من أهل القرى : من أهل البلاد التي تفتح بلا قتال .
كي لا يكون دُولة بين الأغنياء : كي لا يتداوله الأغنياء بينهم دون الفقراء .
ثم بين الكلامَ في حكم ما أفاء الله على رسوله من قرى الأعداء عامة فقال :
{ مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ . . . . } .
ما ردّه الله على رسوله من أموال أهلِ القرى بغير قتال فهو لله ، وللرسول ، ولذي القربى من بني هاشم وبني المطلب ، ولليتامى الفقراء ، وللمساكين ذوي الحاجة والبؤس ، ولابن السبيل المسافر الذي انقطع في بلد وليس لديه مال ، يُعطى ما يوصله إلى بلده .
{ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ } .
إنما حكمْنا بهذه الأحكام وجعلنا المال مقسما بين من ذكَرنا لئلا يأخذه الأغنياء منكم ، ويتداولوه فيما بينهم ، ويحرم الفقراء منه .
وما جاءكم به الرسول من الأحكام والتشريع فتمسّكوا به ، وما نهاكم عنه فاتركوه . ثم حذّر الله الجميع من مخالفة أوامره ونواهيه فقال : { واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } .
قوله عز وجل : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } يعني من أموال كفار أهل القرى ، قال ابن عباس : هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة ، { فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ، قد ذكرنا في سورة الأنفال حكم الغنيمة وحكم الفيء . إن مال الفيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته يضعه حيث يشاء وكان ينفق منه على أهله نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل الله . واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قوم : هو للأئمة بعده ، وللشافعي فيه قولان : أحدهما- هو للمقاتلة ، والثاني : لمصالح المسلمين ، ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم فالأهم من المصالح . واختلفوا في تخميس مال الفيء : فذهب بعضهم إلى أنه يخمس ، فخمسه لأهل الغنيمة ، وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح ، وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد ، ولجميع المسلمين فيه حق ، قرأ عمر بن الخطاب :{ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى }( الحشر 7-12 ) ، حتى بلغ : { للفقراء المهاجرين والذين جاؤوا من بعدهم } ثم قال : هذه استوعبت المسلمين عامة ، وقال : ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم . { كيلا يكون دولةً } قرأ العامة بالياء دولة نصب أي لكيلا يكون الفيء دولة ، وقرأ أبو جعفر : تكون بالتاء " دولة " بالرفع على اسم كان ، أي : كيلا يكون الأمر إلى دولة ، وجعل الكينونة بمعنى الوقوع وحينئذ لا خبر له . والدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم ، { بين الأغنياء منكم } يعني بين الرؤساء والأقوياء ، معناه كيلا يكون الفيء دولة بين الأغنياء والأقوياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا اغتنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه ، وهو المرباع ، ثم يصطفي منها بعد المرباع ما شاء ، فجعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم يقسمه فيما أمر به ، ثم قال : { وما آتاكم } أعطاكم ، { الرسول } من الفيء والغنيمة ، { فخذوه وما نهاكم عنه } من الغلول وغيره ، { فانتهوا } وهذا نازل في أموال الفيء ، وهو عام في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ) ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك كيت وكيت ، فقال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى ؟ فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول : قال : لئن كنت قرأته لقد وجدته أما قرأت : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }( الحشر- 7 ) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه . { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} يعني قريظة والنضير وخيبر وفدك وقريتي عرينة، {فلله وللرسول ولذي القربى} يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم {واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة} يعني يكون المال دولة {بين الأغنياء منكم} يعني لئلا يغلب الأغنياء الفقراء على الفيء، فيقسمونه بينهم؛ فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الفيء للمهاجرين، ولم يعط الأنصار غير رجلين، منهم سهل بن حنيف، وسماك بن خرشة، أعطاهما النبي صلى الله عليه وسلم أرضا من أرض النضير.
قوله: {وما آتاكم الرسول} يقول: ما أعطاكم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من الفيء، {فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله} يخوفهم الله من المعاصي، ثم خوفهم، فقال: {إن الله شديد العقاب} إذا عاقب أهل المعاصي...
- الخازن: قال مالك بن أنس: من انتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه غل عليهم فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآية: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} [الحشر: 7].
