الأولى : قوله تعالى : " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " تقدم القول فيه كاملا في البقرة{[5250]} .
الثانية : قوله تعالى : " والمنخنقة " هي التي تموت خنقا ، وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو أتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو نحوه . وذكر قتادة : أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها ، وذكر نحوه ابن عباس .
الثالثة : قوله تعالى : " والموقوذة " الموقوذة هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية ، عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي . يقال منه : وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ . والوقذ شدة الضرب ، وفلان وقيذ أي مثخن ضربا . قال قتادة : كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونه . وقال الضحاك : كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها ، ومنه المقتولة بقوس البندق . وقال الفرزدق :
شَغَارَة{[5251]} تَقِذُ الفصيل برجلها *** فَطَّارةٌ لقوادمِ الأَبكار
وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله فإني أرمي بالمعراض{[5252]} الصيد فأصيب ، فقال : ( إذا رميت بالمعراض فخزق{[5253]} فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله ) وفي رواية ( فإنه وقيذ ) . قال أبو عمر : اختلف العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض ، فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته ، على ما روي عن ابن عمر ، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي . وخالفهم الشاميون في ذلك ؛ قال الأوزاعي في المعراض ؛ كله خزق أو لم يخزق ، فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبدالله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا ؛ قال أبو عمر : هكذا ذكر الأوزاعي عن عبدالله بن عمر ، والمعروف عن ابن عمر ما ذكره مالك عن نافع عنه . والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة لمن لجأ إليه حديث عدي بن حاتم وفيه ( وما أصاب بعرضه فلا تأكله فإنما هو وقيذ ) .
الرابعة : قوله تعالى : " والمتردية " المتردية هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت ، كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه ، وهي متفعلة من الردى وهو الهلاك ، وسواء تردت بنفسها أو رداها غيرها . وإذا أصاب السهم الصيد فتردى من جبل إلى الأرض حرم أيضا ؛ لأنه ربما مات بالصدمة والتردي لا بالسهم ، ومنه الحديث ( وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ) أخرجه مسلم . وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف ، فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة ، فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة على ما يأتي بيانها ، وبقيت هذه كلها ميتة ، وهذا كله من المحكم المتفق عليه . وكذلك النطيحة وأكيلة السبع التي فات نفسها بالنطح والأكل .
الخامسة : قوله تعالى : " والنطيحة " النطيحة فعيلة بمعنى مفعولة ، وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت قبل أن تذكى . وتأول قوم النطيحة بمعنى الناطحة ؛ لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان . وقيل : نطيحة ولم يقل نطيح ، وحق فعيل لا يذكر فيه الهاء كما يقال : كف خضيب ولحية دهين ، لكن ذكر الهاء ههنا ؛ لأن الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به . يقال : شاة نطيح وامرأة قتيل ، فإن لم تذكر الموصوف أثبت الهاء فتقول : رأيت قتيلة بني فلان وهذه نطيحة الغنم ؛ لأنك لو لم تذكر الهاء فقلت : رأيت قتيل بني فلان لم يعرف أرجل هو أم امرأة . وقرأ أبو ميسرة " والمنطوحة " .
السادسة : قوله تعالى : " وما أكل السبع " يرد كل ما أفترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان ، كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوها ، هذه كلها سباع . يقال : سبع فلان فلانا أي عضه بسنه ، وسبعه أي عابه ووقع فيه . وفي الكلام إضمار ، أي وما أكل منه السبع ؛ لأن ما أكله السبع فقد فني . ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد ، وكانت العرب إذا أخذ السبع شاة ثم خلصت منه أكلوها ، وكذلك إن أكل بعضها . قاله قتادة وغيره . وقرأ الحسن وأبو حيوة " السبع " بسكون الباء ، وهي لغة لأهل نجد . وقال حسان في عتبة بن أبي لهب :
من يرجع العام إلى أهله *** فما أكِيلُ السَّبْعِ بالراجع
وقرأ ابن مسعود : " وأكيلة السَّبُع " وقرأ عبدالله بن عباس : " وأكيلِ السبُع " .
