الحمية : الأنَفَة ، والعصبيّة . وحمية الجاهلية : حمية في غير موضعها لا يؤيدها دليل ولا برهان .
كلمة التقوى : هي لا اله إلا الله ، والسير على هدى الإسلام .
فهؤلاء قد جعلوا في قلوبهم أنَفَة الجاهلية ، لذا أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وألزمهم كلمة التقوى ( يعني العملَ بالتقوى ) وضبْط النفس ، فقبلوا الصلح في الحديبية على الرغم من كبرياء المشركين وحَمِيّتهم وعتوّهم .
قوله تعالى : " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية " العامل في " إذ " قوله تعالى : " لعذبنا " أي لعذبناهم إذ جعلوا هذا . أو فعل مضمر تقديره واذكروا . " الحمية " فعيلة وهي الأنفة . يقال : حميت عن كذا حمية ( بالتشديد ) ومحمية إذا أنفت منه وداخلك عار وأنفة أن تفعله . ومنه قول المتلمس :
ألا إنني منهم وعِرْضِي عرضهم *** كذي الأنف يحمِي أنفَهُ أن يُكَشَّمَا{[14027]}
أي يمنع . قال الزهري : حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم ، ومنعهم من دخول مكة . وكان الذي امتنع من كتابة بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله : سهيل بن عمرو ، على ما تقدم . وقال ابن بحر : حميتهم عصبيتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى ، والأنفة من أن يعبدوا غيرها . وقيل : " حمية الجاهلية " إنهم قالوا : قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا في منازلنا ، واللات والعزى لا يدخلها أبدا . " فأنزل الله سكينته " أي الطمأنينة والوقار . " على رسوله وعلى المؤمنين " وقيل : ثبتهم على الرضا والتسليم ، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل قلوب أولئك من الحمية .
قوله تعالى : " وألزمهم كلمة التقوى " قيل : لا إله إلا الله . روي مرفوعا من حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهو قول علي وابن عمر وابن عباس ، وعمرو بن ميمون ومجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك ، وسلمة بن كهيل وعبيد بن عمير وطلحة بن مصرف ، والربيع والسدي وابن زيد . وقال عطاء الخرساني ، وزاد " محمد رسول الله " . وعن علي وابن عمر أيضا هي لا إله إلا الله والله أكبر . وقال عطاء بن أبي رباح ومجاهد أيضا : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . وقال الزهري : بسم الله الرحمن الرحيم . يعني أن المشركين لم يقروا بهذه الكلمة ، فخص الله بها المؤمنين . و " كلمة التقوى " هي التي يتقى بها من الشرك . وعن مجاهد أيضا أن " كلمة التقوى " الإخلاص . " وكانوا أحق بها وأهلها " أي أحق بها من كفار مكة ، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه . " وكان الله بكل شيء عليما " .
{ إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية } يعني : أنفة الكفر وهي منعهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن العمرة ومنعهم من أن يكتب في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم ومنعهم من أن يكتب محمد رسول الله وقولهم لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك والعامل في إذ جعل محذوف تقديره اذكر أو قوله : { لعذبنا } و{ السكينة } هي سكون المسلمين ووقارهم حين جرى ذلك .
{ وألزمهم كلمة التقوى } قال الجمهور : هي لا إله إلا الله وقد روي : ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لا إله إلا الله محمد رسول الله وقيل : لا إله إلا الله والله أكبر ، وهذه كلها متقاربة وقيل : هي بسم الله الرحمن الرحيم التي أبى الكفار أن تكتب .
{ وكانوا أحق بها وأهلها } أي : كانوا كذلك في علم الله وسابق قضائه لهم وقيل : أحق بها من اليهود والنصارى .
ولما بين شرط استحقاقهم للعذاب ، بين وقته ، وفيه بيان لعلته ، فقال : { إذ } أي حين { جعل الذين كفروا } أي ستروا ما ترآى من الحق في مرأى عقولهم { في قلوبهم } أي قلوب أنفسهم { الحمية } أي المنع الشديد والأنفة والإباء الذي هو في شدة حره ونفوذه في أشد الأجسام كالسم والنار ، ولما كان مثل هذه الحمية قد تكون موجبة للرحمة بأن تكون لله ، قال مبيناً معظماً لجرمها ، { حمية الجاهلية } التي مدارها مطلق المنع{[60458]} أي سواء كان بحق أو بباطل ، فتمنع من الإذعان للحق ، ومبناها التشفي{[60459]} على مقتضى الغضب لغير الله فتوجب{[60460]} تخطي حدود الشرع ، {[60461]}ولذلك{[60462]} أنفوا من دخول المسلمين مكة المشرفة لزيارة البيت العتيق-{[60463]} الذي الناس فيه سواء ، ومن الإقرار بالبسملة ، فأنتجت لهم هذه الحمية أن تكبروا عن كلمة التقوى وطاشوا وخفوا إلى الشرك الذي هو أبطل الباطل .
