{ فاعلم أنه لا إله إلا الله } : أي فبناء على ما تقدم لك يا نبيّنا فاعلم أنه لا يستحق العبودية إلا الله فاعبدوه وتوكل عليه .
{ واستغفر لذنبك } : أي قبل استغفر الله أو اللهم اغفر لي .
{ وللمؤمنين والمؤمنات } : أي واستغفر للمؤمنين والمؤمنات .
{ والله يعلم متقبلكم } : أي متصرفكم في النهار وأنتم تتصرفون في أمور دنياكم .
{ ومثواكم } : أي مكان ثواكم وإقامتكم ونومكم بالليل .
قال تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات أي فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي له العبادة وتصلح له إلا الله الذي هو خالق كل شيء ومالكه واستغفر أي اطلب من ربك المغفرة لك وللمؤمنين ، وهذا الكلام وإن وجه للرسول صلى الله عليه وسلم فالمراد منه على الحقيقة أو بالأصالة غيره صلى الله عليه وسلم قال تعالى يا عباد الله أيها الناس والرسول على رأسكم اعلموا أنه لا إله إلا الله واستغفروا لذنوبكم مؤمنين ومؤمنات والله يعلم متقلبكم أي تصرفكم في النهار في مصالح معاشكم ومعادكم ويعلم مثواكم في فرشكم نائمين فهو يعلمكم على ما أنتم عليه في كل ساعة من ليل أو نهار فاخشوه واتقوه حتى تفوزوا برضاه في جنات النعيم .
- وجوب العلم بأنه لا إله إلا الله ، وذلك يتم على الطريقة التالية :
الاعتراف بأن الإِنسان مخلوق كسائر المخلوقات حوله ، وكل مخلوق لا بد له من خالق فمن خالق الإِنسان والكون إذاً ؟ والجواب قطعاً : الله . فما دام الله هو الخالق فمن عداه مخلوق مفتقر إلى الله خالقه في حفظ حياته ، ومن يُؤله ويُعبد إذاً الخالق أم المخلوق ؟ والجواب : الخالق . إذاً تعيّن أنه لا معبود إلا لله وهو معنى لا إله إلا الله ولما كانت العبادة لا تعرف إلا بالوحي وجب الإِيمان برسول الله فكان لا بُد من زيادة محمد رسول الله فنقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله .
{ 19 } { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }
العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته ، بمعنى ما طلب منه علمه ، وتمامه أن يعمل بمقتضاه .
وهذا العلم الذي أمر الله به -وهو العلم بتوحيد الله- فرض عين على كل إنسان ، لا يسقط عن أحد ، كائنا من كان ، بل كل مضطر إلى ذلك . والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا هو أمور : أحدها بل أعظمها : تدبر أسمائه وصفاته ، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته{[787]} فإنها توجب بذل الجهد في التأله له ، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال .
الثاني : العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير ، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية .
الثالث : العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة ، الدينية والدنيوية ، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته ، والتأله له وحده لا شريك له .
الرابع : ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة ، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به ، فإن هذا داع إلى العلم ، بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها .
الخامس : معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله ، واتخذت آلهة ، وأنها ناقصة من جميع الوجوه ، فقيرة بالذات ، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولا ينصرون من عبدهم ، ولا ينفعونهم بمثقال ذرة ، من جلب خير أو دفع شر ، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا هو وبطلان إلهية ما سواه .
السادس : اتفاق كتب الله على ذلك ، وتواطؤها عليه .
السابع : أن خواص الخلق ، الذين هم أكمل الخليقة أخلاقا وعقولا ، ورأيا وصوابا ، وعلما -وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون- قد شهدوا لله بذلك .
الثامن : ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية ، التي تدل على التوحيد أعظم دلالة ، وتنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته ، وبديع حكمته ، وغرائب خلقه .
فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله ، وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمل العبد في بعضها ، لا بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك ، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت ، وقامت أدلة التوحيد من كل جانب ، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد ، بحيث يكون كالجبال الرواسي ، لا تزلزله الشبه والخيالات ، ولا يزداد -على تكرر الباطل والشبه- إلا نموا وكمالا .
هذا ، وإن نظرت إلى الدليل العظيم ، والأمر الكبير -وهو تدبر هذا القرآن العظيم ، والتأمل في آياته- فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله ما لا يحصل في غيره .