السابعة : قوله تعالى : " إلا ما ذكيتم " نصب على الاستثناء المتصل ، عند الجمهور من العلماء والفقهاء . وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة ؛ فإن الذكاة عاملة فيه ؛ لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم من الكلام ، ولا يجعل منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له . روى ابن عيينة وشريك وجرير عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال : سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها حتى انتثر قصبها{[5254]} فأدركت ذكاتها فذكيتها فقال : كل وما انتثر من قصبها فلا تأكل . قال إسحاق بن راهويه : السنة في الشاة على ما وصف ابن عباس ، فإنها وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد ، وموضع الذكاة منها سالم ، وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة ، ولا ينظر إلى فعل هل يعيش مثلها ؟ فكذلك المريضة . قال إسحاق : ومن خالف هذا فقد خالف السنة من جمهور الصحابة وعامة العلماء . قلت : وإليه ذهب ابن حبيب وذكر عن أصحاب مالك ، وهو قول ابن وهب والأشهر من مذهب الشافعي . قال المزني : وأحفظ للشافعي قولا آخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السبع أو التردي إلى ما لا حياة معه ؛ وهو قول المدنيين ، والمشهور من قول مالك ، وهو الذي ذكره عبدالوهاب في تلقينه ، وروي عن زيد بن ثابت ؛ ذكره مالك في موطئه ، وإليه ذهب إسماعيل القاضي وجماعة المالكيين البغداديين . والاستثناء على هذا القول منقطع ، أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي لم يحرم . قال ابن العربي : اختلف قول مالك في هذه الأشياء ؛ فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما ذكي بذكاة صحيحة ، والذي في الموطأ أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري ، وهي تضطرب فليأكل ، وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره ، فهو أولى من الروايات النادرة . وقد أطلق علماؤنا على المريضة أن المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقية حياة ، وليت شعري أي فرق بين بقية حياة من مرض ، وبقية حياة من سبع لو اتسق النظر ، وسلمت من الشبهة الفكر ! . وقال أبو عمر : قد أجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أن ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة في حين ذبحها ، وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو نحو ذلك ، وأجمعوا أنها إذا صارت في حال النزع ولم تحرك يدا ولا رجلا أنه لا ذكاة فيها ، وكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية وما ذكر معها في الآية . والله أعلم{[5255]} .
الثامنة : قوله تعالى : " ذكيتم " الذكاة في كلام العرب الذبح . قاله قطرب . وقال ابن سيده في " المحكم ] والعرب تقول ( ذكاة الجنين ذكاة أمه ) . قال ابن عطية : وهذا إنما هو حديث . وذكى الحيوان ذبحه ، ومنه قول الشاعر :
* يذكيها الأَسَلْ*{[5256]}
قلت : الحديث الذي أشار إليه أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعلي وعبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ذكاة الجنين ذكاة أمه ) . وبه يقول جماعة أهل العلم ، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال : إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتا لم يحل أكله ؛ لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين . قال ابن المنذر : وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ذكاة الجنين ذكاة أمه ) دليل على أن الجنين غير الأم ، وهو يقول : لو أعتقت أمة حامل أن عتقه عتق أمه ، وهذا يلزمه أن ذكاته ذكاة أمه ؛ لأنه إذا أجاز أن يكون عتق واحد عتق اثنين جاز أن يكون ذكاة واحد ذكاة اثنين ؛ على أن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وما جاء عن أصحابه ، وما عليه جل الناس مستغنى به عن قول كل قائل{[5257]} . وأجمع أهل العلم على أن الجنين إذا خرج حيا أن ذكاة أمه ليست بذكاة له ، واختلفوا إذا ذكيت الأم وفي بطنها جنين ، فقال مالك وجميع أصحابه : ذكاته ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره ، وذلك إذا خرج ميتا أو خرج به رمق من الحياة ، غير أنه يستحب أن يذبح إن خرج يتحرك ، فإن سبقهم بنفسه أكل . وقال ابن القاسم : ضحيت بنعجة فلما ذبحتها جعل يركض ولدها في بطنها فأمرتهم أن يتركوها حتى يموت في بطنها ، ثم أمرتهم فشقوا جوفها فأخرج منه فذبحته فسال منه دم ، فأمرت أهلي أن يشووه . وقال عبدالله بن كعب بن مالك : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه . قال ابن المنذر : وممن قال ذكاته ذكاة أمه ولم يذكر أشعر أو لم يشعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والشافعي وأحمد وإسحاق . قال القاضي أبو الوليد الباجي : وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر " إلا أنه حديث ضعيف ؛ فمذهب مالك هو الصحيح من الأقوال الذي عليه عامة فقهاء الأمصار . وبالله التوفيق .
