سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون ، نزلت بعد سورة الأعراف . لقد سمى الله تعالى سور كتابه الكريم بأسماء تبعث على النظر والاعتبار وتوجب التفكير ، فسمى بالأنعام وببعضها كالبقرة ، وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت ، وبما هو ألطف من ذلك كالنور . كما سمى ببعض الأنبياء كيونس ويوسف وهود ومحمد ، وببعض الأخلاق كالتوبة ، وببعض الكواكب كالشمس والنجم والقمر ، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى ، وببعض المعادن كالحديد ، وببعض الأماكن كالبلد ، وببعض النبات كالتين ، وبكل شيء مما نراه وما لا نراه .
وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه وهو عالم الجن . وهو عالم لم يُعرف في الإسلام إلا من طريق الوحي ، وليس للعقل دليل عليه . ولقد أصبحت هذه العوالم المستترة عنا الشغل الشاغل اليوم للعلماء والباحثين ، فصار علماء أوروبا يدرسون في مباحث عالم الجن وعالم الأرواح ، ويحاولون أن يطلعوا على غوامض هذه العوالم . ونُقل عن كثير منهم أنهم تحدثوا مع أرواح أصحابهم الذين ماتوا ، وعن اتصال العالم الإنسي بالعالم الجني ، وبعالم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة .
فإذا سمى الله هذه السورة بهذا الاسم فمعناه أنه أعطى هذا العالم الخفي عنايته وسمى السورة باسمه ، كما اعتنى بالحديد ، وهو نوع من المعادن . وهكذا توجهت عنايته إلى النور وأنواع الحيوان والنبات والأوقات المختلفة ، وبكل شيء نراه وما لا نراه ، لنجدّ في البحث عن المعادن كلها ، وعن حساب الزمان ، ونُعنى بالعلوم العناية اللائقة المفيدة .
وقد أفاض الأستاذ طنطاوي جوهري رحمه الله في كتابه " الجواهر " في هذا الموضوع وأطال ونقل أشياء كثيرة من محاولات الأوروبيين وبحوثهم في هذا الموضوع وقال إنه ألّف كتابا سماه " كتاب الأرواح " ذكر فيه ما جرّبه القوم في أوروبا ، وكيف أحضروا الأرواح ، وما الشروط وما الواجب على الإنسان في ذلك ، وما فوائد هذا العلم ومضارّه .
ونقل نبذة من خطبة " السير : أوليفر لودج " ، وهو من أشهر علماء الطبيعة في هذا العصر في بلاد الإنجليز ، إذ أكد في مجمع من كبار العلماء أنه حادث الأموات ، وأن هناك عقولا أسمى من عقولنا في عالم الأرواح ، وأنهم يهتمون بنا ، وأن إخوانه من الجمعية الروحية الذين ماتوا كلموه بعد موتهم وبرهنوا له ببراهين قاطعة أنهم هم الذين يكلمونه . وقال : إن ما يقوله الأنبياء عن عالم الأرواح وعن الله حق بلا تأويل . وقال إنه اشتغل بهذا الفن ثلاثين سنة فله الحق أن يحكم بما يقول . ومن أراد الزيادة فليرجع إلى تفسير " الجواهر " للمرحوم الشيخ طنطاوي جوهري .
وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على حكاية أقوال الجن وما يتعلق بهم ، وأنهم سمعوا كتابا بديعا ، هو القرآن ، يهدي إلى الصواب فآمنوا به وتركوا الشرك . وأن الله تعالى لم يتخذ زوجة ولا ولدا كما يقول السفهاء منهم على الله شططا . وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه . . وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون برجال من الجن فزاد الجن الإنس ضلالا باستعاذتهم بهم . . وأن الجن ظنوا مثل بعض الإنس أنه لن يبعث الله أحدا . . وأنهم طلبوا خبر العالم العلوي المعبَّر عنه بالسماء فمُنعوا . . وأن الجن كانوا يقعدون مقاعد خالية ليتمكنوا من السمع ، فمنِعوا الآن برجم الشهُب لهم ، وأنهم لا يدرون : { أشرّ أريدَ بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } . وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار ، وأنهم علموا أنهم لن يفرّوا من أمر الله إن أراد بهم أمرا على هذه الأرض ، وأنهم حين سمعوا الهدى آمنوا به . . { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا } . وأنهم فريقان : مسلمون ، وجائرون ، فالمسلم قصد طريق الحق وتوخاه ، أما الجائر فإنه يكون { لجهنم حطبا } . وأن الإنس والجن إذا استقاموا على الطريقة المثلى وسّع الله عليهم رزقهم واختبرهم به .
وأن المساجد لله ، فعلى من يدخلها أن يُخلص لله فيها ولا يشرك به أحدا . وأنه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله كاد الجن يكونون جماعات ملتفة حوله من ازدحامهم عليه تعجبا مما رأوا من عباراته وسمعوا من قراءته .
ثم تُختم السورة بتوجيهات علوية إلى الرسول الكريم والمؤمنين ، وأنّ علم الساعة عند الله وحده وهو { عالم الغيب فلا يُظهر على غيه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول . . . . } .
وأنه تعالى { أحصى كل شيء عددا } مما خلق ، وعرفه فلا يغيب عنه شيء .
النفر : ما بين الثلاثة والعشرة .
عجبا : عجيبا بديعا لا يشبهه شيء من كلام الناس .
قل يا محمد لأمتك : أوحى اللهُ إليَّ أنه استمعَ إلى تلاوة القرآنِ جماعةٌ من الجنِّ فدُهِشوا من عَظَمتِه وبلاغته فقالوا لقومهم : إنّا سَمِعْنا قرآناً بديعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ ، فدُهِشوا من عَظَمته وبلاغته فقالوا لقومهم : إنّا سَمِعْنا قرآناً بديعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
تفسير القرآن للصنعاني 211 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
إظهار الشرف لهذا النبي الكريم الفاتح الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وذريته وأهل بيته، حيث لين له قلوب الإنس والجن وغيرهما، فصار مالكا لقلوب المجانس وغيره، وذلك لعظمة هذا القرآن ولطف ما له من غريب الشأن، هذا والزمان في آخره، وزمان لبثه في قومه دون ربع العشر من زمن نوح عليه السلام أول نبي بعثه إلى الله تعالى إلى المخالفين وما آمن معه من قومه إلا قليل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة تبده الحس -قبل أن ينظر إلى المعاني والحقائق الواردة فيها- بشيء آخر واضح كل الوضوح فيها.. إنها قطعة موسيقية مطردة الإيقاع، قوية التنغيم، ظاهرة الرنين؛ مع صبغة من الحزن في إيقاعها، ومسحة من الأسى في تنغيمها، وطائف من الشجى في رنينها، يساند هذه الظاهرة ويتناسق معها صور السورة وظلالها ومشاهدها، ثم روح الإيحاء فيها. وبخاصة في الشطر الأخير منها بعد انتهاء حكاية قول الجن، والاتجاه بالخطاب إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] هذا الخطاب الذي يثير العطف على شخص الرسول في قلب المستمع لهذه السورة، عطفا مصحوبا بالحب وهو يؤمر أن يعلن تجرده من كل شيء في أمر هذه الدعوة إلا البلاغ، والرقابة الإلهية المضروبة حوله وهو يقوم بهذا البلاغ: (قل: إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا.. قل: إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا.. قل: إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا، إلا بلاغا من الله ورسالاته، ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا، حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا.. قل: إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، وأحاط بما لديهم، وأحصى كل شيء عددا)..
