أذهبْتم طيباتكم : أذهبتم حياتكم وشبابكم وقوّتكم باتّباع شهواتكم في الدنيا .
واذكر أيّها الرسول ، يومَ يُعرض الكافرون على النار يقال لهم : لقد استوفيتم ملذّاتِكم وشهواتِكم في الدنيا ، و استمتعتُم بها ، فاليومَ لكم أشدُّ العذاب بالذلّ والهوان بما كنتم في الدنيا تفسُقون وتستكبرون .
قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب : أأذهبتم طيباتكم بالاستفهام ، والباقون : بهمزة واحدة ، وابن كثير يقرأ بهمزة ممدودة .
{ 20 } { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ }
يذكر تعالى حال الكفار عند عرضهم على النار حين يوبخون ويقرعون فيقال لهم : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } حيث اطمأننتم إلى الدنيا ، واغتررتم بلذاتها ورضيتم بشهواتها وألهتكم طيباتها عن السعي لآخرتكم وتمتعتم تمتع الأنعام السارحة فهي حظكم من آخرتكم ، { فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } أي : العذاب الشديد الذي يهينكم ويفضحكم بما كنتم تقولون على الله غير الحق ، أي : تنسبون الطريق الضالة التي أنتم عليها إلى الله وإلى حكمه وأنتم كذبة في ذلك ، { وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ } أي : تتكبرون عن طاعته ، فجمعوا بين قول الباطل والعمل بالباطل والكذب على الله بنسبته إلى رضاه والقدح في الحق والاستكبار عنه فعوقبوا أشد العقوبة .
{ ويوم يعرض } العامل فيه محذوف تقديره : اذكر .
{ أذهبتم طيباتكم } تقديره : يقال لهم أذهبتم طيباتكم ؛ والطيبات هنا الملاذ من المآكل وغيرها ؛ وقرئ أذهبتم بهمزة واحدة على الخبر وبهمزتين على التوبيخ ، والآية في الكفار بدليل قوله : { يعرض الذين كفروا } وهي مع ذلك واعظة لأهل التقوى من المؤمنين ، ولذلك قال عمر لجابر بن عبد الله وقد رآه اشترى لحما : أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية .
ولما كان الظاهر في هذه السورة الإنذار كما يشهد به مطلعها ، قال ذاكراً بعض ما يبكت{[58883]} به المجرمون يوم البعث الذي كانوا به يكذبون ويكون فيه توفية جزاء الأعمال ، عاطفاً على ما تقديره : اذكر لهم هذا لعلهم يأنفون أن يكونوا المسيئين فيكونوا من المحسنين : { ويوم } أي واذكر لهم يوم يعرضون - هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف الذي أوجب لهم الجزاء إشارة إلى أن الأمر كان ظاهراً لهم ولكنهم ستروا ، أنوار عقولهم فقال : { يعرض الذين كفروا } أي من الفريقين المذكورين { على النار } أي يصلون لهبها ويقلبون فيها كما يعرض اللحم الذي يشوى{[58884]} ، مقولاً لهم على سبيل التنديم والتقريع والتوبيخ والتشنيع لأنهم لم يذكروا الله حق ذكره عند شهواتهم بل نالوها مع مخالفة أمره سبحانه ونهيه : { أذهبتم } في قراءة نافع وأبي عمرو والكوفيين{[58885]} بالإخبار ، وقراءة الباقين بالاستفهام لزيادة الإنكار والتوبيخ { طيباتكم } أي لذاتكم باتباعكم الشهوات { في حياتكم } ونفر{[58886]} منها بقوله تعالى : { الدنيا } أي القريبة الدنية المؤذن وصفها لمن يعقل بحياة أخرى بعدها ، فكان سعيكم في حركاتكم وسكناتكم لأجلها حتى نلتموها { واستمتعتم } أي طلبتم وأوجدتم انتفاعكم{[58887]} { بها } وجعلتموها غاية حظكم في رفعتكم ونعمتكم .
ولما كان ذلك استهانة بالأوامر والنواهي للاستهانة بيوم الجزاء ، سبب عنه قوله تعالى : { فاليوم تجزون } أي على إعراضكم عنا-{[58888]} بجزاء من لا تقدرون{[58889]} التقصي{[58890]} من جزائه بأيسر أمر منه { عذاب الهون } أي الهوان{[58891]} العظيم المجتمع الشديد الذي فيه ذل وخزي { بما كنتم } جبلة وطبعاً { تستكبرون } أي تطلبون {[58892]}الترفع وتوجدونه{[58893]} على الاستمرار { في الأرض } التي هي لكونها تراباً وموضوعة على الزوال والخراب ، أحق شيء بالتواضع والذل والهوان . ولما كان الاستكبار يكون بالحق لكونه على الظالمين فيكون ممدوحاً ، قيده بقوله : { بغير الحق } أي الأمر الذي يطابقه الواقع وهو أوامرنا ونواهينا ، ودل-{[58894]} بأداة الكمال على أنه لا يعاقب على الاستكبار مع الشبهة { وبما كنتم } على الاستمرار { تفسقون * } أي تجددون الخروج عن محيط الطاعة الذي تدعو إليه الفطرة الأولى والعقل {[58895]}إلى نوازع{[58896]} المعاصي .
قوله : { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } يوم ، ظرف منصوب بفعل محذوف ، أي اذكر لهم يا محمد يوم يكشف الغطاء عن جهنم ثم يقرّبون منها وينظرون إليها وهي تتلظى وتضطرم من فرط الاستعار والتأجج . لا جرم أن هذا مشهد مخوف رعيب تطير من هوله القلوب وتتزلزل من فظاعته الأبدان . وحينئذ يقال للظالمين الخاسرين : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } الاستفهام بالهمز للتقريع والتوبيخ ، والمراد بالطيبات ما كانوا فيه من اللذات وطيب المعايش في الدنيا . يعني : اتبعتم الشهوات واللذات وعصيتم أمر ربكم ولم تعبأوا بدينه واليوم الآخر . فكل ما قدر لكم من الطيبات والراحات قد استوفيتموه في الدنيا وأخذتموه فلم يبق لكم بعد ذلك شيء من الحظ في الخير والطيبات . وعن عمر رضي الله عنه قال : لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وأحسنكم لباسا ولكني أستبقي طيباتي .
قوله : { فاليوم تجزون عذاب الهون } { الهون } بضم الهاء ومعناه الهوان ، أي المهانة . استهان به أي استحقره{[4212]} ، يعني : اليوم جزاؤكم العذاب والمهانة والخزي { بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق } يعني سبب عذابكم وخسرانكم وما أنتم فيه الهوان هو استكباركم في دنياكم عن عبادة الله والإذعان لجلاله العظيم { وبما كنتم تفسقون } أي بسبب عصيانكم أمر ربكم وخروجكم عن طاعته{[4213]} .