بغياً بينهم : ظلماً وتجاوزا لحدود الله .
والمشركون ما خالفوا الحقّ إلا من بعد ما بلَغَهم ، وقامت الحجةُ عليهم ، وما فعلوا ذلك إلا بغياً منهم وعدواناً وحسدا .
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ }
لولا الكلمة السابقة من الله حول إمهال المشركين إلى يوم القيامة لعجَّل الله لهم العقوبة في الدنيا .
وإن أهل الكتاب ليسوا على يقينٍ من أمرهم وإيمانهم ، وإنما هم مقلِّدون لآبائهم وأسلافهم ، بلا دليل ولا برهان ولذلك إنهم { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } فهم في حَيرة من أمرهم ، وشكٍ جعلهم في ريب واضطراب وقلق .
{ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } ما تفرق أهل الكتاب إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة ولكنهم فعلوا ذلك للبغي { ولولا كلمة سبقت من ربك } في تأخيرهم إلى الساعة { لقضي بينهم } لجوزوا بأعمالهم { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } يعني هذه الأمة أعطوا الكتاب من بعد اليهود والنصارى { لفي شك منه مريب } يعني كفار هذه الأمة ومشركيها
" وما تفرقوا " قال ابن عباس : يعني قريشا . " إلا من بعد ما جاءهم العلم " محمد صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي ، دليله قوله تعالى في سورة فاطر : " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير " {[13476]} [ فاطر : 42 ] يريد نبيا . وقال في سورة البقرة : " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به " [ البقرة : 89 ] على ما تقدم بيانه هناك{[13477]} . وقيل : أمم الأنبياء المتقدمين ، فإنهم فيما بينهم اختلفوا لما طال بهم المدى ، فآمن قوم وكفر قوم . وقال ابن عباس أيضا : يعني أهل الكتاب ، دليله في سورة المنفكين : " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة " [ البينة : 4 ] . فالمشركون قالوا : لم خُص بالنبوة ! واليهود حسدوه لما بعث ، وكذا النصارى . " بغيا بينهم " أي بغيا من بعضهم على بعض طلبا للرياسة ، فليس تفرقهم لقصوره في البيان والحجج ، ولكن للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا . " ولولا كلمة سبقت من ربك " في تأخير العقاب عن هؤلاء . " إلى أجل مسمى " قيل : القيامة ؛ لقوله تعالى : " بل الساعة موعدهم " {[13478]} [ القمر : 46 ] . وقيل : إلى الأجل الذي قضي فيه بعذابهم . " لقضي بينهم " أي بين من آمن وبين من كفر بنزول العذاب . " وإن الذين أورثوا الكتاب " يريد اليهود والنصارى . " من بعدهم " أي من بعد المختلفين في الحق . " لقي شك منه مريب " من الذي أوصى به الأنبياء . والكتاب هنا التوراة والإنجيل . وقيل : " إن الذين أورثوا الكتاب " قريش . " من بعدهم " من بعد اليهود النصارى . " لفي شك " من القرآن أو من محمد . وقال مجاهد : معنى " من بعدهم " من قبلهم ، يعني من قبل مشركي مكة ، وهم اليهود والنصارى .
ولما كان المراد بالمشركين مع عباد الأوثان أهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله لقبولهم منهم التحليل والتحريم ، وكان ذلك مفهماً لأنهم فارقوا أهل الطاعة ، وكان ذلك موهماً لأنهم ما فارقوهم إلا عن جهل ، قال عاطفاً على ما تقديره : فأتى الرسل إلى الناس فأقاموا لهم الدين وبينوا لهم غاية التبيين فاجتبى الله بعضهم وأضل بعضهم فافترقوا : { وما تفرقوا } أي المشركون من قبلكم من أهل الكتاب وغيرهم في أديانهم { إلا } وأدخل الجار لعدم استغراق الزمان فقال : { من بعد ما جاءهم } أي على ألسنة أنبيائهم الذين لم يدعوا لبساً { العلم } أي بما لا يسوغ معه التفرق ومنه أن الفرقة ضلالة ، وأشار الجار أيضاً إلى أن التفرق كان مع العلم لم يكن طال الزمان فتطرق إلى علمهم نسيان كل ذلك بياناً لعظيم قدرة الله تعالى في تصرفه في القلوب ، فإياكم أن يكون حالكم كحالهم فليشتد خوفكم لربكم ورجاؤكم له .
ولما كان ترك طريق العلم عجباً ومستبعداً ، قال مبيناً أن الذي حملهم على ذلك حظوظ الأنفس التي لا نجاة منها إلا بعصمة الله تعالى : { بغياً } أي حال كون تفرقهم عداوة ولا شبهة فيها هي بينة الظلم لأجل حظوظ الأنفس واتباع الأهواء التي يجب على العبد البعد عنها بأن لا تكون له إرادة أصلاً بل تكون إرادته تابعة لأمر مولاه .
ولما كان مطلق البغي منافياً لمكارم الأخلاق ، فكان ارتكابه عجباً ، زاد في التعجب منه ببيان أن البغي لم يعد جماعتهم إلى غيرها ، بل كان خاصاً بها ، فقال : { بينهم } .
