هذا الدرس تكملة لما جاء في هذه السورة عن تنظيم الأسرة ، على قواعد الفطرة ، ولا يعود السياق بعد ذلك إلا في موضعين لبيان بعض الأحكام التكميلية في هذا الموضوع الأساسي الهام ، الذي يترتب على تنظيمه جريان الحي
ومما يلاحظ - بوجه عام - أن السياق يربط ربطا دقيقا بين هذه التنظيمات والأحكام وبين الأصل الأول الكبير للإيمان : وهو أن هذه التنظيمات والأحكام صادرة من الله . وهي مقتضى ألوهيته . فأخص خصائص الألوهية - كما كررنا ذلك في مطلع السورة - هو الحاكمية ، والتشريع للبشر ، ووضع الأسس التي تقوم عليها حياتهم وارتباطاتهم .
والسياق ما يني يكرر هذا الارتباط الدقيق ؛ وينبه إلى هذه الخاصية من خصائص الألوهية . ويكرر كذلك الإشارة إلى صدور هذه التنظيمات عن العليم الحكيم . . وهي إشارة ذات مغزى . . فالأمر في هذا المنهج الإلهي كله هو قبل كل شيء أمر العلم الشامل الكامل ، والحكمة المدركة البصيرة . . هذه الخصائص الإلهية التي يفقدها الإنسان ، فلا يصلح بعدها أبدا لوضع المنهج الأساسي لحياة الإنسان ! ومن هنا شقوة الإنسان في الأرض كلما حاد عن منهج العليم الحكيم ، وراح يخبط في التيه بلا دليل ، ويزعم أنه قادر ، بجهله وطيشه وهواه ، أن يختار لنفسه ولحياته خيرا مما يختاره الله ! ! !
والأمر الآخر الذي يؤكده سياق الدرس ويكرره : هو أن منهج الله هذا أيسر على الإنسان وأخف وأقرب إلى الفطرة ، من المناهج التى يريدها البشر ويهوونها ، وأنه من رحمة الله بضعف الإنسان أن يشرع له هذا المنهج ، الذي تكلفه الحيدة عنه عنتا ومشقة ، فوق ما تكلفه من هبوط وارتكاس .
وسنرى - عند استعراض النصوص بالتفصيل - مصداق هذه الحقيقة في واقع البشر التاريخي وهي حقيقة واضحة في هذا الواقع ، لولا أن الهوى يطمس القلوب ، ويعمي العيون ، عندما ترين الجاهلية على القلوب والعيون !
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين . فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . إن الله كان عليما حكيما . ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن ، وآتوهن أجورهن بالمعروف ، محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان . فإذا أحصن ، فإن أتين بفاحشة ، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب - ذلك لمن خشي العنت منكم - وأن تصبروا خير لكم ، والله غفور رحيم . يريد الله ليبين لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم ، والله عليم حكيم . والله يريد أن يتوب عليكم . ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما . يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الإنسان ضعيفا . .
لقد سبق في نهاية الجزء الرابع بيان المحرمات من النساء حرمة ذاتية . وذلك في قوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا . حرمت عليكم أمهاتكم ، وبناتكم ، وأخواتكم وعماتكم ، وخالاتكم ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة ، وأمهات نسائكم ، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - وحلائل أبنائكم - الذين من أصلابكم - وأن تجمعوا بين الأختين - إلا ما قد سلف - إن الله كان غفورا رحيما ) .
فتتعلق بالمحرمات لأنهن في عصمة رجال آخرين . محصنات بالزواج منهم : فهن محرمات على غير أزواجهن ، لا يحل نكاحهن . . . وذلك تحقيقا للقاعدة الأولى في نظام المجتمع الإسلامي ، من قيامه على قاعدة الأسرة ، وجعلها وحدة المجتمع ، وصيانة هذه الأسرة من كل شائبة ، ومن كل اختلاط في الأنساب ، ينشأ من " شيوعية " الاتصال الجنسي ، أو ينشأ من انتشار الفاحشة ، وتلوث المجتمع بها .
والأسرة القائمة على الزواج العلني ، الذي تتخصص فيه امرأة بعينها لرجل بعينه ، ويتم به الإحصان - وهو الحفظ والصيانة - هي أكمل نظام يتفق مع فطرة " الإنسان " وحاجاته الحقيقية ، الناشئة من كونه إنسانا ، لحياته غاية أكبر من غاية الحياة الحيوانية - وإن كانت تتضمن هذه الغاية في ثناياها - ويحقق أهداف المجتمع الإنساني ، كما يضمن لهذا المجتمع السلم المطمئنة : سلم الضمير . وسلم البيت . وسلم المجتمع في نهاية المطاف .
والملاحظ بصفة ظاهرة ، أن الطفل الإنساني يحتاج إلى فترة رعاية أطول من الفترة التي يحتاج إليها طفل أي حيوان آخر . كما أن التربية التي يحتاج إليها ليصبح قادرا على إدراك مقتضيات الحياة الإنسانية الاجتماعية المترقية - التي يتميز بها الإنسان - تمتد إلى فترة طويلة أخرى .
وإذا كانت غاية الميل الجنسي في الحيوان تنتهي عند تحقيق الاتصال الجنسي والتناسل والإكثار ، فإنها في الإنسان لا تنتهي عند تحقيق هذا الهدف ، إنما هي تمتد إلى هدف أبعد هو الارتباط الدائم بين الذكر والأنثى - بين الرجل والمرأة - ليتم إعداد الطفل الإنساني لحماية نفسه وحفظ حياته ، وجلب طعامه وضرورياته ، كما يتم - وهذا هو الأهم بالنسبة لمقتضيات الحياة الإنسانية - تربية هذا الطفل وتزويده برصيد من التجارب الإنسانية والمعرفة الإنسانية يؤهله للمساهمة في حياة المجتمع الإنساني ، والمشاركة في حمل تبعته من اطراد الترقي الإنساني عن طريق الأجيال المتتابعة .
ومن ثم لم تعد اللذة الجنسية هي المقوم الأول في حياة الجنسين في عالم الإنسان ؛ إنما هي مجرد وسيلة ركبتها الفطرة فيهما ليتم الالتقاء بينهما ويطول بعد الاتصال الجنسي للقيام بواجب المشاركة في اطراد نمو النوع . ولم يعد " الهوى " الشخصي هو الحكم في بقاء الارتباط بين الذكر والأنثى . إنما الحكم هو " الواجب " . . . واجب النسل الضعيف الذي يجيء ثمرة للالتقاء بينهما ، وواجب المجتمع الإنساني الذي يحتم عليهما تربية هذا النسل إلى الحد الذي يصبح معه قادرا على النهوض بالتبعة الإنسانية ، وتحقيق غاية الوجود الإنساني .
وكل هذه الاعتبارات تجعل الارتباط بين الجنسين على قاعدة الأسرة ، هو النظام الوحيد الصحيح . كما تجعل تخصيص امرأة لرجل هو الوضع الصحيح الذي تستمر معه هذه العلاقة . والذي يجعل " الواجب " لا مجرد اللذة ولا مجرد الهوى ، هو الحكم في قيامها ، ثم في استمرارها ، ثم في معالجة كل مشكلة تقع فيأثنائها ، ثم عند فصم عقدتها عند الضرورة القصوى .
وأي تهوين من شأن روابط الأسرة ، وأي توهين للأساس الذي تقوم عليه - وهو " الواجب " لإحلال " الهوى " المتقلب ، و " النزوة " العارضة ، و " الشهوة " الجامحة محله ، هي محاولة آثمة ، لا لأنها تشيع الفوضى والفاحشة والانحلال في المجتمع الإنساني فحسب ، بل كذلك لأنها تحطم هذا المجتمع ؛ وتهدم الأساس الذي يقوم عليه .
ومن هنا ندرك مدى الجريمة التي تزاولها الأقلام والأجهزة الدنسة ، المسخرة لتوهين روابط الأسرة ، والتصغير من شأن الرباط الزوجي ، وتشويهه وتحقيره ، للإعلاء من شأن الارتباطات القائمة على مجرد الهوى المتقلب ، والعاطفة الهائجة ، والنزوة الجامحة . وتمجيد هذه الارتباطات ، بقدر الحط من الرباط الزوجي !
كما ندرك مدى الحكمة والعمق في قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرجل أراد أن يطلق زوجته ، معللا ذلك بأنه لم يعد يحبها : " ويحك ! ألم تبن البيوت إلا على الحب ؟ فأين الرعاية ؟ وأين التذمم ؟ " . . مستمدا قولته هذه من توجيه الله سبحانه وتربية القرآن الكريم لتلك الصفوة المختارة من عباده : ( وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . . وذلك للإمساك بالبيوت - ما أمكن - ومقاومة نزوات القلوب ، وعلاجها حتى تفيء ، وعدم بت هذه الصلة إلا حين تفلس المجادلات كلها ، رعاية للجيل الناشيء في هذه البيوت ؛ وصيانة لها من هزات العاطفة المتقلبة ، والنزوة الجامحة ، والهوى الذاهب مع الريح !
وفي ظل هذه النظرة السامية العميقة ، تتبدى التفاهة والسطحية فيما ينعق به اليوم أولئك المائعون ، وهم يمجدون كل ارتباط إلا الارتباط الذي يحكم الواجب ، والذي يرعى أمانة الجنس البشري كله ، وهي تنشئة أجيال تنهض بمقتضيات الحياة الإنسانية المترقية ، وتحكيم مصلحة هذه الأجيال ، لا مصلحة العواطف الوقتية الزائلة !
إن أقلاما دنسة رخيصة وأجهزة خبيثة لئيمة توحي لكل زوجة ينحرف قلبها قليلا عن زوجها أن تسارع إلى خدين ؛ ويسمون ارتباطها بخدينها هذا " رباطا مقدسا ! " بينما يسمون ارتباطها بذلك الزوج " عقد بيع للجسد " !
والله سبحانه يقول : في بيان المحرمات من النساء : ( والمحصنات من النساء ) . . فيجعلهن " محرمات " . هذا قول الله . وذلك قول المائعين المسخرين لتحطيم هذا المجتمع ونشر الفاحشة فيه . . . ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) .
إن جهودا منظمة موجهة تبذل لإنشاء موازين وقيم وتصورات للمجتمع غير تلك التي يريدها الله . ولإقامة أسس للحياة والارتباطات غير تلك التي أقامها الله . ولتوجيه الناس والحياة وجهة غير التي قررها الله . . والموجهون لهذه الجهود يحسبون أنهم ينتهون إلى تحطيم قواعد المجتمع الإسلامي ، وتدمير حياة المسلمين في الأوطان الإسلامية ، حتى لا تبقى أمامهم حواجز تصد أطماعهم القديمة في هذه الأوطان ، بعد أن تنهار عقائدها ، وتنهار أخلاقها ، وتنهار مجتمعاتها . . ولكن الكارثة أبعد من هذا مدى . . إنها تحطيم قواعد المجتمع الإنساني كله - لا المجتمع الإسلامي وحده - تحطيم قواعد الفطرة التي تقوم عليها حياة الإنسان . وحرمان المجتمع البشري من العناصر التي تحمل أمانته الكبرى . أمانة الحياة الإنسانية المترقية . وذلك بحرمانه منالأطفال المؤهلين - في جو الأسرة الهادى ء ، المطمئن ، الآمن من عواصف الشهوات الجامحة ، والنزوات المتقلبة والهوى الذاهب مع الريح - للنهوض بأمانة الجنس البشري كله . وهي شيء آخر غير مجرد التناسل الحيواني ! وغير مجرد الالتقاء الشهواني على أساس " العواطف " وحدها ، وتنحية " الواجب " المطمئن الثابت الهادى ء !