قال الشافعي: وما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط إلا بوحي، فمن الوحي ما يتلى، ومنه ما يكون وحيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستن؛ عن المطلب بن حنطب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين قد ألقى في روعي أن لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فأجملوا في الطلب». قال الشافعي: وقد قيل: ما لم يتل قرآنا إنما ألقاه جبريل في روعه بأمر الله، فكان وحيا إليه. وقيل: جعل الله إليه بما شهد له به من أنه يهدي إلى صراط مستقيم أن يسُن. وأيهما كان فقد ألزمهما الله تعالى خلقه، ولم يجعل لهم الخيرة من أمرهم فيما سن لهم، وفرض عليهم اتباع سنته. (الأم: 7/299. ون الأم: 7/286 و 7/15.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله جلّ ثناؤه: "ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى" الذي ردّ الله عزّ وجلّ على رسوله من أموال مشركي القرى. واختلف أهل العلم في الذي عني بهذه الآية من الألوان؛
فقال بعضهم: عني بذلك الجزية والخراج.
وقال آخرون: عني بذلك الغنيمة التي يصيبها المسلمون من عدوّهم من أهل الحرب بالقتال عنوة.
وقال آخرون: عني بذلك الغنيمة التي أوجف عليها المسلمون بالخيل والركاب، وأخذت بالغلبة، وقالوا كانت الغنائم في بدوّ الإسلام لهؤلاء الذين سماهم الله في هذه الآيات دون المرجفين عليها، ثم نسخ ذلك بالآية التي في سورة الأنفال.
وقال آخرون: عني بذلك: ما صالح عليه أهل الحرب المسلمين من أموالهم، وقالوا قوله {ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرّسُولِ} الآيات، بيان قسم المال الذي ذكره الله في الآية التي قبل هذه الآية، وذلك قوله: {ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِه مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكاب} وهذا قول كان يقوله بعض المتفقهة من المتأخرين.
والصواب من القول في ذلك عندي، أن هذه الآية حكمها غير حكم الآية التي قبلها، وذلك أن الآية التي قبلها مال جعله الله عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيره، لم يجعل فيه لأحد نصيبا، وبذلك جاء الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فإذَا كانت هذه الآية التي قبلها مضت، وذكر المال الذي خصّ الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل لأحد معه شيئا، وكانت هذه الآية خبرا عن المال الذي جعله الله لأصناف شتى، كان معلوما بذلك أن المال الذي جعله لأصناف من خلقه غير المال الذي جعله للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، ولم يجعل له شريكا.
وقوله: {وَلِذي القُرْبى} يقول: ولذي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب." واليتامى ": وهم أهل الحاجة من أطفال المسلمين الذين لا مال لهم." والمساكين ": وهم الجامعون فاقة وذلّ المسئلة. " وابن السبيل": وهم المنقطع بهم من المسافرين في غير معصية الله عزّ وجلّ.
وقوله: {كَيْلا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأغْنِياءِ مِنْكُمْ} يقول جلّ ثناؤه: وجعلنا ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى لهذه الأصناف، كيلا يكون ذلك الفيء دُولة يتداوله الأغنياء منكم بينهم، يصرفه هذا مرّة في حاجات نفسه، وهذا مرّة في أبواب البرّ وسُبُل الخير، فيجعلون ذلك حيث شاءوا، ولكننا سننا فيه سنة لا تُغير ولا تُبدّل. وقوله: {وَما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ} يقول تعالى ذكره: وما أعطاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء عليه من أهل القرى فخذوه.
{وَما نهاكُمْ عَنْهُ} من الغَلول وغيره من الأمور {فانْتَهُوا} وكان بعض أهل العلم يقول نحو قولنا في ذلك غير أنه كان يوجه معنى قوله {وَمَا آتاكُمُ الرّسُولُ فخُذُوهُ} إلى ما آتاكم من الغنائم.
وقوله: {وَاتّقُوا اللّهَ} يقول: وخافوا الله، واحذروا عقابه في خلافكم على رسوله بالتقدّم على ما نهاكم عنه، ومعصيتكم إياه.
{إنّ الله شَدِيدُ العِقابِ} يقول: إن الله شديد عقابه لمن عاقبه من أهل معصيته لرسوله صلى الله عليه وسلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الدولة -بضم الدال- نقلة النعمة من قوم إلى قوم. وبفتح الدال المرة من الاستيلاء والغلبة.
