فضرب الرقاب : فاضربوا رقابهم ضرباً واقتلوهم .
أثخنتموهم : أكثرتم فيهم القتل .
فشدّوا الوثاق : فأسِروهم واربطوهم . الوثاق بفتح الواو وكسرها ما يوثق به .
فإما منّاً بعدُ وإما فداء : فإما أن تطلقوا سراحهم بدون فداء ، وإما أن يفدوا أنفسهم بشيء من المال .
حتى تضع الحرب أوزارها : حتى تنتهي الحرب ، الأوزار : أثقال الحرب من سلاح وغيره .
ثم بعد ذلك ذكر الله تعالى هنا وجوبَ القتال وأذِن به بعد أن استقر المؤمنون في المدينة ، وبدأوا في تأسيس الدولة الإسلامية . وتبين هذه الآية والآياتُ التي قبلها مشروعيةَ القتال للدفاع عن العقيدة والوطن . فإذا لقيتم الذين كفروا في الحرب فاضرِبوا رقابَهم ، حتى إذا أضعفتموهم بكثرة القتل فيهم فأحكِموا قيد الأسرى ، وبعد ذلك لكم الخيار : إما أن تُطلقوا الأسرى أو بعضَهم بغير فداء وتمنُّوا عليهم بذلك ، وإما أن تأخذوا منهم الفدية ، أو تبادلوا بهم بالمسلمين ممن يقع في الأسر . وليكن هذا شأنكم مع الكافرين حتى تنتهي الحرب وتضع أوزارها .
ثم بين الله تعالى أن هذه هي السنّة التي أرادها من حرب المشركين ، ولو شاء لانتقم منهم بلا حرب ولا قتال ، ولكنه ليختبر المؤمنين بالكافرين شرع الجهاد .
قرأ أهل البصرة وحفص : والذين قُتلوا . بضم القاف وكسر التاء . والباقون والذين قاتلوا .
{ فإذا لقيتم الذين كفروا } : أي إذا كان الأمر كما ذُكر فإِذا لقيتم الذين كفروا في ساحة المعركة فاضربوا رقابهم ضرباً شديداً تفصلون فيه الرقاب عن الأبدان .
{ حتى إذا أثخنتموهم } : أي أكثرتم فيهم القتل ولم يصبح لهم أمل في الانتصار عليكم .
{ فشدوا الوثاق } : أي فأسروهم بدل قتلهم وشدوا الوثاق أي ما يوثق به الأسير من إسار قِدّاً كان أو حبلا حتى لا يتفلتوا ويهربوا .
{ فإِما مناً بعد وإما فداء } : أي عبد أسركم لهم وشد وثاقهم فإِما أن تمنوا منّا أي تفكوهم من الأسر مجاناً ، وإما تفادونهم بمال أو أسير مسلم ، وهذا بعد نهاية المعركة .
{ حتى تضع الحرب أوزارها } : أي واصلوا القتال والأخذ والأسر إلى أن تضع الحرب أوزارها وهي آلاتها وذلك عند إسلام الكفار أو دخولهم في عهدكم فهذه غاية انتهاء الحرب حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
{ ذلك } : أي الأمر ذلك الذي علمتم من استمرار القتال إلى غاية إسلام الكفار أو دخولهم في عهدكم وذمتكم .
{ ولو يشاء الله لانتصر منهم } : أي بغير قتال منكم كأن يخسف بهم الأرض أو يصيبهم بوباء ونحوه .
{ ولكن ليبلو بعضكم ببعض } : ولكن أمركم بالقتال وشرعه لكم لحكمة هي أن يبلو بعضكم ببعض أي يختبركم من يقاتل منكم ومن لا يقاتل ، والمؤمن يُقتل فيدخل الجنة والكافر يُقتل فيدخل النار .
{ والذين قتلوا في سبيل الله } : أي قتلهم العدو ، وقرى ، قاتلوا في سبيل الله . { فلن يضل أعمالهم } : فلن يضل أعمالهم : أي لا يحبطها ولا يبطلها .