وهكذا تحق اللعنة على الجنس البشري كله ، إذ يحطم نفسه بنفسه ؛ ويدمر الجيل الحاضر منه مستقبل الأجيال القادمة . لتحقيق لذاته هو ، وشهواته هو ، وعلى الأجيال القادمة اللعنة . وتحق كلمة الله على الخارجين على كلمته وفطرته وتوجيهه . ويذوق الجنس البشري كله وبال أمره . إلا أن يرحمه الله بالعصبة المؤمنة التي تقر كلمة الله ومنهجه في الأرض ، وتأخذ بيد الناس إليها ؛ وتعصمهم من الشر الماحق الذي يهيئونه لأنفسهم بأيديهم . وهم يحسبون أنهم فقط إنما يحطمون الأوطان الإسلامية ، لتنهار حواجزها بتلك الجهود الموجهة الخبيثة ! التي تتولاها أقلام وأجهزة من داخل هذه الأوطان ذاتها .
( والمحصنات من النساء - إلا ما ملكت أيمانكم . . ) .
وهذا الاستثناء يتعلق بالسبايا اللواتي كن يؤخذن أسيرات في حروب الجهاد الإسلامي وهن متزوجات في دار الكفر والحرب . حيث تنقطع علاقاتهن بأزواجهن الكفار ، بانقطاع الدار . ويصبحن غير محصنات . فلا أزواج لهن في دار الإسلام . ومن ثم يكفي استبراء أرحامهن بحيضة واحدة ؛ يظهر منها خلو أرحامهن من الحمل . ويصبح بعدها نكاحهن حلالا - إن دخلن في الإسلام - أو أن يباشرهن من غير عقد نكاح من يقعن في سهمه ، باعتبارهن ملك يمين . سواء أسلمن أم لم يسلمن .
ولقد سبق لنا في الجزء الثاني من هذه الظلال ، بيان موقف الإسلام من مسألة الرق بجملتها . . كذلك ورد بيان آخر عند تفسير قوله تعالى : ( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ؛ فإما منا بعد وإما فداء ؛ حتى تضع الحرب أوزارها ) . . في سورة " محمد " في الجزء السادس والعشرين فيرجع إليهما في مواضعهما .
ونكتفي هنا بالقول : بأن المعسكر الإسلامي كان يعامل أعداءه في مسألة استرقاق الأسرى في الحرب كما يعاملونه من حيث مبدأ الرق ، ويفضلهم في نوع معاملته للرقيق وفي اعتبار إنسانيته فضلا كبيرا . ولم يكن له بد من ذلك . حيث كان استرقاق الأسرى نظاما عالميا لا يملك الإسلام إبطاله من جانب واحد . وإلا كان الأسرى من المسلمين يصبحون رقيقا ؛ بينما الأسرى من الكفار يصبحون أحرارا . فترجح كفة المعسكرات الكافرة على المعسكر الإسلامي ، وتطمع هذه المعسكرات في مهاجمته وهي آمنة مطمئنة من عواقب الهجوم ، بل وهي رابحة غانمة !
ومن ثم لم يكن بد من أن تكون هناك سبايا كوافر في المجتمع المسلم . فكيف يصنع بهن ؟ إن الفطرة لا تكتفي بأن يأكلن ويشربن . فهناك حاجة فطرية أخرى لا بد لهن من إشباعها وإلا التمسنها في الفاحشة التي تفسد المجتمع كله وتدنسه ! ولا يجوز للمسلمين أن ينكحوهن وهن مشركات . لتحريم الارتباط الزوجي بين مسلم ومشركة فلا يبقى إلا طريق واحد هو إحلال وطئهن بلا نكاح ما دمن مشركات - بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن ، وانقطاع صلتهن بأزواجهن في دار الكفر والحرب .
وقبل أن يمضي السياق القرآني في تقرير ما يحل بعد تلك المحرمات ، يربط بين أصل التحريم والتحليل ومصدر التحريم والتحليل . المصدر الذي ليس لغيره أن يحرم أو يحلل ؛ أو يشرع للناس شيئا في أمور حياتهم جميعا :
هذا عهد الله عليكم وميثاقه وكتابه فليست المسألة هوى يتبع ، أو عرفا يطاع ، أو موروثات بيئة تتحكم . . إنما هو كتاب الله وعهده وميثاقه . . فهذا هو المصدر الذي تتلقون منه الحل والحرمة ؛ وترعون ما يفرضه عليكم وما يكتبه ، وتطالبون بما كتب عليكم وما عهد إليكم كذلك .
ومما يلاحظ أن معظم المحرمات التي حرمها القرآن في الآيات السابقة ، كانت محرمة في الجاهلية ولم يكن يباح منها في عرف الجاهلية إلا ما نكح الآباء ، والجمع بين الأختين - على كره من العرف الجاهلي ذاته لنكاح زوجات الآباء . وقد كان يسمى عندهم " مقيتا نسبة إلى المقت " ! ولكن لما جاء القرآن يقرر حرمة هذه المحرمات ، لم يرجع في تحريمها إلى عرف الجاهلية هذا ، إنما قال الله سبحانه : ( كتاب الله عليكم ) . .
هذه لمسة تقتضي الوقوف أمامها لبيان حقيقة الأصل الاعتقادي في الإسلام ، وحقيقة الأصل الفقهي . فهذا البيان يفيدنا في أمور كثيرة في حياتنا الواقعية :
إن الإسلام يعتبر أن الأصل الوحيد الذي يقوم عليه التشريع للناس هو أمر الله وإذنه . بإعتبار أنه هو مصدر السلطان الأول والأخير . فكل ما لم يقم ابتداء على هذا الأصل فهو باطل بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح المستأنف . فالجاهلية بكل ما فيها - والجاهلية هي كل وضع لا يستمد وجوده من ذلك الأصل الوحيد الصحيح - باطلة بطلانا أصليا . باطلة بكل تصوراتها وقيمها وموازينها وعرفها وتقاليدها وشرائعها وقوانينها . والإسلام حين يسيطر على الحياة ويصرفها ، يأخذ الحياة جملة ، ويأخذ الأمر جملة ؛ فيسقط ابتداء كل أوضاع الجاهلية وكل قيمها ، وكل عرفها ، وكل شرائعها ؛ لأنها باطلة بطلانا أصليا غير قابل للتصحيح المستأنف . . فإذا أقر عرفا كان سائدا في الجاهلية ، فهو لا يقره بأصله الجاهلي ؛ مستندا إلى هذا الأصل . إنما هو يقرره ابتداء بسلطانه المستمد من أمر الله وإذنه . أما ذلك الذي كان في الجاهلية فقد سقط ولم يعد له وجود من الناحية الشرعية .
كذلك حين يحيل الفقه الإسلامي على " العرف " في بعض المسائل فهو يمنح العرف ابتداء سلطانا من عنده هو - بأمر الله - فتصبح للعرف - في هذه المسائل - قوة الشريعة ، استمدادا من سلطان الشارع - وهو الله - لا استمدادا من الناس ومن البيئة التي تواضعت على هذا العرف من قبل . فليس تواضع البيئة على هذا العرف هو الذي يمنحه السلطان . . كلا . . إنما الذي يمنحه السلطان هو اعتبار الشارع إياه مصدرا في بعض المسائل . وإلا بقي على بطلانه الأصلي ، لأنه لم يستمد من أمر الله . وهو وحده مصدر السلطان . وهو يقول عما كانت الجاهلية تشرعه مما لم يأذن به الله : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ؟ ) فيشير إلى أن الله وحده هو الذي يشرع . فهل لهم آلهة شرعت لهم ما لم يأذن به الله ؟
هذا الأصل الكبير ، الذي تشير إليه هذه اللمسة : ( كتاب الله عليكم ) تقرره وتؤكده النصوص القرآنيةفي كل مناسبات التشريع ، فما من مرة ذكر القرآن تشريعا إلا أشار إلى المصدر الذي يجعل لهذا التشريع سلطانا . أما حين يشير إلى شرائع الجاهلية وعرفها وتصوراتها فهو يردفها غالبا بقوله : ما نزل الله بها من سلطان لتحريرها من السلطان ابتداء ، وبيان علة بطلانها ، وهي كونها لم تصدر من ذلك المصدر الوحيد الصحيح .
وهذا الأصل الذي نقرره هنا هو شيء آخر غير الأصل المعروف في التشريع الإسلامي . من أن الأصل في الأشياء الحل ، ما لم يرد بتحريمها نص . فكون الأصل في الاشياء الحل ، إنما هو كذلك بأمر الله وإذنه . فهو راجع إلى الأصل الذي قررناه ذاته . إنما نحن نتحدث عما تشرعه الجاهلية لنفسها دون رجوع إلى ما شرعه الله . وهذا الأصل فيه البطلان جملة وكلية ، حتى يقرر شرع الله ما يرى تقريره منه من جديد ، فيكتسب منذ أن يرد في شرع الله المشروعية والسلطان .
فإذا انتهى السياق من بيان المحرمات ، وربطها بأمر الله وعهده ، أخذ في بيان المجال الذي يملك فيه الناس أن يلبوا دوافع فطرتهم في التزاوج ، والطريقة التي يحب الله أن يلتقي بها أفراد الجنسين لتكوين البيوت ، وإقامة مؤسسات الأسرة ، والمتاع بهذا الالتقاء في نظافة وطهر وجد تليق بهذا الأمر العظيم :
( وأحل لكم - ما وراء ذلكم - أن تبتغوا بأموالكم . . محصنين غير مسافحين . . فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن - فريضة - ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . إن الله كان عليما حكيما ) . .
ففيما وراء هذه المحرمات المذكورة فالنكاح حلال ، وللراغبين فيه أن يبتغوا النساء ، بأموالهم - أي لأداء صداقهن - لا لشراء أعراضهن بالأموال من غير نكاح ! ومن ثم قال :
وجعلها قيدا وشرطا للابتغاء بالأموال ، قبل أن يتم الجملة ، وقبل أن يمضي في الحديث . ولم يكتف بتقرير هذا القيد في صورته الإيجابية المثبته : ( محصنين ) بل أردفها بنفي الصورة الأخرى : ( غير مسافحين ) زيادة في التوكيد والإيضاح ، في معرض التشريع والتقنين . . ثم لكي يرسم صورة لطبيعة العلاقة الأولى التي يحبها ويريدها . . علاقة النكاح . . وصورة لطبيعة العلاقة الأخرى التي يكرهها وينفيها . . علاقة المخادنة أو البغاء . . وقد كانت هذه وتلك معروفة في مجتمع الجاهلية ، ومعترفا بها كذلك من المجتمع !
جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - :
" ان النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم . يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته ، فيصدقها ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته - إذا طهرت من طمثها - أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه . فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر . يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة ، كلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ، ومر عليها ليال ، بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، فهو ابنك يا فلان . تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل . والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما ، فمن أرادهن دخل عليهن ، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ودعوا لهم القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون ، فالتاطه ، ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك "
فالنوعان الثالث والرابع هما السفاح الذي ينص على نفيه - سواء منه المخادنة والبغاء - والأول هو الإحصان الذي ينص على طلبه . . أما الثاني فما ندري كيف نسميه ! ! !
