لا يرجون : لا يتوقعون حصولها .
أيام الله : تطلق على أيام الخير ، وأيام الشر .
ثم بعد ذلك أمر الله المؤمنين أن يتحلّوا بأحسنِ الأخلاق ، فطلب إليهم أن يصفَحوا عن الكافرين ويحتملوا أذاهم ، وعند الله جزاؤهم بقوله تعالى :
{ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }
يا أيها الذين آمنوا : تسلَّحوا بالصبر ، واغفِروا واصفَحوا تربحوا .
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : لنجزي بالنون . والباقون : ليجزي بالياء .
قوله تعالى : " قل للذين آمنوا يغفروا " جزم على جواب " قل " تشبيها بالشرط والجزاء كقولك : قم تصب خيرا . وقيل : هو على حذف اللام . وقيل : على معنى قل لهم اغفروا يغفروا ، فهو جواب أمر محذوف دل الكلام عليه . قاله علي بن عيسى واختاره ابن العربي . ونزلت الآية بسبب أن رجلا من قريش شتم عمر بن الخطاب فهم أن يبطش به . قال ابن العربي : وهذا لم يصح . وذكر الواحدي والقشيري وغيرهما عن ابن عباس أن الآية نزلت في عمر مع عبد الله بن أبي في غزوة بني المصطلق ، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها " المريسيع " فأرسل عبد الله غلامه ليستقي ، وأبطأ عليه فقال : ما حبسك ؟ قال : غلام عمر بن الخطاب قعد على فم البئر ، فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر ، وملأ لمولاه . فقال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سمن كلبك يأكلك . فبلغ عمر رضي الله عنه قوله ، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله ، فأنزل الله هذه الآية . هذه رواية عطاء عن ابن عباس . وروى عنه ميمون بن مهران قال : لما نزلت " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " {[13781]} [ البقرة : 245 ] قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص : احتاج رب محمد ! قال : فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج في طلبه ، فجاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن ربك يقول لك قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) . وأعلم أن عمر قد اشتمل عل سيفه وخرج في طلب اليهودي ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه ، فلما جاء قال : ( يا عمر ، ضع سيفك ) قال : يا رسول الله ، صدقت . أشهد أنك أرسلت بالحق . قال : ( فإن ربك يقول : قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) قال : لا جرم ! والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب في وجهي .
قلت : وما ذكره المهدوي والنحاس فهو رواية الضحاك عن ابن عباس ، وهو قول القرظي والسدي ، وعليه يتوجه النسخ في الآية . وعلى أن الآية نزلت بالمدينة أو في غزوة بني المصطلق فليست بمنسوخة . ومعنى " يغفروا " يعفوا ويتجاوزوا . ومعنى : " لا يرجون أيام الله " أي لا يرجون ثوابه . وقيل : أي لا يخافون بأس الله ونقمه . وقيل : الرجاء بمعنى الخوف ؛ كقوله : " ما لكم لا ترجون لله وقارا " {[13782]} [ نوح : 13 ] أي لا تخافون له عظمة . والمعنى : لا تخشون مثل عذاب الأمم الخالية . والأيام يعبر بها عن الوقائع . وقيل : لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه . وقيل : المعنى لا يخافون البعث . " ليجزي قوما بما كانوا يكسبون " قراءة العامة " ليجزي " بالياء على معنى ليجزي الله . وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر " لنجزي " بالنون على التعظيم . وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة " ليجزى " بياء مضمومة وفتح الزاي على الفعل المجهول ، " قوما " بالنصب . قال أبو عمرو : وهذا لحن ظاهر . وقال الكسائي : معناه ليجزي الجزاء قوما ، نظيره : " وكذلك نجي المؤمنين " على قراءة ابن عامر وأبي بكر في سورة " الأنبياء " {[13783]} . قال الشاعر :
ولو وَلَدت قُفيرة جرو كلب *** لَسُبَّ بذلك الجروِ الكلابا{[13784]}
ولما علمت دلائل التوحيد على وجه علم منه أنه قد بسط نعمه على جميع خلقه طائعهم وعاصيهم ، فعلمت بواسطة ذلك الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة ، وكان على المقبل عليه المحب له-{[58009]} التخلق بأوصافه ، أنتج قوله مخاطباً لأفهم خلقه عنه وأطوعهم له الذي الأوامر إنما هي له من شدة طواعته تكوين لا تكليف{[58010]} : { قل } أي بقالك وحالك { للذين آمنوا } أي ادعوا التصديق بكل ما جاءهم من الله : اغفروا تسنناً{[58011]} به من أساء إليكم . ولما كان هذا الأمر في الذروة من اقتضاء الإحسان إلى المسيء فكيف بالصفح عنه ، كان كأنه علة مستقلة في الإقبال عليه والقبول منه والإعراض عن مؤاخذة المسيء ، فإن ذلك يقدح في كمال الإقبال عليه مع أن من كان يريد هو سبحانه الانتقام منه فهو يكفي أمره ، ومن{[58012]} لم يرد ذلك منه فلا{[58013]} حيلة في كفه بوجه فالاشتغال{[58014]} به عبث فنبه على ذلك بأن جعل جواب الأمر قوله : { يغفروا } أي يستروا ستراً بالغاً .
