تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون ، نزلت بعد سورة الأعراف . لقد سمى الله تعالى سور كتابه الكريم بأسماء تبعث على النظر والاعتبار وتوجب التفكير ، فسمى بالأنعام وببعضها كالبقرة ، وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت ، وبما هو ألطف من ذلك كالنور . كما سمى ببعض الأنبياء كيونس ويوسف وهود ومحمد ، وببعض الأخلاق كالتوبة ، وببعض الكواكب كالشمس والنجم والقمر ، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى ، وببعض المعادن كالحديد ، وببعض الأماكن كالبلد ، وببعض النبات كالتين ، وبكل شيء مما نراه وما لا نراه .

وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه وهو عالم الجن . وهو عالم لم يُعرف في الإسلام إلا من طريق الوحي ، وليس للعقل دليل عليه . ولقد أصبحت هذه العوالم المستترة عنا الشغل الشاغل اليوم للعلماء والباحثين ، فصار علماء أوروبا يدرسون في مباحث عالم الجن وعالم الأرواح ، ويحاولون أن يطلعوا على غوامض هذه العوالم . ونُقل عن كثير منهم أنهم تحدثوا مع أرواح أصحابهم الذين ماتوا ، وعن اتصال العالم الإنسي بالعالم الجني ، وبعالم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة .

فإذا سمى الله هذه السورة بهذا الاسم فمعناه أنه أعطى هذا العالم الخفي عنايته وسمى السورة باسمه ، كما اعتنى بالحديد ، وهو نوع من المعادن . وهكذا توجهت عنايته إلى النور وأنواع الحيوان والنبات والأوقات المختلفة ، وبكل شيء نراه وما لا نراه ، لنجدّ في البحث عن المعادن كلها ، وعن حساب الزمان ، ونُعنى بالعلوم العناية اللائقة المفيدة .

وقد أفاض الأستاذ طنطاوي جوهري رحمه الله في كتابه " الجواهر " في هذا الموضوع وأطال ونقل أشياء كثيرة من محاولات الأوروبيين وبحوثهم في هذا الموضوع وقال إنه ألّف كتابا سماه " كتاب الأرواح " ذكر فيه ما جرّبه القوم في أوروبا ، وكيف أحضروا الأرواح ، وما الشروط وما الواجب على الإنسان في ذلك ، وما فوائد هذا العلم ومضارّه .

ونقل نبذة من خطبة " السير : أوليفر لودج " ، وهو من أشهر علماء الطبيعة في هذا العصر في بلاد الإنجليز ، إذ أكد في مجمع من كبار العلماء أنه حادث الأموات ، وأن هناك عقولا أسمى من عقولنا في عالم الأرواح ، وأنهم يهتمون بنا ، وأن إخوانه من الجمعية الروحية الذين ماتوا كلموه بعد موتهم وبرهنوا له ببراهين قاطعة أنهم هم الذين يكلمونه . وقال : إن ما يقوله الأنبياء عن عالم الأرواح وعن الله حق بلا تأويل . وقال إنه اشتغل بهذا الفن ثلاثين سنة فله الحق أن يحكم بما يقول . ومن أراد الزيادة فليرجع إلى تفسير " الجواهر " للمرحوم الشيخ طنطاوي جوهري .

وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على حكاية أقوال الجن وما يتعلق بهم ، وأنهم سمعوا كتابا بديعا ، هو القرآن ، يهدي إلى الصواب فآمنوا به وتركوا الشرك . وأن الله تعالى لم يتخذ زوجة ولا ولدا كما يقول السفهاء منهم على الله شططا . وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه . . وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون برجال من الجن فزاد الجن الإنس ضلالا باستعاذتهم بهم . . وأن الجن ظنوا مثل بعض الإنس أنه لن يبعث الله أحدا . . وأنهم طلبوا خبر العالم العلوي المعبَّر عنه بالسماء فمُنعوا . . وأن الجن كانوا يقعدون مقاعد خالية ليتمكنوا من السمع ، فمنِعوا الآن برجم الشهُب لهم ، وأنهم لا يدرون : { أشرّ أريدَ بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } . وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار ، وأنهم علموا أنهم لن يفرّوا من أمر الله إن أراد بهم أمرا على هذه الأرض ، وأنهم حين سمعوا الهدى آمنوا به . . { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا } . وأنهم فريقان : مسلمون ، وجائرون ، فالمسلم قصد طريق الحق وتوخاه ، أما الجائر فإنه يكون { لجهنم حطبا } . وأن الإنس والجن إذا استقاموا على الطريقة المثلى وسّع الله عليهم رزقهم واختبرهم به .

