سورة قريش مكية ، وآياتها أربع ، نزلت بعد سورة التين . لقد كان البيت الحرام مقدسا عند جميع العرب ، وزادت حرمته بعد حادث الفيل . وكانت لقريش حرمة عند العرب ، بسبب جوارها للحرم ، مما ساعد أهلها على أن يسيروا في الأرض آمنين . . حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية . وكانت لهم رحلتان : إلى اليمن في الجنوب في الشتاء ، وإلى الشام في الشمال في الصيف . وقد كفلت جيرة البيت الحرام لقريش الأمن والسلامة في هذه التجارة الرابحة ، وجعلت لها ميزة ظاهرة ، وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع . وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين . والله سبحانه وتعالى يمتن في هذه السورة على قريش ببيته الحرام الذي دفع عنهم أعداءه ، وأمّنهم الخوف ، وأطعمهم من الجوع .
لإيلافِ : إيلاف مصدرُ آلفه إيلافا . وألِفَ الشيءَ إلفا وإلافاً لزمه واعتاد عليه . قريش : القبيلة التي ينتسب إليها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
من أجل إيلاف قريشٍ الرحلةَ إلى اليَمَنِ في الشتاء ، وإلى الشام في الصيف ، وبكلّ أمانٍ واطمئنان سَمحَ به فضلُ الله عليهم تكريماً لبَيته الحرام ، وكونهم جيرانَه . .
قرأ ابن عامر ( لئلاف قريش ) بدون ياءٍ . والباقون : لإيلاف بالياء بعد الهمزة .
{ لإيلاف قريش } قيل : هذه اللام تتصل بما قبلها على معنى أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وتألف رحلتيها . وقيل : معنى اللام التأخير على معنى { فليعبدوا رب هذا البيت } { لإيلاف قريش } أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعم ، واعترافا بها . يقال : ألف الشيء وآلفه بمعنى واحد ، والمعنى لإلف قريش رحلتيها ، وذلك أنه كانت لهم رحلتان : رحلة في الشتاء إلى اليمن ، ورحلة في الصيف إلى الشام ، وبهما كانت تقوم معايشهم وتجاراتهم ، وكان لا يتعرض لهم في تجارتهم أحد . يقول : هم سكان حرم الله ، وولاة بيته ، فمن الله عليهم بذلك .
قيل : إن هذه السورة متصلة بالتي قبلها في المعنى . يقول : أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش ، أي لتأتلف ، أو لتتفق قريش ، أو لكي تأمن قريش فتؤلف رحلتيها . وممن عد السورتين واحدة أبي بن كعب ، ولا فصل بينهما في مصحفه . وقال سفيان بن عيينة : كان لنا إمام لا يفصل بينهما ، ويقرؤهما معا . وقال عمرو بن ميمون الأودي : صلينا المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقرأ في الأولى : { والتين والزيتون } [ التين : 1 ] وفي الثانية { ألم تر كيف }[ الفيل : 1 ] و{ لإيلاف قريش } [ قريش : 1 ] . وقال الفراء : هذه السورة متصلة بالسورة الأولى{[16430]} ؛ لأنه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة ، ثم قال : { لإيلاف قريش } أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش . وذلك أن قريشا كانت تخرج في تجارتها ، فلا يُغار عليها ولا تُقرب في الجاهلية . يقولون : هم أهل بيت الله جل وعز ، حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة ، ويأخذ حجارتها ، فيبني بها بيتا في اليمن يحج الناس إليه ، فأهلكهم الله عز وجل ، فذكرهم نعمته . أي فجعل الله ذلك لإيلاف قريش ، أي ليألفوا الخروج ولا يجتزأ عليهم ، وهو معنى قول مجاهد وابن عباس في رواية سعيد بن جبير عنه . ذكره النحاس : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرني عمرو بن علي قال : حدثني عامر بن إبراهيم - وكان ثقة من خيار الناس - قال : حدثني خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة ، قال : حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { لإيلاف قريش } قال : نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . قال : كانوا يشتون بمكة ، ويصيفون بالطائف . وعلى هذا القول يجوز الوقف على رءوس الآي وإن لم يكن الكلام تاما ، على ما نبينه أثناء السورة . وقيل : ليست بمتصلة ؛ لأن بين السورتين " بسم الله الرحمن الرحيم " ، وذلك دليل على انقضاء السورة وافتتاح الأخرى ، وأن اللام متعلقة بقوله تعالى : { فليعبدوا } أي فليعبدوا هؤلاء رب