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
أخبرنا سعيد بن نصر، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد ابن إسماعيل، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة أن امرأة من بني أسد أتت عبد الله بن مسعود، فقالت له: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت والواشمة والمستوشمة، وإني قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول، وإني لأظن على أهلك منها، فقال لها عبد الله: فادخلي فانظري، فدخلت فنظرت، فلم تر شيئا، فقال لها عبد الله: أما قرأت: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، قالت: بلى، قال: فهو ذاك. (جامع بيان العلم وفضله: 2/230).
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} هذا أصل من أصولِ وجوبِ متابعتِه، ولزومِ طريقته وسيرته -وفي العِلْم تفصيلُه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الثَّالِثُ: مَا أَمَرَكُمْ بِهِ من طَاعَتِي فَافْعَلُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ من مَعْصِيَتِي فَاجْتَنِبُوهُ. وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّهُ لِعُمُومِهِ تَنَاوَلَ الْكُلَّ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِيهِ مُرَادٌ بِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: وَقَعَ الْقَوْلُ هَاهُنَا مُطْلَقًا بِذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ...
المسألة الثَّالِثَةُ: إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ بِأَمْرٍ كَانَ شَرْعًا، وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا. وَلِذَلِكَ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»...
المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ الْإِيتَاءِ وَهِيَ الْمُنَاوَلَةُ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فَقَابَلَهُ بِالنَّهْيِ، وَلَا يُقَابِلُ النَّهْيَ إلَّا الْأَمْرُ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَات، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ». فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً من بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: [إنَّهُ بَلَغَنِي] أَنَّك لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ: وَمَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ، فَمَا وَجَدْت فِيهِ مَا تَقُولُ. قَالَ: لَئِنْ كُنْت قَرَأْته لَقَدْ وَجَدْته؛ أَمَا قَرَأْت: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نزع سبحانه أموالهم من أيدي الجيش، بين مصرف غيرها مما كان مثلها بأن فتح له صلى الله عليه وسلم بغير قتال فقال مستأنفاً جواباً لمن كأنه قال: هل يعم هذا الحكم كل فيء يكون بعد بني النضير: {ما أفاء الله} أي الذي اختص بالعزة والحكمة والقدرة، {على رسوله} ولما كان سبحانه محيط العلم بأنه يسلط على أهل وادي القرى وغيرهم أعظم من هذا التسليط، قال ليكون علماً من أعلام النبوة: {من أهل القرى} أي قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية {فلله} أي الملك الأعلى الذي الأمر كله بيده، {وللرسول} لأنه أعظم خلقه، فرتبته تلي رتبته، وهذان يتراءى أنهما قسمان وليس كذلك، هما قسم واحد، ولكنه ذكر سبحانه نفسه المقدس تبركاً، فإن كل أمر لا يبدأ به فهو أجذم، وتعظيماً لرسوله صلى الله عليه وسلم إعلاماً بأنه لا هوى له أصلاً في شيء من الدنيا، وإنما رضاه رضا مولاه، خلقه القرآن الذي هو صفة الله فهو مظهره ومجلاه، وسهمه صلى الله عليه وسلم يصرف بعده لمصالح المسلمين كالسلاح والثغور والعلماء والقضاة والأئمة. ولما أبان هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل والعظمة ما لا يدخل تحت الوصف، أتبعه تعظيماً آخر بتعظيم أقاربه لأجله، ولذلك أعاد العامل فقال: {ولذي القربى} أي منه، لأن رتبتهم من بعد رتبته. ولما ذكر أهل الشرف، أتبعه أهل الضعف جبراً لوهنهم فقال مقدماً أضعفهم: {واليتامى} أي الذين هم أحق الناس بالعطف لأن مبنى الدين على التخلق بأخلاق الله التي من أجلّها تقوية الضعيف وجبر الكسير، {والمساكين} فإنهم في الضعف على أثرهم ودخل فيهم الفقراء فإنه إذا انفرد لفظ الفقير أو المساكين دخل كل منهما في الآخر، وإنما يفرق إذا جمع بينهما، وكذا الفيء والغنيمة إذا أفردا جاز أن يدخل كل في الآخر، وإذا جمعا فالفيء ما حصل بغير قتال وإيجاف خيل وركاب، والغنيمة ما حصل بذلك، {وابن السبيل} وهم الغرباء لانقطاعهم عن أوطانهم وعشائرهم.
ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص الأغنياء به، بين علته المظهرة لعظمته سبحانه وحسن تدبيره ورحمته فقال معلقاً بما علق به الجار: {كي لا يكون} أي الفيء الذي سيره الله سبحانه بقوته وما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم من قذف الرعب في قلوب أعدائه ومن حقه أن يعطاه الفقراء {دولة} أي شيئاً يتناوله أهل الغنى والشرف على وجه القهر والغلبة إثرة جاهلية. ولما كان التقدير: فافعلوا ما أمرتكم من قسمته لمن أمرت بهم، عطف عليه قوله: {وما} أي وكل شيء {آتاكم} أي أحضر إليكم وأمكنكم منه {الرسول} أي الكامل في الرسلية من هذا وغيره {فخذوه} أي فتقبلوه تقبل من حازه {وما نهاكم عنه} من جميع الأشياء {فانتهوا} لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمره به الله ربه، فمن قبل ذلك هانت عليه الأمور. ولما كان الكف عما ألفته النفوس صعباً، ولا سيما ما كان مع كونه تمتعاً بمال على وجه الرئاسة، رهب من المخالفة فيه بقوله: {واتقوا الله} أي اجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة، وعلل ذلك بقوله، معظماً له بإعادة الجلالة مؤكداً لأن فعل المخالف فعل المنكر: {إن الله} أي الذي له وحده الجلال والإكرام على الإطلاق {شديد العقاب *} أي العذاب الواقع بعد الذنب، ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأن الأنفال نزلت في بدر وهي قبل هذه بمدة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم. وما آتاكم الرسول فخذوه. وما نهاكم عنه فانتهوا. واتقوا الله إن الله شديد العقاب).. وتبين هذه الآية الحكم الذي أسلفنا تفصيلا. ثم تعلل هذه القسمة فتضع قاعدة كبرى من قواعد التنظيم الاقتصادي والإجتماعي في المجتمع الإسلامي: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم).. كما تضع قاعدة كبرى في التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).. ولو أن هاتين القاعدتين جاءتا بمناسبة هذا الفيء وتوزيعه، إلا أنهما تتجاوزان هذا الحادث الواقع إلى آماد كثيرة في أسس النظام الاجتماعي الإسلامي. والقاعدة الأولى، قاعدة التنظيم الاقتصادي، تمثل جانبا كبيرا من أسس النظرية الاقتصادية في الإسلام؛ فالملكية الفردية معترف بها في هذا النظرية. ولكنها محددة بهذه القاعدة، قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء، ممنوعا من التداول بين الفقراء. فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الإغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية كما يخالف هدفا من أهداف التنظيم الاجتماعي كله. وجميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع الإسلامي يجب أن تنظم بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد. ولقد أقام الإسلام بالفعل نظامه على أساس هذه القاعدة؛ ففرض الزكاة، وجعل حصيلتها في العام اثنين ونصفا في المئة من أصل رؤوس الأموال النقدية، وعشرة أو خمسة في المئة من جميع الحاصلات. وما يعادل ذلك في الأنعام. وجعل الحصيلة في الركاز وهو كنوز الأرض مثلها في المال النقدي. وهي نسب كبيرة. ثم جعل أربعة أخماس الغنيمة للمجاهدين فقراء وأغنياء بينما جعل الفيء كله للفقراء. وجعل نظامه المختار في إيجار الأرض هو المزارعة -أي المشاركة في المحصول الناتج بين صاحب الأرض وزارعها. وجعل للإمام الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء. وأن يوظف في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال. وحرم الاحتكار. وحظر الربا. وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء. وعلى الجملة أقام نظامه الاقتصادي كله بحيث يحقق تلك القاعدة الكبرى التي تعد قيدا أصيلا على حق الملكية الفردية بجانب القيود الأخرى. ومن ثم فالنظام الإسلامي نظام يبيح الملكية الفردية، ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي، كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولا عنه، فما يقوم النظام الرأسمالي إطلاقا بدون ربا وبدون احتكار، إنما هو نظام خاص من لدن حكيم خبير؛ نشأ وحده، وسار وحده، وبقي حتى اليوم وحده. نظاما فريدا متوازن الجوانب، متعادل الحقوق والواجبات، متناسقا تناسق الكون كله. مذ كان صدوره عن خالق الكون. والكون متناسق موزون.