وأن المساجد لله ، فعلى من يدخلها أن يُخلص لله فيها ولا يشرك به أحدا . وأنه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله كاد الجن يكونون جماعات ملتفة حوله من ازدحامهم عليه تعجبا مما رأوا من عباراته وسمعوا من قراءته .

ثم تُختم السورة بتوجيهات علوية إلى الرسول الكريم والمؤمنين ، وأنّ علم الساعة عند الله وحده وهو { عالم الغيب فلا يُظهر على غيه أحدا ، إلا من ارتضى من رسول . . . . } .

وأنه تعالى { أحصى كل شيء عددا } مما خلق ، وعرفه فلا يغيب عنه شيء .

النفر : ما بين الثلاثة والعشرة .

عجبا : عجيبا بديعا لا يشبهه شيء من كلام الناس .

قل يا محمد لأمتك : أوحى اللهُ إليَّ أنه استمعَ إلى تلاوة القرآنِ جماعةٌ من الجنِّ فدُهِشوا من عَظَمتِه وبلاغته فقالوا لقومهم : إنّا سَمِعْنا قرآناً بديعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ ، فدُهِشوا من عَظَمته وبلاغته فقالوا لقومهم : إنّا سَمِعْنا قرآناً بديعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة قل أوحي إلي [ وهي ] مكية

{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا }

أي : { قُلْ } يا أيها الرسول للناس { أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } صرفهم الله [ إلى رسوله ] لسماع آياته لتقوم عليهم الحجة [ وتتم عليهم النعمة ] ويكونوا نذرا{[1243]}  لقومهم . وأمر الله رسوله أن يقص نبأهم على الناس ، وذلك أنهم لما حضروه ، قالوا : أنصتوا ، فلما أنصتوا فهموا معانيه ، ووصلت حقائقه إلى قلوبهم ، { فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } أي : من العجائب الغالية ، والمطالب العالية .


[1243]:- في ب: منذرين لقومهم.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الجن

مكية وآياتها ثمان وعشرون

{ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } وكانوا تسعة من جن نصيبين . وقيل سبعة استمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ذكرنا خبرهم في سورة الأحقاف ، { فقالوا } لما رجعوا إلى قومهم : { إنا سمعنا قرآناً عجباً } قال ابن عباس : بليغاً ، أي : قرآناً ذا عجب يعجب منه لبلاغته .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

مكية وهي عشرون وثمان آيات

{ قل أوحي إلي } أي أخبرت بالوحي من الله إلي { أنه استمع نفر من الجن } وذلك أن الله تعالى بعث نفرا من الجن ليستمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الصبح ببطن نخلة وهؤلاء الذين ذكرهم الله في سورة الأحقاف في قوله { وإذ صرفنا إليك نفرا } الآية فلما رجعوا إلى قومهم قالوا { إنا سمعنا قرآنا عجبا } في فصاحته وبيانه وصدق إخباره

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول الجميع . وهي ثمان وعشرون آية .

فيه خمس مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " قل أوحي إلي " أي قل يا محمد لأمتك : أوحى الله إلي على لسان جبريل " أنه استمع " إلي " نفر من الجن " وما كان عليه السلام عالما به قبل أن أوحى إليه . هكذا قال ابن عباس وغيره على ما يأتي . وقرأ ابن أبي عبلة " أحِي " {[15416]} على الأصل ، يقال أوحَى إليه ووحَى ، فقلبت الواو همزة ، ومنه قوله تعالى : " وإذا الرسل أقتت " [ المرسلات : 11 ] وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة . وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح{[15417]} وإسادة وإدعاء أخيه ونحوه .

الثانية- واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ فظاهر القرآن يدل على أنه لم يرهم ؛ لقوله تعالى : " استمع " ، وقوله تعالى : " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " [ الأحقاف : 29 ] . وفي صحيح مسلم والترمذي{[15418]} عن ابن عباس قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ! قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة{[15419]} عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ؛ فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء . فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا : " إنا سمعنا قرآنا عجبا{[15420]} . يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم : " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن " : رواه الترمذي عن ابن عباس قال : قول الجن لقومهم : " لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا " قال : لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال{[15421]} : تعجبوا من طواعية أصحابه له ، قالوا لقومهم : " لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا " [ الجن : 19 ] . قال : هذا حديث حسن صحيح ، ففي هذا الحديث دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن ولكنهم حضروه ، وسمعوا قراءته . وفيه دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب . وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا .

وقيل لهم شياطين كما قال : " شياطين الإنس والجن " [ الأنعام : 112 ] فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله . وفي الترمذي عن ابن عباس قال : كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، فأما الكلمة فتكون حقا ، وأما ما زادوا فيها{[15422]} ، فيكون باطلا . فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك ، فقال لهم إبليس : ما هذا الأمر{[15423]} إلا من{[15424]} أمر قد حدث في الأرض ! فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين - أراه قال بمكة - فأتوه فأخبروه فقال : هذا الحديث{[15425]} الذي حدث في الأرض . قال : هذا حديث حسن صحيح . فدل هذا الحديث على أن الجن رموا كما رميت الشياطين . وفي رواية السدي : أنهم لما رموا أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم فقال : ايتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال : صاحبكم بمكة . فبعث نفرا من الجن ، قيل : كانوا سبعة . وقيل : تسعة منهم زوبعة . وروى عاصم عن زر : أنهم كانوا سبعة نفر ، ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين . وحكى جويبر عن الضحاك : أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين ( قرية باليمن غير التي بالعراق{[15426]} ) . وقيل : إن الجن الذين أتوا مكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوى . وقد مضى بيان هذا في سورة ( الأحقاف{[15427]} ) . قال عكرمة : والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ باسم ربك " [ العلق : 1 ] وقد مضى في سورة " الأحقاف " التعريف باسم النفر من الجن ، فلا معنى لإعادة ذلك . وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن ليلة الجن وهو أثبت ، روى عامر الشعبي قال : سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا استطير{[15428]} أو اغتيل ، قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبح إذا هو يجيء من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله ! فقدناك وطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فقال : ( أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ) فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة ، فقال : ( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة علف لدوابكم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بهما ، فإنهما طعام إخوانكم الجن ) قال ابن العربي : وابن مسعود أعرف من ابن عباس ؛ لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة . وقد قيل : إن الجن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعتين : إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود ، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس . قال البيهقي : الذي حكاه عبد الله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود قال البيهقي : والأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، وإنما سار معه حين انطلق به وبغيره يريه آثار الجن وآثار نيرانهم . قال : وقد روي من غير وجه أنه كان معه ليلتئذ ، وقد مضى هذا المعنى في سورة " الأحقاف " والحمد لله . روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي ؟ ) فسكتوا ، ثم قال الثانية ، ثم قال الثالثة ، ثم قال عبد الله بن مسعود : أنا أذهب معك يا رسول الله ، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب{[15429]} فخط علي خطا فقال : ( لا تجاوزه ) ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون{[15430]} الحجارة بأقدامهم ، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها ، حتى غشوه فلا أراه ، فقمت فأومى إلي بيده أن أجلس ، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم ، فلما انفتل إلي قال : ( أردت أن تأتيني ) ؟ قلت : نعم يا رسول الله . قال : ( ما كان ذلك لك ، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن ، ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر ) .

قال عكرمة : وكانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل . وفي رواية : انطلق بي عليه السلام حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطا ، فأتاه نفر منهم فقال أصحابنا كأنهم رجال الزط{[15431]} وكأن وجوههم المكاكي{[15432]} ، فقالوا : ما أنت ؟ قال : ( أنا نبي الله ) قالوا : فمن يشهد لك على ذلك ؟ قال : ( هذه الشجرة ) فقال : ( يا شجرة ) فجاءت تجر عروقها ، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه ، فقال : ( على ماذا تشهدين ) قالت : أشهد أنك رسول الله . فرجعت كما جاءت تجر بعروقها الحجارة ، لها قعاقع حتى عادت كما كانت .

ثم روى أنه عليه السلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ فقال : ( هل من وضوء ) قال : لا ، إلا أن معي إداوة فيها نبيذ . فقال : ( هل هو إلا تمر وماء ) فتوضأ منه .

الثالثة- قد مضى الكلام في الماء في سورة " الحجر " {[15433]} وما يستنجى به في سورة " براءة " {[15434]} فلا معنى للإعادة .

الرابعة- واختلف أهل العلم ، في أصل الجن ، فروى إسماعيل عن الحسن البصري : أن الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثواب والعقاب . فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان . وروى الضحاك عن ابن عباس : أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ، وهم يؤمنون ، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس . واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة ، على حسب الاختلاف في أصلهم . فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال : يدخلون الجنة بإيمانهم . ومن قال : إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان : أحدهما : وهو قول الحسن يدخلونها . الثاني : وهو رواية مجاهد لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار . حكاه الماوردي . وقد مضى في سورة " الرحمن " {[15435]} عند قوله تعالى : " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " [ الرحمن : 56 ] بيان أنهم يدخلونها .