هذا البيت ، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف للامتيار{[16431]} . وكذا قال الخليل : ليست متصلة ، كأنه قال : أَلَّف الله قريشا إيلافا فليعبدوا رب هذا البيت . وعمل ما بعد الفاء فيما قبلها ؛ لأنها زائدة غير عاطفة ، كقولك : زيدا فاضرب . وقيل : اللام في قوله تعالى : { لإيلاف قريش } لام التعجب ؛ أي اعجبوا لإيلاف قريش ، قاله الكسائي والأخفش . وقيل : بمعنى إلى . وقرأ ابن عامر : " لإلاف قريش " مهموزا مختلسا بلا ياء . وقرأ أبو جعفر والأعرج " ليلاف " بلا همز طلبا للخفة . الباقون " لإيلاف " بالياء مهموزا مشبعا ، من آلفت أولف إيلافا . قال الشاعر :
المُنْعِمِين إذا النجوم تغيرت *** والظاعنينَ لرحلةِ الإيلافِ
ويقال : ألفته إلفا وإلافا . وقرأ أبو جعفر أيضا : " لإلف قريش " وقد جمعهما من قال :
زعمتم أن إخوتَكُمْ قريشٌ{[16432]} *** لهم إِلْفٌ وليس لكم إِلاَفُ
قال الجوهري : وفلان قد ألف هذا الموضع ( بالكسر ) يألف إلفا ، وآلفه إياه غيره . ويقال أيضا : آلفت الموضع أولفه إيلافا . وكذلك : آلفت الموضع أولفه مؤالفة وإلافا ، فصار صورة أفعل وفاعل في الماضي واحدة . وقرأ عكرمة " ليألف " بفتح اللام على الأمر ، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود . وفتح لام الأمر لغة حكاها ابن مجاهد وغيره . وكان عكرمة يعيب على من يقرأ " لإيلاف " . وقرأ بعض أهل مكة " إلاف قريش " ، استشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم :
فلا تتركَنْهُ ما حييتَ لمعظمٍ *** وكن رجلا ذا نجدة وعفاف
تذُودُ العِدَا عن عصبةٍ هاشمية *** إلافُهُمْ في الناس خيرُ إلاَفِ
وأما قريش فهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر . فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي دون بني كنانة ومن فوقه . وربما قالوا : قريشي ، وهو القياس ، قال الشاعر :
بكل قريشيِّ عليه مهابة{[16433]}
فإن أردت بقريش الحي صرفته ، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه ، قال الشاعر :
وكفى قُرَيْشَ المُعْضِلاَتِ وسادَها{[16434]}
والتقريش : الاكتساب ، وتقرشوا أي تجمعوا . وقد كانوا متفرقين في غير الحرم ، فجمعهم قصي ابن كلاب في الحرم ، حتى اتخذوه مسكنا . قال الشاعر :
أبونا قُصَيٌّ كان يُدْعَى مُجمِّعًا *** به جمَّعَ الله القبائل من فِهْرِ
وقد قيل :إن قريشا بنو فهر بن مالك بن النضر . فكل من لم يلده فهر فليس بقرشي . والأول أصح وأثبت . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفو{[16435]} أُمنا ، ولا ننتفي من أبينا " . وقال وائلة بن الأسقع : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " . صحيح ثابت ، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما . واختلف في تسميتهم قريشا على أقوال : أحدهما : لتجمعهم بعد التفرق ، والتقرش : التجمع والالتئام . قال أبو جلدة اليشكري{[16436]} :
إخوة قَرَّشُوا الذنوبَ علينا *** في حديثٍ من دهرهم وقديم
الثاني : لأنهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم . والتقرش : التكسب . وقد قرش يقرش قرشا : إذا كسب وجمع . قال الفراء : وبه سميت قريش . الثالث : لأنهم كانوا يفتشون الحاج{[16437]} من ذي الخلة ، فيسدون خلته . والقرش : التفتيش . قال الشاعر :
أيها الشامتُ المقرش عنا *** عند عمرو فهل له إبقاء{[16438]}
الرابع : ما روي أن معاوية سأل ابن عباس : لم سميت قريش قريشا ؟ فقال : لدابة في البحر من أقوى دوابه يقال لها : القرش ، تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تُعلى . وأنشد قول تبع :
وقريشٌ هي التي تسكن البح*** ر بها سميت قريش قريشا
تأكل الرث والسمين ولا تت*** رك فيها لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حيّ قريش *** يأكلون البلاد أكلا كميشا{[16439]}
ولهم آخرَ الزمان نَبِيٌّ *** يكثر القتل فيهم والخُمُوشَا{[16440]}
