في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ} (27)

23

( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ، وأهلك - إلا من سبق عليه القول منهم - ولا تخاطبني في الذين ظلموا . إنهم مغرقون ) . .

وهكذا مضت سنة الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة لتمضي الحياة في طريقها المرسوم . ولما كانت البشرية قد أسنت على عهد نوح ، وجمدت كالشجرة الناشئة تعوقها الآفة عن النمو فتيبس وتعجز وهي رقيقة العود . . كان العلاج هو الطوفان ، الذي يجتب كل شيء ، ويجرف كل شيء . ويغسل التربة ، لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد ، فتنشأ على نظافة ، فتمد وتكبر حتى حين :

( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) . . والفلك وسيلة للنجاة من الطوفان ، ولحفظ بذور الحياة السليمة كيما يعاد بذرها من جديد . وقد شاء الله أن يصنع نوح الفلك بيده ، لأنه لا بد للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل ، وبذل آخر ما في طوقه ، ليستحق المدد من ربه . فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المسترخين ، الذين ينتظرون ولا يزيدون شيئا على الانتظار ! ونوح قدر الله له أن يكون أبا البشر الثاني ؛ فدفع به إلى الأخذ بالأسباب ؛ مع رعاية الله له ، وتعليمه صناعة الفلك ، ليتم أمر الله ، وتتحقق مشيئته عن هذا الطريق .

وجعل الله له علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض المؤوف : ( فإذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، وانبجس منه الماء ، فتلك هي العلامة ليسارع نوح ، فيحمل في السفينة بذور الحياة : ( فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ) . . من أنواع الحيوان و الطيور والنبات المعروفة لنوح في ذلك الزمان ، الميسرة كذلك لبني الإنسان ( وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم )وهم الذين كفروا وكذبوا ، فاستحقوا كلمة الله السابقة ، وسنته النافذة ، وهي الهلاك للمكذبين بآيات الله .

وصدر الأمر الأخير لنوح ألا يجادل في أمر أحد ، ولا يحاول إنقاذ أحد - ولو كان أقرب الأقربين إليه - ممن سبق عليهم القول .

( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) .

فسنة الله لا تحابي ، ولا تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم ، من أجل خاطر ولي ولا قريب !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ} (27)

قد تقدم القول في صفة السفينة وقدرها في سورة هود ، و { الفلك } هنا مفرد لا جمع ، وقوله تعالى { بأعيننا } عبارة عن الإدراك ، هذا مذهب الحذاق ، ووقفت الشريعة على أعين وعين ولا يجوز أن يقال عينان من حيث لم توقف الشريعة على التثنية و { وحينا } معناه في كيفية العمل ووجه البيان ، وذلك أن جبريل عليه السلام نزل إلى نوح فقال له اصنع كذا وكذا لجميع حكم السفينة وما تحتاج إليه واستجن الكفار نوحاً لادعائه النبوءة بزعمهم أنها دعوى وسخروا منه لعمله السفينة على غير مجرى ، ولكونها أَول سفينة إن صح ذلك ، وقوله { أمرنا } ، يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى أَن نأمر الماء بالفيض ويحتمل أن يريد واحد الأمور أي هلاكنا للكفرة ، وقد تقدم القول في معنى قوله { وفار التنور } والصحيح من الأقوال فيه أنه تنور الخبز وأَنها أمارة كانت بين الله تعالى وبين نوح عليه السلام وقوله { فاسلك } معناه فادخل ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]

حتى سلكن الشوى منهن في مسلك . . . من نسل جوابة الآفاق مهداج{[8476]}

وقول الآخر : [ الوافر ]

وكنت لزاز خصمك لم أعرد . . . وقد سلكوك في يوم عصيب{[8477]}

يقال سلك وأسلك بمعنى ، وقرأ حفص «من كلٍّ » بتنوين «كلٍّ » ، وقرأ الباقون وأَبو بكر عن عاصم بإضافة «كلِّ » دون تنوين{[8478]} و «الزوجان » كل ما شأنه الاصطحاب من كل شيء كالذكر والأنثى من الحيوان ونحو النعال وغيرها كل واحد زوج للآخر هذا موقع اللفظة في اللغة ، والعدديون يوقعون الزوج على الاثنين ، وعلى هذا أمر استعمال العامة للزوج ، وقوله { وأهلك } يريد قرابته ثم استثنى { من سبق عليه القول } بأنه كافر ، وهو ابنه وامرأته ، ثم أمر نوح عليه السلام أَن لا يراجع ربه ولا يخاطبه شافعاً في أَحد من الظالمين ، والإشارة إلى من استثنى إذ العرف من البشر الحنو على الأهل .