وذلك كله إلى جانب الإيقاع النفسي للحقائق التي وردت في حكاية قول الجن، وبيانهم الطويل المديد. وهي حقائق ذات ثقل ووزن في الحس والتصور؛ والاستجابة لها تغشى الحس بحاله من التدبر والتفكير، تناسب مسحة الحزن ورنة الشجى المتمشية في إيقاع السورة الموسيقي!
وقراءة هذه السورة بشيء من الترتيل الهادئ، توقع في الحس هذا الذي وصفناه من المسحة الغالبة عليها..
فإذا تجاوزنا هذه الظاهرة التي تبده الحس؛ إلى موضوع السورة ومعانيها واتجاهها فإننا نجدها حافلة بشتى الدلالات والإيحاءات.
إنها ابتداء شهادة من عالم آخر بكثير من قضايا العقيدة التي كان المشركون يجحدونها ويجادلون فيها أشد الجدل، ويرجمون في أمرها رجما لا يستندون فيه إلى حجة، ويزعمون أحيانا أن محمدا [صلى الله عليه وسلم] يتلقى من الجن ما يقوله لهم عنها! فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها؛ وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئا. والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد [صلى الله عليه وسلم] فهالهم وراعهم ومسهم منه ما يدهش ويذهل، وملأ نفوسهم وفاض حتى ما يملكون السكوت على ما سمعوا، ولا الإجمال فيما عرفوا، ولا الاختصار فيما شعروا. فانطلقوا يحدثون في روعة المأخوذ، ووهلة المشدوه، عن هذا الحادث العظيم، الذي شغل السماء والأرض والإنس والجن والملائكة والكواكب. وترك آثاره ونتائجه في الكون كله!.. وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشرية حتما.
ثم إنها تصحيح لأوهام كثيرة عن عالم الجن في نفوس المخاطبين ابتداء بهذه السورة، وفي نفوس الناس جميعا من قبل ومن بعد؛ ووضع حقيقة هذا الخلق المغيب في موضعها بلا غلو ولا اعتساف. فقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعتقدون أن للجن سلطانا في الأرض، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض، فقال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه.. ثم بات آمنا! كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتخبر به الكهان فيتنبؤون بما يتنبؤون. وفيهم من عبد الجن وجعل بينهم وبين الله نسبا، وزعم له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة!
والاعتقاد في الجن على هذا النحو أو شبهه كان فاشيا في كل جاهلية، ولا تزال الأوهام والأساطير من هذا النوع تسود بيئات كثيرة إلى يومنا هذا!!!
وبينما كانت الأوهام والأساطير تغمر قلوب الناس ومشاعرهم وتصوراتهم عن الجن في القديم، وما تزال.. نجد في الصف الآخر اليوم منكرين لوجود الجن أصلا، يصفون أي حديث عن هذا الخلق المغيب بأنه حديث خرافة..
وبين الإغراق في الوهم، والإغراق في الإنكار، يقرر الإسلام حقيقة الجن، ويصحح التصورات العامة عنهم، ويحرر القلوب من خوفها وخضوعها لسلطانهم الموهوم:
فالجن لهم حقيقة موجودة فعلا وهم كما يصفون أنفسهم هنا: (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا).. ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون: (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا، وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا).. وهم قابلون للهداية من الضلال، مستعدون لإدراك القرآن سماعا وفهما وتأثرا: (قل: أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا).. وأنهم قابلون بخلقتهم لتوقيع الجزاء عليهم وتحقيق نتائج الإيمان و الكفر فيهم: (وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به، فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا. وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون، فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا، وأما القاسطون، فكانوا لجهنم حطبا).. وأنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهم: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا).. وأنهم لا يعلمون الغيب، ولم تعد لهم صلة بالسماء: وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا، وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا.. وأنهم لا صهر بينهم وبين الله -سبحانه وتعالى- ولا نسب: (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا).. وأن الجن لا قوة لهم مع قوة الله ولا حيلة: (وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا)..
وهذا الذي ذكر في هذه السورة عن الجن بالإضافة إلى ما جاء في القرآن من صفات أخرى كتسخير طائفة من الشياطين لسليمان -وهم من الجن- وأنهم لم يعلموا بموته إلا بعد فترة، فدل هذا على أنهم لا يعلمون الغيب: فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين..
ومثل قوله تعالى عن خصيصة من خصائص إبليس وقبيله -وهو من الجن- غير أنه تمحض للشر والفساد والإغراء: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم.. وما يدل عليه من أن كيان الجن غير مرئي للبشر، في حين أن كيان الإنس مرئي للجن.
هذا بالإضافة إلى ما قرره في سورة الرحمن عن المادة التي منها كيان الجن والمادة التي منها كيان الإنسان في قوله: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار).. يعطي صورة عن ذلك الخلق المغيب، تثبت وجوده، وتحدد الكثير من خصائصه؛ وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير، العالقة بالأذهان عن ذلك الخلق، وتدع تصور المسلم عنه واضحا دقيقا متحررا من الوهم والخرافة، ومن التعسف في الإنكار الجامح كذلك!
وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون. أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقا، فلا أدري علام يبنون هذا الإنكار، بصيغة الجزم والقطع، والسخرية من الاعتقاد بوجوده، وتسميته خرافة!
ألأنهم عرفوا كل ما في هذا الكون من خلائق فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدا من العلماء لا يزعم هذا حتى اليوم. وإن في هذه الأرض وحدها من الخلائق الحية لكثيرا مما يكشف وجوده يوما بعد يوم، ولم يقل أحد إن سلسلة الكشوف للأحياء في الأرض وقفت أو ستقف في يوم من الأيام!
ألأنهم عرفوا كل القوى المكنونة في هذا الكون فلم يجدوا الجن من بينها؟! إن أحدا لا يدعي هذه الدعوى. فهناك قوى مكنونة تكشف كل يوم؛ وهي كانت مجهولة بالأمس. والعلماء جادون في التعرف إلى القوى الكونية، وهم يعلنون في تواضع قادتهم إليه كشوفهم العلمية ذاتها، أنهم يقفون على حافة المجهول في هذا الكون، وأنهم لم يكادوا يبدؤون بعد!
ألأنهم رأوا كل القوى التي استخدموها، فلم يروا الجن من بينها؟! ولا هذه. فإنهم يتحدثون عن الكهرب بوصفه حقيقة علمية منذ توصلوا إلى تحطيم الذرة. ولكن أحدا منهم لم ير الكهرب قط. وليس في معاملهم من الأجهزة ما يفرزون به كهربا من هذه الكهارب التي يتحدثون عنها!