التاسعة : قوله تعالى : " ذكيتم " الذكاة في اللغة أصلها التمام ، ومنه تمام السن . والفرس المذكى الذي يأتي بعد تمام القروح{[5258]} بسنة ، وذلك تمام استكمال القوة . ويقال : ذكى يذكي ، والعرب تقول : جري{[5259]} المذكيات غلاب . والذكاء حدة القلب ؛ وقال الشاعر{[5260]} :
يفضِّلُه إذا اجتهدوا عليه *** تمامُ السن منه والذَّكَاءُ
والذكاء سرعة الفطنة ، والفعل منه ذكي يذكى ذكا ، والذكوة ما تذكو به النار ، وأذكيت الحرب والنار أو قدتهما . وذكاء اسم الشمس ، وذلك أنها تذكو كالنار ، والصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها . فمعنى " ذكيتم " أدركتم ذكاته على التمام . ذكيت الذبيحة أذكيها مشتقة من التطيب . يقال : رائحة ذكية ، فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طيب ؛ لأنه يتسارع إليه التجفيف ، وفي حديث محمد بن علي رضي الله عنهما " ذكاة الأرض يبسها " يريد طهارتها من النجاسة ، فالذكاة في الذبيحة لها ، وإباحة لأكلها فجعل يبس الأرض بعد النجاسة تطهيرا لها وإباحة{[5261]} الصلاة فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة ، وهو قول أهل العراق . وإذا تقرر هذا فأعلم أنها في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح ، والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور ، مقرونا بنية القصد لله وذكره عليه ؛ على ما يأتي بيانه .
العاشرة : واختلف العلماء فيما يقع به الذكاة ، فالذي عليه الجمهور من العلماء أن كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم فهو من آلات الذكاة ما خلا السن والعظم ؛ على هذا تواترت الآثار ، وقال به فقهاء الأمصار . والسن والظفر المنهي عنهما في التذكية هما غير المنزوعين ؛ لأن ذلك يصير خنقا ، وكذلك قال ابن عباس : ذلك الخنق ، فأما المنزوعان فإذا فريا الأوداج فجائز الذكاة بهما عندهم . وقد كره قوم السن والظفر والعظم على كل حال منزوعة أو غير منزوعة ، منهم إبراهيم والحسن والليث بن سعد ، وروي عن الشافعي ؛ وحجتهم ظاهر حديث رافع بن خديج قال : قلت يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليست معنا مدى - في رواية - فنذكي بالليط ؟ . وفي موطأ مالك عن نافع عن رجل من الأنصار عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ : أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما له بسلع{[5262]} فأصيبت شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : ( لا بأس بها وكلوها ) . وفي مصنف أبي داود : أنذبح بالمروة{[5263]} وشقة{[5264]} العصا ؟ قال : ( أَعْجِلْ وَأَرِنْ{[5265]} ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ، ليس السن والظفر وسأحدثك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة ) الحديث أخرجه مسلم . وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : ما ذبح بالليطة والشطير والظرر فحل ذكي . الليطة فلقة القصبة ويمكن بها الذبح والنحر . والشطير فلقة العود ، وقد يمكن بها الذبح لأن لها جانبا دقيقا . والظرر فلقة الحجر يمكن الذكاة بها ولا يمكن النحر ؛ وعكسه الشظاظ{[5266]} ينحر به ، لأنه كطرف السنان ولا يمكن به الذبح .
الحادية عشرة : قال مالك وجماعة : لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين . وقال الشافعي : يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين ؛ لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة ، وهو الغرض من الموت . ومالك وغيره اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم ، ويفترق فيه الحلال - وهو اللحم - من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج وهو مذهب أبي حنيفة ، وعليه يدل حديث رافع بن خديج في قوله : ( ما أنهر الدم ) . وحكى البغداديون عن مالك أنه يشترط قطع أربع : الحلقوم والودجين والمريء ، وهو قول أبي ثور{[5267]} ، والمشهور ما تقدم وهو قول الليث . ثم اختلف أصحابنا في قطع أحد الودجين والحلقوم هل هو ذكاة أم لا ؟ على قولين .