لقد تقدم أن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد أضل أعمالهم وذلك لكفرهم وصدهم عن سبيل الله إذا كان الأمر كذلك فليقاتلوا لإنهاء كل من المفسدتين كفرهم وصدهم غيرهم عن الإِسلام وهذا ما دل عليه قوله تعالى فإِذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب أي فاضربوا رقابهم ضربا يفصل الرأس عن الجسد وواصلوا قتالهم حتى إذا أثخنتموهن أي كثرتم فيهم القتل ، فشدوا الوثاق أي احكموا ربط الأسرى بوضع الوثاق وهو الحبل في أيديهم وأرجلهم حتى لا يتمكنوا من قتلكم ولا الهرب منكم وبعد ذلك أنتم وما يراه إمامكم من المصلحة العليا فإِن رأى المن فمنوا عليهم مجانا بلا مقابل ، وإما تفادونهم فداء بمال ، أو برجال ، وستظل تلك حالكم قتل وأخذ وأسر ثم من وعفو مجاني ، أو فداء بعوض ومقابل إلى أن تضع الحرب أوزارها أي أثقالها من عُدد وعتاد حربي ، وذلك لوصولكم إلى الغاية من الحرب وهي أن يسلم الكافر ، أو يدخل في ذمة المسلمين ، وهو معنى قوله تعالى في سورة البقرة : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } وقوله تعالى { ذلك } أي الأمر الذي علمتم من استمرار القتل والأسر إلى أن تضع الحرب أوزارها بالدخول في الإسلام أو في ذمة المسلمين وقوله ولو شاء الله لانتصر منهم أي بدون قتالٍ منكم ولكن بخسف أو وباء أو صواعق من السماء ولكن لم يفعل ذلك من أجل أن يَبْلُوَ بعضكم ببعض أي ليختبركم بهم . فيعلم المجاهدين . منكم والصابرين ، ويبلوهم بكم فيعاقب من شاء منهم بأيديكم ، ويتوب على من يشاء منهم كذلك . إذ انتصاركم عليهم ووقوعهم تحت سلطانكم يساعدهم على التوبة إلى الله والرجوع إلى الحق فيسلموا فيفلحوا بالنجاة من النار ودخلوا الجنة ، وقوله تعالى { والذين قاتلوا في سبيل الله } وفي قراءة والذين قُتلوا في سبيل الله وهذه عامة في شهداء أُحد وغيرهم .
- وجوب الجهاد على أمة الإِسلام ومواصلته كما بيّن تعالى في هذه الآيات إلى أن لا يبقى كافر يحارب بأن يدخلوا في الإسلام أو يعاهدوا ويدخلوا في ذمة المسلمين ويقبلوا على إصلاح أنفسهم وإعدادها للخير والفلاح .
- إمام المسلمين مخير في الأسرى بين المنّ والفداء ، القتل أيضاً لأدلة من السنة .
{ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } فاضربوا رقابهم أي فاقتلوهم { حتى إذا أثخنتموهم } أكثرتم فيهم القتل { فشدوا } وثاق الأسارى حتى لا يفلتوا منكم
5 11 { فإما منا بعد } أي بعد أن تأسروهم إما مننتم عليهم فأطلقتموهم وإما أن تفادوهم بمال { حتى تضع الحرب أوزارها } أي اقتلوهم وأسروهم حتى لا يبقى كافر يقاتلكم فتسكن الحرب وتنقطع وهو معنى قوله { تضع الحرب أوزارها } أي يضع أهلها آلة الحرب من السلاح وغيره ويدخلوا في الإسلام أو الذمة { ذلك } أي افعلوا ذلك الذي ذكرت { ولو يشاء الله لانتصر منهم } أهلكهم بغير قتال { ولكن ليبلو بعضكم ببعض } يمحص المؤمنين بالجهاد ويمحق الكافرين { والذين قتلوا في سبيل الله } وهم أهل الجهاد
{[59320]}ولما تحرر أن{[59321]} الكفار أحق الخلق بالعدم{[59322]} لأن الباطل مثلهم{[59323]} وحقيقة حالهم{[59324]} ، سبب عنه قوله : { فإذا لقيتم } أي أيها المؤمنون { الذين كفروا }{[59325]} ولو بأدنى أنواع الكفر في أيّ مكان كان وأيّ زمان{[59326]} اتفق . ولما كان المراد القتل المجهر بغاية التحقق ، عبر عنه مؤكداً له من الاختصار بذكر المصدر الدال على الفعل مصوراً له{[59327]} بأشنع {[59328]}صوره مع{[59329]} ما فيه من الغلظة على الكفار والاستهانة بهم فقال تعالى : { فضرب الرقاب } أي عقبوا لقيكم لهم من غير مهلة بأن تضربوا رقابهم{[59330]} ضرباً بالصدق في الضرب بما يزهق أرواحهم ، فإن ذلك انتهاز للفرصة وعمل بالأحوط ، وكذلك{[59331]} النفس التي هي أعدى العدو إذا ظفرت بها وجب عليك أن لا تدع لها{[59332]} بقية ، قال القشيري : فالحية إذا{[59333]} بقيت منها بقية فوضعت عليها إصبع{[59334]} ثبت فيها سمها .