ففيم إذن هذا الجزم بنفي وجود الجن؟ ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمح لإنسان يحترم عقله أن يجزم بشيء؟ ألأن هذا الخلق المسمى الجن تعلقت به خرافات شتى وأساطير كثيرة؟ إن طريقنا في هذه الحالة هو إبطال هذه الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس، بلا حجة ولا دليل! ومثل هذا الغيب ينبغي تلقي نبئه من المصدر الوحيد الموثوق بصحته، وعدم معارضة هذا المصدر بتصورات سابقة لم تستمد منه. فما يقوله هو كلمة الفصل في مثل هذا الموضوع.
والسورة التي بين أيدينا -بالإضافة إلى ما سبق- تساهم مساهمة كبيرة في إنشاء التصور الإسلامي عن حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، ثم عن هذا الكون وخلائقه، والصلة بين هذه الخلائق المنوعة.
وفي مقالة الجن ما يشهد بوحدانية الله، ونفي الصاحبة والولد، وإثبات الجزاء في الآخرة؛ وأن أحدا من خلق الله لا يعجزه في الأرض ولا يفلت من يديه ويفوته، فلا يلاقي جزاءه العادل. وتتكرر بعض هذه الحقائق فيما يوجه للرسول [صلى الله عليه وسلم] من الخطاب: (قل: إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا).. (قل: إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا).. وذلك بعد شهادة الجن بهذه الحقيقة شهادة كاملة صريحة.
كما أن تلك الشهادة تقرر أن الألوهية لله وحده، وأن العبودية هي أسمى درجة يرتفع إليها البشر: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا).. ويؤكد السياق هذه الحقيقة فيما يوجه للرسول [صلى الله عليه وسلم] من خطاب: (قل: إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا)..
والغيب موكول لله وحده؛ لا تعرفه الجن: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا).. ولا تعرفه الرسل إلا ما يطلعهم الله عليه منه لحكمة يعلمها: (قل: إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا. عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا...)..
"أما العباد والعبيد في هذا الكون، فقد علمتنا السورة أن بين بعضها والبعض الآخر مشاركات ومنافذ، ولو اختلف تكوينها، كالمشاركات التي بين الجن والإنس، مما حكته السورة وحكاه القرآن في مواضع أخرى. فالإنسان ليس بمعزل -حتى في هذه الأرض- عن الخلائق الأخرى. وبينه وبينها اتصال وتفاعل في صورة من الصور. وهذه العزلة التي يحسها الإنسان بجنسه -بله العزلة الفردية أو القبلية أو القومية- لا وجود لها في طبيعة الكون ولا في واقعه. وأحرى بهذا التصور أن يفسح في شعور الإنسان بالكون وما يعمره من أرواح وقوى وأسرار. قد يجهلها الإنسان، ولكنها موجودة بالفعل من حوله، فهو ليس الساكن الوحيد لهذا الكون كما يعن له أحيانا أن يشعر!!
ثم إن هناك ارتباطا بين استقامة الخلائق على الطريقة، وتحركات هذا الكون ونتائجها، وقدر الله في العباد: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه. ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا).. وهذه الحقيقة تؤلف جانبا من التصور الإسلامي للارتباطات بين الإنسان والكون وقدر الله.
وهكذا تمتد إيحاءات السورة إلى مساحات ومسافات وأبعاد وآماد واسعة بعيدة، وهي سورة لا تتجاوز الثماني والعشرين آية، نزلت في حادثة معينة ومناسبة خاصة..
فأما هذا الحادث الذي أشارت إليه السورة. حادث استماع نفر من الجن للقرآن. فتختلف بشأنه الروايات. قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه: " دلائل النبوة ": أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بنعبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل القاضي، أخبرنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " ما قرأ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على الجن ولا رآهم. انطلق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، أرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض و مغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء. فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا إليه، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا: (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا).. وأنزل الله على نبيه [صلى الله عليه وسلم]: (قل: أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن).. وإنما أوحي إليه قول الجن " [ورواه البخاري عن مسدد بنحو هذا، وأخرجه مسلم عن شيبان ابن فروخ عن أبي عوانة بهذا النص].
فهذه رواية. وهناك رواية أخرى.. قال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود وهو ابن أبي هند، عن عامر، قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود -رضي الله عنه- فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقيل: استطير؟ اغتيل؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا إذا هو، جاء من قبل حراء. قال: فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: " أتاني داعي الجن، فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن". قال: " فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم " وسألوه الزاد فقال: " كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم". قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم"..
وهناك رواية أخرى عن ابن مسعود أنه كان تلك الليلة مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ولكن إسناد الرواية الأولى أوثق. فنضرب عن هذه وأمثالها.. ومن الروايتين الواردتين في الصحيحين يتبين أن ابن عباس يقول: إن الرسول [صلى الله عليه وسلم] لم يعرف بحضور النفر من الجن، وأن ابن مسعود يقول: إنهم استدعوه. ويوفق البيهقي بين الروايتين بأنهما حادثان لا حادث واحد.
وهناك رواية ثالثة لابن اسحق قال:
" ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إليهم وحده".
" قال ابن اسحق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال: لما انتهى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: " ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير... وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح. فجلس إليهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه. فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة [أي يمزقها] إن كان الله أرسلك! وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام. ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من عندهم وقد يئس من خير ثقيف. وقد قال لهم -فيما ذكر لي -: " إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني". وكره رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يبلغ قومه عنه، فيذئرهم [أي يحرشهم] ذلك عليه! "
" فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجأوه إلى حائط [أي بستان] لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة- وهما فيه -ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب [أي طاقة من قضبان الكرم] فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف... فلما اطمأن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال- فيما ذكر لي -: " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ""..
" قال: فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له: عداس. فقال له " خذ قطفا من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه. ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ثم قال له: كل. فلما وضع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فيه يده قال: " بسم الله " ثم أكل. فنظر عداس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ " قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى. فقال له رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ " فقال عداس: وما يدريك ما يونس ابن متى؟ فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " ذاك أخي. كان نبيا وأنا نبي " فأكب عداس على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقبل رأسه ويديه وقدميه. قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك! فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا. لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي. قالا له: ويحك يا عداس! لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه! "
" قال: ثم إن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] انصرف من الطائف راجعا إلى مكة، حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي. فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، وهم -فيما ذكر لي- سبعة نفر من جن أهل نصيبين، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. فقص الله خبرهم عليه [صلى الله عليه وسلم] قال الله عز وجل: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن إلى قوله (ويجركم من عذاب أليم). وقال تبارك وتعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة.
وقد علق ابن كثير في تفسيره على رواية ابن أسحاق هذه فقال: " هذا صحيح. ولكن قوله: إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر. فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- المذكور. وخروجه [صلى الله عليه وسلم] إلى الطائف كان بعد موت عمه. وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره. والله أعلم".
وإذا صحت رواية ابن إسحاق عن أن الحادث وقع عقب عودة الرسول [صلى الله عليه وسلم] من الطائف، مكسور الخاطر من التصرف اللئيم العنيد الذي واجهه به كبراء ثقيف، وبعد ذلك الدعاء الكسير الودود لربه ومولاه، فإنه ليكون عجيبا حقا من هذا الجانب. أن يصرف الله إليه ذلك النفر من الجن، وأن يبلغه ما فعلوا وما قالوا لقومهم، وفيه من الدلالات اللطيفة الموحية ما فيه..