والقرآن يصور طبيعة النوع الذي يريده الله . . فهو إحصان . . هو حفظ وصيانة . . هو حماية ووقاية . . هو إحصان للرجل وإحصان للمرأة . ففي هذه القراءة( محصنين )بصيغة اسم الفاعل ، وفي قراءة أخرى : ( محصنين ) بصيغة اسم المفعول . وكلا المعنيين يتحقق في هذه الصورة النظيفة القويمة العفيفة . وهو إحصان للبيت والأسرة والأطفال . إحصان لهذة المؤسسة التي تقوم على هذا الأساس ثابتة راسخة وطيدة .
والآخر : سفاح . . مفاعلة من السفح ، وهو إراقة الماء في المنحدر الواطى ء ! مسافحة يشترك فيها الرجل والمرأة ، فيريقان ماء الحياة ، الذي جعله الله لامتداد النوع ، ورقيه ، عن طريق اشتراك الرجل والمرأة في إنجاب الذرية وتربيتها وحضانتها وصيانتها . فإذا هما يريقانه للذة العابرة ، والنزوة العارضة . يريقانه في السفح الواطى ء ! فلا يحصنهما من الدنس ، ولا يحصن الذرية من التلف ، ولا يحصن البيت من البوار !
وهكذا يرسم التعبير القرآني صورتين كاملتين لنوعين من الحياة ؛ في كلمتين اثنتين . ويبلغ غايته من تحسين الصورة التي يرتضيها ، وتبشيع الصورة التي لا يرتضيها ، بينما هو يقرر حقيقة كل من الصورتين في واقع الحياة . وذلك من بدائع التعبير في القرآن .
فإذا انتهى من هذا القيد للابتغاء بالأموال . عاد ليقرر كيف يبتغى بالأموال :
( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ) .
فهو يجعل صداق المرأة فريضة لها مقابل الاستمتاع بها . فمن أراد أن يستمتع بامرأة من الحلائل - وهن ما وراء ذلكم من المحرمات - فالطريق هو ابتغاؤها للإحصان - أي عن طريق النكاح [ الزواج ] لا عن أي طريق آخر - وعليه أن يؤدي لها صداقها حتما مفروضا ، لا نافلة ، ولا تطوعا منه ، ولا إحسانا ، فهو حق لها عليه مفروض . وليس له أن يرثها وراثة بلا مقابل - كما كان يقع في بعض الأحوال في الجاهلية - وليس له أن يقايض عليها مقايضة كما كان يقع في زواج الشغار في الجاهلية . وهو أن يتزوج الرجل امرأة في مقابل أن يدفع لوليها امرأة من عنده ! كأنهما بهيمتان ! أو شيئان !
وبعد تقرير هذا الحق للمرأة وفرضيته ، يدع الباب مفتوحا لما يتراضى عليه الزوجان بينهما وفق مقتضيات حياتهما المشتركة ، ووفق مشاعرهما وعواطفهما أحدهما تجاه الآخر :
( ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) .
فلا حرج عليهما في أن تتنازل الزوجة عن مهرها - كله أو بعضه - بعد بيانه وتحديده . وبعد أن أصبح حقا لها خالصا تتصرف فيه كما تتصرف في سائر أموالها بحرية - ولا جناح عليهما في أن يزيدها الزوج على المهر ، أو يزيدها فيه . فهذا شأنه الخاص . وهذا شأنهما معا يتراضيان عليه في حرية وسماحة .
ثم يجىء التعقيب . يربط هذه الأحكام بمصدرها ؛ ويكشف عما وراءها من العلم الكاشف ، والحكمة البصيرة :
( إن الله كان عليما حكيما ) . .
فهو الذي شرع هذه الأحكام . وهو الذي شرعها عن علم وعن حكمة . . فيعرف ضمير المسلم من أين يتلقى الأحكام في كل شأن من شئون حياته - وأخصها هذا الذي بينه وبين زوجه - ويطمئن إلى ما يتلقاه من هذه الأحكام ، الصادرة عن العلم وعن الحكمة ( إن الله كان عليما حكيما ) . . .
قوله عز وجل : { والمحصنات } عطف على المحرمات قبل ، والتحصن : التمنع ، يقال حصن المكان : إذا امتنع ، ومنه الحصن ، وحصنت المرأة : امتنعت بوجه من وجوه الامتناع ، وأحصنت نفسها ، وأحصنها غيرها ، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء ، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل ، فتستعمله في الزواج ، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ ، ويستعملون الإحصان في الحرية لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا ، والحرة بخلاف ذلك ، ألا ترى إلى قولة هند بنت عتبة للنبي عليه السلام ، حين بايعته ، وهل تزني الحرة ؟ قالحرية منعة وحفظ ، ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ ، ومنه قول النبي عليه السلام «الإيمان قيد الفتك »{[3924]} ومنه قول الهذلي :
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أمَّ مَالِكٍ . . . ولكنْ أَحَاطَتْ بالرِّقابِ السَّلاسِلُ{[3925]}
قالَتْ هَلُمَّ إلى الحَديثِ فَقُلْتُ لا . . . يَأبى عَلَيْكِ اللَّهُ والإسْلامُ{[3926]}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كَفى الشَّيْبُ والإسْلامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيا{[3927]}
رَمَتْني وَسِتْرُ اللّهِ بيني وبينَها . . . فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام ، ويستعملون الإحصان في العفة ، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها ، فهي منعة وحفظ{[3928]} .
وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني ، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض ، بحسب موضع وموضع ، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله .
فقوله في هذه الآية { والمحصنات } ، قال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري : هن ذوات الأزواج ، أي هن محرمات ، إلا ما ملكت اليمين بالسبي ، من أرض الحرب ، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه ، وإن كان لها زوج{[3929]} .
وروى أبو سعيد الخدري : أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى أوطاس{[3930]} فلقوا عدواً وأصابوا سبياً لهن أزواج من المشركين ، فتأثم{[3931]} المسلمون من غشيانهن ، فنزلت الآية مرخصة{[3932]} ، وقال عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن ابن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس أيضاً : معنى { المحصنات } ذوات الأزواج ، فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج ، فإن بيعها طلاقها ، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها ، وأن تعتق طلاقها ، وأن تورث طلاقها ، وتطليق الزوج طلاقها ، وقال ابن مسعود : إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحقّ ببضعها ، ومذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقاً ، ولا طلاق لها إلا الطلاق ، وقال قوم : { المحصنات } في هذه الآية العفائف ، أي كل النساء حرام ، وألبسهن اسم الإحصان ، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك ، { إلا ما ملكت إيمانكم } قالوا : معناه بنكاح أو شراء ، كل ذلك تحت ملك اليمين{[3933]} ، قال بهذا القول أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء ، ورواه عبيده عن عمر رضي الله عنه ، وقال ابن عباس : { المحصنات } العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب .
قال القاضي أبو محمد : وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا ، وأسند الطبري عن عروة أنه قال في تأويل قوله تعالى : { والمحصنات } : هن الحرائر ، ويكون { إلا ما ملكت أيمانكم } معناه بنكاح ، هذا على اتصال الاستثناء ، وإن أريد الإماء فيكون الاستثناء منقطعاً ، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كان نساء يأتيننا مهاجرات ، ثم يهاجر أزواجهن فمنعناهن بقوله تعالى : { والمحصنات } الآية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يرجع إلى ما قد ذكر من الأقوال ، وأسند الطبري أن رجلاً قال لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية { والمحصنات من النساء } فلم يقل فيها شيئاً ؟ فقال سعيد : كان ابن عباس لا يعلمها وأسند أيضاً عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل قوله : { والمحصنات }إلى قوله : { حكيماً } .
قال القاضي أبو محمد : ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول{[3934]} ؟ وروي عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية { والمحصنات من النساء } فقال : يروى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج والعفائف من حرائر ومملوكات ، ولم يحل شيئاً من ذلك إلا بالنكاح أو الشراء والتملك ، وهذا قول حسن عمم لفظ الإحسان ولفظ ملك اليمين ، وعلى هذا التأويل يتخرج عندي قول مالك في الموطأ ، فإنه قال : هن ذوات الأزواج ، وذلك راجع إلى أن الله حرم الزنا ، ففسر الإحصان بالزواج ، ثم عاد عليه بالعفة{[3935]} .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة ، «والمحصّنات » بفتح الصاد في كل القرآن ، وقرأ الكسائي كذلك في هذا الموضع وحده ، وقرأ سائر ما في القرآن المحصنات بكسر الصاد «ومحصِنات » كذلك ، وروي عن علقمة أنه قرأ جميع ما في القرآن بكسر الصاد ، ففتح الصاد هو على معنى أحصنهن غيرهن من زوج أو إسلام أو عفة أو حرية . وكسر الصاد هو على معنى أنهن أحصنَّ أنفسهن بهذه الوجوه أو ببعضها ، وقرأ يزيد بن قطيب «والمحصُنات » بضم الصاد ، وهذا على إتباع الضمة الضمة{[3936]} .
وقرأ جمهور الناس «كتاب الله » وذلك نصب على المصدر المؤكد ، وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميفع اليماني «كَتَبَ اللهُ عليكم » على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى ، وقال عبيدة السلماني وغيره : قوله { كتاب الله عليكم } إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله : { مثنى وثلاث ورباع }{[3937]} وفي هذا بعد ، والأظهر لأن قوله { كتاب الله عليكم } إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله ، واختلفت عبارة المفسرين في قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فقال السدي : المعنى وأحل لكم ما دون الخمس ، أن تبتغوا بأموالكم ، على وجه النكاح ، وقال نحوه عبيدة السلماني ، وقال عطاء وغيره : المعنى «وأحل لكم ما وراء » من حرم من سائر القرابة ، فهن حلال لكم تزويجهن ، وقال قتادة : المعنى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } من الإماء .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يعم جميع هذه الأقوال : وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وأَحل لكم » بفتح الألف والحاء ، وهذا مناسبة لقوله { كتاب الله } إذ المعنى كتب الله ذلك كتاباً ، وقرأ حمزة والكسائي «وأحِل » بضم الهمزة وكسر الحاء وهذه مناسبة لقوله : { حرمت عليكم } والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات ، فهن وراء أولئك بهذا الوجه{[3938]} ، و { أن تبتغوا بأموالكم } ، لفظ يجمع التزويج والشراء و { أن } في موضع نصب ، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع ، ويحتمل النصب بإسقاط الباء{[3939]} ، و { محصنين } ، معناه متعففين أي تحصنون أنفسكم بذلك { غير مسافحين } ، أي غير زناة ، والسفاح : الزنا ، وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه{[3940]} ، ولزم هذا الاسم الزنا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف{[3941]} في عرس : هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر . واختلف المفسرون في معنى قوله : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم : المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ولو مرة فقد وجب إعطاء الأجر ، وهو المهر كله ، ولفظة { فما } تعطي أن بيسير الوطء يجب إيتاء الأجر . وروي عن ابن عباس أيضاً ومجاهد والسدي وغيرهم : أن الآية في نكاح المتعة ، وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وسعيد بن جبير ، «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهنَّ أجورهن » وقال ابن عباس لأبي نضرة : هكذا أنزلها الله عز وجل ، وروى الحكم بن عتيبة ، أن علياً رضي الله عنه قال : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقيّ ، وقد كانت المتعة لا ميراث فيها ، وقيل قول الله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن }{[3942]} [ الطلاق : 1 ] وقالت عائشة : نسخها قوله : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم }{[3943]} ولا زوجية مع الأجل ورفع الطلاق ، والعدة ، والميراث ، وكانت{[3944]} : أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى ، وعلى أن لا ميراث بينهما ، ويعطيها ما اتفقا عليه ، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ، وتستبرىء رحمها لأن الولد لاحق فيه بلا شك ، فإن لم تحمل حلت لغيره .