الثانية عشرة : وأجمع العلماء على أن الذبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة فقد تمت الذكاة ؛ واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها{[5268]} إلى البدن هل ذلك ذكاة أم لا ، على قولين : وقد روي عن مالك أنها لا تؤكل ، وكذلك لو ذبحها من القفا واستوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين لم تؤكل . وقال الشافعي : تؤكل ؛ لأن المقصود قد حصل . وهذا ينبني على أصل ، وهو أن الذكاة وإن كان المقصود منها إنهار الدم ففيها ضرب من التعبد ؛ وقد ذبح صلى الله عليه وسلم في الحلق ونحر في اللبة{[5269]} وقال : ( إنما الذكاة في الحلق واللبة ) فبين محلها وعين موضعها ، وقال مبينا لفائدتها : ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ) . فإذا أهمل ذلك ولم تقع بنية ولا بشرط ولا بصفة مخصوصة زال منها حظ التعبد ، فلم تؤكل لذلك . والله أعلم .
الثالثة عشرة : واختلفوا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع في الفور وأكمل الذكاة ؛ فقيل : يجزئه . وقيل : لا يجزئه ، والأول أصح لأنه جرحها ثم ذكاها بعد وحياتها مستجمعة فيها .
الرابعة عشرة : ويستحب ألا يذبح إلا من ترضى حاله ، وكل من أطاقه وجاء به على سنته من ذكر أو أنثى بالغ أو غير بالغ جاز ذبحه إذا كان مسلما أو كتابيا ، وذبح المسلم أفضل من ذبح الكتابي ، ولا يذبح نسكا إلا مسلم ، فإن ذبح النسك كتابي فقد اختلف فيه ، ولا يجوز في تحصيل المذهب ، وقد أجازه أشهب .
الخامسة عشرة : وما استوحش من الإنسي لم يجز في ذكاته إلا ما يجوز في ذكاة الإنسي ، في قول مالك وأصحابه وربيعة والليث بن سعد ، وكذلك المتردي في البئر لا تكون الذكاة فيه إلا فيما بين الحلق واللبة على سنة الذكاة . وقد خالف في هاتين المسألتين بعض أهل المدينة وغيرهم ، وفي الباب حديث رافع بن خديج وقد تقدم ، وتمامه بعد قوله : ( فمدى الحبشة ) قال : وأصبنا نهب إبل وغنم فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن لهذه الإبل أوابد كأوابد{[5270]} الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا - وفي رواية - فكلوه ) . وبه قال أبو حنيفة والشافعي . قال الشافعي : تسليط النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة ؛ واحتج بما رواه أبو داود والترمذي عن أبي الشعراء عن أبيه قال : قلت يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ قال : ( لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك ) . قال يزيد بن هارون : وهو حديث صحيح أعجب أحمد بن حنبل ورواه عن أبي داود{[5271]} ، وأشار على من دخل عليه من الحفاظ أن يكتبه . قال أبو داود : لا يصلح هذا إلا في المتردية والمستوحش . وقد حمل ابن حبيب هذا الحديث على ما سقط في مهواة فلا يوصل إلى ذكاته إلا بالطعن في غير موضع الذكاة ، وهو قول أنفرد به عن مالك وأصحابه . قال أبو عمر : قول الشافعي أظهر في أهل العلم ، وأنه يؤكل بما يؤكل به الوحشي ؛ لحديث رافع بن خديج ، وهو قول ابن عباس وابن مسعود ، ومن جهة القياس لما كان الوحشي إذا قدر عليه لم يحل إلا بما يحل به الإنسي ؛ لأنه صار مقدورا عليه ؛ فكذلك ينبغي في القياس إذا توحش أو صار في معنى الوحشي من الامتناع أن يحل بما يحل به الوحشي .
قلت : أجاب علماؤنا عن حديث رافع بن خديج بأن قالوا : تسليط النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على حبسه لا على ذكاته ، وهو مقتضى الحديث وظاهره ؛ لقوله : ( فحبسه ) ولم يقل إن السهم قتله ، وأيضا فإنه مقدور عليه في غالب الأحوال فلا يراعى النادر منه ، وإنما يكون ذلك في الصيد . وقد صرح الحديث بأن السهم حبسه وبعد أن صار محبوسا صار مقدورا عليه ، فلا يؤكل إلا بالذبح والنحر . والله أعلم .