وأيا كان زمان هذا الحادث وملابساته فهو أمر ولا شك عظيم. عظيم في دلالاته وفيما انطوى عليه. وفيما أعقبه من مقالة الجن عن هذا القرآن وعن هذا الدين.. فلنمض مع هذا كله كما يعرضه القرآن الكريم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت في كتب التفسير سورة الجن. وكذلك ترجمها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه، وترجمها البخاري في كتاب التفسير سورة قل أوحي ألي.
واشتهر على ألسنة المكتبين والمتعلمين في الكتاتيب القرآنية باسم قل أوحي.
ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور التي لها أكثر من اسم ووجه التسميتين ظاهر. وهي مكية بالاتفاق.
ويظهر أنها نزلت في حدود سنة عشر من البعثة. ففي الصحيحين وجامع الترمذي من حديث ابن عباس أنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وأنه استمع فريق من الجن إلى قراءته فرجعوا إلى طائفتهم فقالوا {إنا سمعنا قرآنا عجبا} وأنزل اله على نبيه {قل أوحي ألي أنه أستمع نفر من الجن}.
وذكر ابن إسحاق أن نزول هذه السورة بعد سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف، أي وذلك يكون في سنة عشر بعد البعثة وسنة ثلاث قبل الهجرة...
إثبات كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن دعوته بلغت إلى جنس الجن وإفهامهم فهم معان من القرآن الذي استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وفهم ما يدعوا إليه من التوحيد والهدى، وعلمهم بعظمة الله وتنزيهه عن الشريك والصاحبة والولد.
وإبطال الكهانة وبلوغ علم الغيب إلى غير الرسل الذين يطلعهم الله على ما يشاء.
وإثبات أن لله خلقا يدعون الجن وأنهم أصناف منهم الصالحون ومنهم دون ذلك بمراتب، وتضليل الذين يقولون على الله ما لم يقله، والذين يعبدون الجن، والذين ينكرون البعث، وأن الجن لا يفلتون من سلطان الله تعالى.
وتعجبهم من الإصابة برجوم الشهب المانعة من استراق السمع، وفي المراد من هذا المنع والتخلص من ذلك إلى ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من في شأن القحط الذي أصاب المشركين لشركهم ولمنعهم مساجد الله، وإنذارهم بأنهم سيندمون على تألبهم على النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولتهم منهم العدول عن الطعن في دينهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد أوحى الله إليّ:"أنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ "هذا القرآن، فَقالُوا لقومهم لما سمعوه: "إنّا سَمِعْنا قُرْآنا عَجَبا يَهْدِي إلى الرّشْدِ": يدلّ على الحقّ وسبيل الصواب.
"وَلَن نُشْرِكَ برَبّنا أحَدا" من خلقه. وكان سبب استماع هؤلاء النفر من الجنّ القرآن.
عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنّ ولا رآهم؛ انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، قال: وقد حِيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأُرسلت علينا الشهب، فقالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، قال: فانطلقوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حدث، قال: فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، يتتبعون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر المساء قال: فانطلق النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر قال: فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء قال: فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، فقالوا: "يا قومنا إنا سَمِعْنا قرآنا عَجَبا يَهْدِي إلى الرّشْدِ فآمَنّا بِه وَلَنْ نُشْركَ بِرَبّنا أحَدا" قال: فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: "قُلْ أُوْحِيَ إليّ أنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ" وإنما أوحي إليه قول الجنّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
في ما حكى الله تعالى عن الجن من تصديقهم هذا الكتاب واستماعهم ما جرى من المخاطبات فيما بينهم فوائد:
أحدها: أن رسول صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الجن والإنس حتى صرف الجن إلى الاستماع إليه.
والثانية: أنهم لما أخذوا القرآن من لسانه قاموا فيما بين القوم بإنذارهم، وأعانوه في التبليغ على ما أخبر عز وجل: {فلما قضي الأمر ولّوا إلى قومهم منذرين} [الأحقاف: 29].
والثالثة: أن أولئك النفر تسارعوا إلى الإجابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون فيه تسفيه قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نشأ بين أظهرهم، لأنهم عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما بينهم بالصيانة والعدالة، ولم يقفوا منه على كذب قط، وحق من يعرف بالصدق، إن لم يصدق ألا يتسارع إلى تكذيبه فيما يأتي من الأنباء، بل يوقف في حاله إلى أن يتبين منه ما يظهر كذبه. وقومه استقبلوه بالتكذيب، ولم يعاملوه معاملة من كان معروفا بالصدق والصيانة. والجن الذين صدقوه لم يكونوا عارفين بأحواله في ما قبل أنه صدوق أو ممن يرتاب في خبره، ثم تسارعوا إلى تصديقه بما لاحت لهم الحجة، وثبتت عندهم آية الرسالة، وتعاملوا معه معاملة من عرف بالصدق. فدل أنهم كانوا في غاية من السعة.
والرابعة: دلالة رسالته صلى الله عليه وسلم لأن قوله تعالى: {إنا سمعنا قرآنا عجبا} {يهدي إلى الرشد} [الآيتان: 1و2] إلى آخر القصة فيما بينهم، إخبار عن علم الغيب، ثبت أنه بالله تعالى علم. ثم يجوز أن يكون الذي حملهم على الإيمان به ما عرفوا أنه أتى بالمعجز الذي يعجز الخلق عن إتيان مثله وبما وقفوا على أحكام معانيه وحسن تأليفه ونظمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بمجيئهم حتى أوحي إليه أنه قد أتاه نفر من الجن يستمعون الى ما أوحي إليه،.
قال القتبي: النفر ما بين الثلاثة إلى التسعة.
وقوله تعالى: {إنا سمعنا قرآنا عجبا} قال بعضهم: العجب الغريب، وإنما استغربوا ذلك منه، لأنهم سمعوا من أمي، لا يعرف الكتابة، ولا يقرأ الكتب. ومنهم من قال بأن حسن تأليفه ونظمه ووصفه، هو الذي حملهم على التعجب. ومنهم من قال: إنما تعجبوا من آياته وحججه، لأنه جاء في تثبيت التوحيد وإثبات الرسالة وإثبات البعث، ولم يكن لهم معرفة بالوحدانية، بل كانوا أهل شرك، ولم يكونوا أهل معرفة بالبعث والرسالة، فكانت الآيات عجيبة حين قررت عندهم هذه الأوجه، والله أعلم.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{إنا سمعنا قرآناً عجباً} قال ابن عباس: بليغاً، أي: قرآناً ذا عجب يعجب منه لبلاغته.
اعلم أن قوله تعالى: {قل} أمر منه تعالى لرسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى الله في واقعة الجن، وفيه فوائد:
(إحداها): أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس، فقد بعث إلى الجن.
(وثانيها): أن يعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه، فآمنوا بالرسول.
(وثالثها): أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس.
(ورابعها): أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا؟.