وقوله : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } أي : اطلب من الله المغفرة لذنبك ، بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة والدعاء بالمغفرة ، والحسنات الماحية ، وترك الذنوب والعفو عن الجرائم .
{ و } استغفر أيضا { للمؤمنين وَالْمُؤْمِنَات } فإنهم -بسبب إيمانهم- كان لهم حق على كل مسلم ومسلمة .
ومن جملة حقوقهم أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم ، وإذا كان مأمورا بالاستغفار لهم المتضمن لإزالة الذنوب وعقوباتها عنهم ، فإن من لوازم ذلك النصح لهم ، وأن يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه ، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه ، ويأمرهم بما فيه الخير لهم ، وينهاهم عما فيه ضررهم ، ويعفو عن مساويهم ومعايبهم ، ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم ، ويزول ما بينهم من الأحقاد المفضية للمعاداة والشقاق ، الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ } أي : تصرفاتكم وحركاتكم ، وذهابكم ومجيئكم ، { وَمَثْوَاكُمْ } الذي به تستقرون ، فهو يعلمكم في الحركات والسكنات ، فيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه .
قوله تعالى : " فاعلم أنه لا إله إلا الله " قال الماوردي : وفيه - وإن كان الرسول عالما بالله - ثلاثة أوجه : يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله . الثاني : ما علمته استدلالا فاعلمه خبرا يقينا . الثالث : يعني فاذكر أن لا إله إلا الله ، فعبر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه . وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله حين بدأ به " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " فأمر بالعمل بعد العلم وقال : " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو " إلى قوله " سابقوا إلى مغفرة من ربكم " {[13935]} [ الحديد : 20 - 21 ] وقال : " واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة " {[13936]} [ الأنفال : 28 ] . ثم قال بعد : " فاحذروهم " {[13937]} [ التغابن : 14 ] . وقال تعالى : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " {[13938]} [ الأنفال : 41 ] . ثم أمر بالعمل بعد .
قوله تعالى : " واستغفر لذنبك " يحتمل وجهين : أحدهما : يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب . الثاني : استغفر الله ليعصمك من الذنوب . وقيل : لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين أمره بالثبات على الإيمان ، أي اثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص والحذر عما تحتاج معه إلى استغفار . وقيل : الخطاب له والمراد به الأمة ، وعلى هذا القول توجب الآية استغفار الإنسان لجميع المسلمين . وقيل : كان عليه السلام يضيق صدره من كفر الكفار والمنافقين ، فنزلت الآية . أي فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله ، فلا تعلق قلبك بأحد سواه . وقيل : أمر بالاستغفار لتقتدي به الأمة . " وللمؤمنين والمؤمنات " أي ولذنوبهم . وهذا أمر بالشفاعة . وروى مسلم عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس المخزومي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت من طعامه فقلت : يا رسول الله ، غفر الله لك فقال له صاحبي : هل استغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، ولك . ثم تلا هذه الآية : " واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات " ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه ، جمعا{[13939]} عليه{[13940]} خيلان كأنه الثآليل .
قوله تعالى : " والله يعلم متقلبكم ومثواكم " فيه خمسة أقوال : أحدها : يعلم أعمالكم في تصرفكم وإقامتكم . الثاني : " متقلبكم " في أعمالكم نهارا " ومثواكم " في ليلكم نياما . وقيل " متقلبكم " في الدنيا . " ومثواكم " في الدنيا والآخرة ، قاله ابن عباس والضحاك . وقال عكرمة : " متقلبكم " في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات . " ومثواكم " مقامكم في الأرض . وقال ابن كيسان : " متقلبكم " من ظهر إلى بطن الدنيا . " ومثواكم " في القبور . قلت : والعموم يأتي على هذا كله ، فلا يخفى عليه سبحانه شيء من حركات بني آدم وسكناتهم ، وكذا جميع خلقه . فهو عالم بجميع ذلك قبل كونه جملة وتفصيلا أولى وأخرى . سبحانه ! لا إله إلا هو .