قال القاضي أبو محمد : وفي كتاب النحاس : في هذا خطأ فاحش في اللفظ ، يوهم أن الولد لا يلحق في نكاح المتعة{[3945]} ، وحكى المهدوي عن ابن المسيب : أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود ، وفيما حكاه ضعف ، و { فريضة } نصب على المصدر في موضع الحال{[3946]} .
واختلف المفسرون في معنى قوله : { ولا جناح عليكم } الآية ، فقال القائلون بأن الآية المتقدمة أمر بإيتاء مهور النساء إذا دخل بهن : إن هذه إشارة إلى ما يتراضى به من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة ، فإن ذلك الذي يكون على وجه الرضا جائز ماض ، وقال القائلون بأنه الآية المتقدمة هي أمر المتعة : إن الإشارة بهذه إلى أن ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة وزيادة في الأجر جائز سائغ ، وباقي الآية بين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والمحصنات من النساء}: وكل امرأة أيضا فنكاحها حرام مع ما حرم من النسب والصهر، ثم استثنى من المحصنات، فقال سبحانه: {إلا ما ملكت أيمانكم} من الحرائر مثنى وثلاث ورباع.
{كتاب الله عليكم}: فريضة الله لكم بتحليل أربع. {وأحل لكم ما وراء ذلكم}: ما وراء الأربع، {أن تبتغوا بأموالكم محصنين} لفروجهن {غير مسافحين} بالزنا علانية. ثم ذكر المتعة، فقال: {فما استمتعتم به منهن} إلى أجل مسمى، {فآتوهن أجورهن فريضة}: أعطوهن مهورهن، {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة}: لا حرج عليكم فيما زدتم من المهر وازددتم في الأجل بعد الأمر الأول، {إن الله كان عليما} بخلقه {حكيما} في أمره، نسختها آية الطلاق وآية المواريث.
قال مالك: المحصنات: ذوات الأزواج.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: حرّمت عليكم المحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم.
واختلف أهل التأويل في المحصنات التي عناهنّ الله في هذه الآية؛ فقال بعضهم: هن ذوات الأزواج غير المسبيات منهنّ.
وملكُ اليمين: السبايا اللواتي فرّق بينهنّ وبين أزواجهنّ السباء، فحللن لمن صرن له بملك اليمين من غير طلاق كان من زوجها الحربيّ لها. واعتلّ قائلو هذه المقالة بالأخبار التي رُويت أن هذه الآية نزلت فيمن سُبي من أَوْطاس. وقال آخرون ممن قال: المحصنات: ذوات الأزواج في هذا الموضع. بل هنّ كل ذات زوج من النساء حرام على غير أزواجهنّ، إلا أن تكون مملوكة اشتراها مشتر من مولاها فتحلّ لمشتريها، ويُبطل بيع سيدها إياها النكاحَ بينها وبين زوجها...طلاق الأمة بيعها...
وقال آخرون: بل معنى المحصنات في هذا الموضع: العفائف. قالوا: وتأويل الآية: والعفائف من النساء حرام أيضا عليكم، إلا ما ملكت أيمانكم منهنّ بنكاح وصداق وسنة وشهود من واحدة إلى أربع.
وقال آخرون: المحصنات في هذا الموضع ذوات الأزواج، غير أن الذي حرم الله منهن في هذه الآية الزنا بهن، وأباحهن بقوله: {إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} بالنكاح أو الملك. وقال آخرون: بل هن نساء أهل الكتاب.
وقال آخرون: المحصنات: هن العفائف وذوات الأزواج، وحرام كل من الصنفين إلا بنكاح أو ملك يمين.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في نساءكنّ يهاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهنّ أزواج، فيتزوّجهن بعض المسلمين، ثم يقدم أزواجهنّ مهاجرين، فنهي المسلمون عن نكاحهن...
فأما المحصنات فإنهنّ جمع محصنة، وهي التي قد منع فرجها بزوج، يقال منه: أحصن الرجل امرأته فهو يُحْصِنها إحصانا وحَصُنَتْ هي فهي تَحْصُنُ حَصَانَةً: إذا عفّت، وهي حاصن من النساء: عفيفة.
ويقال أيضا إذا هي عفت وحفظت فرجها من الفجور: قد أحصنت فرجها فيه محصنة، كما قال جلّ ثناؤه: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها} بمعنى: حفظته من الريبة ومنعته من الفجور. وإنما قيل لحصون المدائن والقرى حصون لمنعها من أرادها وأهلها، وحفظها ما وراءها ممن بغاها من أعدائها، ولذلك قيل للدرع درع حصينة. فإذا كان أصل الإحصان ما ذكرنا من المنع والحفظ فبين أن معنى قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ}: والممنوعات من النساء حرام عليكم {إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}. وإذ كان ذلك معناه، وكان الإحصان قد يكون بالحرية، كما قال جل ثناؤه: {والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ويكون بالإسلام، كما قال تعالى ذكره: {فإذَا أُحْصِنّ فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ ما على المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ} ويكون بالعفة كما قال جل ثناؤه: {وَالّذِينَ يَرْمُون المُحْصَناتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ويكون بالزوج ولم يكن تبارك وتعالى خصّ محصنة دون محصنة في قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ} فواجب أن يكون كل محصنة بأي معاني الإحصان كان إحصانها حراما علينا سفاحا أو نكاحا، إلا ما ملكته أيماننا منهن بشراء، كما أباحه لنا كتاب الله جل ثناؤه، أو نكاح على ما أطلقه لنا تنزيل الله. فالذي أباحه تبارك وتعالى لنا نكاحا من الحرائر الأربع سوى اللواتي حرمن علينا بالنسب والصهر، ومن الإماء ما سبينا من العدو سوى اللواتي وافق معناهن معنى ما حرم علينا من الحرائر بالنسب والصهر، فإنهن والحرائر فيما يحل ويحرم بذلك المعنى متفقات المعاني، وسوى اللواتي سبيناهن من أهل الكتابين ولهن أزواج، فإن السباء يحلهن لمن سباهن بعد الاستبراء، وبعد إخراج حق الله تبارك وتعالى الذي جعله لأهل الخمس منهن. فأما السّفاح فإن الله تبارك وتعالى حرمه من جميعهن، فلم يحلّه من حرّة ولا أمة ولا مسلمة ولا كافرة مشركة. وأما الأمة التي لها زوج فإنها لا تحل لمالكها إلا بعد طلاق زوجها إياها، أو وفاته وانقضاء عدتها منه، فأما بيع سيدها إياها فغير موجب بينها وبين زوجها فراقا ولا تحليلاً لمشتريها، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه خير بريرة إذ أعتقتها عائشة بين المقام مع زوجها الذي كان سادتها زوّجوها منه في حال رقها، وبين فراقه» ولم يجعل صلى الله عليه وسلم عتق عائشة إياها طلاقا. ولو كان عتقها وزوال ملك عائشة إياها لها طلاقا لم يكن لتخيير النبيّ صلى الله عليه وسلم إياها بين المقام مع زوجها والفراق معنى، ولوجب بالعتق الفراق، وبزوال ملك عائشة عنها الطلاق، فلما خيرها النبيّ صلى الله عليه وسلم بين الذي ذكرنا وبين المقام مع زوجها والفراق كان معلوما أنه لم يخير بين ذلك إلا والنكاح عقده ثابت، كما كان قبل زوال ملك عائشة عنها، فكان نظيرا للعتق الذي هو زوال ملك مالك المملوكة ذات الزوج عنها البيع الذي هو زوال ملك مالكها عنها، إذ كان أحدهما زوالاً ببيع والاَخر بعتق في أن الفرقة لا يجب بها بينها وبين زوجها بهما ولا بواحد منهما طلاق وإن اختلفا في معان أخر، من أن لها في العتق الخيار في المقام مع زوجها والفراق، لعلة مفارقة معنى البيع، وليس ذلك لها في البيع.
فإن قال قائل: وكيف يكون معنيا بالاستثناء من قوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ} ما وراء الأربع من الخمس إلى ما فوقهنّ بالنكاح والمنكوحات به غير مملوكات؟ قيل له: إن الله تعالى لم يخصّ بقوله: {إلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} المملوكات الرقاب دون المملوك عليها بعقد النكاح أمرها، بل عمّ بقوله: {إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} كلا المعنيين، أعني ملك الرقبة وملك الاستمتاع بالنكاح، لأن جميع ذلك ملكته أيماننا، أما هذه فملك استمتاع، وأما هذه فملك استخدام واستمتاع وتصريف فيما أبيح لمالكها منها. ومن ادعى أن الله تبارك وتعالى عني بقوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ} محصنة وغير محصنة، سوى من ذكرنا أولاً بالاستثناء بقوله: {إلاّ ما مَلَكَتْ أيمَانُكُم} بَعْضَ أملاك أيماننا دون بعض، غير الذي دللنا على أنه غير معني به، سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير، فلن يقول في ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله. فإن اعتل معتل منكم بحديث أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في سبايا أوطاس، قيل له: إن سبايا أوطاس لم يوطأن بالملك والسباء دون الإسلام، وذلك أنهن كن مشركات من عبدة الأوثان، وقد قامت الحجة بأن نساء عبدة الأوثان لا يحللن بالملك دون الإسلام، وأنهن إذا أسلمن فرق الإسلام بينهنّ وبين الأزواج، سبايا كنّ أو مهاجرات، غير أنهّ إذا كنّ سبايا حللن إذا هن أسلمن بالاستبراء. فلا حجة لمحتج في أن المحصنات اللاتي عناهن بقوله: {والمُحْصَناتُ مِنَ النّساءِ} ذوات الأزواج من السبايا دون غيرهن بخبر أبي سعيد الخدري أن ذلك نزل في سبايا أوطاس¹ لأنه وإن كان فيهن نزل، فلم ينزل في إباحة وطئهن بالسباء خاصة دون غيره من المعاني التي ذكرنا، مع أن الآية تنزل في معنى فتعمّ ما نزلت به فيه وغيره، فيلزم حكمها جميع ما عمته لما قد بينا من القول في العموم والخصوص في كتابنا «كتاب البيان عن أصول الأحكام».
{كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ}: كتابا من الله عليكم. فأخرج الكتاب مُصَدّرا من غير لفظه. وإنما جاز ذلك لأن قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُم أُمّهاتُكُمْ}... إلى قوله: {كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} بمعنى: كتب الله تحريم ما حرم من ذلك وتحليل ما حلل من ذلك عليكم كتابا.
{وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بأمْوَالِكُمْ}: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: وأحلّ لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأحلّ لكم ما وراء ذلكم من سَمّى لكم تحريمه من أقاربكم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: {وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ}: عدد ما أحل لكم من المحصنات من النساء الحرائر ومن الإماء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، ما نحن مبينوه¹ وهو أن الله جلّ ثناؤه بين لعباده المحرّمات بالنسب والصهر، ثم المحرّمات من المحصنات من النساء، ثم أخبرهم جلّ ثناؤه أنه قد أحلّ لهم ما عدا هؤلاء المحرّمات المبينات في هاتين الآيتين أن نبتغيه بأموالنا نكاحا وملك يمين لا سفاحا.
فإن قال قائل: عرفنا المحللات اللواتي هنّ وراء المحرّمات بالأنساب والأصهار، فما المحللات من المحصنات والمحرّمات منهنّ؟ قيل: هو ما دون الخمس من واحدة إلى أربع على ما ذكرنا من الحرائر، فأما ما عدا ذوات الأزواج فغير عدد محصور بملك اليمين.
وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن قوله: {وأُحِلّ لَكُمْ ما وَرَاء ذَلِكُمْ} عامّ في كل محلّل لنا من النساء أن نبتغيها بأموالنا، فليس توجيه معنى ذلك إلى بعض منهنّ بأولى من بعض، إلا أن تقوم بأن ذلك كذلك حجة يجب التسليم لها، ولا حجة بأن ذلك كذلك.
{ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ}: ما عدا هؤلاء اللواتي حرمتهن عليكم أن تبتغوا بأموالكم، يقول: أن تطلبوا وتلتمسوا بأموالكم، إما شراء بها وإما نكاحا بصداق معلوم، كما قال جلّ ثناؤه: {ويكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} يعني: بما عداه وبما سواه. {مُحْصِنِينَ غيْرَ مُسافِحِينَ}: أعفاء بابتغائكم ما وراء ما حرّم عليكم من النساء بأموالكم، {غَيْرَ مُسَافِحِينَ}: غير مزانين. [غير] زانين بكل زانية.
{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنّ فَآتُوهُنّ أجُورَهُنّ فَرِيضَةً}.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ}؛
فقال بعضهم: معناه: فما نكحتم منهنّ فجامعتموهنّ، يعني من النساء {فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً} يعني: صدقاتهن فريضة معلومة. عن ابن عباس، قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً} يقول: إذا تزوّج الرجل منكم ثم نكحها مرة واحدة فقد وجب صداقها كله. والاستمتاع هو النكاح، وهو قوله: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِحْلَةً}.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما تمتعتم به منهنّ بأجر تمتع اللذة، لا بنكاح مطلق على وجه النكاح الذي يكون بولي وشهود ومهر... فهذه المتعة الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمى، ويشهد شاهدين، وينكح بإذن وليها، وإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهي منه برة، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها، وليس بينهما ميراث، ليس يرث واحد منهما صاحبه... يعني نكاح المتعة.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوله: فما نكحتموه منهنّ فجامعتموه فآتوهنّ أجورهنّ لقيام الحجة بتحريم الله متعة النساء على غير وجه النكاح الصحيح أو الملك الصحيح على لسان رسوله اصلى الله عليه وسلم.
وقد دللنا على أن المتعة على غير النكاح الصحيح حرام في غير هذا الموضع من كتبنا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
{وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حَكِيما}
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: لا حرج عليكم أيها الأزواج إن أدركتكم عسرة بعد أن فرضتم لنسائكم أجورهنّ فريضة فيما تراضيتم به، من حطّ وبراءة، بعد الفرض الذي سلف منكم لهن ما كنتم فرضتم.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم أنتم والنساء واللواتي استمتعتم بهنّ إلى أجل مسمى، إذا انقضى الأجل الذي أجلتموه بينكم وبينهم في الفراق، أن يزدنكم في الأجل وتزيدوا من الأجر والفريضة قبل أن يستبرئن أرحامهنّ.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم بعد أن تؤتوهن أجورهم على استمتاعكم بهنّ من مقام وفراق.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا جناح عليكم فيما وضعت عنكم نساؤكم من صدقاتهنّ من بعد الفريضة.
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا حرج عليكم أيها الناس فيما تَراضيتم به أنتم ونساؤكم من عد إعطائهنّ أجورهنّ على النكاح الذي جرى بينكم وبينهنّ من حطّ ما وجب لهنّ عليكم، أو إبراء أو تأخير ووضع. وذلك نظير قوله جلّ ثناؤه: {وآتُوا النّساءَ صَدُقاتِهِنّ نِحْلَةً فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئا مَرِيئَا}.
{إنّ اللّهَ كانَ عَلِيما حكِيما}: إن الله كان ذا علم بما يصلحكم أيها الناس في مناكحكم وغيرها من أموركم وأمور سائر خلقه بما يدبر لكم ولهم من التدبير، وفيما يأمركم وينهاكم¹، لا يدخل حكمته خلل ولا زلل.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
في هاتين الآيتين بيان بقية ما يحرم من نكاح النساء وحل ما عداه وحكم نكاح الإماء، وما فصلناهما عما قبلهما إلا لأن من قسموا القرآن إلى ثلاثين جزءا جعلوهما في أول الجزء الخامس وقد راعوا في هذا التقسيم المقادير من اللفظ دون المعنى وكان المناسب للمعنى أن يجعلوا أول الجزء الخامس قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} كما هو ظاهر.
فقوله تعالى: {والمحصنات من النساء} عطف على ما قبله من المحرمات أي وحرمت عليكم المحصنات من النساء أن تنكحوهم. والمحصنات جمع محصنة بفتح الصاد اسم مفعول من "أحصن "عند جميع القراء وروي عن الكسائي كسرها في غير هذا الموضع فقط وقيل لا يصح الفتح عنه.
ويقال أحصنت المرأة إذا تزوجت لأنها تكون في حصن الرجل وحمايته ويقال أحصنها أهلها إذا زوجوها. ومن شأن المتزوجة أن تحصن نفسها فتكتفي بزوجها عن التطلع إلى الرجال لأجل حاجة الطبيعة وتحصن زوجها عن التطلع إلى غيرها من النساء فعلى المرأة المعول في الإحصان... وجماهير السلف والخلف منهم أئمة الفقه المشهورون على أن المراد بالمحصنات ههنا المتزوجات وقيل هن الحرائر وقيل عام في الحرائر والعفائف والمتزوجات. وقد يقال هن الحرائر المتزوجات وسيأتي عن الأستاذ الإمام ما يرجحه. ولماذا قال "من النساء" وصيغة الجمع مغنية عن هذا القيد؟ قال بعضهم النكتة في ذلك تأكيد العموم ولم ير قوله كافيا وافيا وصرح بعضهم بغموض النكتة في ذلك.
قد استشكل ذلك المفسرون حتى روي عن مجاهد أنه قال: لو كنت أعلم من يفسرها لي لضربت إليه أكباد الإبل، أي لسافر إليه وإن بعد مكانه. وعندي أن هذا القيد يكاد يكون بديهيا فإن لفظ المحصنات قد يراد به العفيفات أو المسلمات فلو لم يقل ههنا "من النساء" لتوهم أن المحصنات إنما يحرم نكاحهن إذا كن مسلمات فأفاد هذا القيد العموم والإطلاق أي إن عقد الزوجية محترم مطلقا لا فرق فيه بين المؤمنات والكافرات والحرائر والمملوكات فيحرم تزوج أية امرأة في عصمة رجل وحصنه.
وأما قوله تعالى: {إلا ما ملكت أيمانكم} فالجمهور على أنه استثناء من المحصنات أي إلا ما سبيتم منهن في حرب دينية تدافعون فيها عن حقيقتكم، أو تؤمنون بها دعوة دينكم، ورأيتم من المصلحة أن لا تعاد السبايا إلى أزواجهن الكفار في دار الحرب فعند ذلك ينحل عقد زوجيتهن ويكن حلالا لكم بالشروط المعروفة في الشريعة فقد روى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) أنه كان سبب نزول هذه الآية تحرج الصحابة من الاستمتاع بسبايا (أوطاس) وأخرج الحديث أيضا أحمد وأصحاب السنن وفي هذه الروايات التصريح باشتراط الاستبراء بوضع الحامل لحملها، وحيض غيرها ثم طهرها، وقد صرح بعض العلماء كالحنفية وبعض الحنابلة بأن من سبي معها زوجها لا تحل لغيره فاعتبروا في الحل اختلاف الدار دار الإسلام ودار الحرب. وبعضهم يقول إن اختلاف الدار لا دخل له في حل السبايا وإنما سببه أن من سبيت دون زوجها فإنها إنما تحل للسابي بعد استبراء رحمها للشك في حياة زوجها أي وعدم الطمع في لحوقه بها إن فرض أنه بقي حيا إلا على سبيل الندور الذي لا حكم له. وهذا ينطبق على الحكمة العامة في حل الاستمتاع بالمملوكات وهي أنه لما كان الشأن الغالب أن يقتل بعض أزواجهن ويفر بعضهم الآخر حتى لا يعود إلى بلاد المسلمين وكان من الواجب على المسلمين كفالة هؤلاء السبايا بالإنفاق عليهن ومنعهن من الفسق كان من المصلحة لهن وللهيئة الاجتماعية أن يكون لكل واحدة منهن أو أكثر كافل يكفيها هم الرزق وبذل العرض لكل طالب ولا يخفى ما في هذا الأخير من الشقاء على النساء.
فإن قيل أليس الخير لهن أن يرجعن إلى بلادهن فمن كان زوجها حيا عادت إليه ومن كان زوجها مفقودا تزوجت غيره أو كان شر فسقها على قومها؟ نقول إن الإسلام ما فرض السبي ولا أوجبه ولا حرمه أيضا لأنه قد يكون فيه المصلحة حتى للسبايا أنفسهن في بعض الأوقات والأحوال ومنها أن تستأصل الحرب جميع الرجال من قبيلة محدودة العدد مثلا. فإن رأى المسلمون أن الخير والمصلحة في بعض الأحوال أن ترد السبايا إلى قومهن جاز لهم ذلك أو وجب عملا بقاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد. وكل هذا إذا كانت الحرب دينية كما قيدنا فإن كانت الحرب لمطامع الدنيا وحظوظ الملوك فلا يباح فيها السبي. وقد نبه على ذلك الأستاذ الإمام وهذه عبارته في تفسير الآية:
والمحصنات: المتزوجات، وما ملكت الأيمان بالسبي في حرب دينية وأزواجهن كفار في دار الحرب ينفسخ نكاحهن ويحل الاستمتاع بهن بعد الاستبراء. فإذا قيل إن ما ملكت الأيمان يشمل المملوكة المتزوجة في دار الإسلام وهي محرمة على سيدها أن يفترشها بالإجماع! فالجواب أن العموم هنا مخصوص بالمسبيات وسكت عن المملوكات المتزوجات لأن التزوج بالمملوكات خلاف الأصل وهو مكروه في الشرع والذوق والعقل فهو كالتنبيه إلى أنه لا ينبغي أن يكون ولذلك شدد فيه كما يأتي ويزاد على هذا أنه أمر لم يكن معروفا عند التنزيل اه.