ولما كان التقدير : {[59335]}ولا يزال ذلك فعلكم ، غياه{[59336]} بقوله : { حتى } وبشرهم بالتعبير بأداة التحقق{[59337]} فقال تعالى : { إذا أثخنتموهم } أي أغلظتم القتل فيهم وأكثرتموه{[59338]} بحيث صاروا لا حراك{[59339]} بهم كالذي ثخن فأفرط ثخنه ؛ فجعل ذلك شرطاً للأسر كما قال تعالى
{ وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض }[ الأنفال : 67 ] {[59340]}ثم قال تعالى مبيناً لما بعد الثخن{[59341]} : { فشدوا } أي لأنه لا مانع لكم الآن من{[59342]} الأسر{[59343]} { الوثاق } أي الرباط الذي يستوثق{[59344]} به{[59345]} من الأسر بالربط{[59346]} على أيديهم مجموعة إلى{[59347]} أعناقهم - مجاز عن الأسر بغاية الاستيلاء{[59348]} والقهر .
ولما كان الإمام مخيراً {[59349]}في أسراهم{[59350]} بين أربعة أشياء : القتل والإطلاق مجاناً والإطلاق بالفدية وهي {[59351]}شيء يأخذه{[59352]} عوضاً عن رقابهم و{[59353]}الاسترقاق{[59354]} ، عبر عن ذلك بقوله مفصلاً : { فإما منّاً } أي أن ينعموا عليهم إنعاماً { بعد } أي في جميع أزمان ما بعد الأسر باستبقائهم ثم بعد الإنعام باستبقائهم إما أن يكون ذلك مع الاسترقاق أو مع الإطلاق ثم الإطلاق إما{[59355]} مجاناً { وإما فداء } بمال أو بأسرى من المسلمين ونحو ذلك ، فأفهم التعبير بالمن الذي معناه الإنعام أن الإبقاء غير واجب بكل-{[59356]} جائز{[59357]} ، ودخل في الإبقاء ثلاث صور : الاسترقاق والإطلاق مجاناً و{[59358]}بالفداء فصرح سبحانه وتعالى بالفداء الذي معناه الأخذ على وجه أنه قسيم للمن ، فعلم أن المراد به الإبقاء مع عدم الأخذ فدخل فيه الإطلاق مجاناً وهو واضح والاسترقاق لأنه إنعام بالنسبة إلى القتل ، وأفهم التعبير بالمن الذي معناه الإنعام من المنان الذي هو اسمه تعالى ومعناه المعطي ابتداء جواز القتل-{[59359]} لأن الإنعام مخير فيه لا واجب لأنه لو كان واجباً كان حقاً لا نعمة ، فقد دخلت السور الأربع في التعبير بهاتين الكلمتين - والله الهادي ، وكل هذا على ما يراه الإمام أو نائبه مصلحة ، قال القشيري : كذلك حال المجاهدة{[59360]} مع النفس إذا كان في إغفاء ساعة وإفطار يوم ترويح للنفس{[59361]} من الكد وقوة على الجهد فيما يستقبل من الأمر على ما يحصل به الاستصواب من شيخ المريد وفتوى لسان الوقت أو فراسة صاحب المجاهدة - انتهى .