فأما القاعدة الثانية- قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).. فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية. فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول [صلى الله عليه وسلم] قرآنا أو سنة. والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول. فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان، لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان.. وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات، بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء، وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان. فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول [صلى الله عليه وسلم] والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها -والإمام نائب عن الأمة في هذا- وفي هذا تنحصر حقوق الأمة. فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول في أي تشريع. فأما حين لا توجد نصوص فيما جاء به الرسول بخصوص أمر يعرض للأمة فسبيلها أن تشرع له بما لا يخالف أصلا من أصول ما جاء به الرسول. وهذا لا ينقض تلك النظرية، إنما هو فرع عنها. فالمرجع في أي تشريع هو أن يتبع ما جاء به الرسول إن كان هناك نص. وألا يخالف أصلا من أصوله فيما لا نص فيه. وتنحصر سلطة الأمة -والإمام النائب عنها- في هذه الحدود. وهو نظام فريد لا يماثله نظام آخر مما عرفته البشرية من نظم وضعية. وهو نظام يربط التشريع للناس بناموس الكون كله. وينسق بين ناموس الكون الذي وضعه الله له والقانون الذي يحكم البشر وهو من الله، كي لا يصطدم قانون البشر بناموس الكون، فيشقى الإنسان أو يتحطم أو تذهب جهوده أدراج الرياح!
وتربط الآية هاتين القاعدتين في قلوب المؤمنين بمصدرهما الأول.. وهو الله.. فتدعوهم إلى التقوى وتخوفهم عقاب الله: (واتقوا الله إن الله شديد العقاب).. وهذا هو الضمان الأكبر الذي لا احتيال عليه، ولا هروب منه. فقد علم المؤمنون أن الله مطلع على السرائر، خبير بالأعمال، وإليه المرجع والمآب. وعلموا أنه شديد العقاب. وعلموا أنهم مكلفون ألا يكون المال دولة بينهم، وأن يأخذوا ما آتاهم الرسول عن رضى وطاعة، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه في غير ترخص ولا تساهل وأمامهم يوم عصيب.. ولقد كان توزيع ذلك الفيء -فيء بني النضير- على المهاجرين وحدهم عدا رجلين من الأنصار إجراء خاصا بهذا الفيء، تحقيقا لقاعدة: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم).. فأما الحكم العام، فهو أن يكون للفقراء عامة، من المهاجرين ومن الأنصار وممن يأتي بعدهم من الأجيال. وهذا ما تضمنته الآيات التالية في السياق...
ولما نزع سبحانه أموالهم من أيدي الجيش ، بين مصرف{[63813]} غيرها مما كان مثلها بأن فتح له صلى الله عليه وسلم بغير قتال فقال مستأنفاً جواباً لمن كأنه قال : هل يعم هذا{[63814]} الحكم{[63815]} كل فيء يكون بعد بني النضير{[63816]} : { ما أفاء الله } أي الذي اختص بالعزة{[63817]} والحكمة والقدرة ، { على رسوله } ولما كان سبحانه محيط العلم بأنه يسلط على أهل وادي القرى وغيرهم أعظم من هذا التسليط ، قال ليكون علماً من أعلام النبوة : { من أهل القرى } أي قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى{[63818]} عربية { فالله } أي الملك الأعلى الذي الأمر كله بيده ، { وللرسول } لأنه أعظم خلقه ، فرتبته تلي رتبته ، وهذان يتراءى أنهما{[63819]} قسمان وليس كذلك ، هما قسم واحد ، ولكنه ذكر سبحانه نفسه المقدس تبركاً ، فإن كل أمر لا يبدأ به فهو أجذم ، وتعظيماً لرسوله صلى الله عليه وسلم إعلاماً بأنه لا هوى له أصلاً في شيء من الدنيا ، وإنما رضاه{[63820]} رضا مولاه ، خلقه القرآن الذي هو صفة الله فهو{[63821]} مظهره ومجلاه ، وسهمه{[63822]} صلى الله عليه وسلم يصرف بعده لمصالح المسلمين كالسلاح والثغور والعلماء والقضاة والأئمة .