ولما علم بذلك أن الذكرى غير نافعة{[59609]} إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل أو جاءت الأشراط المحققة الكاشفة لها ، سبب عنه أمر{[59610]} أعظم الخلق {[59611]}وأشرفهم وأرقاهم وأجملهم صلى الله عليه وسلم{[59612]} تكويناً ليكون لغيره تكليفاً{[59613]} فقال تعالى : { فاعلم أنه } أي الشأن الأعظم الذي { لا إله إلا الله } أي انتفى{[59614]} انتفاء عظيماً{[59615]} أن يكون معبود{[59616]} بحق غير الملك الأعظم ، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة ، وإنما تكون عالماً إذا كان نافعاً وإنما يكون نافعاً-{[59617]} إذا كان مع الإذعان والعمل بما يقتضيه وإلا فهو جهل صرف{[59618]} ، و-{[59619]}هذا العلم يفيد أنه لا بد من قيام الساعة لأن الإله وعد بذلك وهو متصف بالكمال ولا شريك له يمنعه من إنجاز وعده . قال القشيري : والعبد يعلم {[59620]}أولاً ربه{[59621]} بدليل وبحجة فعلمه بنفسه ضروري وهذا هو أصل الأصول ، وعليه بني كل علم استدلالي ، ثم تزداد قوة علمه بزيادة البيان وكثرة الحجج وتناقص علمه بنفسه بغلبات ذكره لله بقلبه ، فإذا انتهى إلى حال المشاهدة واستيلاء سلطان الحقيقة عليه صار علمه {[59622]}في تلك{[59623]} الحالة ضرورياً ويقل{[59624]} إحساسه بنفسه حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلال{[59625]} وكأنه غافل عن نفسه أو ناس لنفسه ، ويقال{[59626]} : الذي رأى البحر غلب عليه ما يأخذه في {[59627]}الرؤية للبحر{[59628]} عن {[59629]}ذكر نفسه{[59630]} فإذا ركب البحر قوي هذا الحال ، فإذا غرق في البحر فلا إحساس له بشيء سوى ما هو مستغرق فيه ومستهلك ، ولهذه الكلمة من الأسرار ما يملأ الأقطار منها أنها بكلماتها الأربع مركبة من ثلاثة أحرف إشارة إلى الوتر الذي هو الله سبحانه وتعالى والشفع الذي هو الخلق أنشأه تعالى أزواجاً ، و{[59631]}منها حرف لساني وحرفان حلقيان : الهاء والألف ، غير أن الألف عبر عنها بمظهرها وهو الهمزة{[59632]} ظاهراً مرتين وخفياً في أداة التعريف في الابتداء مرة ، وذكرت بلفظها أربع مرات ، فتلك سبع هي أتم العدد لذلك{[59633]} وبني الخلق عليه ، فالسماوات سبع والأراضي كذلك سبع{[59634]} إشارة إلى أن-{[59635]} الإله الحق الذي هو غيب محض إنما علم بالتنزيل بأفعاله ، فهي وصلة إلى معرفته وهي منقسمة إلى علوي وسفلي كما أن الألف التي هي كالغيب لأنها لا يمكن {[59636]}النطق بها{[59637]} ابتداء نزلت في مظهر الهمزة التي تكررت في هذه الكلمة مرتين في مقابلة الكونين العلوي والسفلي وبينهما ما لا نعلمه مما خفي عنا كما خفيت همزة الوصل .
وعبر في الأمر بهذه الكلمة بالعلم إعلاماً بأن عمل القلب بها هو العمدة العظمى لكن لما كانت حروفها حلقياً ولسانياً كان في ذلك إشارة إلى أنه لا يكفي في أمرها إلا إذعان الباطن ومطابقة الظاهر الذي هو اللسان ، فهو ترجمان القلب ، ومتى لم يطابق اللسان القلب حيث لا مانع كان صاحبه من أهل آية الصافات{[59638]} وأحرفها اللفظية أربعة عشر حرفاً على عدد السماوات والأرض الدالة على الذات الأقدس الذي هو غيب محض والمقصود{[59639]} منها مسمى الجلالة الذي هو الإله الحق سبحانه وتعالى والجلالة الدالة عليه خمسة أحرف على عدة دعائم الإسلام الخمس : ووتريته دلالة على التوحيد ، ولم يجعل فيها شيئاً شفهياً {[59640]}لتمكن ملازمتها{[59641]} لكونها أعظم مقرب إلى الله وأقرب موصل إليه مع الإخلاص ، فإن الذاكر بها يقدر على المواظبة عليها ولا يعلم جليسه بذلك أصلاً ، لأن غيرك لا يعلم ما في-{[59642]} وراء شفتيك إلا بإعلامك{[59643]} ، وكما دل الكلام على التوحيد