ولما كان ذلك يقتضي المعالجة ، قال عاطفاً على ما تقديره : فلولا قدرة الله ولطفه لما اجتمعوا بعد الفرقة أبداً : { ولولا كلمة } أي لا تبديل لها { سبقت } أي في الأزل بتأخيرهم إلى آجالهم . ولما كان إمهالهم والرفق بهم رحمة لهم ، بين أن ذلك إنما هو لأجل خير الخلق ليكونوا أتباعاً له فيزدادوا لذلك شرفاً ، وأفرده بالذكر تنبيهاً على ذلك فقال مؤنساً له صلى الله عليه وسلم بلفت الكلام إلى صفة الإحسان إرضاء له بما يرجوه في امته ، وزاد ذلك بالإضافة إلى ضميره فأفهم أن إحسانه إليهم إحسان يليق بمقامه ، ويلتئم بمراده الشريف ومرامه : { من ربك } أي المحسن إليك بجعلك خير الخلائق وإمامهم ، سبقت الكلمة بإمهالهم { إلى أجل مسمى } ضربه لآجالهم ثم لجمعهم في الآخرة { لقضي } على أيسر وجه وأسهله { بينهم } حين الافتراق بإهلاك الظالم وإنجاء المحق .
ولما أخبر عن حال المتقدمين ، وكان من في زمانه صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يدعون غاية العلم بها والاجتماع عليها ، وهي كلها داعية إلى المبادرة إلى إرث هذا الكتاب الخاتم الجامع ، وكان بعضهم يتلبس بالتنسك والإعراض عن الدنيا وغير ذلك مما يقتضي أنه على بصيرة من أمره ، وإنكار أن يكون عنده نوع شك ، قال على وجه يعم غيرهم ، مؤكداً تنبيهاً على ذلك : { وإن الذين } ولما كان المراد الوصول إلى الكتاب من غير منازع ، ولم تدع حاجة إلى العلم بالموصل ، بني للمفعول قوله : { أورثوا الكتاب } أي الكامل الخاتم ، وهم هذه الأمة بما نسخ كتابهم ما تقدمه كان غيرهم كأنه مات ، فورثوا كما قال تعالى
( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا }[ فاطر : 32 ] فكان حالهم في تمكنهم من التصرف في الكتاب بالحفظ والفهم وعدم المنازع في ادعائه حال الوارث والموروث منه فقال : { من بعدهم } أي المتفرقين ، وأثبت الجار لعدم استغراق الزمان { لفي شك منه } أي إيراث للكتاب المقتضي للاجتماع لا للتفرق لما فيه من الخير ، وذلك لعملهم عمل الشاك فيقولون : إنه سحر وشعر وكهانة ، ونحو ذلك ، وأن الآتي به غير صادق بعد اطلاعهم على ما اتى به من المعجزات وبعد معرفتهم به ، أما العرب ومن ساكنهم من أهل الكتاب فبإعجازه مع ما في أهل الكتاب من البشارة به ، وأما غير من ساكنهم فبدعوة كتابهم { مريب * } أي موقع في التهمة الموقعة في الحاجة الموقعة في صروف الدهر وهي شدائده وآفاته ونوائبه ، هذا على أن المراد كتابنا ، ويجوز أن يكون الضمير لأهل الكتاب خاصة والكتاب كتابهم ، وشكهم فيه عملهم بغير ما دعاهم إليه من اتباع كتابنا باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم .
قوله : { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } المراد بالعلم ههنا ، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كان المشركون يتمنون أن يُبعث فيهم نبي . فلما بعث الله فيهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أنكروه وكذبوه وذلك هو تَفَرُّقهم . وكان ذلك منهم { بَغْيًا بَيْنَهُمْ } فهم أهل ظلم وإيذاء وكيد . وقيل : المراد أمم النبيين السابقين ؛ فقد اختلفوا فيما بينهم لما طال عليهم الأمد ، فآمن قوم وكفر قوم . وقيل : المراد أهل لكتاب من اليهود والنصارى فقد كذّبوا رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم لما جاءهم . كما قال سبحانه : { وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيِّنة } فقد قال المشركون : لم خُصَّ محمد بالنبوة ؟ أما أهل الكتاب فقد حسدوه { بَغْيًا بَيْنَهُمْ } يعني بغيا من بعضهم على بعض حبًّا في الظهور والاستعلاء وطلبا للرياسة . فما كان تفرُّقهم لقصور في الحجة والبيان . فقد كانت الحجة ظاهرة جَليَّة ، والبيان واضحا ساطعا . ولكن كان تفرّقهم للظلم وإيثارا للشهوة والاستعلاء بالباطل .
قوله : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي لولا قول من الله سبق أن لا يعاجلهم بالعذاب في الدنيا بل يؤخره { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } وهو يوم القيامة { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي لعجل بينهم العذاب . أو لأنزل عقابه بهؤلاء المتفرقين المختلفين في الحق فعُوقبوا قبل الممات جزاء ظلمهم وضلالهم .
قوله : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ } وهم أهل الكتاب الذين آتاهم الله التوراة والإنجيل من بعد هؤلاء المختلفين في الحق { لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } إنهم لفي شك من دين الله الحق وهو دين التوحيد ، الذي وصّى به نوحا وأوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم { مُرِيبٍ } أي موقع في الريبة والشك{[4092]} .