ولما كان العاقل من سعى جهده في نفع نفسه ، وكان الأذى لعباد الله مظنة لتوقع الغضب منه وقادحاً فيما يرجى من إحسانه قال : { للذين } وعبر في موضع { أساؤوا إليهم } بقوله تعالى : { لا يرجون } أي حقيقة ومجازاً ، والتعبير في موضع الخوف بالرجاء لما فيه من الاستجلاب والترغيب والتأليف والاستعطاف ، وقال بعد ما نبه عليه-{[58015]} بتلك العبارة من جليل الإشارة : { أيام الله } أي مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال في{[58016]} الأمم الخالية بإدالة الدول تارة لهم وأخرى عليهم ، وفيه أعظم ترغيب{[58017]} في الحث على الغفران للموافق{[58018]} في الدين ، وتنبيه على أنه لا يقدم على الإساءة إلى{[58019]} عبيده إلا من أعرض عنه ، فصار حاله حال الآئس من صنائعه{[58020]} سبحانه في جزائه للمسيء والمحسن في الأيام والليالي ، وعبر بالاسم الشريف تنبيهاً على ما له من الجلال والجمال في معاملة كل منهما ، قال ابن-{[58021]} برجان : وهذه الآية وشبهها من النسي المذكور في قوله تعالى
{ ما ننسخ من آية أو ننسها{[58022]} }[ البقرة : 106 ] وليس بنسخ بل هو حكم يجيء{[58023]} ويذهب بحسب القدرة على الانتصار ، وكان ينزل مثل هذا بمكة والمسلمون في ضعف ، ونزل بعد الهجرة آية الجهاد والأمر بالمعروف ، وتركت{[58024]} هذه وأمثالها مسطورة في القرآن{[58025]} لما عسى أن يدور من دوائر أيام الله ومن أيامه إزالة أهل الكفر تنبيهاً للمسلمين ليراجعوا أمرهم ويصلحوا ما بينهم وبين ربهم{[58026]} .
ولما كان من قوصص على جنايته في الدنيا ، سقط {[58027]}عنه أمرها{[58028]} في الآخرة ، وكان المسلط للجاني في الحقيقة إنما هو الله تعالى وكان تسليطه إياه لحكم بالغة تظهر غاية الظهور في الآخرة ، علل الأمر بالغفران مهدداً{[58029]} للجاني ومسلياً للمجني عليه : { ليجزي } أي الله في قراءة الجماعة{[58030]} بالتحتانية والبناء للفاعل ، ونحن بما لنا من العظمة في قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون ، وبناه أبو جعفر للمفعول فيكون النائب عن الفاعل الخير أو الشر{[58031]} بتقدير حرف الجر لجزائهم في الدنيا وفي الآخرة حيث يظهر الحكم وينجلي الظلم .
