في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (55)

54

وعندما يصل السياق إلى هذا المقطع ، وقد ارتعش الوجدان البشري لمشاهد الكون الحية ، التي كان يمر عليها في بلادة وغفلة . وقد تجلى له خضوع هذه الخلائق الهائلة وعبوديتها لسلطان الخالق وأمره . . عندئذ يوجه البشرَ إلى ربهم - الذي لا رب غيره - ليدعوه في إنابة وخشوع ؛ وليلتزموا بربوبيته لهم ، فيلتزموا حدود عبوديتهم له ؛ لا يعتدون على سلطانه ؛ ولا يفسدون في الأرض بترك شرعه إلى هواهم ، بعد أن أصلحها الله بمنهجه :

( ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ، إنه لا يحب المعتدين ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها . وادعوه خوفاً وطمعاً ، إن رحمة الله قريب من المحسنين ) .

إنه التوجيه في أنسب حالة نفسية صالحة ، إلى الدعاء والإنابة . . تضرعاً وتذللاً ؛ وخفية لا صياحاً وتصدية ! فالتضرع الخفي أنسب وأليق بجلال الله وبقرب الصلة بين العبد ومولاه .

أخرج مسلم - بإسناده عن أبي موسى - قال : كنا مع رسول الله [ ص ] في سفر - وفي رواية غزاة - فجعل الناس يجهرون بالتكبير ، فقال رسول الله [ ص ] : " أيها الناس أربعوا [ أي ارفقوا وهونوا ] على أنفسكم . إنكم لستم تدعون أصم ولا غائباً . إنكم تدعون سميعاً قريباً . وهو معكم "

فهذا الحس الإيماني بجلال الله وقربه معاً ، هو الذي يؤكده المنهج القرآني هنا ويقرره في صورته الحركية الواقعية عند الدعاء . ذلك أن الذي يستشعر جلاله فعلاً يستحيي من الصياح في دعائه ؛ والذي يستشعر قرب الله حقاً لا يجد ما يدعو إلى هذا الصياح !

وفي ظل مشهد التضرع في الدعاء ، وهيئة الخشوع والانكسار فيه لله ، ينهى عن الاعتداء على سلطان الله ، فيما يدعونه لأنفسهم - في الجاهلية - من الحاكمية التي لا تكون إلا لله .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (55)

استئناف جاء معترضاً بين ذكر دلائل وحدانية الله تعالى بذكر عظيم قدرته على تكوين أشياء لا يشاركه غيره في تكوينها . فالجملة معترضة بين جملة { يغشى الليل النهار } [ الأعراف : 54 ] وجملة : { وهو الذي يرسل الرياح } [ الأعراف : 57 ] جرى هذا الاعتراض على عادة القرآن في انتهاز فُرص تهنُّؤ القلوب للذّكرى . والخطاب ب { ادعوا } خاص بالمسلمين لأنّه تعليم لأدب دعاء الله تعالى وعبادته ، وليس المشركون بمتهيّئين لمثل هذا الخطاب ، وهو تقريب للؤمنين وإدناء لهم وتنبيه على رضى الله عنهم ومحبّته ، وشاهدُه قوله بعده : { إن رحمت الله قريب من المحسنين } [ الأعراف : 56 ] . والخطاب مُوَجَّه إلى المسلمين بقرينة السياق .

و ( الدّعاء ) حقيقته النّداء ، ويطلق أيضاً على النّداء لطلب مهمّ ، واستعمل مجازاً في العبادة لاشتمالها على الدّعاء والطّلب بالقول أو بلسان الحال ، كما في الرّكوع والسّجود ، مع مقارنتها للأقوال وهو إطلاق كثير في القرآن .

والظاهر أنّ المراد منه هنا الطّلب والتّوجه ، لأنّ المسلمين قد عبدوا الله وأفردوه بالعبادة ، وإنّما المهمّ إشعارهم بالقرب من رحمة ربّهم وإدناء مَقامهم منها .

وجيء لتعريف الرّب بطريق الإضافة دون ضمير الغائب ، مع وجود معاد قريب في قوله : { تبارك الله } [ الأعراف : 54 ] ودون ضمير المتكلّم ، لأنّ في لفظ الرّب إشعاراً بتقريب المؤمنين بصلة المربوبية ، وليتوسّل بإضافة الرّب إلى ضمير المخاطبين إلى تشريف المؤمنين وعناية الرّب بهم كقوله : { بل الله مولاكم } [ آل عمران : 150 ] .