[8476]:البيت لأبي وجزة السعدي، واسمه يزيد بن عبيد، من بني سعد بن بكر أظآر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في اللسان (مسك وهدج)، وسلك الشيء في الشيء: أدخله فيه، سلكا أي: إدخالا، = كقوله تعالى: {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين}، وهذا هو موضع الشاهد هنا، والشوى هنا: اليدان والرجلان من الأتن، والمسك: الأسورة والخلاخيل من الذبل والقرون والعاج، واحدته مسكة، وقد استعاره أبو وجزة هنا فجعل ما تدخل فيه الأتن أرجلها من الماء مسكا، وجوابة الآفاق: السحابة التي تجوب آفاق السماء من مكان إلى مكان، والمهداج هنا: الريح التي لها حنين، يعني أن الماء من نسل الريح التي تستدر السحاب وتلقحه فيمطر، فهو من نسلها. يصف أبو وجزة الأتن التي وردت الماء ليلا ونزلت فيه بقوائمها أي دخلت قوائمها في الماء فصار لها مثل الأساور التي تجعلها المرأة في يديها، وهذا الماء الذي أدخلت الأتن قوائمها فيه كان من نسل سحاب مهداج عصرته الريح منه.
[8477]:هذا البيت لعدي بن زيد العبادي، وهو في اللسان، وقد تكرر الاستشهاد به في هذا التفسير (راجع جـ 7 ص 358)، وفيه يخاطب الشاعر النعمان في قصيدة اعتذار، ويقول: إني ظللت ملازما لأعدائك لا أتراجع ولا أفر حين وقعت في يوم عصيب شديد، ولزاز الخصم: الملازم له، والتعريد: الفرار وسرعة الذهاب في الهزيمة، وسلكوك: أدخلوك، والعصيب: الشديد. والشاهد هنا هو أن سلك بمعنى أدخل.
[8478]:من قرأ بالتنوين حذف المضاف إليه، والتقدير: من كل حيوان أو نحوه، ومن قرأ بالإضافة أعمل [اسلك] في قوله: [اثنين]، وجاء قوله تعالى: [زوجين] بمعنى العموم، أي: من كل ماله ازدواج، قال ذلك أبو علي الفارسي.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ} (27)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فأوحينا إليه أن اصنع الفلك} يقول: اجعل السفينة {بأعيننا ووحينا} كما نأمرك {فإذا جاء أمرنا} يقول عز وجل: فإذا جاء قولنا في نزول العذاب بهم في الدنيا، يعني: الغرق {وفار} الماء من {التنور} وكان التنور في أقصى مكان من دار نوح، وهو التنور الذي يخبز فيه... {فاسلك فيها من كل زوجين اثنين} ذكر وأنثى {وأهلك} فاحملهم معك في السفينة، ثم استثنى من الأهل {إلا من سبق عليه القول منهم} يعني: من سبقت عليهم كلمة العذاب فكان ابنه وامرأته ممن سبق عليه القول من أهله. ثم قال تعالى: {ولا تخاطبني} يقول: ولا تراجعني {في الذين ظلموا} يعني: أشركوا {إنهم مغرقون}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"فأَوْحَيْنا إلَيْهِ أنه اصْنَعِ الفُلْكَ بأَعْيُنِنا وَوَحْينا" يقول: فقلنا له حين استنصرَنا على كَفَرة قومه: اصنع الفُلْك، وهي السفينة "بأَعْيُنِنا" يقول: بمرأى ومنظر، "ووَحْينَا" يقول: وبتعليمنا إياك صنعتها.