وأما حديث أبي العشراء فقد قال فيه الترمذي : " حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث . واختلفوا في اسم أبي الشعراء ، فقال بعضهم : اسمه أسامة بن قهطم ، ويقال : اسمه يسار بن برز - ويقال : بلز - ويقال : اسمه عطارد نسب إلى جده " . فهذا سند مجهول لا حجة فيه ، ولو سلمت صحته كما قال يزيد بن هارون لما كان فيه حجة ؛ إذ مقتضاه جواز الذكاة في أي عضو كان مطلقا في المقدور وغيره ، ولا قائل به في المقدور ، فظاهره ليس بمراد قطعا . وتأويل أبي داود وابن حجيب له غير متفق عليه ، فلا يكون فيه حجة ، والله أعلم .
قال أبو عمر : وحجة مالك أنهم قد أجمعوا أنه لو لم يند{[5272]} الإنسي أنه لا يذكى إلا بما يذكى به المقدور عليه ، ثم اختلفوا فهو على أصله حتى يتفقوا . وهذا لا حجة فيه ؛ لأن إجماعهم إنما انعقد على مقدور عليه ، وهذا غير مقدور عليه .
السادسة عشرة : ومن تمام هذا الباب قوله عليه السلام : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) رواه مسلم عن شداد بن أوس قال : اثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله كتب ) فذكره . قال علماؤنا : إحسان الذبح في البهائم الرفق بها ، فلا يصرعها بعنف ولا يجرها من موضع إلى آخر ، وإحداد الآلة ، وإحضار نية الإباحة والقربة وتوجيهها إلى القبلة ، والإجهاز{[5273]} ، وقطع الودجين والحلقوم ، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد ، والاعتراف لله بالمنة ، والشكر له بالنعمة ؛ بأنه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا ، وأباح لنا ما لو شاء لحرمه علينا . وقال ربيعة : من إحسان الذبح إلا يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها ؛ وحكي جوازه عن مالك ، والأول أحسن . وأما حسن القتلة فعام في كل شيء من التذكية والقصاص والحدود وغيرها . وقد روى أبو داود عن ابن عباس وأبي هريرة قالا : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان ، زاد ابن عيسى في حديثه ( وهي التي تذبح فتقطع ولا تفرى الأوداج ثم تترك فتموت ) .
السابعة عشرة : قوله تعالى : " وما ذبح على النصب " قال ابن فارس : " النصب " حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح ، وهو النصب أيضا . والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد ، وغبار منتصب مرتفع . وقيل : " النصب " جمع ، واحده نصاب كحمار وحمر . وقيل : هو اسم مفرد والجمع أنصاب ؛ وكانت ثلاثمائة وستين حجرا . وقرأ طلحة " النصب " بجزم الصاد . وروي عن ابن عمر " النصب " بفتح النون وجزم الصاد . الجحدري : بفتح النون والصاد جعله اسما موحدا كالجبل والجمل ، والجمع أنصاب ، كالأجمال والأجبال . قال مجاهد : هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها . قال ابن جريج : كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت ، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة ، فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فكأنه عليه الصلاة والسلام لم يكره ذلك ؛ فأنزل الله تعالى : " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها " {[5274]} [ الحج : 37 ] ونزلت " وما ذبح على النصب " المعنى : والنية فيها تعظيم النصب لا أن{[5275]} الذبح عليها غير جائز ، وقال الأعشى :
وذا النُّصُبَ{[5276]} المنصوب لا تنسكنَّه *** لعافية{[5277]} والله ربَّك فاعْبُدَا وقيل : " على " بمعنى اللام ، أي لأجلها ؛ قال قطرب قال ابن زيد : ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله شيء واحد . قال ابن عطية : ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله ، ولكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وتشرف الموضع وتعظيم النفوس له .
