الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلٗا} (72)

قوله تعالى : " ومن كان في هذه أعمى " أي في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق . " فهو في الآخرة " أي في أمر الآخرة " أعمى " وقال عكرمة : جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية فقال : اقرؤوا ما قبلها " ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر{[10328]} - إلى - تفضيلا " . قال ابن عباس : من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى فهو عن الآخرة التي لم يعاين أعمى وأضل سبيلا . وقيل : المعنى من عمى عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى . وقيل : المعنى من كان في الدنيا التي أمهل فيها وفسح له ووعد بقبول التوبة أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا . وقيل : ومن كان في الدنيا أعمى عن حجج الله بعثه الله يوم القيامة أعمى ، كما قال : " ونحشره يوم القيامة أعمى{[10329]} " الآيات . وقال : " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم " . وقيل : المعنى في قوله " فهو في الآخرة أعمى " في جميع الأقوال : أشد عمى ؛ لأنه من عمى القلب ، ولا يقال مثله في عمى العين . قال الخليل وسيبويه : لأنه خلقة بمنزلة اليد والرجل ، فلم يقل ما أعماه كما لا يقال ما أيداه . الأخفش : لم يقل فيه ذلك لأنه على أكثر من ثلاثة أحرف ، وأصله أعمى{[10330]} . وقد أجاز بعض النحويين ما أعماه وما أعشاه ؛ لأن فعله عمى وعشى . وقال الفراء : حدثني بالشام شيخ بصري أنه سمع العرب تقول : ما أسود شعره . قال الشاعر :

ما في المعالي لكم ظلٌّ ولا ثمر*** وفي المخازِي لكم أشباح أشياخ

أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم *** لؤما وأبيضهم سربال طباخ

وأمال أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف الحرفين " أعمى " و " أعمى " وفتح الباقون . وأمال أبو عمرو الأول وفتح الثاني . " وأضل سبيلا " يعني أنه لا يجد طريقا إلى الهداية .


[10328]:راجع ص 290 فما بعد من هذا الجزء.
[10329]:راجع ج 11 ص 257 فما بعد.
[10330]:كذا في الأصل: ولعل الحق: عمى؛ لأن فعله عمى كما قال نفطويه: يقال عمى عن رشده. ومنه يصاغ أفعل التفضيل.