ولما كان ربما جوزي جميع الجناة ، وربما عفي عن بعضهم بالتوبة عليه أو غيرها تفضلاً لحكم أخرى ويثاب المظلوم على ظلامته لمثل{[58032]} ذلك قال : { قوماً } أي من الجناة وإن كانوا في غاية العلو الكبرياء{[58033]} والجبروت ومن المجني عليهم وإن كانوا في غاية الضعف { بما } أي بسبب الذي { كانوا } أي في جبلاتهم وأبرزوه إلى الخارج { يكسبون * } أي يفعلون على ظن أنه ينفعهم أو بسبب كسبهم من خير أو شر ، والحاصل أنه تعالى يقول : أعرض عمن ظلمك ، وكل أمره إليّ فإني لا أظلمك {[58034]}ولا أظلم{[58035]} أحداً ، فسوف أجزيك على صبرك ، أجزيه على بغيه وأنا قادر ، وأفادت قراءة أبي جعفر{[58036]} الإبلاغ في تعظيم الفاعل و-{[58037]} أنه معلوم ، وتعظيم ما أقيم مقامه وهو الجزاء بجعله عمدة مسنداً إليه ؛ لأن عظمته على حسب ما أقيم مقامه ، فالتقدير لكون الفعل يتعدى إلى مفعولين كما قال تعالى ( وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً }[ الدهر : 12 ] ليجزي الملك الأعظم الجزاء الأعظم من الخير للمؤمن والشر للكافر قوماً ، فجعل الجزاء كالفاعل وإن-{[58038]} كان مفعولاً كما جعل " زيد " فاعلاً في مات زيد وإن كان مفعولاً في المعنى : تنبيهاً على عظيم تأثير الفعل فإنه لا انفكاك عنه ؛ لأنه يجعل متمكناً من المجزي تمكن المجزي-{[58039]} من جزائه ومحيصاً به ؛ لأن الله تعالى{[58040]} بعظيم قدرته يجعل عمل الإنسان نفسه جزاء له ، قال الله تعالى{ سيجزيهم وصفهم }[ الأنعام : 139 ] بما{[58041]} كانوا يعملون ، ويجوز أن يكون النائب عن الفاعل ضمير " الذين " بالنظر إلى لفظه فيكون المعنى : سيجزي الذين آمنوا ناساً كانوا أقوياء على القيام في أذاهم بسبب أذاهم لهم-{[58042]} فيجعل كلاًّ{[58043]} منهم فداء لكل منهم من النار ، وربما{[58044]} رأوا بعض آثار ذلك في الدنيا . روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً{[58045]} بعفو إلا عزاً ، وما تواضع أحد إلا رفعه الله عز وجل " ولأحمد والترمذي واللفظ له وقال حسن صحيح{[58046]} عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه : ما نقص مال عبد{[58047]} من صدقة ، وما ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً ، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله باب فقر " - أو كلمة نحوها ، وروى الحاكم وصحح إسناده ، قال المنذري : وفيه انقطاع عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : " من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه{[58048]} " .
قوله : { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } { يغفروا } مجزوم ، لأنه جواب أمر محذوف وتقديره : قل لهم اغفروا يغفروا .
وفي هذه الآية يأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول للمؤمنين الذين صدقوه واتبعوا ما أنزل إليه من ربه ، ليغفروا للذين لا يؤمنون بالآخرة ولا يخشون بأس ربهم وانتقامه إذا هم نالوهم بالأذى والمكروه ، أي ليصفحوا عنهم ويحتملوا منهم الأذى ويصبروا على إساءاتهم . وكان هذا في ابتداء الإسلام إذ كان المسلمون مأمورين بالصبر على الشدائد والمكاره من المشركين وأهل الكتاب حتى أذن الله لهم بالجهاد فجاهدوا ، وبذلك فإن حكم هذه الآية منسوخ بآيات القتال .
قوله : { ليجزي قوما بما كانوا يكسبون } الجملة لتعليل الأمر بالمغفرة . والمراد بالقوم ، المؤمنون ، فقد أمرهم الله أن يغفروا للمشركين فيصفحوا عن إساءاتهم لهم ليجزيهم الله بما كسبوا في الدنيا من صالح الأعمال ، وذلك كصبرهم على أذى الكافرين واحتمال إساءاتهم ، وشرورهم .