"فإذَا جاء أمْرُنا" يقول: فإذا جاء قضاؤنا في قومك، بعذابهم وهلاكهم، "وَفارَ التّنّورُ"... "فاسْلُكْ فِيها مِنْ كلَ زَوْجِيْنِ اثْنَيْنِ" يقول: فأدخل في الفلك واحمل، والهاء والألف في قوله: "فيها" من ذكر الفلك، "منْ كُلَ زَوْجِيْنِ اثْنَينِ"... "وأهْلَكَ" وهم ولده ونساؤهم، "إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ" من الله بأنه هالك فيمن يهلك من قومك فلا تحمله معك... ويعني بقوله: "مِنْهُمْ" مِن أهلك... وقوله: "وَلا تخاطِبْنِي..."، يقول: ولا تسألني في الذين كفروا بالله أن أنجيهم. "إنّهُمْ مُغْرَقُونَ" يقول: فإني قد حتمت عليهم أن أغرق جميعهم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{بِأَعْيُنِنَا} بحفظنا وكلاءتنا، كأن معه من الله حفاظاً يكلؤونه بعيونهم، لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله. ومنه قولهم: عليه من الله عين كالئة {وَوَحْيِنَا} أي نأمرك كيف تصنع ونعلمك...

فإن قلت: لم نهاه عن الدعاء لهم بالنجاة؟ قلت: لما تضمنته الآية من كونهم ظالمين، وإيجاب الحكمة أن يغرقوا لا محالة، لما عرف من المصلحة في إغراقهم، والمفسدة في استبقائهم، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالاً، ولزمتهم الحجّة البالغة لم يبق إلا أن يجعلوه عبرة للمعتبرين.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{فأوحينا} أي فتسبب عن دعائه أنا أوحينا {إليه أن اصنع الفلك} أي السفينة.

ولما كان يخاف من أذاهم له في عمله بالإفساد وغيره قال: {بأعيننا} أي إنه لا يغيب عنا شيء من أمرك ولا من أمرهم وأنت تعرف قدرتنا عليهم فثق بحفظنا ولا تخف شيئاً من أمرهم. ولما كان لا يعلم تلك الصنعة، قال: {ووحينا} ثم حقق له هلاكهم وقربه بقوله: {فإذا جاء أمرنا} أي بالهلاك عقب فراغك منه {وفار التنور} قال ابن عباس رضي الله عنهما: وجه الأرض. وفي القاموس: التنور: الكانون يخبز فيه، ووجه الأرض، وكل مفجر ماء، وجبل قرب المصيصة -انتهى. والأليق بهذا الأمر صرفه إلى ما يخبز فيه ليكون آية في آية {فاسلك} أي فادخل {فيها} أي السفينة {من كل زوجين} من الحيوان {اثنين} ذكراً وأنثى {وأهلك} من أولادك وغيرهم {إلا من سبق عليه} لا له {القول منهم} بالهلاك لقطع ما بينك وبينه من الوصلة بالكفر.