أقول: والذي تبادر إلى فهمي أن المراد ب"ملكت أيمانكم" هنا نشوء الملك وحدوثه على الزوجية لأن الفعل الماضي في مقام التشريع لا يراد به الإخبار وإنما يراد به الإنشاء فالمعنى وحرمت عليكم المحصنات أي المتزوجات إلا من طرأ عليهن الملك وإنما يطرأ الملك على المتزوجة بالسبي بشرطه الذي أشرنا إليه وأما المملوكة التي زوجها سيدها فالزواج فيها هو الذي طرأ على الملك بجعل المالك ماله من حق الاستمتاع للزوج. فإذا أخرجها المالك الذي زوجها من ملكه بنحو بيع أو هبة كان بائعا أو واهبا ما يملكه وهو ما عدا الاستمتاع الذي صار حق الزوج. وروي عن بعض الصحابة ومنهم ابن مسعود أن المالك الجديد يبطل نكاحها فتطلق على زوجها وتحل لمالكها الجديد عملا بعموم الآية. ويقال إن عليه جمهور الإمامية ولولا ما اختاره الأستاذ الإمام من عدم الاعتداد بزواج الأمة حتى كأنه غير موجود وما بيناه من كون البائع أو الواهب إنما باع أو وهب ما يملك لكان هذا القول أرجح من مذهب جمهور أهل السنة إلا من قال إن المحصنات هنا يعم ذوات الأزواج والعفيفات والحرائر، وملك اليمين يعم ملك الاستمتاع بالنكاح والاستمتاع بالتسري، والمعنى حينئذ: وحرمت عليكم كل أجنبية إلا بعقد النكاح وهو ملك الاستمتاع أو بملك العين الذي يتبعه حل الاستمتاع. وروي هذا عن سعيد بن جبير وعطاء والسدي من مفسري التابعين وفقهائهم وعن بعض الصحابة أيضا واختاره مالك في الموطأ وفيه من التكلف ما ترى وأما إذا كانت الأمة المتزوجة كافرة وسباها المسلمون بالشروط المتقدمة فبطلان نكاحها بالسبي أولى من بطلان نكاح الحرة به.
ثم قال تعالى: {كتاب الله عليكم} أي كتب الله عليكم تحريم هذه الأنواع من النساء كتابا مؤكدا أي فرضه فرضا ثابتا محكما لا هوادة فيه لأن مصلحتكم فيه ثابتة لا تتغير وسيأتي بيان ذلك في تفسير قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} [النساء:26].
{وأحل لكم ما وراء ذلكم} قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {وأحل} بضم الهمزة بالبناء للمفعول وهو المناسب في المقابلة لقوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} فيكون معطوفا عليه كما قال الزمخشري، وقرأه الباقون بفتح الهمزة على البناء للفاعل فجعله الزمخشري معطوفا على "كتب" المقدرة الناصبة لقوله {كتاب الله} ترجيحا لجانب اللفظ ولا مانع من عطفه على {حرمت} ومن المعلوم بالبداهة أن المحرم هناك هو المحلل هنا وهو الله عز وجل. والمراد بما وراء ذلكم المبين تحريمه هو ما لا يتناوله بلفظه ولا فحواه، فهو لكونه لا يدخل فيه بنص ظاهر، ولا قياس واضح، جعل وراءه خارجا عن محيط مدلوله وإفادته، فالجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ليس وراءه كما أشرنا إلى ذلك عند تفسير {وأن تجمعوا بين الأختين} وكذلك كون محرمات الرضاع سبعا كمحرمات النسب.
ذكر فيما مر أكثر المحرمات من النساء وبقي من المحرمات بالرضاعة غير الأمهات والأخوات من المحرمات بالنسب ومثل الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها وقد قال إنه أحل لنا ما وراء ذلك فربما يقال أنه يدخل فيه ما ذكر آنفا ونحوه من المحرم إجماعا أو بنصوص أخرى كالمطلقة ثلاثا والمشركة والمرتدة! والجواب أن بعض ما ذكر يؤخذ مما تقدم فإن الله تعالى قد ذكر من كل صنف من المحرمات بعضه فدخل في الأمهات الجدات وفي البنات بنات الأولاد الخ وبعضها يؤخذ من آيات أخرى كتحريم المشركات والمطلقة ثلاثا على مطلقها في سورة البقرة. وقد يقال إن ما ذكر هنا من المحرمات مجمل بينته السنة والسر في النص على ما ذكر أنه كان واقعا شائعا في الجاهلية فهو يعلمنا بالنص على الواقع أن لا نتعرض إلا للأمور الوجودية وإن الأمور المفروضة والمتخيلة لا ينبغي الالتفات لها ولا الاشتغال بها.
وأقول: إن هذا القول ينظر إلى ما تقدم عن ابن جرير في تفسير {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} [النساء:22] فيكون ما بعد هذه الآية من التفصيل بيانا لها في التحريم والتحليل فلا يدخل فيه ما حرم لسبب آخر كتحريم المشركة. وسواء كان ما ذكر شائعا في الجاهلية أم لا فقد بين الله تعالى لنا ههنا جميع ما يحرم علينا من أنواع القرابة والرضاعة والصهر وهو ما نحتاج إليه لذاته في كل زمان ومكان ولما قال بعد ذلك {وأحل لكم ما وراء ذلكم} فهم منه أنه يحل من هذه الأنواع كل ما لا يتناوله لفظ المحرمات بنص أو دلالة كبنات العم والخال وبنات العمة والخالة الخ ولا يدخل في عمومه حل ما حرم في نصوص أخرى لسبب عارض يزول بزواله كنكاح المشركة والزانية والمرتدة. مثال ذلك أن تقول للمتعلم عند ما تقرأ له كتاب الطهارة لا تلبس ثوبا متنجسا ثم تقول له عند قراءة كتاب اللباس لا تلبس الحرير ولا المنسوج بالذهب أو الفضة والبس كل ما عداهما من الثياب فلا حرج عليك فيها، فهل تدخل في عموم هذا القول الثوب المتنجس؟ لا لا. إن اللفظ العام يتناول كل ما يسمح له السياق والمقام أن يتناوله فإذا كان السياق في نوع له جنس أو أجناس بعضها أعلى من بعض فلا يفهم أحد من أهل اللغة خروج العام عن سياق النوع وتناوله جميع أفراد الجنس السافل أو العالي لذلك النوع فإذا قال صاحب البستان للفعلة الذين يقطعون الأشجار غير المثمرة لتكون خشبا لا تقطعوا الشجر الصغير واقطعوا كل ما عداه من الأشجار الكبيرة فإنهم يفهمون إن مراده من الكلية أفراد ذلك النوع من الشجر الكبير لا جنس الشجر الكبير الذي يعم المثمر. ومثل الثياب الذي أوردناه آنفا أشبه بما نحن فيه.
وقوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم} معناه أحل لكم ما وراء ذلكم لأجل أن تبتغوه أي تطلبوه بأموالكم أو المعنى أحله لكم أن تبتغوه أي أحل لكم طلبه بأموالكم تدفعونها مهرا للزوجة قيل أو ثمنا للأمة وهو يقتضي أنه يجب قصد إحصان الأمة كما يجب قصد إحصان الزوجة لقوله: {محصنين غير مسافحين} فإن الحال قيد للعامل وحذف مفعول محصنين ليفيد العموم أي محصنين أنفسكم ومن تطلبونها بمالكم باستغناء كل منكما بالآخر عن طلب الاستمتاع المحرم فإن الفطرة تسوق كل ذلك بداعية النسل إلى الاتصال بأنثى وكل أنثى إلى الاتصال بذكر ليزدوجا وينتجا. والإحصان عبارة عن الاختصار الذي يمنع هذه الداعية الفطرية أن تذهب كل مذهب فيتصل كل ذكر بأية امرأة واتته وكل امرأة بأي رجل واتاها بأن يكون غرض كل منهما المشاركة في سفح الماء الذي تفرزه الفطرة لإيثار اللذة على المصلحة، فإن مصلحة البشر أن تكون هذه الداعية الفطرية سائقة لكل فرد من أفراد أحد الجنسين لأن يعيش مع فرد من الجنس الآخر عيشة الاختصاص، لتتكون بذلك البيوت ويتعاون الزوجان على تربية أولادهما. فإذا انتفى قصد هذا الإحصان انحصرت طاعة الداعية الفطرية في قصد سفح الماء، وذلك هو الفساد العام الذي لا تنحصر مصائبه في مجموع الأمة.
وهذه أمة فرنسا قد قل فيها النكاح وكثر السفاح بضعف الدين في عاصمتها (باريس) وأمهات مدنها فقل نسلها ووقف نماؤها وفنك النساء ومسن الرجال وضعفت الدولة فصارت دون خصمها حتى اضطرت إلى الاعتزاز بمحالفة دولة مضادة لها في شكل حكومتها ومدنيتها وهي الدولة الروسية ولولا الثروة الواسعة والعلوم الزاخرة والسياسة المبنية على أصول علم الاجتماع والعمران لأسرع إليها الهلاك كما أسرع إلى الأمم التي كثر مترفوها ففسقوا فيها فحق عليها القول الثابت في سنة الاجتماع "فدمرها الله تدميرا"، وما أراها إلا أول دولة تسقط في أوربا إذا ظل هذا الكفر والفسق على هذا النماء فيها.
وقد خص بعض المفسرين قصد الإحصان بالرجال وخصه الأستاذ الإمام بالنساء فقال معناه أن يقصد الرجل إحصان المرأة وحفظها أن ينالها أحد سواه ليكن عفيفات طاهرات ولا يكون التزوج لمجرد التمتع وسفح الماء وإراقته وهو يدل على بطلان النكاح الموقت وهو نكاح المتعة الذي يشترط فيه الأجل اه وقد علمت أن اللفظ يفيد العموم وهو الذي تقتضيه الحكمة وتتم به المصلحة وإنما بين الأستاذ ما قصر فيه غيره من المفسرين. ومعلوم أن الإحصان إنما يكون بإعطاء المرأة حقها من الاستمتاع فيجب ذلك على الرجل ولا يحل له تعمد التقصير فيه ولا سيما إذا كان سبب ذلك الفسق فإن في ذلك إفساد البيوت الذي يترتب عليه إفساد الأمة. والفقهاء يقولون إنه لا يجب عليه لمملوكته ما يجب عليه من ذلك لزوجته وهم متفقون على أنه يجب عليه منعها من الزنا فهل يكفي هذا المنع في إحصان الأمة دون إحصان الزوجة أم يقولون إن شراء الإماء لأجل الاستمتاع لا يدخل في مفهوم قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} وإلا فكيف يصح قولهم ويكون موافقا للنص ومنطبقا على حكمة الشرع؟؟.
الحق: إن الاسترقاق فيه مفاسد كثيرة وهو مناف لمحاسن الإسلام وحكمه العالية ولكنه قد كان عمت به البلوى بين الأمم فلذلك لم يمنعه منعا باتا ولكنه خفف مصائبه ومهد السبل لمنعه حتى إذا جاء وقت تقتضي فيه المصلحة العامة منعه مع عدم وجود مفسدة تعارض المنع وترجح عليه كان لأولي الأمر منعه، فإن المصلحة أصل في الأحكام السياسية والمدنية يرجع إليه في غير تحليل المحرمات أو إبطال الواجبات. وقد علمت أن محل إباحة الاسترقاق الحرب الدينية التي يحاربنا فيها الكفار ونحاربهم لأجل ديننا كمنعنا من الدعوة إليه أو إقامة شعائره وأحكامه وقد خير الله تعالى أولي الأمر منا في أسرى هذه الحرب بقوله: {فإما منا بعد وإما فداء} [محمد:4] أي فإما أن تمنوا عليهم وتطلقوهم فضلا وإحسانا وإما أن تأخذوا منهم فداء {حتى تضع الحرب أوزارها} [محمد:4] قال البيضاوي أي آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع أي حتى تنقضي الحرب ولم يبق إلا مسلم أو مسالم. اه.