ولما أبان هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل والعظمة ما لا يدخل تحت الوصف ، أتبعه تعظيماً آخر بتعظيم أقاربه لأجله ، ولذلك أعاد العامل فقال : { ولذي القربى } أي منه{[63823]} ، لأن رتبتهم من بعد رتبته وهم بنو هاشم وبنو المطلب رهط إمامنا الشافعي رضي الله عنه سواء فيه غنيهم وفقيرهم ، لأن أخذهم لذلك بالقرابة لا بالحاجة كما هو مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه . ولما ذكر أهل الشرف ، أتبعه أهل الضعف جبراً لوهنهم فقال مقدماً أضعفهم : { واليتامى } أي{[63824]} الذين هم{[63825]} أحق الناس بالعطف لأن مبنى الدين على التخلق بأخلاق الله التي من أجلّها تقوية الضعيف وجبر الكسير{[63826]} ، { والمساكين } فإنهم{[63827]} في الضعف على أثرهم{[63828]} ودخل فيهم الفقراء فإنه{[63829]} إذا انفرد لفظ الفقير أو المساكين دخل كل منهما في الآخر{[63830]} ، وإنما يفرق إذا جمع بينهما ، وكذا الفيء والغنيمة إذا أفردا{[63831]} جاز أن يدخل كل في الآخر ، وإذا جمعا فالفيء ما حصل بغير قتال وإيجاف خيل وركاب ، والغنيمة ما حصل بذلك ، { وابن السبيل } وهم الغرباء لانقطاعهم عن أوطانهم وعشائرهم ، وقسمة الفيء على هذه الأصناف كما مضى أن يقسم خمسة أقسام : خمس منها{[63832]} لرسول الله صلى الله عليه وسلم و{[63833]}من ذكر معه من المخلوقين وذكر الله فيهم للتبرك ، لأن الأصناف المذكورة هي التي يعبر عنها باسمه سبحانه ، والأربعة الأخماس خاصة له صلى الله عليه وسلم ينفق منها نفقة سنة وما فضل عنه أنفقه في مصالح المسين السلاح والكراع و{[63834]}نحوه ، وما كان له صلى الله عليه وسلم في حياته فهو للمصالح بعد وفاته ، كما كان يفعل بعد ما يفضل عن حاجته ، قال الشافعي رضي الله عنه في الأم{[63835]} : وما أخذ من مشرك بوجه من الوجوه غير ضيافة من {[63836]}مر بهم{[63837]} من المسلمين فهو على وجهين لا يخرج منهما{[63838]} ، كلاهما مبين في كتاب الله تعالى وعلى{[63839]} سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي فعله فأحدهما الغنيمة ، قال الله تعالى في سورة الأنفال :
{ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول }[ الأنفال : 41 ]{[63840]} والوجه الثاني الفيء ، وهو مقسوم في كتاب الله في سورة الحشر ، قال الله تبارك وتعالى : { {[63841]}وما أفاء{[63842]} الله على رسوله منهم } - إلى قوله - { رؤف رحيم } فهذان المالان اللذان خولهما الله من جعلهما له من أهل دينه ، وهذه{[63843]} أموال يقوم بها الولاة لا يسعهم تركها . فالغنيمة والفيء تجتمعان في أن فيهما معاً الخمس من جميعهما لمن سماه الله تعالى ، ومن سماه الله تعالى في الآيتين معاً{[63844]} سواء مجتمعين غير مفترقين ، ثم يفترق الحكم في الأربعة الأخماس{[63845]} بما بين الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وفي فعله فإنه{[63846]} قسم أربعة أخماس الغنيمة ، والغنيمة هي الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير ، والفيء وهو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في {[63847]}قرى عرينة{[63848]} التي أفاءها الله عليه أن أربعة أخماسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون المسلمين يضعه رسوله الله صلى الله عليه وسلم حيث أراه{[63849]} الله عز وجل ، ثم ذكر حديث عمر رضي الله عنه من رواية مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه في خصام علي والعباس رضي الله عنهما ، قال الشافعي{[63850]} : فأموال بني النضير التي أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم التي ذكر عمر رضي الله عنه فيها ما بقي منها في يد النبي صلى الله عليه وسلم{[63851]} بعد الخمس وبعد أشياء فرقها النبي صلى الله عليه وسلم منها بين رجال من المهاجرين لم يعط منها أنصارياً إلا رجلين{[63852]} ذكرا فقراً وهذا مبين في موضعه ، وفي هذا الحديث دلالة على{[63853]} أن عمر رضي الله عنه إنما حكى أن أبا بكر رضي الله عنه وهو أمضيا ما بقي من هذه الأموال التي كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه ما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به فيها ، وأنهما{[63854]} لم يكن لهما مما لم{[63855]} يوجف عليه المسلمون من الفيء ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهما{[63856]} إنما كانا فيه أسوة للمسلمين ، وذلك سيرتهما وسيرة من بعدهما ، والأمر الذي لم يختلف فيه أحد من أهل العلم عندنا علمته{[63857]} ولم يزل يحفظ{[63858]} من قولهم أنه ليس لأحد ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من صفي الغنيمة ولا من أربعة أخماس ما لم يوجف عليه منها ، وقد مضى من كان ينفق{[63859]} عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه وغيرهن إن كان معهن ، فلم أعلم أحداً من أهل العلم{[63860]} قال لورثتهم تلك النفقة التي كانت لهم ، ولا خلاف أن تجعل تلك النفقات حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل فضول غلات تلك{[63861]} الأموال فيما فيه صلاح الإسلام وأهله ، قال الشافعي{[63862]} : والجزية من الفيء وسبيلها سبيل جميع ما أخذ مما أوجف من مال مشرك أن يخمس فيكون لمن{[63863]} سمى الله عز وجل الخمس وأربعة أخماسه على ما سأبينه إن شاء الله تعالى ، وكذلك كل ما أخذ من مشرك من مال غير إيجاف ، وذلك{[63864]} مثل ما أخذ منه إذا اختلف في بلاد المسلمين ومثل ما أخذ منه إذا مات ولا وارث له ، وغير ذلك ما أخذ من ماله ، وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيء من غير قرى عرينة ، وذلك مثل جزية أهل البحرين وهجر وغير ذلك فكان له أربعة أخماسها يمضيها حيث أراد الله{[63865]} عز وجل وأوفى{[63866]} خمسه من جعله الله له - انتهى .
ولما حكم{[63867]} سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص{[63868]} الأغنياء به{[63869]} ، بين علته المظهرة لعظمته سبحانه وحسن تدبيره ورحمته فقال معلقاً بما علق به الجار : { كي لا يكون } أي الفيء الذي سيره الله سبحانه بقوته وما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم من قذف الرعب في قلوب أعدائه ومن حقه أن يعطاه الفقراء { دولة } أي شيئاً يتناوله أهل الغنى والشرف على وجه القهر والغلبة إثرة{[63870]} جاهلية - هذا على قراءة الجماعة ، وقرأ أبو جعفر وهشام عن ابن عامر {[63871]} بالتأنيث من{[63872]} { كان } التامة و { دولة } بالرفع على أنها فاعل { بين الأغنياء منكم } يتداولونه بينهم فإنهم كانوا يقولون : من عزيز ، ومنه قال الحسن : اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً - يريد من غلب منهم أخذه{[63873]} واستأثر به ، وقيل : الضم اسم للمتداول كالغرفة اسم لما{[63874]} يغترف ، والفتح التداول .
ولما كان التقدير : فافعلوا{[63875]} ما أمرتكم من قسمته لمن أمرت بهم ، عطف عليه قوله : { وما } أي وكل شيء { آتاكم } أي أحضر إليكم وأمكنكم منه { الرسول } أي الكامل في الرسلية من هذا وغيره { فخذوه } أي فتقبلوه تقبل من حازه { وما نهاكم عنه } من جميع الأشياء { فانتهوا } لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمره به الله ربه ، فمن قبل ذلك هانت {[63876]}عليه الأمور{[63877]} كما ورد ( القرآن صعب مستصعب على من تركه ميسر على من طلبه وتبعه ) روي أن الآية نزلت في ناس من الأنصار قالوا : لنا من هذه{[63878]} القرى سهمنا{[63879]} .
ولما كان الكف عما ألفته النفوس صعباً ، ولا سيما ما كان مع كونه تمتعاً{[63880]} بمال على وجه الرئاسة ، رهب من المخالفة فيه بقوله : { واتقوا الله } أي اجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة ، وعلل ذلك بقوله ، معظماً له بإعادة الجلالة مؤكداً لأن فعل{[63881]} المخالف فعل المنكر : { إن الله } أي الذي له وحده الجلال والإكرام على الإطلاق { شديد العقاب * } أي العذاب الواقع بعد الذنب ، ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ ، لأن الأنفال نزلت في بدر وهي{[63882]} قبل هذه بمدة .
{ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 7 ) } .