وقد أفهم هذا السياق أن هذا الحكم ثابت {[59362]}غير منسوخ{[59363]} والأمر بالقتل وحده-{[59364]} في غيرها من الآيات عام غير-{[59365]} مخصوص بما أفهمته الغاية من أن التقدير : والجهاد على هذه الصفة باق وماض مع كل أمير {[59366]}براً كان{[59367]} أو فاجراً ، لا يزال طائفة من الأمة قائمين به ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله ، وهو - والله أعلم - المراد بقوله{[59368]} تعالى : { حتى } أي افعلوا ما أمرتكم به على ما جددت لكم إلى أن { تضع الحرب أوزارها } وهي أثقالها أي الآلات التي تثقل القائمين بها من النفقات والسلاح والكراع ونحوه ، وذلك لا يكون وفي الأرض كافر ، وذلك على زمن عيسى عليه الصلاة والسلام حين تخرج الأرض بركاتها ، وتكون الملة واحدة وهي الإسلام لله رب العالمين ، فيتخذ الناس-{[59369]} حديد السلاح سككاً ومناجل وفؤوساً ينتفعون بها في معاشهم كما ورد في الحديث{[59370]} : " الجهاد ماض منذ بعثني الله-{[59371]} إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال " - رواه في الفردوس عن أنس رضي الله عنه " الجهاد واجب عليكم مع كل بر وفاجر " رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه{[59372]} .
ولما كانت{[59373]} الحرب كريهة إلى النفوس شديدة المشقة ، أكد أمرها بما معناه : إن هذا أمر قد فرغ منه ، فقال تعالى : { ذلك } أي الأمر العظيم العالي الحسن النافع الموجب لكل خير . ولما كان هذا ربما أوهم أن التأكيد في هذا الأمر لكون الحال لا يمكن انتظامه إلا به ، أتبعه ما{[59374]} يزيل هذا-{[59375]} الإيهام فقال{[59376]} : { ولو } ولما كان لو عبر بالماضي أفاد أنه كان ولم يبق ، عبر بالمضارع الدال على الحال وما بعده فقال : { يشاء الله } أي الملك الأعظم الذي له جميع صفات{[59377]} الكمال {[59378]}والقدرة على ما يمكن{[59379]} { لانتصر منهم } أي بنفسه من غير أحد انتصاراً عظيماً بأن لا يبقى منهم أحداً { ولكن } {[59380]}أوجب ذلك عليكم { ليبلوا } .
ولما كان الابتلاء ليس خاصاً بفريق منهم بل عاماً للفريقين لأنه يكشف عن أهل المحاسن وأهل-{[59381]} المساوئ من كل منهم ، قال تعالى : { بعضكم } {[59382]}من الفرقة المؤمنين بالإنكار عليهم من الفرقة الطاغين حتى يكون لهم بذلك اليد البيضاء{[59383]} { ببعض } أي يفعل في ذلك فعل المختبر ليترتب عليه الجواء على حسب ما تألفونه من العوائد{[59384]} .
ولما أفهم هذا أن الابتلاء{[59385]} بين فريقين بالجهاد ، قال عاطفاً على ما تقديره : فالذين قاتلوا أو قتلوا في سبيل الشيطان أضل أعمالهم : { والذين قتلوا{[59386]} } وفي قراءة البصريين وحفص{[59387]} { قتلوا } وهي أكثر ترغيباً والأولى{[59388]} أعظم ترجية { في سبيل الله } أي لأجل تسهيل طريق الملك الأعظم المتصف بجميع صفات الكمال .
ولما كان في سياق الترغيب ، قرن الخبر بالفاء إعلاماً بأن أعمالهم سببه{[59389]} فقال تعالى : { فلن يضل } أي يضيع ويبطل { أعمالهم * } لكونها غير تابعة لدليل بل يبصرهم بالأدلة ويوفقهم لاتباعها ، وهو معنى قوله تعالى تعليلاً : { سيهديهم . .