ذلولا : سهلة منقادة يسهل عليكم السير فيها ، والانتفاع بها وبما فيها .
ثم عدّد بعضَ ما أنعم علينا ، فذكر أنه عبَّدَ لنا هذه الأرضَ وذلّلها ، وهيّأها لنا ، فيها منافعُ عديدةٌ من زروع وثمارٍ ومعادن ، وما أعظمَها من نِعم . ثم قال : { فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور }
تمتعوا بهذهِ النعمِ ، ثم إلى ربّكم مرجُكم يومَ القيامة .
ففي الآية الكريمة حثٌّ على العمل ، والكسب في التجارة والزراعة والصناعة ، وجميع أنواع العمل ، وفي الحديث : أن عمر بن الخطاب مرّ على قوم فقال لهم : من أنتم ؟ فقالوا : المتوكّلون ، قال : بل أنتم المتواكلون ، إنما المتوكلُ رجلٌ ألقى حَبَّه في بطن الأرضِ وتوكّل على الله عز وجل .
{ 15 } { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }
أي : هو الذي سخر لكم الأرض وذللها ، لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم ، من غرس وبناء وحرث ، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية والبلدان الشاسعة ، { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } أي : لطلب الرزق والمكاسب .
{ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } أي : بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحانًا ، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة ، تبعثون بعد موتكم ، وتحشرون إلى الله ، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة .
{ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً } سهلة لا يمتنع المشي فيها بالحزونة ، { فامشوا في مناكبها } قال ابن عباس وقتادة : في جبالها ، وقال الضحاك : في آكامها . وقال مجاهد : في طرقها وفجاجها . قال الحسن : في سبلها . وقال الكلبي : في أطرافها . وقال مقاتل : في نواحيها . وقال الفراء : في جوانبها ، والأصل في الكلمة الجانب ، ومنه منكب الرجل ، والريح النكباء ، وتنكب فلان . { وكلوا من رزقه } مما خلقه رزقاً لكم في الأرض . { وإليه النشور } أي : وإليه تبعثون من قبوركم .
ولما كان ذلك أمراً غامضاً ، دل عليه بأمر مشاهد أبدعه بلطفه ، وأتقنه بخبرته ، لاستدعاء الشكر من عباده على ما أبدع لهم ، ومنََََ عليهم{[66924]} به من النعم الباهرة التي بها قوامهم{[66925]} ، ولولاه لما كان لهم بقاء فقال مستأنفاً : { هو } أي وحده { الذي جعل لكم } لتتوصلوا إلى ما ينفعكم{[66926]} { الأرض } على سعتها وعظمها{[66927]} وحزونة كثير منها { ذلولاً } أي مسخرة لا تمتنع ، قابلة للانقياد لما تريدون{[66928]} منها من مشي ، وإنباط مياه ، وزرع حبوب ، وغرس أشجار ، وغير ذلك ، غاية الانقياد ، بما تفهمه صيغة المبالغة ، مع أن فيها أماكن خوارة تسوخ فيها الأرجل ، ويغوص فيها ما خالطها ، ومواضع مشتبكة بالأشجار يتعذر أو يتعسر سلوكها ، وأماكن {[66929]}ملأى سباعاً وحيات{[66930]} وغير ذلك من الموانع ، وأماكن هي جبال شاهقة ، إما يتعذر سلوكها كجبل السد بيننا وبين ياجوج وماجوج{[66931]} ، ورد في الحديث أنه تزلق عليه الأرجل ولا تثبت ، أو يشق سلوكها ، ومواطن{[66932]} هي بحور عذبة أو ملحة ، فلو شاء لجعلها كلها كذلك ليكون بحيث لا يمكن الانتفاع بها ، فما قسمها إلى سهول وجبال ، وبرور وبحور ، وأنهار وعيون ، وملح وعذب ، وزرع وشجر ، وتراب وحجر ، ورمال ومدر ، وغير ذلك ، إلا لحكمة بالغة وقدرة باهرة ، لتكون قابلة لجميع ما تريدون منها ، صالحة لسائر ما ينفعكم فيها{[66933]} .
ولما كان معنى التذليل ما تقدم ، سبب عنه قوله تمثيلاً لغرض التذليل ، لأن منكبي البعير وملتقاهما من الغاربين أرق{[66934]} شيء وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه : { فامشوا } أي{[66935]} الهوينا مكتسبين وغير مكتسبين إن شئتم ، من غير صعوبة توجب لكم وثباً أو حبواً { في مناكبها } أي أماكنها التي هي لولا تسهيلنا لمناكب الحيوانات لكانوا{[66936]} ينتكبون عن الوقوف عليها ، فكيف بالمشي ، و{[66937]}قال ابن عباس رضي الله عنهما{[66938]} : إنها{[66939]} الجبال - لأن تذليلها أدل دليل{[66940]} على تذليل غيرها ، وليكن مشيتكم فيها وتصرفكم بذل وإخبات وسكون{[66941]} استصغاراً لأنفسكم ، وشكراً لمن سخر لكم ذلك - {[66942]}والله الهادي{[66943]} .
ولما ذكر سبحانه أنه يسرها للمشي ، ذكرهم بأنه سهلها لإخراج الخيرات والبركات فقال : { وكلوا } ودل على أن الرزق فوق الكفاية{[66944]} بقوله : { من رزقه } أي الذي أودعه لكم فيها ، وأمكنكم من إخراجه بضد ما تعرفون{[66945]} من أحوالكم ، فإن الدفن في الأرض مما يفسد المدفون ويحيله إلى جوهرها ، كما يكون لمن قبرتموه فيها ، ومع ذلك فأنتم تدفنون الحب وغيره مما ينفعكم ، فيخرجه لكم سبحانه على أحسن ما تريدون ، ويخرج لكم{[66946]} من{[66947]} الأقوات والفواكه والأدهان والملابس ما تعلمون ، وكذلك النفوس هي صعبة كالجبال ، وإن قدتها للخير انقادت لك ، كما قيل " هي النفس ما{[66948]} عودتها تتعود " .
ولما كان التقدير للبعث على الشكر والتحذير{[66949]} من الكفر : واعبدوه جزاء على إحسانه إليكم وتربيته لكم . فمنه مبدأ{[66950]} جميع ذلك ، عطف عليه ما يدعو إلى الحياء من السيد ، والخجل من توبيخه عند لقائه فقال : { وإليه } أي وحده { النشور * } وهو إخراج جميع الحيوانات التي أكلتها الأرض وأفسدتها ، يخرجها في الوقت الذي يريده على ما كان كل منها عليه{[66951]} عند الموت كما أخرج تلك الأرزاق ، لا فرق بين هذا وذاك ، غير أنكم لا تتأملون فيسألكم{[66952]} عما كنتم تعملون ، فيا فوز من شكر ، ويا هلاك من كفر ، فإن هذا أبعث شيء على الشكر ، وأشد شيء إبعاداً عن العصيان لا سيما الكفر ، لما قرر من حاجة الإنسان ، و{[66953]}الإحسان إليه{[66954]} بأنواع الإحسان .