لما كان ما فعله سبحانه - من منع هذا الجيش العظيم - الذي من قوته طاعة أكبر ما خلق الله من الحيوان البري فيما نعلمه له - من دخول الحرم الذي هو مظهر قدرته ، ومحل عظمته الباهرة ، وعزته ، والمذكر بخليله عليه الصلاة والسلام ، وما كان من الوفاء بعظيم خلته - كرامة لقريش عظيمة ظاهرة عاجلة ، حماية لهم عن أن تستباح ديارهم ، وتسبى ذراريهم ، لكونهم أولاد خليله ، وخدام بيته ، وقطان حرمه ، ومتعززين به ، ومنقطعين إليه ، وعن أن يخرب موطن عزهم ، ومحل أمنهم وعيشهم وحرزهم ، ذكرهم سبحانه وتعالى ما فيه من النعمة الآجلة إكراماً ثانياً بالنظر في العاقبة ، فقال مشيراً إلى أن من تعاظم عليه قصمه ، ومن ذل له وخدمه أكرمه وعظمه : { لإيلاف قريش * } أي لهذا الأمر لا غيره فعلنا ذلك ، وهو إيقاعهم الإيلاف ، وهو ألفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم ، وهيبة الناس لهم ، وذلك ملزوم لألفهم أولاً في أنفسهم ، فإذا كان لهم الألف بحرمهم بما حصل لهم من العز والمكنة به بما دافع عنهم فيه مع ما له من بعد الآفات عنه ، وكان لهم الألف بينهم ، فكان بعضهم يألف بعضاً ، قوي أمرهم فألفوا غيرهم ، أي جعلوه يألف ما ألفوه إياه ، أي سنوه له وأمروه به ، أو يكون اللام متعلقاً بفعل العبادة بدلالة { فليعبدوا } أي ليعبدونا لأجل ما أوقعنا من ألفهم وإيلافهم ، وعلى التقديرين الألف علة للعبادة ، أو لما يوجب الشكر بالعبادة ، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه وتعالى ، وأنه إذا أراد شيئاً يسر سببه ؛ لأن التدبير كله له يخفض من يشاء وإن عز ، ويرفع من يشاء وإن ذل ، ليثمر اعتقاد ذلك حبه ، والانقطاع لعبادته ، والاعتماد عليه في كل نفع ودفع ، وقريش ولد النضر بن كنانة ، واسمهم واسم قبيلتهم مشتق من القرش والتقرش وهو التكسب والجمع ، يقال : فلان يقرش لعياله ويقترش أي يكتسب ، وقال البغوي : وقال أبو ريحانة : سأل معاوية ابن عباس رضي الله عنهما : لم سموا بهذا ؟ فقال : لدابة تكون في البحر هي أعظم دوابه ، يقال لها : القرش ، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته ، وهي تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى ، قال : وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم ، وأنشد للجمحي :
وقريش هي التي تسكن البح ***ر بها سميت قريش قريشا
سلطت بالعلو في لجة البح ***ر على سائر الجيوش جيوشا
وقال الزمخشري : هي دابة عظيمة تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار ، والتصغير للتعظيم ، انتهى . وقيل : سموا بذلك لتجمعهم إلى الحرم بعد تفرقهم ، فإن القرش - كما تقدم - الجمع ، وكان المجمع لهم قصياً ، والقرش أيضاً الشديد ، وقيل : هو من تقرش الرجل ، إذا تنزه عن مدانيس الأمور ، ومن تقارشت الرماح في الحرب ، إذا دخل بعضها في بعض .
والمادة كلها للشدة والاختلاط ، والتعبير بهذا الاسم لمدحهم . وكما أجرى سبحانه وتعالى مدحهم على الألسنة جعلهم موضعاً للمدح ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم " . وقال صلى الله عليه وسلم : " الأئمة من قريش " . قال العلماء : وذلك أن طيب العنصر يؤدي إلى محاسن الأخلاق ، ومحاسن الأخلاق تؤدي إلى صفاء القلب ، وصفاء القلب عون على إدراك العلوم ، وبإدراك العلوم تنال الدرجات العلا في الدنيا والآخرة . وصرف الاسم هنا على معنى الحي ليكون الاسم بمادته دالاًّ على الجمع ، وبصرفه دالاًّ على الحياة إشارة إلى كمال حياتهم ظاهراً وباطناً ، قال سيبويه في معد وقريش وثقيف : صرف هذه الأحياء أكثر ، وإن جعلتها اسماً للقبائل - يعني فمنعتها - فجائز حسن ، والذي يدل على تعلق اللام بفعل دلت عليه ( الفيل ) أن السورتين في مصحف أبيّ رضي الله عنه سورة واحدة من غير فصل ، وأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة رويا عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : صلى بنا عمر رضي الله عنه المغرب فقرأ في الأولى ب( التين والزيتون ) ، وفي الثانية ( ألم تر كيف ) و( لإيلاف قريش ) .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لا خفاء في اتصالهما ، أي أنه سبحانه وتعالى فعل ذلك بأصحاب الفيل ، ومنعهم عن بيته وحرمه لانتظام شمل قريش ، وهم سكان الحرم ، وقطان بيت الله الحرام ، وليؤلفهم بهاتين الرحلتين ، فيقيموا بمكة ، وتأمن ساحتهم . انتهى .