الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وهي سبع عشرة آية .

قوله تعالى : " والسماء والطارق " قسمان : " السماء " قسم ، و " الطارق " قسم . والطارق : النجم . وقد بينه اللّه تعالى بقوله : " وما أدراك ما الطارق . النجم الثاقب " . واختلف فيه ، فقيل : هو زحل : الكوكب الذي في السماء السابعة . ذكره محمد بن الحسن{[15916]} في تفسيره ، وذكر له أخبارا ، اللّه أعلم بصحتها . وقال ابن زيد : إنه الثريا . وعنه أيضا أنه زحل . وقاله الفراء . ابن عباس : هو الجدي . وعنه أيضا وعن علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنهما - والفراء : " النجم الثاقب " : نجم في السماء السابعة ، لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء ، هبط فكان معها . ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة ، وهو زحل ، فهو طارق حين ينزل ، وطارق حين يصعد . وحكى الفراء : ثقب الطائر : إذا ارتفع وعلا . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعدا مع أبي طالب ، فانحط نجم ، فامتلأت الأرض نورا ، ففزع أبو طالب ، وقال : أي شيء هذا ؟ فقال : [ هذا نجم رمي به ، وهو آية من آيات اللّه ] فعجب أبو طالب ، ونزل : " والسماء والطارق " . وروي عن ابن عباس أيضا " والسماء والطارق " قال : السماء{[15917]} وما يطرق فيها . وعن ابن عباس وعطاء : " الثاقب " : الذي ترمي به الشياطين . قتادة : هو عام في سائر النجوم ؛ لأن طلوعها بليل ، وكل من أتاك ليلا فهو طارق . قال :

ومثلكِ حُبْلَى قد طرقتُ ومُرْضِعًا *** فألهيتُهَا عن ذي تمائمَ مُغْيِلِ{[15918]}

وقال :

ألم ترياني كلما جئت طارقا *** وجدت بها طيبا وإن لم تَطَيَّبِ

فالطارق : النجم ، اسم جنس ، سمي بذلك لأنه يطرق ليلا ، ومنه الحديث : [ نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يطرق المسافر أهله ليلا ، كي تستحد المغيبة ، وتمتشط الشعثة{[15919]} ] . والعرب تسمي كل قاصد في الليل طارقا . يقال : طرق فلان إذا جاء بليل . وقد طرق يطرق طروقا ، فهو طارق . ولابن الرومي{[15920]} :

يا راقدَ الليل مسروراً بأوله *** إن الحوادث قد يطرُقْنَ أسحارا

لا تفرحَنَّ بليل طاب أوله *** فرب آخر ليل أجَّجَ النَّارَا

وفي الصحاح : والطارق : النجم الذي يقال له كوكب الصبح . ومنه قول هند{[15921]} :

نحن بناتُ طارقْ *** نمشي على النَّمَارِقْ

أي إن أبانا في الشرف كالنجم المضيء . الماوردي : وأصل الطرق : الدق ، ومنه سميت المطرقة ، فسمي قاصد الليل طارقا ، لاحتياجه في الوصول إلى الدق . وقال قوم : إنه قد يكون نهارا . والعرب تقول : أتيتك اليوم طرقتين : أي مرتين . ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : ( أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ) . وقال جرير في الطروق :

طَرَقَتْكَ صائدةُ القلوب وليس ذا *** حين الزيارة فارجِعِي بسلام

ثم بين فقال : " وما أدراك ما الطارق . النجم الثاقب " والثاقب : المضيء . ومنه " شهاب ثاقب{[15922]} " [ الصافات : 10 ] . يقال : ثقب يثقب ثقوبا وثقابة : إذا أضاء . وثقوبه : ضوئه . والعرب تقول : أثقب نارك . أي أضئها . قال :

أذاعَ به في الناس حتى كأنه *** بعلياءَ نار أُوقِدَتْ بثُقُوبِ

الثقوب : ما تشعل به النار من دقاق العيدان . وقال مجاهد : الثاقب : المتوهج . القشيري : والمعظم على أن الطارق والثاقب اسم جنس أريد به العموم{[15923]} ، كما ذكرنا عن مجاهد . " وما أدراك ما الطارق " تفخيما لشأن هذا المقسم به . وقال سفيان : كل ما في القرآن " وما أدراك " ؟ فقد أخبره به . وكل شيء قال فيه " وما يدريك " : لم يخبره به .


[15916]:لعل المراد به: أبو بكر العطار: محمد بن الحسن بن مقسم.
[15917]:زيادة من الطبري.
[15918]:البيت لامرئ القيس. والتمائم: التعاويذ التي تعلق في عنق الصبي. وذو التمائم: هو الصبي. والمغيل: الذي تؤتى أمه وهي ترضعه. ويروي: "محول" بدل "مغيل" وهو الذي أتى عليه الحول.
[15919]:الاستحداد: حلق العانة بالحديد. والمغيبة: التي غاب عنها زوجها. والشعثة: التي تلبد شعرها.
[15920]:لم نعثر على هذين البيتين في ديوان ابن الرومي. وقد أورد الجاحظ البيت الأول في كتابه (الحيوان جـ 6 ص 508 طبع مطبعة الحلبي) غير منسوب. ولم يعرف أن الجاحظ يستشهد بشعر ابن الرومي. وقد توفي الجاحظ وكانت سن ابن الرومي 34 على أن هذا الشعر ليس من روح ابن الرومي. وقد أورد أيضا الغزالي في (الإحياء جـ 3 ص 180 طبع الحلبى) البيت الأول ضمن ستة أبيات من وزنه وقافيته.
[15921]:هي هند بنت بياضة بن رباح بن طارق الإيادي، قالت هذا الرجز يوم أحد تحض على الحرب، والرجز بأكمله في (اللسان: طرق).
[15922]:آية 10 سورة الصافات.
[15923]:أي لم يرد به نجم معين، كالثريا أو زحل، كما قال بعض المفسرين.