . يعني في الخمسة الباقية .
لطيفة : إنما سميت سورة النساء ، لأن ما نزل منها في أحكامهن أكثر مما نزل في غيرها .
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ان الله كان عليكم رقيبا1 ) .
( يا أيها الناس اتقوا ربكم ) أي اخشوه أن تخالفوه فيما أمركم أو نهاكم عنه . ثم نبههم على اتصافه بكمال القدرة الباهرة ، لتأييد الأمر بالتقوى وتأكيد إيجاب الامتثال به على طريق الترغيب والترهيب ، بقوله تعالى : ( الذي خلقكم من نفس واحدة ) أي فرعكم من أصل واحد وهو نفس أبيكم آدم . وخلقه تعالى اياهم على هذا النمط البديع مما يدل على القدرة العظيمة . ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شيء . ومنه عقابهم على معاصيهم . فالنظر فيه يؤدي إلى الاتقاء من موجبات نقمته . وكذا جعله تعالى اياهم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة . كما ينبئ عنه ما يأتي من الارشاد إلى صلة الأرحام ، ورعاية حال الأيتام ، والعدل في النكاح وغير ذلك . وقد ثبت في ( صحيح مسلم ) {[1513]} من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه / أولئك النفر من مضر ، وهم مجتابو النمار ( أي من عيرهم وفقرهم ) قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته : " ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلكم من نفس واحدة ) حتى ختم الآية . ثم قال : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) {[1514]} . ثم حضهم على الصدقة فقال : " تصدق رجل من ديناره . من درهمه . من صاع بره . ومن صاع تمره " . وذكر تمام الحديث . وهكذا رواه أحمد وأهل ( السنن ) عن ابن مسعود في خطبة الحاجة . وفيها : ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم ) . الآية . ( وخلق منها زوجها ) أي من نفسها . يعني من جنسها ليكون بينهما ما يوجب التآلف والتضام . فان الجنسية علة الضم . وقد أوضح هذا بقوله تعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) {[1515]} ( وبث منهما ) أي نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها ، بطريق التوالد / والتناسل . ( رجالا كثيرا ونساء ) أي كثيرة . وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به . فان سؤال بعضهم بعضا بالله تعالى بأن يقولوا : أسألك بالله وأنشدك الله ، على سبيل الاستعطاف ، يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه . وتعليق بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وادخال الروعة . ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته . و ( تساءلون ) أصله تتساءلون . فطرحت احدى التاءين تخفيفا . وقرئ بادغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس . وقرئ تسألون ( من الثلاثي ) أي تسألون به غيركم . وقد فسر به القراءة الأولى والثانية . وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع . كما في قولك رأيت الهلال وتراءيناه –أفاده أبو السعود- وقوله تعالى : ( والأرحام ) قرأ حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور . والباقون بالنصب عطفا على الاسم الجليل . أي اتقوا الله والأرحام أن تقطعوها . فان قطيعتها مما يجب أن يتقى . أو عطفا على محل الجار والمجرور . كقولك مررت بزيد وعمرا . وينصره قراءة ( تساءلون به وبالأرحام ) فانهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله عز وجل . ويقولون : ( أسألك بالله وبالرحم ) . ولقد نبه سبحانه وتعالى ، حيث قرنها باسمه الجليل ، على أن صلتها بمكان منه . كما في قوله تعالى : ( ألا تعبدوا الا الله وبالوالدين احسانا ) {[1516]} . وقال تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين ) {[1517]} . / وقد روى الشيخان {[1518]}عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الرحم معلقة بالعرش . تقول : من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله " . ورويا{[1519]} أيضا عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة قاطع " . قال سفيان في روايته : يعني قاطع رحم . وروى البخاري{[1520]} عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها " . ورويا{[1521]} عن أبي هريرة رضي الله عنه : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه " . والأحاديث في الترغيب بصلة الرحم والترهيب من قطيعتها كثيرة .
دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى . كذا قاله الرازي . ووجهه أنه تعالى أقرهم على هذا التساؤل . لكونهم يعتقدون عظمته . ولم ينكره عليهم . نعم من أداه التساؤل باسمه تعالى إلى / التساهل في شأنه وجعله عرضة لعدم إجلاله ووسيلة لأبواب الساسانية ، فهذا محظور قطعا . وعليه يحمل ما ورد من لعن من سأل بوجه الله . كما سنذكره . وقد ورد في هذا الباب أحاديث وافرة . منها عن ابن عمر قال :{[1522]} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن أتى عليكم معروفا فكافئوه فان لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه " رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم . وروى الإمام أحمد وأبو داود{[1523]} عن ابن عباس مرفوعا : " من استعاذ بالله فأعيذوه ومن يسألكم بوجه الله فأعطوه " . وعن ابن عمر مرفوعا : " من سئل بالله فأعطى كتب له سبعون حسنة " . رواه البيهقي باسناد ضعيف . وفي البخاري{[1524]} عن البراء بن عازب : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع . وذكر منها : وابرار القسم " . وروى أبو داود{[1525]} والضياء في ( المختارة ) باسناد صحيح عن / جابر مرفوعا/ " لا يسأل بوجه الله تعالى الا الجنة " . وروى الطبراني عن أبي موسى الأشعري مرفوعا : " ملعون من سأل بوجه الله . وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا " . قال السيوطي : اسناده حسن . وقال الحافظ المنذري : رجاله رجال الصحيح الا شيخه ( يعني الطبراني ) يحيى بن عثمان بن صالح . وهو ثقة وفيه كلام . وهجرا ( بضم الهاء وسكون الجيم ) أي ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق . ويحتمل أنه أراد ما لم يسأل سؤالا قبيحا بكلام قبيح . انتهى . وعن أبي عبيدة ، مولى رفاعة ، عن رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله " . رواه الطبراني : وعن ابن عباس رضي الله عنهما{[1526]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الا أخبركم بشر الناس ؟ رجل يسأل بوجه الله ولا يعطي " . رواه الترمذي . وقال : حسن غريب . والنسائي وابن حبان في ( صحيحه ) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الا أخبركم بشر البرية ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : الذي يسأل بالله ولا يعطي " ( ان الله كان عليكم رقيبا ) أي مراقبا لجميع أحوالكم وأعمالكم . يراها ويعلمها فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . كما قال : ( والله على كل شيء شهيد ) . وفي الحديث{[1527]} : " اعبد الله كأنك تراه . فان لم تكن تراه فانه يراك " . وهذا ارشاد وأمر بمراقبته تعالى . فعلى المرء أن يراقب أحوال نفسه ويأخذ حذره من أن ينتهز الشيطان منه فرصة فيهلك على غفلة .