ولما كانت هذه الحمية مع الكثرة موجبة ولا بد ذل من تصوب إليه ولا سيما إن كان قليلاً ، بين دلالة على أن الأمر تابع لمشيئته لا لجاري العادة أنه تأثر عنها ضد ما تقتضيه عادة ، فقال مسبباً عن هذه الحمية : { فأنزل الله } أي الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء بسبب{[60464]} حميتهم { سكينته } أي الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله و{[60465]}الروح الموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدو والنصر عليه ، إنزالاً كائناً { على رسوله } صلى الله عليه وسلم{[60466]} الذي عظمته من عظمته ، ففهم عن الله مراده في هذه القضية فجرى على أتم ما يرضيه { وعلى المؤمنين } رضي الله تعالى عنهم{[60467]} العريقين في الإيمان لأنهم أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وأنصار دينه فألزمهم قبول أمره الذي فهمه عن الله وخفي عن أكثرهم حتى فهمتموه-{[60468]} صلى الله عليه وسلم عند نزول سورة الفتح وحماهم عن همزات الشياطين ، ولم يدخلهم ما دخل الكفار من الحمية ليقاتلوا غضباً لأنفسهم فيتعدوا حدود الشرع { وألزمهم } أي المؤمنين إلزام إكرام أو تشريف ، لا إلزام إهانة وتعنيف { كلمة التقوى } وهي كل قول أو فعل ناشىء عن التقوى وإعلاء كلمة الإخلاص المتقدم في سورة القتال وهي لا إله إلا الله التي هي أحق الحق ، يقتضي التحقق بمدلولها من أنه لا فاعل إلا الله الثبات على كل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبسملة والرسالة مع تغيير الكتابة بكل منهما لأجل الكفار في ذلك المقام الدحض الذي لا يكاد يثبت فيه قدم ، وأضافها إلى التقوى التي هي اتخاذ ساتر يقي حر النار فجعلها وصفاً لازماً لهم غير منفك عنهم لأنها سببها الحامل عليها ، ويجمع الحامل على التقوى اعتقاد الوحدانية وهي لا إلا الله{[60469]} فإنها كلمة - كما قال الرازي - أولها نفي الشرك وآخرها تعلق بالإلهية ، وهذا من أعلام النبوة ، فإن أهل الحديبية الذين ألزموا هذه الكلمة ماتوا كلهم على الإسلام { وكانوا } أي جبلة وطبعاً .
ولما كان من الكفار من يستحقها في علم الله فيصير مؤمناً ، عبر فأفعل التفضيل فقال تعالى : { أحق بها } أي كلمة التقوى من الكفار والأعرب وغيرهم من جميع الخلق ، ولمثل هذا التعميم{[60470]} أطلق الأمر بحذف المفضل عليه{[60471]} . ولما كان الأحق بالشيء قد لا يكون أهله من أول الأمر قال تعالى : { وأهلها } أي ولاتها والملازمون لها ملازمة العشير بعشيره والدائنون لها والآلفون لها . ولما كان الحكم بذلك لا يكون إلا لعالم قال عاطفاً على ما تقديره : لما علم الله من صلاح قلوبهم وصفائها : { وكان الله } أي المحيط {[60472]}بالكائنات كلها{[60473]} علماً وقدرة { بكل شيء } من ذلك وغيره{[60474]} { عليماً * } أي محيط العلم{[60475]} {[60476]}الدقيق والجلي{[60477]} ، والآية من الاحتباك : ذكر حمية الجاهلية أولاً دليلاً على ضدها ثانياً ، وكلمة التقوى ثانياً دليلاً على ضدها أولاً ، وسره أنه ذكر مجمع الشر أولاً ترهيباً منه ومجمع الخير ثانياً ترغيباً فيه .