ولما كان التقدير: فلا تحمله معك ولا تعطف عليه لظلمه، عطف عليه قوله: {ولا تخاطبني} أي بالسؤال في النجاة {في الذين ظلموا} عامة؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنهم مغرقون} أي قد ختم القضاء عليهم، ونحن نكرمك عن سؤال لا يقبل.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهكذا مضت سنة الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة لتمضي الحياة في طريقها المرسوم. ولما كانت البشرية قد أسنت على عهد نوح، وجمدت كالشجرة الناشئة تعوقها الآفة عن النمو فتيبس وتعجز وهي رقيقة العود.. كان العلاج هو الطوفان، الذي يجتب كل شيء، ويجرف كل شيء. ويغسل التربة، لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد، فتنشأ على نظافة، فتمد وتكبر حتى حين: (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا).. والفلك وسيلة للنجاة من الطوفان، ولحفظ بذور الحياة السليمة كيما يعاد بذرها من جديد. وقد شاء الله أن يصنع نوح الفلك بيده، لأنه لا بد للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل، وبذل آخر ما في طوقه، ليستحق المدد من ربه. فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المسترخين، الذين ينتظرون ولا يزيدون شيئا على الانتظار! ونوح قدر الله له أن يكون أبا البشر الثاني؛ فدفع به إلى الأخذ بالأسباب؛ مع رعاية الله له، وتعليمه صناعة الفلك، ليتم أمر الله، وتتحقق مشيئته عن هذا الطريق. وجعل الله له علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض المؤوف: (فإذا جاء أمرنا وفار التنور)، وانبجس منه الماء، فتلك هي العلامة ليسارع نوح، فيحمل في السفينة بذور الحياة: (فاسلك فيها من كل زوجين اثنين).. من أنواع الحيوان و الطيور والنبات المعروفة لنوح في ذلك الزمان، الميسرة كذلك لبني الإنسان (وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم) وهم الذين كفروا وكذبوا، فاستحقوا كلمة الله السابقة، وسنته النافذة، وهي الهلاك للمكذبين بآيات الله. وصدر الأمر الأخير لنوح ألا يجادل في أمر أحد، ولا يحاول إنقاذ أحد -ولو كان أقرب الأقربين إليه- ممن سبق عليهم القول. (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون). فسنة الله لا تحابي، ولا تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم، من أجل خاطر ولي ولا قريب!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وإنما عبر هنالِك بقوله: {قلنا احمل فيها} [هود: 40] وهنَا بقوله: {فاسلُك فيها} لأن آية سورة هود حكت ما خاطبه الله به عند حدوث الطوفان وذلك وقت ضيق فأُمرّ بأن يحمل في السفينة من أراد الله إبقاءهم، فأسند الحمل إلى نوح تمثيلاً للإسراع بإركاب ما عُيِّن له في السفينة حتَّى كأنّ حاله في إدخاله إيَّاهم حالُ من يحمل شيئاً ليضعه في موضع، وآية هذه السورة حكت ما خاطبه الله به من قبل حدوث الطوفان إنباء بما يفعله عند حدوث الطوفان فأمَره بأنه حينئذ يدخل في السفينة من عَيَّن الله إدخالهم، مع ما في ذلك من التفنن في حكاية القصة.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

استجاب الله تعالى دعاء نبيه نوح- عليه السلام- في النصرة على قومه، فأمره بأن يصنع الفلك. والفلك هي السفينة، وتطلق على المفرد والجمع، قال تعالى: {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون (119)} [الشعراء]، وقال: {وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12)} [فاطر]: فدلت مرة على المفرد، ومرة على الجمع...

{بأعيننا ووحينا} دليل على أن نوحا- عليه السلام- لم يكن نجارا كما يقول البعض، فلو كان نجارا لهداه عقله إلى صناعتها، إنما هو صنعها بوحي من الله وتوجيهاته ورعايته، كما قال سبحانه: {ولتصنع على عيني (39)} [طه]. فالمعنى: اصنع الفلك، وسوف أوفقك إلى صناعتها، وأهديك إلى ما يجب أن يكون، وأصحح لك إن أخطأت في وضع شيء في غير موضعه، إذن: أمرت وأعنت وتابعت. والوحي: هو خطاب الله لرسوله بخفاء...

ومعنى {زوجين} ليس كما يظن البعض أن زوج يعني: اثنين، إنما الزوج يعني فرد ومعه مثله، ومنه قوله تعالى: {ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (143) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين.. (144)} [الأنعام]: فسمى كل فرد من هذه الثمانية زوجا، لأن معه مثله...

هذا في جميع المخلوقات، أما في البشر فلم يقل زوجين، إنما قال {وأهلك} أيا كان نوعهم وعددهم، لكن الأهلية هنا أهلية نسب، أم أهلية إيمانية؟. الأهلية هنا يراد بها أهلية الإيمان والاتباع، بدليل أن الله تعالى شرح هذه اللقطة في آية أخرى، فقال على لسان نوح عليه السلام: {فقال رب إن ابني من أهلي.. (45)} [هود]. فقال له ربه: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح (46)} [هود]. فبنوة الأنبياء بنوة عمل واتباع، فإن جاءت من صلبه فأهلا وسهلا، وإن جاءت من الغير فأهلا وسهلا.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} ممن حقّت عليه كلمة العذاب بكفره وضلاله من زوجك وولدك، {وَلاَ تخاطبني في الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر والضلال، لأن الموقف ليس موقف عاطفة تتحرك فيه شخصية الأب تجاه ولده، أو الزوج تجاه زوجته، بل هو موقف حقّ ورسالةٍ تنطلق فيها العاطفة لتؤكد رفضها للكفر كله حتى من أقرب الناس إليه.. {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} فيمن يغرق من الكافرين.