وكل من في السموات والأرض مفتقِر إليه تعالى ، محتاجٌ إلى رحمته ونواله ولذلك يقول :
{ يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } .
فهو يحيي ويميت ، ويعزّ ويذلّ ، ويعطي ويمنع ، ويغفر ويعاقب . قال عبد الله بن حنيف : تلا علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقلنا : يا رسول الله ، وما ذلك الشأن ؟ قال : أن يغفر ذنبا ، ويفرّج كربا ، ويرفع قوما ويضع آخرين .
{ يسأله من في السموات والأرض } : أي يسألونه حاجاتهم التي تتوقف عليها حياتهم من الرزق والقوة على العبادة . والمغفرة للذنب ، والعزة من الرب .
{ كل يوم هو في شأن } : أي كل وقت هو في شأن : شؤون يبديها وفق تقديره لها يرفع أقواماً ويضع آخرين .
وقوله { يسأله من في السموات والأرض } أي يطلبونه بلسان القال أو الحال ما هم في حاجة إليه مما يحفظ وجودهم ويغفر ذنوبهم وقوله تعالى { كل يوم هو في شأن } أي لا يفرغ الدهر كلّه يدبر أمر السماء والأرض يرفع ويضع آخرين .
{ 29-30 } { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
أي : هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته ، وهو واسع الجود والكرم ، فكل الخلق مفتقرون إليه ، يسألونه جميع حوائجهم ، بحالهم ومقالهم ، ولا يستغنون عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك ، وهو تعالى { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } يغني فقيرا ، ويجبر كسيرا ، ويعطي قوما ، ويمنع آخرين ، ويميت ويحيي ، ويرفع ويخفض ، لا يشغله شأن عن شأن ، ولا تغلطه المسائل ، ولا يبرمه إلحاح الملحين ، ولا طول مسألة السائلين ، فسبحان الكريم الوهاب ، الذي عمت مواهبه أهل الأرض والسماوات ، وعم لطفه جميع الخلق في كل الآنات واللحظات ، وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين ، ولا استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه ، وهذه الشئون التي أخبر أنه تعالى كل يوم هو في شأن ، هي تقاديره وتدابيره التي قدرها في الأزل وقضاها ، لا يزال تعالى يمضيها وينفذها في أوقاتها التي اقتضته حكمته ، وهي أحكامه الدينية التي هي الأمر والنهي ، والقدرية التي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار ، حتى إذا تمت [ هذه ] الخليقة وأفناهم الله تعالى{[952]} وأراد تعالى أن ينفذ فيهم أحكام الجزاء ، ويريهم من عدله وفضله وكثرة إحسانه ، ما به يعرفونه ويوحدونه ، نقل المكلفين من دار الابتلاء والامتحان إلى دار الحيوان .
وفرغ حينئذ لتنفيذ هذه الأحكام ، التي جاء وقتها ، وهو المراد بقوله :
قوله تعالى : " يسأله من في السماوات والأرض " قيل : المعنى يسأله من في السماوات الرحمة ، ومن في الأرض الرزق . وقال ابن عباس وأبو صالح : أهل السماوات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونهما جميعا . وقال ابن جريج : وتسأل الملائكة الرزق لأهل الأرض ، فكانت المسألتان جميعا من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض . وفي الحديث : " إن من الملائكة ملكا له أربعة أوجه وجه{[14542]} كوجه الإنسان وهو يسأل الله الرزق لبني آدم ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله الرزق للسباع ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله الرزق للبهائم ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله الرزق للطير " . وقال ابن عطاء : إنهم سألوه القوة على العبادة . " كل يوم هو في شأن " هذا " كل يوم هو في شأن " كلام مبتدأ . وانتصب " كل يوم " ظرفا ، لقوله : " في شأن " أو ظرفا للسؤال ، ثم يبتدئ " هو في شأن " . وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عل النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل يوم هو في شأن " قال : من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما{[14543]} ويضع آخرين " . وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : " كل يوم هو في شأن " قال : " يغفر ذنبا ويكشف كربا ويجيب داعيا " . وقيل : من شأنه أن يحي ويميت ، ويعز ويزل ، ويرزق ويمنع . وقيل : أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة . قال ابن بحر : الدهر كله يومان : أحدهما مدة أيام الدنيا ، والآخر يوم القيامة ، فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهى والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب ، والثواب والعقاب . وقيل : المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر . والشأن في اللغة الخطب العظيم والجمع الشؤون والمراد بالشأن ها هنا الجمع كقوله تعالى : " ثم يخرجك طفلا{[14544]} " [ غافر :67 ] . وقال الكلبي : شأنه سوق المقادير إلى المواقيت . وقال عمرو بن ميمون في قوله تعالى : " كل يوم هو في شأن " من شأنه أن يميت حيا ، ويقر في الأرحام ما شاء ، ويعز ذليلا ، ويذل عزيزا . وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى : " كل يوم هو في شأن " فلم يعرف معناها ، واستمهله إلى الغد فانصرف كئيبا إلى منزل فقال له غلام له أسود : ما شأنك ؟ فأخبره . فقال له : عد إلى الأمير فإني أفسرها له ، فدعاه فقال : أيها الأمير ! شأنه أن يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ، ويعافي مبتلى ، ويعز ذليلا ويذل عزيزا ، ويفقر غنيا ويغني فقيرا ، فقال له : فرجت عني فرج الله عنك ، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام ، فقال : يا مولاي ! هذا من شأن الله تعالى . وعن عبدالله بن طاهر : أنه دعا الحسين بن الفضل وقل له : أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي : قوله تعالى : " فأصبح من النادمين{[14545]} " [ المائدة : 31 ] وقد صح أن الندم توبة . وقول : " كل يوم هو في شأن " وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة . وقول : " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى{[14546]} " [ النجم : 39 ] فما بال الأضعاف ؟ فقال الحسين : يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة ، ويكون توبة في هذه الأمة ، لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم . وقيل : إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله . وأما قوله : " كل يوم هو في شأن " فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها . وأما قوله : " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " [ النجم : 39 ] فمعناه : ليس له إلا ما سعى عدلا ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا . فقام عبدالله وقبل رأسه وسوغ خراجه .
قوله : { يسأله من في السماوات والأرض } الله كبير في علاه عظم قدره وجل جلاله ، وهو سبحانه غني عن العالمين ، ولكن العالمين جميعا محتاجون لرحمته وإحسانه ، فقراء إليه . فهم يسألونه على الدوام أن يقضي حاجاتهم من الدين والدنيا . وهو سبحانه : { كل يوم هو في شأن } كل ، ظرف زمان منصوب . والمعنى : أن الله من شأنه إجابة الملهوفين ، وإغاثة السائلين ، وعون المكروبين ، وإبراء المرضى والمسقومين . وفي ذلك روي عن أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله عز وجل : { كل يوم هو في شأن } قال : " من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ، ويرفع قوما ويضع آخرين "