الثامنة عشرة : قوله تعالى : " وأن تستقسموا بالأزلام " معطوف على ما قبله ، و " أن " في محل رفع ، أي وحرم عليكم الاستقسام . والأزلام قداح الميسر ، واحدها زلم وزلم ؛ قال :
باتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كالزَّلَمْ{[5278]}
فلئن جذيمةُ قَتَّلَتْ سَرَوَاتِهَا *** فنساؤُها يَضْرِبْنَ بالأَزْلاَمِ
وذكر محمد بن جرير : أن ابن وكيع حدثهم عن أبيه عن شريك عن أبي حصين عن سعيد بن جبير أن الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها . قال محمد بن جرير : قال لنا سفيان بن وكيع : هي الشطرنج . فأما قول لبيد :
تَزِلُّ عن الثَّرَى أَزْلاَمُهَا{[5279]}
فقالوا : أراد أظلاف البقرة الوحشية . والأزلام للعرب ثلاثة أنواع : منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه ، على أحدها أفعل ، وعلى الثاني لا تفعل ، والثالث مهمل لا شيء عليه ، فيجعلها في خريطة معه ، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده - وهي متشابهة - فإذا خرج أحدها ائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له ، وإن خرج القدح الذي لا شيء عليه أعاد الضرب ، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين أتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة ، وإنما قيل لهذا الفعل : استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون ؛ كما يقال : الاستسقاء في الاستدعاء للسقي . ونظير هذا الذي حرمه الله تعالى قول المنجم : لا تخرج من أجل نجم كذا ، وأخرج من أجل نجم كذا . وقال جل وعز : " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا{[5280]} " الآية [ لقمان : 34 ] . وسيأتي بيان هذا مستوفى إن شاء الله .
والنوع الثاني : سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل ، كل قدح منها فيه كتاب ، قدح فيه العقل من أم الديات ، وفي آخر " منكم " وفي آخر " من غيركم " ، وفي آخر " ملصق " {[5281]} ، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك ، وهي التي ضرب بها عبدالمطلب على بنيه إذ كان نذر نحر أحدهم إذا كملوا عشرة ؛ الخبر المشهور ذكره ابن إسحاق . وهذه السبعة أيضا كانت عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم ، على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل .
والنوع الثالث : هو قداح المسير وهي عشرة : سبعة منها فيها حظوظ ، وثلاثة أغفال ، وكانوا يضربون بها مقام لهوا ولعبا ، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف{[5282]} .
وقال مجاهد : الأزلام هي كعاب{[5283]} فارس والروم التي يتقامرون بها . وقال سفيان ووكيع : هي الشطرنج ؛ فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب كما بينا ، وهو من أكل المال بالباطل ، وهو حرام ، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو شطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى الأزلام حرام كله ، وهو ضرب من التكهن والتعرض لدعوى علم الغيب . قال ابن خويز منداد : ولهذا نهى أصحابنا عن الأمور التي يفعلها المنجمون على الطرقات من السهام التي معهم ، ورقاع الفأل في أشباه ذلك . وقال الكيا الطبري : وإنما نهى الله عنها فيما يتعلق بأمور الغيب ، فإنه لا تدري نفس ماذا يصيبها غدا ، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر ، فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الإقراع بين المماليك في العتق ، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعي بني على الأخبار الصحيحة ، وليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام ، فإن العتق حكم شرعي ، يجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علما على إثبات حكم العتق قطعا للخصومة ، أو لمصلحة يراها ، ولا يساوي ذلك قول القائل : إذا فعلت كذا أو قلت كذا فذلك يدلك في المستقبل على أمر من الأمور ، فلا يجوز أن يجعل خروج القداح علما على شيء يتجدد في المستقبل ، ويجوز أن يجعل خروج القرعة علما على العتق قطعا ، فظهر افتراق البابين .
التاسعة عشرة : وليس من هذا الباب طلب الفأل ، وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يسمع يا راشد يا نجيح . أخرجه الترمذي وقال : حديث صحيح غريب ، وإنما كان يعجبه الفأل لأنه تنشرح له النفس وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل ، فيحسن الظن بالله عز وجل ، وقد قال : ( أنا عند ظن عبدي بي ) . وكان عليه السلام يكره الطيرة ؛ لأنها من أعمال أهل الشرك ؛ ولأنها تجلب ظن السوء بالله عز وجل . قال الخطابي : الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله ، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه . وقال الأصمعي : سألت ابن عون عن الفأل فقال : هو أن يكون مريضا فيسمع يا سالم ، أو يكون باغيا{[5284]} فيسمع يا واجد ، وهذا معنى حديث الترمذي ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا طيرة وخيرها الفأل ) ، قيل : يا رسول الله وما الفأل ؟ قال : ( الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم ) . وسيأتي لمعنى الطيرة مزيد بيان إن شاء الله تعالى . روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال : إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ، ومن يتحر الخير يعطه ، ومن يتوق الشر يوقه ، وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا ؛ من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر من طيرة .