الخامسة- قال البيهقي في روايته : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال : ( لكم كل عظم ) دليل على أنهم يأكلون ويطعمون . وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن ، وقالوا : إنهم بسائط ، ولا يصح طعامهم ؛ اجتراء على الله وافتراء ، والقرآن والسنة ترد عليهم ، وليس في المخلوقات بسيط مركب مزدوج ، إنما الواحد الواحد{[15436]} سبحانه ، وغيره مركب وليس بواحد كيفما تصرف حاله . وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة . وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات ، ففي الموطأ : أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار أن يرجع إلى أهله . . . الحديث ، وفيه : فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها . وذكر الحديث . وفي الصحيح أنه عليه السلام قال : ( إن لهذه البيوت عوامر ، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر ) . وقال : ( اذهبوا فادفنوا صاحبكم{[15437]} ) وقد مضى هذا المعنى في سورة " البقرة " {[15438]} وبيان التحريج عليهن . وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة ؛ لقوله في الصحيح : ( إن بالمدينة جنا قد أسلموا ) . وهذا لفظ مختص بها فيختص بحكمها . قلنا : هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها ؛ لأنه لم يعلل بحرمة المدينة ، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها ، وإنما علل بالإسلام ، وذلك عام في غيرها ، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذي لقي : ( وكانوا من جن الجزيرة ) ؛ وهذا بين يعضده قوله : ( ونهى عن عوامر البيوت ) وهذا عام . وقد مضى في سورة ( البقرة ) القول في هذا فلا معنى للإعادة .

قوله تعالى : " فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا " أي في فصاحة كلامه . وقيل : عجبا في بلاغة مواعظه . وقيل : عجبا في عظم بركته . وقيل : قرآنا عزيزا لا يوجد مثله . وقيل : يعنون عظيما .


[15416]:في الأصول (وحى)، والصواب ما أثبتناه، وهو موافق لما جاء في (تاج العروس: وحى) قال: وقرأ جؤية الأسدى: (قل أحي إلي)، ولم ينسب القراءة لابن أبي عبلة.
[15417]:لفظ "إشاح" ساقط من الأصل المطبوع.
[15418]:اللفظ لمسلم، وأما ا الترمذي ففي لفظه زيادة.
[15419]:كذا في أ، ح، ط وهو الصواب.
[15420]:في ح: "إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى قرآنا عجبا". .. الخ.
[15421]:في ح: "ويسجدون معه . . . ".
[15422]:كلمة "فيها" ساقطة من الأصل المطبوع.
[15423]:كلمة "الأمر" ساقطة من الأصل المطبوع.
[15424]:في ط "عن" في موضع "من".
[15425]:كلمة "الحدث" ساقطة من الأصل المطبوع.
[15426]:لم نجد نصيبين التي ذكرها المؤلف في معجم ما استعجم للبكري ولا في معجم البلدان لياقوت، ولا فيما نقله صاحب تاج العروس عن ياقوت.
[15427]:راجع جـ 16 ص 211.
[15428]:في التاج: استطير فلان: ذعر.
[15429]:شعب أبي دب يقال فيه مدفن آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم.
[15430]:يحدرون الحجارة، بضم الدال وكسرها: يحطونها من علو إلى سفل.
[15431]:الزط: جنس من الهنود، لونهم ضارب إلى السواد.
[15432]:المكاكي: جمع مكوك وهو طاس يشرب فيه أعلاه ضيق ووسطه واسع، وميكال معروف لأهل العراق بهذه الصفة أيضا. ولعله من باب قول العرب: ضرب مكوك رأسه، على التشبيه.
[15433]:راجع جـ ص 15 فما.
[15434]:راجع جـ 8 ص 259 فما.
[15435]:راجع جـ 17 ص 181.
[15436]:الواحد الواحد: كذا في بعض الأصول، وفي بعضها بلا تكرار. وفي الشوكاني: "إنما الواحد الله سبحانه".
[15437]:هذا ينبغي أن يكون قبل الحديث السابق له، كما في ابن العربي.
[15438]:راجع جـ ص 315.
 
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي - تفسير الجلالين [إخفاء]  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

{ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا }

{ قل } يا محمد للناس { أُحي إليَّ } أي أخبرت بالوحي من الله تعالى { أنه } الضمير للشأن { استمع } لقراءتي { نفر من الجن } جن نصيبين وذلك في صلاة الصبح ببطن نخل ، موضوع بين مكة والطائف ، وهم الذين ذكروا في قوله تعالى ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ) الآية { فقالوا } لقومهم لما رجعوا إليهم { إنا سمعنا قرآناً عجباً } يتعجب منه في فصاحته وغزارة معانيه وغير ذلك .