وهي مكية . وهي مئة وخمس وستون آية
روى العوفي وعكرمة وعطاء عن ابن عباس قال : " أنزلت سورة الأنعام بمكة " .
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : " هي مكية ، نزلت جملة واحدة ، نزلت ليلا ، وكتبوها من ليلتهم ، غير ست آيات منها ، فإنها مدنيات ، وهي قوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم . . . } {[1]} إلى آخر الثلاث آيات . وقوله تعالى : { وما قدروا الله حق/ قدره . . . } {[2]} . وقوله تعالى : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا . . . } {[3]} إلى آخر الآيتين .
وذكر مقاتل نحو هذا وزاد آيتين ، وهما قوله تعالى : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من بك . . . } {[4]} الآية . وقوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه . . . } {[5]} الآية .
وروي عن ابن عباس أيضا وقتادة أنهما قالا : " إنها مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة ، قوله : { وما قدروا الله حق قدره }{[6]} . وقوله : { وهو الذي أنشأ جنات . . . } {[7]} الآية " .
/ قال البيهقي في ( الدلائل ) : في بعض السور التي نزلت بمكة آيات نزلت بالمدينة ، فألحقت بها . وكذا قال ابن الحصار : كل نوع من المكي والمدني ، منه آيات مستثناة . قالا : إلا أن من الناس من اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد دون النقل . ثم ناقش في استثناء هذه الآيات ، قال : ولا يصح به نقل ، خصوصا ما ورد أنها نزلت جملة .
ورد عليه السيوطي بأنه صح النقل عن ابن عباس ، باستثناء : { قل تعالوا . . . } {[8]} الآيات الثلاث ، والبواقي : { وما قدروا الله حق قدره }{[9]} ، لما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في مالك بن الصيف . وقوله : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا }{[10]} . نزلتا في مسيلمة . وقوله : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه }{[11]} . وقول : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق }{[12]} .
وأخرج أبو الشيخ عن الكلبي قال : نزلت الأنعام كلها بمكة ، إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود ، وهو الذي قال : { ما أنزل الله على بشر من شيء }{[13]} – كذا في ( اللباب ) و ( الإتقان ) . ومن خصائص هذه السورة ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال : " نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا ، جملة واحدة حولها سبعون ألف ملك ، يجأرون بالتسبيح " .
/ وروى السدي عن ابن مسعود قال : " نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفا من الملائكة " . وروي نحوه آخر عنه أيضا .
وروى الحاكم في ( مستدركه ) عن جابر قال : " لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسم ثم قال : لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق " . ثم قال : صحيح على شرط مسلم .
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسم : " نزلت سورة الأنعام معها موكب الملائكة سد ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتسبيح ، والأرض بهم ترتج ، ورسول الله يقول : سبحان الله العظيم ! سبحان الله العظيم ! " .
وأخرج أيضا عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسم : " نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة ، وشيعها سبعون ألفا من الملائكة ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد " .
قال الرازي : قال الأصوليون : هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة :
أحدهما- أنها نزلت دفعة واحدة .
والثاني- أنها شيعها سبعون ألفا من الملائكة . والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والمعاد ، وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين . وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة . وأيضا فإنزال ما يدل على الأحكام ، قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى قدر حاجتهم ، وبحسب الحوادث والنوازل . وأما ما يدل على علم الأصول ، فقد أنزله الله جملة واحدة ، وذلك يدل على أن تعلم علم الأصول واجب على الفور ، لا على التراخي . 1ه .
وأخرج{[14]} الدارمي في ( مسنده ) عن عمر رضي الله عنه قال : " الأنعام من نواجب القرآن "
وفي ( القاموس ) : نجائب القرآن أفضله ومحضه . ونواجيبه لبابه . انتهى .
وسميت ب ( سورة الأنعام ) ، لأن أكثر أحكامها ، وجهالات المشركين فيها ، وفي التقرب بها على أصنامهم- مذكورة فيها .
[ 1 ] { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( 1 ) } .
{ الحمد لله } أي جميع المحامد ، بما حمد به نفسه أو خلقه ، أو حمد به الخلق ربهم ، أو بعضهم ، مخصوص به . ثم أخبر عن قدرته الكاملة ، الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد بقوله : { الذي خلق السماوات والأرض } خصهما بالذكر ، لأنهما أعظم المخلوقات ، فيما يرى العباد ، وفيهما العبر والمنافع ، لأن السماوات بأوضاعها وحركاتها أسباب الكائنات والفاسدات التي هي مظاهر الكمالات الإلهية . والأرض مشتملة على قوابل الكون والفساد التي هي المسببات .
{ وجعل الظلمات والنور } أي : أوجدهما منفعة لعباده ، في ليلهم . ونهارهم . وههنا :
الأولى- أن المقصود من الآية التنبيه على أن المنعم بهذه النعم الجسام هو الحقيق بالحمد والعبادة ، دون ما سواه .
الثانية- لفظ { جعل } يتعدى إلى واحدة إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كما هنا ؛ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى ( صير ) كقوله{[3337]} : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } . والفرق بين ( الخلق ) و ( الجعل ) : أن ( الخلق ) فيه معنى التقدير ، وفي ( الجعل ) معنى التضمين ، كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئا ، أو نقله من مكان إلى مكان . ومن ذلك : / { وجعل منها زوجها }{[3338]} { أجعل الآلهة إلها واحدا }{[3339]} . وإنما حسن لفظ ( الجعل ) ههنا ، لأن النور والظلمة لما تعاقبا ، صار كأن كل واحد منهما إنما تولد من الآخر- قاله الرازي- وسبقه إليه الزمخشري .