الموفية عشرين : قوله تعالى : " ذلكم فسق " إشارة إلى الاستقسام بالأزلام . والفسق الخروج ، وقد تقدم{[5285]} . وقيل يرجع إلى جميع ما ذكر من الاستحلال لجميع هذه المحرمات ، وكل شيء منها فسق وخروج من الحلال إلى الحرام ، والانكفاف عن هذه المحرمات من الوفاء بالعقود ، إذ قال : " أوفوا بالعقود " [ المائدة : 1 ] .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفارا . قال الضحاك : نزلت هذه الآية حين فتح مكة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع ، ويقال : سنة ثمان ، ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلا من قال لا إله إلا الله فهو آمن ، ومن وضع السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن " . وفي " يئس " لغتان ، يئس ييأس يأسا ، وأيس يأيس إياسا وإياسة ، قاله النضر بن شميل . " فلا تخشوهم واخشوني " أي لا تخافوهم وخافوني فإني أنا القادر على نصركم .
الثانية والعشرون : قوله تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلا فريضة الصلاة وحدها ، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام إلى أن حج ، فلما حج وكمل الدين نزلت هذه الآية : " اليوم أكملت لكم دينكم " الآية ، على ما نبينه . روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : وأي آية ؟ قال : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه{[5286]} ؛ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة . لفظ مسلم . وعند النسائي ليلة جمعة . وروي أنها لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما يبكيك ) ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( صدقت ) . وروى مجاهد أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة .
قلت : القول الأول أصح ، أنها نزلت في يوم جمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على ناقته العضباء{[5287]} ، فكاد{[5288]} عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت .
و " اليوم " قد يعبر بجزء منه عن جميعه ، وكذلك عن الشهر ببعضه ، تقول : فعلنا في شهر كذا وكذا وفي سنة كذا كذا ، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة ، وذلك مستعمل في لسان العرب والعجم . والدين عبارة عن الشرائع التي شرع وفتح لنا ، فإنها نزلت نجوما وآخر ما نزل منها هذه الآية ، ولم ينزل بعدها حكم ، قاله ابن عباس والسدي . وقال الجمهور : المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم ، قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ، ونزلت آية الربا ، ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك ، وإنما كمل معظم الدين وأمر الحج ، إذا لم يطف معهم في هذه السنة مشرك ، ولا طاف بالبيت عريان ، ووقف الناس كلهم بعرفة . وقيل : " أكملت لكم دينكم " بأن أهلكت لكم{[5289]} عدوكم وأظهرت دينكم على الدين كله كما تقول : قد تم لنا ما نريد إذا كفيت عدوك .
الثالثة والعشرون : قوله تعالى : " وأتممت عليكم نعمتي " أي بإكمال الشرائع والأحكام وإظهار دين الإسلام كما وعدتكم ، إذ قلت : " ولأتم نعمتي عليكم " [ البقرة : 150 ] وهي دخول مكة . آمنين مطمئنين وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة في رحمة الله تعالى .
الرابعة والعشرون : لعل قائلا يقول : قوله تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم " يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات ، وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار والذين شهدوا بدرا والحديبية وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين جميعا ، وبذلوا أنفسهم لله مع عظيم ما حل بهم من أنواع المحن ماتوا على دين ناقص ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كان يدعو الناس إلى دين ناقص ، ومعلوم أن النقص عيب ، ودين الله تعالى قيم ، كما قال تعالى : " دينا قيما " {[5290]} [ الأنعام : 161 ] فالجواب أن يقال له : لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه ؟ ثم يقال له : أرأيت نقصان الشهر هل يكون عيبا ، ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها ، ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله : " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره " {[5291]} [ فاطر : 11 ] أهو عيب له ، ونقصان أيام الحيض عن المعهود ، ونقصان أيام الحمل ، ونقصان المال بسرقة أو حريق أو غرق إذا لم يفتقر صاحبه ، فما أنكرت أن نقصان أجزاء الدين في الشرع قبل أن تلحق به الأجزاء الباقية في علم الله تعالى هذه ليست بشين ولا عيب ، وما أنكرت أن معنى قول الله تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم " يخرج على وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته ، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب ، لكنه يوصف بنقصان مقيد فيقال له{[5292]} : إنه كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه ملحقه به وضامه إليه ، كالرجل يبلغه الله مائة سنة فيقال : أكمل الله عمره ، ولا يجب عن ذلك أن يكون عمره حين كان ابن ستين كان ناقصا نقص قصور وخلل ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : ( من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر ) . ولكنه يجوز أن يوصف بنقصان مقيد فيقال : كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه مبلغه إياه ومعمره إليه . وقد بلغ الله بالظهر والعصر والعشاء أربع ركعات ، فلو قيل عند ذلك أكملها لكان الكلام صحيحا ، ولا يجب عن ذلك أنها كانت حين كانت ركعتين ناقصة نقص قصور وخلل ، ولو قيل : كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامه إليها وزائدة عليها لكان ذلك صحيحا فهكذا ، هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئا فشيئا إلى أن أنهى الله الدين منتهاه الذي كان له عنده . والله أعلم .