(وخامسها): أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان، وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان نوح عليه الصلاة والسلام أول رسول أرسله الله تعالى إلى المخالفين من أهل الأرض، وكان قومه عباد أوثان، وعصوه أشد العصيان مع أنه كان منهم نسباً ولساناً، وختمت سورته بدعائه عليهم، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فهو آخر رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وغيرهم من جميع الخلق، وكان قومه العرب قد وافقوا قوم نوح عليه السلام في أكثر أحوالهم عبادة الأوثان حتى تلك الأوثان إما بأساميها أو بأعيانها على ما ورد في الأخبار، وفي عصيان رسولهم واستضعاف أتباعه واستهزائهم ابتدئت، هذه بما كان من سهولة من سمع هذه الدعوة الخاتمة الجامعة من غير الجنس فضلاً عن الموافقين في الجنس مع قصر الزمان وضعف الأعوان لجلالة هذا القرآن، فقال منبهاً له بالأمر على ما في هذا من عظيم القدر، مع الإشارة إلى تبكيت العرب على التباطؤ عن الإجابة إلى ما يعرفون من رشده بمعناه ونظمه، لكونه بلسانهم وكونهم من نوع الداعي وقبيله وأقرب الناس إليه {قل} أي يا محمد لقومك.
ولما كان المقصود تعظيم الموحى به، وأما الموحي إلى كل من الرسولين فواحد، بنى للمفعول قوله مبيناً لسيرة الجن في تلقيهم لهذا القرآن بالأخذ إرثاً من أشرف النبيين وإلقائهم له بالإبلاغ إلى غيرهم من وارث العلم منهم ليكون لهم الشرفان: شرف العلم لكمال أنفسهم، والتعليم لتكميل غيرهم، فيكون لهم مثل أجر من عمل بما ألقوه إليه وأملوه عليه: {أوحي إليّ} أي أخبرت على وجه الخفاء ممن لا يعلم الغيب غيره في هذا القرآن الذي اقتضى إعجازه أن أكون أكثر الأنبياء تابعاً على لسان جبريل عليه السلام الذي هو أمينه والواسطة بينه وبين أنبيائه، ثم وضع موضع المفعول الذي لم يسم فاعله قوله: {أنه} أي الشأن العظيم {استمع} أي بغاية الإصغاء والإقبال والتقبل والإلف استماعاً هو الاستماع في الحقيقة لأنه لقراءتي هذا القرآن {نفر} هم في غاية النفرة جبلة وطبعاً {من الجن} الذين هم في غاية الاستتار، وهم أجسام حية عاقلة خفيفة... {فقالوا} أي فتسبب عن استماعهم أن قال من سمع منهم لمن لم يسمع، أو لمن كان يواخيهم من الإنس امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم "رحم الله امرأً سمع منا مقالة فوعاها فأداها كما سمعها " وكان قولهم سكوناً إلى هذا ا لقرآن وأنسابه، مؤكدين لبعد حالهم عن سماع الوحي وعلمهم بما زاد به من الإعجاز: {إنا} بالكسر لأنه مبتدأ محكي بعد القول {سمعنا} حين تعمدنا الإصغاء وألقينا إليه أفهامنا {قرآناً} أي كلاماً هو في غاية الانتظام في نفسه والجمع لجميع ما نحتاج إليه، ثم وصفوه بالمصدر مبالغة في أمره فقالوا: {عجباً} أي بديعاً خارجاً عن عادة أمثاله من جميع الكتب الإلهية فضلاً عن كلام الناس في جلالة النظم وإعجاز التركيب والوضع مع الموافقة لها في الدعوة إلى الله تعالى والبيان للمحاسن والمساوئ والدعاء إلى كل فلاح حتى صار نفس العجب، والعجب ما خرج عن حد أشكاله ونظائره فخفي سببه، وهذا يدل على قوتهم العلمية في فصاحتهم وكمالهم في علم الرسوم، وصوغ الكلام على أبلغ جهات النظوم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قل: أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا، وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا، وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا. وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا. وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا)..
وهذا الافتتاح يدل على أن معرفة النبي [صلى الله عليه وسلم] بأمر استماع الجن له، وما كان منهم بعد أن سمعوا القرآن منه.. كانت بوحي من الله سبحانه إليه، وإخبارا عن أمر وقع ولم يعلم به الرسول [صلى الله عليه وسلم] ولكن الله أطلعه عليه. وقد تكون هذه هي المرة الأولى، ثم كانت هناك مرة أو مرات أخرى قرأ النبي فيها على الجن عن علم وقصد. ويشهد بهذا ما جاء بشأن قراءته [صلى الله عليه وسلم] سورة الرحمن "أخرجه الترمذي بإسناده -عن جابر رضي الله عنه قال: " خرج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن إلى آخرها، فسكتوا. فقال: " لقد قرأتها على الجن فكانوا أحسن ردودا منكم. كنت كلما أتيت على قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان؟) قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد".. وهذه الرواية تؤيد رواية ابن مسعود- رضي الله عنه التي سبقت الإشارة إليها في المقدمة.
ولا بد أن هذه المرة التي تحكيها هذه السورة هي التي تحكيها آيات الأحقاف: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن. فلما حضروه قالوا: أنصتوا. فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين. قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى، مصدقا لما بين يديه، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم. ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء، أولئك في ضلال مبين)..
فإن هذه الآيات -كالسورة- تنبئ عن وهلة المفاجأة بهذا القرآن للجن، مفاجأه أطارت تماسكهم، وزلزلت قلوبهم، وهزت مشاعرهم، وأطلقت في كيانهم دفعة عنيفة من التأثر امتلأ بها كيانهم كله وفاض، فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعا، ولا تملك عليه صبرا، قبل أن تفيضه على الآخر ينفي هذا الأسلوب المتدفق، النابض بالحرارة والانفعال، وبالجد والاحتفال في نفس الأوان، وهي حالة من يفاجأ أول مرة بدفعة قوية ترج كيانه، وتخلخل تماسكه، وتدفعه دفعا إلى نقل ما يحسه إلى نفوس الآخرين في حماسة واندفاع، وفي جد كذلك واحتفال!
فأول ما بدههم منه أنه (عجب) غير مألوف، وأنه يثير الدهش في القلوب، وهذه صفة القرآن عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح، ومشاعر مرهفة، وذوق ذواق.. عجب! ذو سلطان متسلط، وذو جاذبية غلابة، وذو إيقاع يلمس المشاعر ويهز أوتار القلوب.. عجب! فعلا. يدل على أن أولئك النفر من الجن كانوا حقيقة يتذوقون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح السورة بالأمر بالقول يشير إلى أن ما سيذكر بعده حدث غريب وخاصة بالنسبة للمشركين الذين هم مظنة التكذيب به كما يقتضيه قوله: {كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً} [الجن: 7] حسبما يأتي.
أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يُعلم المسلمين وغيرهم بأن الله أوحَى إليه وقوع حدث عظيم في دعوته أقامه الله تكريماً لنبيئه وتنويهاً بالقرآن وهو أن سخر بعضاً من النوع المسمى جنّاً لاستماع القرآن وألهمهم أو علَّمهم فهم ما سمعوه واهتداءهم إلى مقدار إرشاده إلى الحق والتوحيد وتنزيه الله والإِيمان بالبعث والجزاء فكانت دعوة الإسلام في أصولها بالغة إلى عالم من العوالم المغيبة...