والمسالم من لا يحارب المسلمين لأجل دينهم. فإذا جاز لنا أن نمن على الأسرى من الرجال المحاربين الذين يخشى أن يعودوا إلى حربنا أفلا يجوز لنا أن نمن على النساء اللاتي لا ضرر من إطلاقهن وقد يكون الضرر في استرقاقهن؟ وناهيك بالتنفير عن الإسلام، وتأريث الفتن بين أهله وسائر الأقوام، فإن ضرره في هذا الزمان فوق كل ضرر، ومفسدته شر من كل مفسدة.
هذا ولابد من التنبيه هنا إلى مسألة يجهلها العوام، وقد سكت عن بيان الحق فيها جماهير العلماء الأعلام، ومرت على ذلك القرون لا الأعوام، وقد سبق التنبيه إليها من قبل في المنار، وهي أن الاسترقاق الشائع المعروف في هذا العصر والعصور غير شرعي سواء ما كان منه في بلاد السودان وما كان في بلد البيض كبنات الشراكسة اللواتي كن يبعن في الآستانة جهرا قبل الدستور وكلهن حرائر من بنات المسلمين الأحرار ومع هذا كنت ترى العلماء ساكتين عن بيعهن والاستمتاع بهن بغير عقد النكاح وذلك من أعظم المنكرات حتى لو سألت الفقيه عن حكم المسألة بعد شرحها له لأفتاك بأن هذا الاسترقاق محرم إجماعا وربما قال لك وإن مستحل ذلك يكفر لأنه لا يعذر بالجهل وعلل ذلك بما يعللون به مثله وهو أنه مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة.
وقد ذكرت هذه المسألة لأحد أهل الآستانة وأنا أكتب هذا وسألته هل بقي لهذا الرقيق الباطل أثر هنا بعد الدستور؟ فقال نعم ولكنه خفي وغير رسمي ويقال إنه يوجد في الحجاز أيضا، وماذا يمكن أن نعمل وراء بيان حرمة هذا العمل وبراءة الإسلام منه.
{فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} الاستمتاع بالشيء هو التمتع أو طول التمتع به وهو من المتاع أي الشيء الذي ينتفع به ومنه قوله تعالى: {فاستمتعتم بخلاقكم} [التوبة:69] أي نصيبكم الخ الآية قال بعضهم إن السين والتاء في استمتعن للتأكيد ولا يجوز أن تكون للطلب الذي هو الغالب في معناها والصواب أنه لا مانع يمنع من جعل الصيغة للطلب كما سأبينه. والأجور جمع أجر وهو في الأصل الثواب والجزاء الذي يعطى في مقابلة شيء ما من عمل أو منفعة ثم خص بعد زمن التنزيل أو غلب فيما هو معلوم. والفريضة الحصة المفروضة أي المقدرة المحددة من فرض الخشبة إذا حزها وكانت العرب وغير العرب من الناس ولا يزالون يقدرون الأشياء من المقاييس والإعداد بفرض الخشب.
ويطلق الفرض والفريضة على ما أوجبه الله من التكاليف إيجابا حتما لأن المفروض في الخشب يكون قطعيا لا محل للتردد فيه. والمعنى: فكل امرأة أو أية امرأة من أولئك النساء اللواتي أحل لكم أن تبتغوا تزوجهن بأموالكم استمتعن بها أي تزوجتموها فأعطوها الأجر والجزاء بعد أن تفرضوه لها في مقابلة ذلك الاستمتاع وهو المهر وقد تقدم في تفسير {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} [النساء:4] أنه ينبغي للزوج أن يلاحظ في المهر معنى أعلى من معنى المكافأة والعوض فإن رابطة الزوجية أعلى من ذلك بأن يلاحظ فيه معنى تأكيد المحبة والمودة.
وأقول: إن تسمية المهر هنا أجرا أي ثوابا وجزاء لا ينافي ملاحظة ما في الزوجية من معنى سكون كل من الزوجين إلى الآخر وارتباطه معه برابطة المودة والرحمة كما بين الله تعالى ذلك في سورة الروم، كما لا ينافي ما بينه في سورة البقرة من حقوق كل من الزوجين على الآخر بالمساواة (ج 2 تفسير) ولكنه لما جعل للرجل على المرأة مع هذه المساواة في الحقوق درجة هي درجة القيامة ورياسة المنزل الذي يعمرانه والعشيرة التي يكونانها بالاشتراك وجعله بذلك هو فاعل الاستمتاع أي الانتفاع وهي القابلة له والمواتية فيه فرض لها سبحانه في مقابلة هذا الامتياز الذي جعله للرجل جزاء وأجرا تطيب به نفسها، ويتم به العدل بينها وبين زوجها، فالمهر ليس ثمنا للبضع ولا جزاء للزوجية نفسها وإنما سره وحكمته ما ذكرنا وهو واضح من معنى الآية مطابق للفظها جامع بينها وبين سائر الآيات وقد فتح الله علي به الآن ولم يكن خطر على بالي من قبل على وضوحه في نفسه.
وهل يعطى هذا الأجر المفروض والمهر المحدود قبل الدخول بالمرأة أو بعده؟ إذا قلنا إن السين والتاء في {استمتعتم} للطلب يكون المعنى فمن طلبتم أن تتمتعوا وتنتفعوا بتزوجها فأعطوها المهر الذي تفرضونه لها عند العقد عطاء فريضة أو حال كونه فريضة تفرضونها على أنفسكم أو فرضها الله عليكم، وإذا قلنا إنها ليست للطلب يكون المعنى فمن تمتعتم بتزوجها منهن بأن دخلتم أو صرتم متمكنين من الدخول بها لعدم المانع بعد العقد فأعطوها مهرها عطاء فريضة أو افرضوه لها فريضة أو فرض الله عليكم ذلك فريضة لا هوادة فيها، أو حال كون ذلك المهر فريضة منكم أو منه تعالى. فالمهر يفرض ويعين في عقد النكاح ويسمى ذلك إيتاء وإعطاء حتى قبل القبض يقولون حتى الآن عقد على فلانة وأمهرها بألف أو أعطاها عشرة آلاف مثلا، وكانوا يقولون أيضا فرض لها كذا فريضة ولذلك اخترنا أن الذي فرض الفريضة هو الزوج بتقديمه في التقدير ويؤيده قوله تعالى: {ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة:236] وقوله: {وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} [البقرة:237] فالمهر يجب ويتعين بفرضه وتعيينه في العقد ويصير في حكم المعطى والعادة أن يعطى كله أو أكثره قبل الدخول ولا يجب كله إلا بالدخول لأن من طلق قبل الدخول وجب عليه نصف المهر لا كله. ومن لم يعطه قبل الدخول يجب عليه إعطاؤه بعده. ومن قال من الفقهاء لا تسمع دعوى المرأة بمعجل المهر بعد الدخول لم يرد أنه لا يجب لها أو أنه يسقط بالدخول بل أراد أن هذه الدعوى على خلاف الظاهر المعهود فيغلب أن تكون باطلة.
{ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} أي لا حرج ولا تضييق عليكم منه تعالى إذا تراضيتم بعد الفريضة على الزيادة فيها أو النقص منها أو حطها كلها فإن الغرض من الزوجية أن تكونوا في عيشة راضية ومودة ورحمة تصلح بها شؤونكم، وترتقي بها أمتكم، والشرع يضع لكم قواعد العدل، ويهديكم مع ذلك إلى الإحسان والفضل، {إن الله كان عليما حكيما} فيضع لعباده من الشرائع بحكمته ما يعلم أن فيه صلاح حالهم ما تمسكوا به ومن ذلك أن أوجب على الرجل أن يفرض لمن يريد الاستمتاع بها أجرا يكافئها به على قبول قيامه ورياسته عليها ثم أذن له ولها في التراضي على ما يريان الخير فيه والائتلاف والمودة بينهما.
هذا هو المتبادر من نظم الآية فإنها قد بينت ما يحل من نكاح النساء في مقابلة ما حرم فيما قبلها وفي صدرها وبينت كيفيته وهو أن يكون بمال يعطى للمرأة وبأن يكون الغرض المقصود منه الإحصان دون مجرد التمتع بسفح الماء. وذهبت الشيعة إلى أن المراد بالآية نكاح المتعة وهو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر مثلا واستدلوا على ذلك بقراءة شاذة رويت عن أبيّ وابن مسعود وابن عباس (رضي الله عنه) وبالأخبار والآثار التي رويت في المتعة. فأما القراءة فهي شاذة لم تثبت قرآنا. وقد تقدم أن ما صحت فيه الرواية من مثل هذا آحادا فالزيادة فيه من قبيل التفسير وهو فهم لصاحبه وفهم الصحابي ليس حجة في الدين لا سيما إذا كان النظم والأسلوب يأباه كما هنا فإن المتمتع بالنكاح الموقت لا يقصد الإحصان دون المسافحة بل يكون قصده الأول المسافحة. فإن كان هناك ما من إحصان نفسه ومنعها من التنقل في دمن الزنا فإنه لا يكون فيه شيء ما من إحصان المرأة التي تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل. ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا كقوله عز وجل في صفة المؤمنين {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون:5-7] أي المتجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم وهذه الآيات لا تعارض الآية التي نفسرها بل هي بمعناها فلا نسخ والمرأة المتمتع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي له عليها بالمعروف كما قال الله تعالى وقد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة ولوازمها فلا يعدونها من الأربع اللواتي تحل للرجل أن يجمع بينها مع عدم الخوف من الجور بل يجوزون للرجل أن يتمتع بالكثير من النساء. ولا يقولون برجم الزاني المتمتع إذ لا يعدونه محصنا وذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه قوله تعالى في المستمتعين {محصنين غير مسافحين} [النساء:24] وهذا تناقض صريح منهم، ونقل عنهم بعض المفسرين أن المرأة المتمتع بها ليس لها إرث ولا نفقة ولا طلاق ولا عدة!. والحاصل أن القرآن بعيد من هذا القول ولا دليل في هذه الآية ولا شبه دليل عليه البتة.