بهذه الكلمة صريحاً دل على كلمة الرسالة التي لا ينفع التوحيد إلا بها تلويحاً بتسمية السورة " سورة محمد " ، فهي القتال لأنه أمر صلى الله عليه وسلم {[59644]}أن يقاتل الناس{[59645]} حتى يصرحوا بما صرحت به السورة من كلمة التوحيد ، وهي سورة محمد صلى الله عليه وسلم لأن التوحيد لا ينفع بدون الشهادة له بالرسالة ، وبين الكلمتين مزيد اتفاق{[59646]} يدل على تمام الاتحاد والاعتناق ، وذلك{[59647]} أن أحرف كل منهما إن نظرنا إليها خطاً كانت اثني عشرة حرفاً على عدد أجزاء السنة يكفر كل حرف منها{[59648]} شهراً ، وإن نظرنا إليها نطقاً كانت أربعة عشر حرفاً{[59649]} لملأ الخافقين نوراً{[59650]} وعظمة ومهابة وجلالة واحتشاماً{[59651]} ، وإن نظرنا إليها بالنظرين معاً كانت خمسة عشر لا يوقفها عن ذي العرش خالق الكونين موقف ، وهو سر غريب دال على الحكم الشرعي الذي هو عدم انفكاك إحداهما عن الأخرى ، فمن لم يجمعهما{[59652]} اعتقاده لم يقبل إيمانه ، وقدمت هذه السورة في هذا-{[59653]} سابقة لأن{[59654]} لها السبق وذكرت{[59655]} الأخرى في الفتح تالية ، وسميت {[59656]}سورة هذه{[59657]} بالقتال وسورة الكلمة المحمدية بالفتح إشارة إلى أنه ما قاتل أحد عليهما مع الإخلاص إلا فتح عليه ولا يقدر أحد على مخالفته مع مناصبته إلا نفاقاً على وجه الذل والاضطراب .
ولما كان حصول التوحيد الذي هو كمال النفس موجباً للإجابة كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند الترمذي{[59658]} وأبي يعلى " ما من مؤمن يدعو الله بدعوة إلا استجيب له ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم " الحديث ، قال معلماً أنه يجب على الإنسان بعد تكميل نفسه السعي في تكميل غيره ليحصل التعاون على ما خلق العباد له ، { واستغفر } أي اطلب الغفران من الله بعد العلم بأنه لا كفوء له{[59659]} بالدعاء له وبالاجتهاد في الأعمال الصالحة { لذنبك } ، وهو كل مقام عال-{[59660]} {[59661]}ارتفعت عنه{[59662]} إلى أعلى منه ، وأوجده أنت من{[59663]} نفسك لمن أساء إليك{[59664]} لتكثر أبتاعك ، فإن الاستقامة مهيئة للإمامة{[59665]} .
ولما كان تكميل النفس مرقياً إلى تكميل الغير ليكون له مثل أجره ، قال تعالى {[59666]}مبيناً لهذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة{[59667]} معيداً للجار معبراً بالإيمان والوصف إيذاناً بأن أعلى الأمة محتاج إلى ذلك ، لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره ، وهذا مشرفاً{[59668]} لهذه الأمة حيث أمر الشفيع المجاب الدعوة بالاستغفار{[59669]} لهم وهو-{[59670]} بالدعاء والحث على الاجتهاد في الأعمال الصالحة ، حاذفاً المضاف إشارة إلى الاحتياج إلى المغفرة في كل حال لما للإنسان من النقصان بالخطأ والنسيان : { وللمؤمنين والمؤمنات } أي الراسخين في الإيمان لأنهم أحق الناس بذلك منك لأن ما عملوا من خير كان لك مثل أجره ، ولا يخلو أحد منهم من تقصير في المعارف الإلهية والعمل بموجبها أو هفوة .
ولما كان معرفة من يذنب ومن لا يذنب متوقفة على إحاطة العلم ، قال عاطفاً على ما تقديره : فالله{[59671]} يعلم حركاتكم وسكناتكم سراً وجهراً ويعلم أنكم لا بد أن تعملوا{[59672]} ما جبلكم عليه من ذنب وهو يغفر لمن أراد ممن يسعى في كمال نفسه وتكميل غيره بغسل الذنوب ، بالرجوع إلى طاعة{[59673]} علام الغيوب { والله } المحيط بجميع صفات الكمال { يعلم متقلبكم } أي تقلبكم ومكانه وزمانه { ومثواكم * } أي موضع سكونكم وقراره للراحة وكل ما يقع فيه من الثواء في وقته –{[59674]} في الدنيا والآخرة من حين كونكم نطفاً إلى ما لا آخر له .