وقد كشف الله لهذا الفريق منهم حقائق من عقيدة الإِسلام وهديه ففهموه.
هذا العالَم هو عالم الجنّ... والذين أمر الرسول بأن يقول لهم أنه أوحي إليه بخبر الجن: هم جميع الناس الذين كان النبي يبلغهم القرآن من المسلمين والمشركين أراد الله إبلاغهم هذا الخبر لما له من دلالة على شرف هذا الدين وشرف كتابه وشرف من جاء به، وفيه إدخال مسرة على المسلمين وتعريض بالمشركين إذ كان الجن قد أدركوا شرف القرآن وفهموا مقاصده وهم لا يعرفون لغته ولا يدركون بلاغته فأقبلوا عليه، والذين جاءهم بلسانهم وأدركوا خصائص بلاغته أنكروه وأعرضوا عنه.
وفي الإِخبار عن استماع الجن للقرآن بأنه أوحي إليه ذلك إيماء إلى أنه ما علم بذلك إلاّ بإخبار الله إياه بوقوع هذا الاستماع، فالآية تقتضي أن الرسول لم يعلم بحضور الجن لاستماع القرآن قبل نزول هذه الآية.
وأما آية الأحقاف (29) {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن} الآيات فتذكير بما في هذه الآية أو هي إشارة إلى قصة أخرى رواها عبد الله بن مسعود وهي في « صحيح مسلم» في أحاديث القراءة في الصلوات ولا علاقة لها بهذه الآية...
وقد حصل لهؤلاء النفر من الجن شرف المعرفة بالله وصفاته وصِدق رسوله وصدق القرآن وما احتوى عليه مَا سَمعوه منه فصاروا من خيرة المخلوقات، وأُكرموا بالفوز في الحياة الآخرة فلم يكونوا ممن ذَرأَ الله لجهنم من الجن والإِنس.
{ قل أوحي إلي } أي أخبرت بالوحي من الله إلي { أنه استمع نفر من الجن } وذلك أن الله تعالى بعث نفرا من الجن ليستمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الصبح ببطن نخلة وهؤلاء الذين ذكرهم الله في سورة الأحقاف في قوله { وإذ صرفنا إليك نفرا } الآية فلما رجعوا إلى قومهم قالوا { إنا سمعنا قرآنا عجبا } في فصاحته وبيانه وصدق إخباره
الأولى- قوله تعالى : " قل أوحي إلي " أي قل يا محمد لأمتك : أوحى الله إلي على لسان جبريل " أنه استمع " إلي " نفر من الجن " وما كان عليه السلام عالما به قبل أن أوحى إليه . هكذا قال ابن عباس وغيره على ما يأتي . وقرأ ابن أبي عبلة " أحِي " {[15416]} على الأصل ، يقال أوحَى إليه ووحَى ، فقلبت الواو همزة ، ومنه قوله تعالى : " وإذا الرسل أقتت " [ المرسلات : 11 ] وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة . وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح{[15417]} وإسادة وإدعاء أخيه ونحوه .
الثانية- واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ فظاهر القرآن يدل على أنه لم يرهم ؛ لقوله تعالى : " استمع " ، وقوله تعالى : " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " [ الأحقاف : 29 ] . وفي صحيح مسلم والترمذي{[15418]} عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ! قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة{[15419]} عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ؛ فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء . فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا : " إنا سمعنا قرآنا عجبا{[15420]} . يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم : " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن " : رواه الترمذي عن ابن عباس قال : قول الجن لقومهم : " لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا " قال : لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال{[15421]} : تعجبوا من طواعية أصحابه له ، قالوا لقومهم : " لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا " [ الجن : 19 ] . قال : هذا حديث حسن صحيح ، ففي هذا الحديث دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن ولكنهم حضروه ، وسمعوا قراءته . وفيه دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب . وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا .
وقيل لهم شياطين كما قال : " شياطين الإنس والجن " [ الأنعام : 112 ] فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله . وفي الترمذي عن ابن عباس قال : كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، فأما الكلمة فتكون حقا ، وأما ما زادوا فيها{[15422]} ، فيكون باطلا . فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك ، فقال لهم إبليس : ما هذا الأمر{[15423]} إلا من{[15424]} أمر قد حدث في الأرض ! فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين - أراه قال بمكة - فأتوه فأخبروه فقال : هذا الحديث{[15425]} الذي حدث في الأرض . قال : هذا حديث حسن صحيح . فدل هذا الحديث على أن الجن رموا كما رميت الشياطين . وفي رواية السدي : أنهم لما رموا أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم فقال : ايتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال : صاحبكم بمكة . فبعث نفرا من الجن ، قيل : كانوا سبعة . وقيل : تسعة منهم زوبعة . وروى عاصم عن زر : أنهم كانوا سبعة نفر ، ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين . وحكى جويبر عن الضحاك : أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين ( قرية باليمن غير التي بالعراق{[15426]} ) . وقيل : إن الجن الذين أتوا مكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوى . وقد مضى بيان هذا في سورة ( الأحقاف{[15427]} ) . قال عكرمة : والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ باسم ربك " [ العلق : 1 ] وقد مضى في سورة " الأحقاف " التعريف باسم النفر من الجن ، فلا معنى لإعادة ذلك . وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن ليلة الجن وهو أثبت ، روى عامر الشعبي قال : سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا استطير{[15428]} أو اغتيل ، قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبح إذا هو يجيء من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله ! فقدناك وطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فقال : ( أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ) فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة ، فقال : ( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة علف لدوابكم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بهما ، فإنهما طعام إخوانكم الجن ) قال ابن العربي : وابن مسعود أعرف من ابن عباس ؛ لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة . وقد قيل : إن الجن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعتين : إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود ، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس . قال البيهقي : الذي حكاه عبد الله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود قال البيهقي : والأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، وإنما سار معه حين انطلق به وبغيره يريه آثار الجن وآثار نيرانهم . قال : وقد روي من غير وجه أنه كان معه ليلتئذ ، وقد مضى هذا المعنى في سورة " الأحقاف " والحمد لله . روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي ؟ ) فسكتوا ، ثم قال الثانية ، ثم قال الثالثة ، ثم قال عبد الله بن مسعود : أنا أذهب معك يا رسول الله ، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب{[15429]} فخط علي خطا فقال : ( لا تجاوزه ) ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون{[15430]} الحجارة بأقدامهم ، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها ، حتى غشوه فلا أراه ، فقمت فأومى إلي بيده أن أجلس ، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم ، فلما انفتل إلي قال : ( أردت أن تأتيني ) ؟ قلت : نعم يا رسول الله . قال : ( ما كان ذلك لك ، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن ، ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر ) .
قال عكرمة : وكانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل . وفي رواية : انطلق بي عليه السلام حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطا ، فأتاه نفر منهم فقال أصحابنا كأنهم رجال الزط{[15431]} وكأن وجوههم المكاكي{[15432]} ، فقالوا : ما أنت ؟ قال : ( أنا نبي الله ) قالوا : فمن يشهد لك على ذلك ؟ قال : ( هذه الشجرة ) فقال : ( يا شجرة ) فجاءت تجر عروقها ، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه ، فقال : ( على ماذا تشهدين ) قالت : أشهد أنك رسول الله . فرجعت كما جاءت تجر بعروقها الحجارة ، لها قعاقع حتى عادت كما كانت .