والتّضرّع : إظهار التّذلل بهيئة خاصة ، ويطلق التّضرع على الجهر بالدّعاء لأنّ الجهر من هيئة التّضرع ، لأنّه تذلّل جهري ، وقد فُسّر في هذه الآية وفي قوله في الأنعام ( 63 ) : { تدعونه تضرعاً وخفية } بالجهر بالدّعاء ، وهو الذي نختاره لأنّه أنسب بمقابلته بالخُفية ، فيكون أسلوبه وفقا لأسلوب نظيره في قوله { ادعوه خوفاً وطمعاً } [ الأعراف : 56 ] وتكون ، الواو للتقسيم بمنزلة ( أو ) وقد قالوا : إنّها فيه أجود من ( أوْ ) . ومن المفسّرين من أبقى التّضرع على حقيقته وهو التّذلل ، فيكون مصدراً بمعنى الحال ، أي متذلّلين ، أو مفعولاً مطلقاً ل { ادعوا } ، لأنّ التّذلّل بعض أحوال الدّعاء فكأنّه نوع منه ، وجعلوا قوله : { وخفية } مأموراً به مقصوداً بذاته ، أي ادعوه مُخفين دعاءكم ، حتّى أوهم كلام بعضهم أنّ الإعلان بالدّعاء منهي عنه أو غير مثوب عليه ، وهذا خطأ : فإنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم دعا علَناً غير مرّة . وعلى المنبر بمسمع من النّاس وقال : « اللّهمّ اسْقِنا » وقال : « اللّهمّ حَوالَيْنا ولا علينا » وقال : « اللّهمّ عليك بقريش » الحديث . وما رويت أدعيته إلاّ لأنّه جهر بها يسمعها من رَوَاها ، فالصّواب أنّ قوله : { تضرعاً } إذنٌ بالدّعاء بالجهر والإخفاء ، وأمّا ما ورد من النّهي عن الجهر فإنّما هو عن الجهر الشّديد الخارج عن حدّ الخشوع . وقرأ الجمهور { وخفية } بضمّ الخاء وقرأه أبو بكر بكسر الخاء وتقدّم في الأنعام .

وجملة { إنه لا يحب المعتدين } واقعة موقع التّعليل للأمر بالّدعاء ، إشارة إلى أنّه أمر تكريم للمسلمين يتضمّن رضى الله عنهم ، ولكن سلك في التّعليل طريق إثبات الشّيء بإبطال ضدّه ، تنبيهاً على قصد الأمرين وإيجازاً في الكلام . ولكون الجملة واقعَة موقع التّعليل افتتحت ب ( إنّ ) المفيدة لمجرّد الاهتْمام ، بقرينة خلو المخاطبين عن التّردد في هذا الخبر ، ومن شأن ( إنّ ) إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التّعليل والرّبط ، وتقوم مقام الفاء ، كما نبّه عليه الشّيخ عبد القاهر .

وإطلاق المحبّة وصفاً لله تعالى ، في هذه الآية ونحوها ، إطلاقٌ مجازي مراد بها لازم معنى المحبّة ، بناء على أنّ حقيقة المحبّة انفعال نفساني ، وعندي فيه احتمال ، فقالوا : أريد لازم المحبّة ، أي في المحبوب والمحِب ، فيلزمها اتّصاف المحبوب بما يرضي المحِب لتنشأ المحبّة التي أصلها الاستحسان ، ويلزمها رضى المحِب عن محبوبه وإيصال النّفع له . وهذان اللاّزِماننِ مُتَلازمان في أنفسهما . فإطلاق المحبّة وصفاً لله مجاز بهذا اللاّزم المركب .

والمراد ب { المعتدين : المشركون ، لأنّه يرادف الظّالمين .

والمعنى : ادعوا ربّكم لأنّه يحبّكم ولا يحبّ المعتدين ، كقوله : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [ غافر : 60 ] تعريض بالوعد بإجابة دعاء المؤمنين وأنّه لا يستجيب دعاءَ الكافرين ، قال تعالى : { وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال } [ الرعد : 14 ] على أحد تأويلين فيها . وحمل بعض المُفسّرين التّضرّع على الخضوع ، فجعلوا الآية مقصورة على طلب الدّعاء الخفي حتّى بَالغ بعضهم فجعل الجهر بالدّعاء منهياً عنه ، وتجاوز بعضهم فجعل قوله : { إنه لا يحب المعتدين } تأكيداً لمعنى الأمر بإخفاء الدّعاء ، وجعل الجهر بالدّعاء من الاعتداء والجاهرين به من المعتدين الذين لا يحبّهم الله . ونقل ذلك عن ابن جريج ، وأحسب أنّه نقلٌ عنه غير مضبوط العبارة ، كيف وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم جهراً ودعا أصحابه .