قال الناصر في ( الانتصاف ) : وقد وردت ( جعل ) و ( خلق ) موردا واحدا . فورد : { وخلق منها زوجها }{[3340]} . وورد : { وجعل منها زوجها }{[3341]} . وذلك ظاهر في الترادف . إلا أن للخاطر ميلا إلى الفرق الذي أبداه الزمخشري . ويؤيده أن ( جعل ) لم يصحب السماوات والأرض ، وإنما لزمتهما ( خلق ) . وفي إضافة ( الخلق ) في هذه الآية إلى السماوات والأرض ، و ( الجعل ) على الظلمات والنور ، مصداق للمميز بينهما- والله أعلم- .
الثالثة- إن قيل : لم جمعت السماوات دون الأرض مع أنها مثلهن لقوله تعالى : { ومن / الأرض مثلهن }{[3342]} ، وفي الحديث : {[3343]} " هل تدرون ما هذه ؟ قالوا : هذه أرض . هل تدرون ما تحتها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ! قال : أرض أخرى ، وبينهما مسير خمسمائة عام ، حتى عد سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام " . - أخرجه الترمذي ، وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه ؟ .
/ فالجواب : لأن السماوات طبقات متفاضلة بالذات ، مختلفة بالحقيقة ، بخلاف الأرضين- كما قاله البيضاوي- .
وقال الرازي : إن السماء جارية مجرى الفاعل . والأرض مجرى القابل . فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر ، وذلك يخل بمصالح هذا العالم . أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية ، فحصل بسببها الفصول الأربعة ، وسائر الأحوال المختلفة ، وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم . أما الأرض فهي قابلة للأثر ، والقابل الواحد كاف في القبول . انتهى .
وقدم السماوات لشرفها وعلو مكانها .
الرابعة- الظاهر في { الظلمات والنور } أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر . والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما . والأصل حمل اللفظ على حقيقته ، ولأن { الظلمات والنور } إذا قرنا بالسماوات والأرض ، لم يفهم منهما إلا الأمران المحسوسان .
ونقل عن بعض السلف أنه عنى بهما الكفر والإيمان .
ورجح بعضهم الثاني بأن المعنى : أنه لما خلق السماوات والأرض ، فقد نصب الأدلة على معرفته وتوحيده . ثم بين طرق الضلال ، وطريق الهدى ، بإنزال الشرائع والكتب السماوية . { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } ، فناسب المقام ( ثم ) الاستبعادية ، إذ يبعد من العاقل الناظر بعد إقامة الدليل . اختيار الباطل . انتهى .
وعليه فجمع { الظلمات } وتوحيد { النور } ظاهر . لأن الهدى واحد ، والضلال متعدد ، كما قال في آخر هذه السورة{[3344]} : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } .
/ وعلى الأول ، فجمعها لظهور كثرة أسبابها ومحالها عند الناس ، فإن لكل جرم ظلمة ، وليس لكل جرم نور . وأما تقديمها فلسبقها في التقدير والتحقق ، على النور .
وفي الأثر{[3345]} : " إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره " .
وقوله تعالى : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } معطوف على الجملة السابقة الناطقة بما مر من موجبات اختصاصه تعالى ، بالحمد المستدعي لاقتصار العبادة عليه . مسوق لإنكار ما عليه الكفرة ، واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها ، واجترائهم على ما يقضي ببطلانه بديهة/ العقول . والمعنى أنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة ، باعتبار ذاته ، وباعتبار ما فصل من شؤونه العظيمة الخاصة به ، الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه . ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه ، ويعدلون به سبحانه . أي : يسوون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر ، الذي رأسه الحمد ، مع كون كل ما سواه مخلوقا له ، غير متصف بشيء من مبادئ الحمد .
وكلمة ( ثم ) لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية ، القاضية ببطلانه . و ( الباء ) متعلقة ب { يعدلون } ووضع { الرب } موضع ضميره تعالى ، لزيادة التشنيع والتقبيح . والتقديم لمزيد الاهتمام ، والمسارعة إلى تحقيق مدار الإنكار والاستبعاد ، والمحافظة على الفواصل . وترك المفعول لظهوره ، أو لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل ، بتنزيله منزلة اللازم ، إيذانا بأنه المدار في الاستبعاد ، لا خصوصية المفعول . هذا هو الحقيق بجزالة التنزيل- أفاده أبو السعود- .
ثم ناقش ما وقع للمفسرين هنا مما يخالفه . فانظره .
وأصل ( العدل ) مساواة الشيء بالشيء . والمعنى : أنهم يجعلون له عديلا من خلقه ، مما لا يقدر على شيء . فيعبدون الحجارة ، مع إقرارهم بأن الله خلق السماوات والأرض .
وقال النضر بن شميل : ( الباء ) بمعنى ( عن ) أي : عن ربهم يعدلون وينحرفون ، من العدول عن الشيء .
قال ابن عطية رحمه الله : ( ثم ) دالة على قبح فعل الذين كفروا ، لأن المعنى أن خلقه السماوات قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبين . ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم . فهذا كما تقول : أعطيتك وأحسنت إليك ، ثم تشتمني ؟ ولو وقع العطف في هذا ونحوه ب ( الواو ) لم يلزم التوبيخ كلزومه ب ( ثم ) انتهى . أي : ففيها الدلالة على التوبيخ والإنكار ، كالتعجيب أيضا .
/ قال أبو حيان : هذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن ( ثم ) للتوبيخ . والزمخشري من أنها للاستبعاد- مفهوم من سياق الكلام ، لا من مدلول ( ثم ) . انتهى .
وإنما لم تحمل ( ثم ) على التراخي ، مع استقامته ، لكون الاستبعاد أوفق بالمقام ، لأن التراخي الزماني معلوم فيه ، فلا فائدة في ذكره .