ثم روى أنه عليه السلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ فقال : ( هل من وضوء ) قال : لا ، إلا أن معي إداوة فيها نبيذ . فقال : ( هل هو إلا تمر وماء ) فتوضأ منه .
الثالثة- قد مضى الكلام في الماء في سورة " الحجر " {[15433]} وما يستنجى به في سورة " براءة " {[15434]} فلا معنى للإعادة .
الرابعة- واختلف أهل العلم ، في أصل الجن ، فروى إسماعيل عن الحسن البصري : أن الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثواب والعقاب . فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان . وروى الضحاك عن ابن عباس : أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ، وهم يؤمنون ، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس . واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة ، على حسب الاختلاف في أصلهم . فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال : يدخلون الجنة بإيمانهم . ومن قال : إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان : أحدهما : وهو قول الحسن يدخلونها . الثاني : وهو رواية مجاهد لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار . حكاه الماوردي . وقد مضى في سورة " الرحمن " {[15435]} عند قوله تعالى : " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " [ الرحمن : 56 ] بيان أنهم يدخلونها .
الخامسة- قال البيهقي في روايته : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال : ( لكم كل عظم ) دليل على أنهم يأكلون ويطعمون . وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن ، وقالوا : إنهم بسائط ، ولا يصح طعامهم ؛ اجتراء على الله وافتراء ، والقرآن والسنة ترد عليهم ، وليس في المخلوقات بسيط مركب مزدوج ، إنما الواحد الواحد{[15436]} سبحانه ، وغيره مركب وليس بواحد كيفما تصرف حاله . وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة . وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات ، ففي الموطأ : أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار أن يرجع إلى أهله . . . الحديث ، وفيه : فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها . وذكر الحديث . وفي الصحيح أنه عليه السلام قال : ( إن لهذه البيوت عوامر ، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ) . وقال : ( اذهبوا فادفنوا صاحبكم{[15437]} ) وقد مضى هذا المعنى في سورة " البقرة " {[15438]} وبيان التحريج عليهن . وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة ؛ لقوله في الصحيح : ( إن بالمدينة جنا قد أسلموا ) . وهذا لفظ مختص بها فيختص بحكمها . قلنا : هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها ؛ لأنه لم يعلل بحرمة المدينة ، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها ، وإنما علل بالإسلام ، وذلك عام في غيرها ، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذي لقي : ( وكانوا من جن الجزيرة ) ؛ وهذا بين يعضده قوله : ( ونهى عن عوامر البيوت ) وهذا عام . وقد مضى في سورة ( البقرة ) القول في هذا فلا معنى للإعادة .
قوله تعالى : " فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا " أي في فصاحة كلامه . وقيل : عجبا في بلاغة مواعظه . وقيل : عجبا في عظم بركته . وقيل : قرآنا عزيزا لا يوجد مثله . وقيل : يعنون عظيما .
{[1]}سورة الجن وتسمى " قل{[2]} أوحي " {[3]}
مقصودها {[4]}إظهار الشرف{[5]} لهذا النبي الكريم الفاتح الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وذريته وأهل بيته حيث لين له قلوب الإنس والجن وغيرهما{[6]} ، فصار مالكا لقلوب المجانس وغيره ، وذلك لعظمة هذا القرآن ولطف ما له من غريب{[7]} الشأن ، هذا والزمان في آخره وزمان لبثه في قومه دون ربع العشر من زمن{[8]} نوح عليه السلام أول نبي بعثه إلى الله تعالى إلى المخالفين وما{[9]} آمن{[10]} معه من قومه إلا قليل ، وعلى ذلك دلت تسميتها بالجن [ و-{[11]} ] بقل أوحى ، وبتأمل الآية المشتملة على ذلك وما فيها من لطيف المسالك{[12]} ، أعاذنا الله بمنه وكرمه من الوقوع في المهالك{[13]} . ( بسم الله ) أي{[14]} المحيط بالكمال أرسل رسوله [ الخاتم{[15]}- ] بالهدى ليظهره على الدين كله بما له من الجلال والجمال ( الرحمان ) الذي بعموم رحمته عم{[16]} بهذا الإرسال ليعم بالبيان ما يلزم الخلق من المقال والفعال ( الرحيم ) الذي خص من بين أهل الدعوة من شاء بمحاسن الأعمال لما سبق لهم من الفوز في أزل الآزال{[17]} .
لما كان نوح عليه الصلاة والسلام أول رسول أرسله الله تعالى إلى المخالفين من أهل الأرض ، وكان قومه عباد أوثان ، وعصوه أشد العصيان مع أنه كان{[68930]} منهم نسباً ولساناً ، وختمت سورته بدعائه عليهم ، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، فهو آخر رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وغيرهم من جميع الخلق ، وكان قومه العرب قد وافقوا قوم نوح عليه السلام في أكثر أحوالهم عبادة الأوثان حتى تلك الأوثان إما بأساميها أو بأعيانها على ما ورد في الأخبار ، وفي عصيان رسولهم واستضعاف أتباعه واستهزائهم ابتدئت ، هذه بما كان من سهولة من سمع هذه الدعوة الخاتمة الجامعة من غير الجنس فضلاً عن الموافقين في الجنس مع قصر الزمان وضعف الأعوان لجلالة هذا القرآن ، فقال منبهاً له بالأمر على ما في هذا من عظيم القدر ، مع الإشارة إلى تبكيت العرب على التباطؤ عن الإجابة إلى ما يعرفون من رشده{[68931]} بمعناه ونظمه ، لكونه بلسانهم وكونهم من نوع الداعي وقبيله وأقرب الناس إليه { قل } أي يا محمد لقومك .