والوجه الآخر : أنه أراد بقوله : " اليوم أكملت لكم دينكم " أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره ، فحجوا ، فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه وقياما بفرائضه ؛ فإنه يقول عليه السلام : ( بني الإسلام على خمس ) الحديث . وقد كانوا تشهدوا وصلوا وزكوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا حجوا ، فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى وهم بالموقف عشية عرفة " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " فإنما أراد أكمل وضعه لهم ، وفي ذلك دلالة على أن الطاعات كلها دين وإيمان وإسلام .
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : " ورضيت لكم الإسلام دينا " أي أعلمتكم برضاي به لكم دينا ؛ فإنه تعالى لم يزل راضيا بالإسلام لنا دينا ، فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حملناه على ظاهره . و " دينا " نصب على التمييز ، وإن شئت على مفعول ثان . وقيل : المعنى ورضيت عنكم إذا انقدتم{[5293]} لي بالدين الذي شرعته لكم . ويحتمل أن يريد " رضيت لكم الإسلام دينا " أي ورضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا باقيا بكماله إلى آخر الآية{[5294]} لا أنسخ منه شيئا . والله أعلم .
و " الإسلام " في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى : " إن الدين عند الله الإسلام " [ آل عمران : 19 ] وهو الذي يفسر في سؤال جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام ، وهو الإيمان والأعمال والشعب .
السادسة والعشرون : قوله تعالى : " فمن اضطر في مخمصة " يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرمات في هذه الآية . والمخمصة الجوع وخلاء البطن من الطعام . والخمص ضمور البطن . ورجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة ، ومنه أخمص القدم ، ويستعمل كثيرا في الجوع والغرث ؛ قال الأعشى :
تبيتون في المشتى مِلاءً بطونكم *** وجاراتكم غَرْثَى{[5295]} يبتن خمائصا
أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن . وقال النابغة في خمص البطن من جهة ضمره :
والبطن ذو عُكَنٍ{[5296]} خميص لينٌ *** والنحر تنفُجُه{[5297]} بثدي مُقْعَدِ
وفي الحديث : ( خماص البطون خفاف الظهور ) . الخماص جمع الخميص البطن ، وهو الضامر . أخبر أنهم أعفاء عن أموال الناس ، ومنه الحديث : ( إن الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ) . والخميصة أيضا ثوب ؛ قال الأصمعي : الخمائص ثياب خز أو صوف معلمة ، وهي سوداء ، كانت من لباس الناس . وقد تقدم معنى الاضطرار وحكمه في البقرة{[5298]} .
السابعة والعشرون : قوله تعالى : " غير متجانف لإثم " أي غير مائل لحرام ، وهو بمعنى " غير باغ ولا عاد " [ البقرة : 173 ] وقد تقدم . والجنف الميل ، والإثم الحرام ، ومنه قول عمر{[5299]} رضي الله عنه : ما تجانفنا فيه لإثم ، أي ما ملنا ولا تعمدنا ونحن نعلمه : وكل مائل فهو متجانف وجنف . وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي " متجنف " دون ألف ، وهو أبلغ في المعنى ، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلا في المعنى وثبوتا لحكمه ، وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه ، ألا ترك أنك إذا قلت : تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأودا ومقاربة ميل ، وإذا قلت : تميل فقد ثبت حكم الميل ، وكذلك تصاون الرجل وتصون ، وتعاقل وتعقل ، فالمعنى غير متعمد لمعصية في مقصده ، قاله قتادة والشافعي . " فإن الله غفور رحيم " أي فإن الله له غفور رحيم فحذف ، وأنشد سيبويه{[5300]} :
قد أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي *** عَلَيَّ ذَنْبًا كلَّهُ لَمْ أَصْنَعِ