ما أفاءه الله على رسوله من أموال مشركي أهل القرى من غير ركوب خيل ولا إبل فلله ولرسوله ، يُصْرف في مصالح المسلمين العامة ، ولذي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واليتامى ، وهم الأطفال الفقراء الذين مات آباؤهم ، والمساكين ، وهم أهل الحاجة والفقر ، وابن السبيل ، وهو الغريب المسافر الذي نَفِدت نفقته وانقطع عنه ماله ؛ وذلك حتى لا يكون المال ملكًا متداولا بين الأغنياء وحدهم ، ويحرم منه الفقراء والمساكين . وما أعطاكم الرسول من مال ، أو شرعه لكم مِن شرع ، فخذوه ، وما نهاكم عن أَخْذه أو فِعْله فانتهوا عنه ، واتقوا الله بامتثال أوامره وترك نواهيه . إن الله شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره ونهيه . والآية أصل في وجوب العمل بالسنة : قولا أو فعلا أو تقريرًا .
قوله : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ، سأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم أموال بني النضير لهم فنزلت هذه الآية . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير لنفسه خاصة يضعها حيث شاء في مصالح المسلمين فقسمها ( عليه الصلاة والسلام ) بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين وهم أبو دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصّمّة . ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان وهما : سفيان بن عمير وسعد بن وهب ، فقد أسلما على أموالهما فأحرزاها .
وروى مسلم في صحيحه عن عمر قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب وكانت للنبي خاصة ، فكان ينفق على أهله نفقة سنة وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله تعالى ويستدل من الآية أن الفيء هو المال الذي رده الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أو رجعه عليه من بني النضير وأمثالهم من غير إيجاف ولا قتال فحكمه أن يصرف في وجوهه التي بينتها الآية ، فهي لله ، وهو سبحانه مالك كل شيء ، يحكم في ملكوته كما يشاء ، ثم للرسول صلى الله عليه وسلم ينفق منه في قوت نفسه وعياله . ثم لذي القربى ، وهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب ، لأنهم قد منعوا من الصدقات فجعل لهم الحق في الفيء . ثم اليتامى وهم المحاويج من أطفال المسلمين . ثم المساكين وهم أهل الفاقة الذين لا يملكون شيئا . ثم ابن السبيل وهو المنقطع في بلاد الله من المسافرين في غير معصية لله سبحانه . وقيل : ثمة سهم لله سادس ، يصرف في وجوه القرب كعمارة المساجد وبناء القناطر و الجسور وغير ذلك من مصالح المسلمين .
قوله : { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } يعني قسمنا هذا الفيء الذي أخذتموه من غير قتال لهذه الأصناف المبيّنة في الآية كيلا يكون هذا الفيء متداولا بين الأغنياء من الناس يستأثرون به لأنفسهم دون غيرهم من الفقراء والعالة والمحاويج .
ويستدل من ذلك : كراهة الحصر للأموال فتكون كثيرة مركومة لدى قلة قليلة من الناس دون الأكثرين الفقراء الذين يكابدون القلة والجوع والمسألة . وذلكم تشريع عظيم ومميز لسياسة المال في الإسلام ، إذ يستطيع الحاكم بموجبه أن يصطنع من الأساليب في الاقتصاد وتوزيع الثروة ما يحول دون حصر المال والثراء لدى فئة قليلة في المجتمع . لا جرم أن نظام الإسلام في هذه المسألة وغيرها من المسائل ، مغاير كليا للنظام الرأسمالي ، الذي يقيم الحياة على الحرية المطلقة أو الانمياع في التصرف والسلوك والعلاقات الاجتماعية برمتها . وهو في تصوره للمال يعتمد النظام الربوي أسلوبا أساسيا للكسب وجمع الثروة .
قوله : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وهذا بعمومه يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فهو أمر من الله ، وأن ما نهى عنه فهو نهي من الله كذلك . وعلى هذا مهما أمر به النبي فإنه يجب فعله ، ومهما نهى عنه فإنه يجب اجتنابه . فلا يأمر النبي إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر . وهو ( عليه السلام ) مخوّل من ربه أن يبين للناس ما نزل إليهم من عند الله . فما يصدر عنه من شيء في ذلك إلا هو وحي أوحى الله به إليه ، فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل " فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت إليه فقالت : بلغني أنك قلت كيت وكيت . قال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله . فقالت : إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته . فقال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ، أما قرأت { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } قالت : بلى . قال : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " .
قوله : { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } أي خافوا الله في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وزواجره ، فإن عقابه شديد ، وأخذه أليم وجيع لمن عصاه ونكل عن طاعته فخالف أمره{[4499]} .