ولما كان المقصود تعظيم الموحى به ، وأما الموحي إلى كل من الرسولين فواحد ، بنى للمفعول قوله مبيناً لسيرة الجن في تلقيهم لهذا القرآن بالأخذ إرثاً من أشرف النبيين وإلقائهم له بالإبلاغ إلى غيرهم من وارث العلم منهم ليكون لهم الشرفان : شرف العلم لكمال أنفسهم ، والتعليم لتكميل غيرهم ، فيكون لهم مثل أجر من عمل بما ألقوه إليه وأملوه عليه : { أوحي إليّ } أي أخبرت على وجه الخفاء ممن لا يعلم الغيب غيره في هذا القرآن الذي اقتضى إعجازه أن أكون أكثر الأنبياء تابعاً على لسان جبريل عليه السلام الذي هو أمينه والواسطة بينه وبين أنبيائه ، ثم وضع موضع المفعول الذي لم يسم فاعله قوله : { أنه } أي الشأن العظيم { استمع } أي بغاية{[68932]} الإصغاء والإقبال والتقبل والإلف استماعاً هو الاستماع في الحقيقة لأنه لقراءتي هذا القرآن { نفر } هم في غاية النفرة جبلة وطبعاً { من الجن } الذين هم في غاية الاستتار ، وهم أجسام حية عاقلة خفيفة تغلب عليها النارية أو الهوائية كما {[68933]}تغلب على{[68934]} أجسام الإنس الترابية ، والنفر ما بين الثلاثة والعشرة ، قال البغوي{[68935]} : وكانوا تسعة من جن نصيبين ، وقيل : كانوا سبعة ، وفي هذه العبارة دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولا قرأ عليهم ، وإنما اتفق حضورهم عند قراءته ، وهل هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف أو غيره قال أبو حيان{[68936]} : المشهور أنه هو ، وقيل : هو غيره ، والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوى ، والسورة التي{[68937]} استمعوها قال عكرمة : العلق ، وقيل : الرحمن ، ولم يذكر هنا ولا في الأحقاف أنه رآهم ، ويظهر من الحديث{[68938]} تعدد الواقعة ، فمنها ما كان في المبدأ ولم يكن معه أحد من الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي في الصحيح
" أنهم فقدوه صلى الله عليه وسلم ليلة {[68939]}من الليالي{[68940]} فالتمسوه في الأودية والشعاب ، فلما أصبح إذا{[68941]} جاء من قبل حراء فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ، فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، ومنها ما كان معه عبد الله رضي الله عنه فذهب معه إلى الحجون عند الشعب فخط عليه خطاً ، وقال : لا تجاوزه ، فانحدر عليه أمثال الحجل يجرون الحجارة بأقدامهم حتى غشوه فلا أراه ، وأومأ إليّ بيده أن اجلس ، فتلا القرآن ، فلم يزل صوته يرتفع واختفوا بالأرض حتى ما أراهم " {[68942]} قال الأصبهاني : وقيل : كانوا من بني الشيصبان{[68943]} وهم أكثر الجن عدداً وهم عامة جنود إبليس ، وقال القشيري : لما {[68944]}رجمت الشياطين{[68945]} بالشهب فرق إبليس جنوده لعلم ذلك فأتى سبعة منهم بطن نخلة فاستمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا ثم أتوا قومهم فقالوا : {[68946]}يا قومنا{[68947]} إنا{[68948]} سمعنا قرآناً عجباً ، يعني ولم يرجعوا إلى إبليس لما علموه من كذبه وسفاهته ، وجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين من قومهم فأسلموا ، فذلك{[68949]} قوله تعالى :
{ وإذ صرفنا إليك{[68950]} نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه{[68951]} }[ الأحقاف : 29 ] الآيات { فقالوا } أي فتسبب عن استماعهم أن قال من سمع منهم لمن لم يسمع ، أو لمن كان يواخيهم من الإنس امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " رحم الله امرأً سمع منا مقالة فوعاها فأداها كما سمعها " وكان قولهم سكوناً إلى هذا ا لقرآن وأنسابه ، مؤكدين لبعد حالهم عن سماع الوحي وعلمهم بما زاد به من الإعجاز : { إنا } بالكسر لأنه مبتدأ محكي {[68952]}بعد القول{[68953]} { سمعنا } حين{[68954]} تعمدنا الإصغاء وألقينا إليه أفهامنا { قرآناً } أي كلاماً هو في غاية الانتظام في نفسه{[68955]} والجمع لجميع ما نحتاج إليه ، ثم وصفوه بالمصدر مبالغة في أمره فقالوا : { عجباً * } أي بديعاً خارجاً{[68956]} عن عادة أمثاله من جميع{[68957]} الكتب الإلهية فضلاً عن كلام الناس في جلالة النظم وإعجاز التركيب والوضع مع الموافقة لها في الدعوة{[68958]} إلى الله تعالى والبيان للمحاسن والمساوىء والدعاء إلى كل فلاح حتى صار نفس العجب ، والعجب ما خرج عن حد أشكاله ونظائره فخفي سببه ، وهذا يدل على قوتهم العلمية في فصاحتهم وكمالهم في علم الرسوم ، وصوغ الكلام على أبلغ جهات النظوم .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم ذكر حال كفار قريش في تعاميهم عن النظر وجريهم في اللدد والعناد حسبما انطوت عليه سورة ن والقلم ، ثم أتبعت بوعيدهم في الحاقة ثم بتحقيقه وقرب وقوعه في المعارج ثم بتسليته عليه الصلاة والسلام وتأنيسه بقصة نوح عليه الصلاة والسلام مع قومه ، أعقب ذلك بما يتعظ به الموفق ويعلم أن القلوب بيد الله : فقد كانت استجابة معاندي قريش والعرب{[68959]} أقرب في ظاهر الأمر لنبي من جنسهم ومن{[68960]} أنفسهم فقد تقدمت لهم{[68961]} معرفة صدقه وأمانته ، ثم جاءهم بكتاب بلسانهم الذي به يتحاورون ولغتهم التي بها يتكلمون ، فقد بهرت العقول آياته ، ووضحت لكل ذي قلب سليم براهينه ومعجزاته ، وقد علموا أنهم لا يقدرون على معارضته إلى ما شاهدوه من عظيم البراهين ، ومع ذلك عموا وصموا - غضب الله{[68962]} عليهم ولعنهم - وسبق إلى الإيمان من ليس من{[68963]} جنسهم ولا سبقت له مزية تكريمهم ، وهم الجن ممن سبقت لهم من الله{[68964]} الحسنى فآمنوا وصدقوا ، وأمر صلى الله عليه وسلم بالإخبار بذلك ، فأنزل الله تعالى عليه{[68965]} { قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن } [ الجن : 1 ] الآيات إلى قوله إخباراً عن تعريف الجن سائر إخوانهم{[68966]} بما شاهدوه من عناد كفار العرب " وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً " ثم استمرت الآي{[68967]} ملتحمة المعاني معتضدة المباني إلى آخر السورة - انتهى .
هذه السورة مكية وآياتها ثمان وعشرون ، ويحتل فيها الحديث عن خبر الجن شطرا كبيرا . فهم من خلق الله ، ويدل على حقيقتهم تسميتهم بالجن . فهم الخلق المستور ، المحجوبون عن الرؤية . وهم من حيث الإيمان شطران ، مؤمنون وكافرون . فقد سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم مرة وهو يقرأ القرآن فهالهم ما سمعوا وبهروا به أيما انبهار ، ثم انقلبوا إلى قومهم من الجن يقصون عليهم ما سمعوه من الكلام الباهر العجيب ، مما نبينه عند تفسير السورة عن هذه المسألة . إلى غير ذلك من المواعظ والتحذير والعبر .
{ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا 1 يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا 2 وأنه تعالى جدّ ربنا ما اتّخذ صاحبة ولا ولدا 3 وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا 4 وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا 5 وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا 6 وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا } .
الجن أجسام عاقلة خفية تغلب عليهم النارية فهم مخلوقون من نار . وتدل الآيات هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله بذلك رسوله وهو قوله : { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } والنفر ، جماعة من الثلاثة إلى العشرة وهم من جن نصيبين فقد استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فانطلقوا إلى قومهم من الجن قائلين لهم { إنا سمعنا قرآنا عجبا } العجب ما يكون خارجا عن العادة . أي سمعنا قرآنا عجيبا بديعا مباينا لكل كلام في روعة نظمه وكمال معانيه ومقاصده .