الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{يَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۭ بِإِمَٰمِهِمۡۖ فَمَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَقۡرَءُونَ كِتَٰبَهُمۡ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلٗا} (71)

قوله تعالى : " يوم ندعو كل أناس بإمامهم " روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : " يوم ندعو كل أناس بإمامهم " قال : ( يُدعى أحدهم فيُعطى كتابه بيمينه ، ويمد له في جسمه ستون ذراعا ، ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون : اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول : أبشروا لكل منكم مثل هذا - قال - وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له في جسمه ستون ذراعا على صورة آدم ويلبس تاجا فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من شر هذا ! اللهم لا تأتنا بهذا . قال : فيأتيهم فيقولون اللهم أخره . فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا ) . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب . ونظير هذا قوله : " وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعي إلى كتابهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون{[10324]} " . والكتاب يسمى إماما ؛ لأنه يرجع إليه في تعرف أعمالهم . وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك : " بإمامهم " أي بكتابهم ، أي بكتاب كل إنسان منهم الذي فيه عمله ؛ دليله " فمن أوتي كتابه بيمينه " . وقال ابن زيد : بالكتاب المنزل عليهم . أي يدعي كل إنسان بكتابه الذي كان يتلوه ، فيدعي أهل التوراة بالتوراة ، وأهل القرآن بالقرآن ، فيقال : يأهل القرآن ، ماذا عملتم ، هل امتثلتم أوامره هل اجتنبتم نواهيه ! وهكذا . وقال مجاهد : " بإمامهم " بنبيهم ، والإمام من يؤتم به . فيقال : هاتوا متبعي إبراهيم عليه السلام ، هاتوا متبعي موسى عليه السلام ، هاتوا متبعي الشيطان ، هاتوا متبعي الأصنام . فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم ، ويقوم أهل الباطل فيأخذون كتابهم بشمالهم . وقاله قتادة . وقال على رضي الله عنه : بإمام عصرهم . وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " يوم ندعو كل أناس بإمامهم " فقال : ( كل يدعي بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم فيقول : هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي عيسى هاتوا متبعي محمد - عليهم أفضل الصلوات والسلام - فيقوم أهل الحق فيأخذون كتابهم بأيمانهم ، ويقول : هاتوا متبعي الشيطان هاتوا متبعي رؤساء الضلالة إمامَ هدى وإمامَ ضلالة ) . وقال الحسن وأبو العالية : " بإمامهم " أي بأعمالهم . وقاله ابن عباس . فيقال : أين الراضون بالمقدور ، أين الصابرون عن المحذور . وقيل : بمذاهبهم ، فيدعون بمن كانوا يأتمون به في الدنيا : يا حنفي ، يا شافعي ، يا معتزلي ، يا قدري ، ونحوه ، فيتبعونه في خير أو شر أو على حق أو باطل ، وهذا معنى قوله أبي عبيدة . وقد تقدم . وقال أبو هريرة : يدعي أهل الصداقة من باب الصداقة ، وأهل الجهاد من باب الجهاد . . . ، الحديث بطوله . أبو سهل : يقال أين فلان المصلي والصوام ، وعكسه الدَّفاف{[10325]} والنمام . وقال محمد بن كعب : " بإمامهم " بأمهاتهم . وإمام جمع آم . قالت الحكماء : وفي ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة : أحدها - لأجل عيسى . والثاني - إظهار لشرف الحسن والحسين . والثالث - لئلا يفتضح أولاد الزنى .

قلت : وفي هذا القول نظر ، فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيام يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان ) خرجه مسلم والبخاري . فقوله : " هذه غدرة فلان ابن فلان " دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم ، وهذا يرد على من قال : إنما يدعون بأسماء أمهاتهم ؛ لأن في ذلك سترا على آبائهم . والله أعلم .

قوله تعالى : " فمن أوتي كتابه بيمينه " هذا يقوي قول من قال : " بإمامهم " بكتابهم ويقويه أيضا قوله : " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين{[10326]} " [ يس :12 ] . " فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا " الفتيل الذي في شق النواة . وقد مضى في " النساء{[10327]} " .


[10324]:راجع ج 16 ص 174.
[10325]:الدفاف: الضارب بالدف. وفي الأصول: "الزفاف" بالزاي المعجمة.
[10326]:راجع ج 15 ص 11 فما بعد.
[10327]:راجع ج 5 ص 248.