وأما الأحاديث والآثار المروية في ذلك مجموعها يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرخص لأصحابه فيها في بعض الغزوات ثم نهاهم عنها ثم رخص فيها مرة أو مرتين ثم نهاهم عنها نهيا مؤبدا، وأن الرخصة كانت للعلم بمشقة اجتناب الزنا مع البعد عن نسائهم فكانت من قبيل ارتكاب أخف الضررين فإن الرجل إذا عقد على امرأة خلية نكاحا موقتا وأقام معها ذلك الزمن الذي عينه فذلك أهون من تصديه للزنا بأية امرأة يمكنه أن يستميلها. ويرى أهل السنة أن الرخصة في المتعة مرة أو مرتين يقرب من التدريج في منع الزنا منعا باتا كما وقع التدريج في تحريم الخمر وكلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية ولكن فشوا الزنا كان في الإماء دون الحرائر. وروي عن بعض الصحابة أن الرخصة بالمتعة لم تنسخ أو أن النهي عنها إنما كان في حال الإقامة والاختيار، لا في حال العنت والاضطرار، الذي يكون غالبا في الأسفار، وأشهر علماء الصحابة الذين كانوا يقولون بها عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) وقد روي أنه لما رخص فيها قال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة أو نحوه قال ابن عباس نعم. وعن ابن جبير أنه قال قلت لابن عباس لقد سارت فتياك الركبان وقال فيها الشعراء. قال وما قالوا؟ قلت قالوا:
قد قلت للشيخ لما طال مجلسه ** يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الاطراف آنسة ** تكون مثواك حتى مصدر النــــــــاس
فقال سبحان الله ما بهذا أفتيت! وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير ولا تحل إلا للمضطر. فعلى هذا لا يجيزها إلا لمن خشي العنت وعجز عن التزوج الذي مبني عقده على الدوام ورأى أنه لا مفر له من الزنا إلا بهذا الزواج الموقت. ورووا أن عليا كرّم الله وجهه خطأ ابن عباس في رأيه هذا فرجع عنه ولكن ثبت في صحيح مسلم أن ابن عباس كان يقول بذلك في خلافة عبد الله بن الزبير. وروى عنه الترمذي والبيهقي والطبراني أنها كانت في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلد ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى نزلت الآية {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون:6] فكل فرج سواهما فهو حرام.
وهذه الرواية معارضة بالروايات الصحيحة عند مسلم وغيره في أن المتعة كانت في أواخر سني الهجرة وبأن الآية التي أشار إليها مكية وبما هو معلوم في التاريخ من أن المسلمين في أول الإسلام لم يكن الرجل منهم يسافر إلى البلد فيقيم فيه كما ذكر في الرواية فإنهم كانوا مضطهدين معرضين للقتل أينما ثقفوا، نعم إن وقوع ذلك منهم ليس محالا ولكنه خلاف الظاهر ولم ترد به رواية معينة عن أحد مع أن ظاهر العبارة أنه كان شائعا. فعبارة هذه الرواية تنم عليها وتشهد أنها لفقت في عهد حضارة المسلمين بعد الصحابة. فالإنصاف أن مجموع الروايات تدل على إصرار ابن عباس (رضي الله عنه) على فتواه بالمتعة لكن على سبيل الضرورة وهو اجتهاد منه معارض بالنصوص ويقابله اجتهاد السواد الأعظم من الصحابة والتابعين وسائر المسلمين.
والعمدة عند أهل السنة في تحريمها وجوه: (أولها) ما علمت من منافاتها لظاهر القرآن في أحكام النكاح والطلاق والعدة إن لم تقل لنصوصه، و (ثانيها) الأحاديث المصرحة بتحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة وقد جمع متونها وطرقها مسلم في صحيحه فمن أحب الاطلاع على ذلك فليرجع إليه وإلى شرح النووي له وكذا شرح الحافظ ابن حجر للبخاري، و (ثالثها): نهي عمر عنها في خلافته وإشادته بتحريمها على المنبر وإقرار الصحابة له على ذلك وقد علم أنهم ما كانوا يقرون على منكر وأنهم كانوا يرجعونه إذا أخطأ، ومنه ما مر في تفسير قوله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} [النساء:20] (4 من التفسير) فقد خطأته امرأة فرجع إلى قولها واعترف بخطئه على المنبر ومثل هذا ينقض قول من يقول من الشيعة إنهم سكتوا تقية. وقد تعلقوا بما ورد في بعض في بعض الروايات من قول عمر (رضي الله عنه)" أنا محرمها "فقالوا إنه حرمها من قبل نفسه ولا يعتد بتحريمه ولو بني ذلك على نص لذكره. وأجيب عن ذلك بأنه أسند التحريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية ابن ماجة وابن المنذر والبيهقي فيظهر أن من روى عنه ذلك اللفظ رواه بالمعنى فإن صح أنه لفظه فمعناه أنه مبين تحريمها أو منفذ له. وقد شاع عند الفصحاء والعلماء إسناد التحريم والإيجاب والإباحة إلى مبين ذلك فإذا قالوا: حرم الشافعي النبيذ وأحله أو أباحه أبو حنيفة. لم يعنوا أنهما شرعا ذلك من عند أنفسهما وإنما يعنوه أنهم بينون بما ظهر لهم من الدليل وقد كنا قلنا في" محاورات المصالح والمقلد "التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع من المنار إن عمر منع المتعة اجتهادا منه وافقه عليه الصحابة ثم تبين لنا أن ذلك خطأ فنستغفر الله منه. وإنما ذكرنا ذلك على سبيل الشاهد والمثال، لا التمحيص للمسألة على طريق الاستقلال.
وتقول الشيعة إن لديهم روايات عن آل البيت عليهم السلام قاطعة بإباحة المتعة. ولم نطلع على هذه الروايات وأسانيدها لنحكم فيها فأين هي؟ ولكن ثبت عندنا أن إمام أئمة آل البيت عليا كرم الله وجهه حرم المتعة مع المحرمين لها من الصحابة رضوان الله عليهم ويقول بعض الغلاة في التعصب منهم إنا لا نقبل هذه الرواية عنه لأنها رواية الخصم ولأن شيعته أعلم بأقواله. ويجيب أهل السنة عن مثل هذا الكلام بأنه تمويه ومغالطة فإن المسألة ليست من الأصول التي كانت الشيعة بها شيعة وأهل السنة هم أهل السنة وإنما هي من أحكام الفروع العملية التي يهم كل مسلم أن يحرر الرواية فيها عن علماء الصحابة ولا يشك أحد من أهل السنة في كون علي في مقدمتهم. ثم إن رواة الأحاديث المدونة في دواوين أهل السنة المشهورة قسمان منهم الأولون الذين لم يكونوا يلتزمون مذهبا فيتهموا بتأييده بالروايات وإنما يتبعون ما صحت روايته عندهم فالرواية هي الأصل وإلى ما صح منها يذهبون، ومنهم الذين كانوا متبعين للمذاهب بعد حدوثها وقد كان عدولهم يروون ما يوافقها وما يخالفها لأنهم يدينون لله بالصدق في الرواية ويكلون إلى فقائهم بيان معناه وترجيح المتعارض منها بل لم يمتنعوا عن رواية بعض الأحاديث التي لا تخلو من طعن في بعض أصول الدين التي لا تختلف فيها المذاهب. فعدالة الرواة هي العمدة فيرجع فيها إلى قواعد الجرح والتعديل وتراجم الرجال وتمحيص ما قيل في جرحهم وتعديلهم. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن المذاهب كانت سببا للوضع والكذب في الرواية وإن نقد الرواة المقلدين هو أهم مسائل هذا الفن ولكن مسألة المتعة لم تكن في عصر الرواية من هذا الباب.
وقد عدل المحدثون من أهل السنة كثيرا من الشيعة في الرواية، ولا سعة في التفسير لهذه المباحث بل أخشى أن أكون خرجت بهذا البحث عن منهاجي فيه وهو الإعراض عن مسائل الخلاف التي لا علاقة لها بفهم القرآن والاهتداء به، وعن الترجيح بين المذاهب الذي هو مثار تفرق المسلمين وتعاديهم، على أنني أبرأ إلى الله من التعصب والتحيز إلى غير ما يظهر لي أنه الحق والله عليم بذات الصدور.
وقد بدأت بكتابة هذا البحث وأنا أنوي أن لا أكتب فيه إلا بضعة أسطر لأنني لا أريد تحرير القول في الروايات هنا وليس عندي حيث أكتب شيء من كتب السنة فأراجعها فيها ولكن ما كتبته هو صفوتها وصفوة ما قالوه فيها، فإن اطلعنا بعد ذلك على روايات أخرى للشيعة بأسانيدها فربما نكتب في ذلك مقالا نمحص فيه ما ورد من الطريقين ونحكم فيه بما نعتقد من قواعد التعارض والترجيح وننشر ذلك في المنار.
وهذا وإن تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق وإن كان الفقهاء يقولون إن عقد النكاح يكون صحيحا إذا نوى الزوج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد ولكن كتمانه إياه يعد خداعا وغشا وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت يكون بالتراضي بين الزوج والمرأة ووليها ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة التي هي أعظم الروابط البشرية، وإيثار التنقل في مراتع الشهوات بين الذواقين والذواقات، وما يترتب على ذلك من المنكرات، وما لا يشترط فيه ذلك يكون على اشتماله على ذلك غشا وخداعا يترتب عليه مفاسد أخرى من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج حقيقته وهو إحصان كل من الزوجين للآخر وإخلاصه له وتعاونهما على تأسيس بيت صالح من بيوت الأمة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نمضي مع سورة النساء في هذا الجزء، الذي يتضمن معظم أهداف السورة وموضوعاتها، التي أجملنا الإشارة إليها في مطالعها في الجزء الرابع. ونجد في هذا الجزء من الأهداف الأساسية للسورة والموضوعات الرئيسية عناصر كثيرة: نجد في الدرس الأول بقية من تنظيم شؤون الأسرة؛ وإقامتها على أساس ثابت من موحيات الفطرة؛ وحمايتها من تأثير الملابسات العارضة في جو الحياة الزوجية؛ وحمايتها كذلك وحماية المجتمع معها من انتشار الفاحشة، والاستهتار بالحرمات، ووهن الروابط العائلية. كذلك نجد بقية من التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية. تتناول العلاقات المالية والتجارية، كما تتناول بعض أحكام الميراث، وحقوق الملكية للجنسين في المجتمع.. وهذه التنظيمات وتلك تستهدف -كما قلنا في مطالع السورة- نقل المجتمع المسلم من النظام الجاهلي إلى النظام الإسلامي للحياة؛ ومحو الملامح الجاهلية المترسبة، وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة، والارتفاع بالجماعة المسلمة -التي التقطها المنهج الرباني من سفح الجاهلية- والمضي بها صعدا في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة. ثم نجد في الدرس الثاني عودة إلى تقرير أصول التصور الإسلامي؛ تبين حد الإيمان وشرط الإسلام.. ليقوم هذا التقرير المستأنف قاعدة لبعض تنظيمات أخرى للتكافل الاجتماعي في الجماعة. التكافل الذي يبدأ من أضيق الحدود في الأسرة، ثم يمتد ليشمل المحتاجين والضعاف في الجماعة كلها، ومع الأمر بالبذل والتكافل نجد تقبيح البخل بالمال، والاختيال بالثراء، وكتمان النعمة، والرياء في الإنفاق. كما نجد في هذا الدرس جانبا من التربية النفسية بالعبادة التي بدأ بها، والتطهير لأدائها، واعتبار الخمر دنسا لا يتفق مع حال العبادة.. وذلك كخطوة في طريق تحريمها.. وفق المنهج التربوي الحكيم. وفي الدرس الثالث نجد من موضوعات السورة الأساسية موقفا مع أهل الكتاب يتضمن كشفا لأهدافهم الخبيثة ونياتهم الماكرة بالجماعة المسلمة، وبيانا لطبيعة كيدهم ومكرهم، وتعجيبا من أمرهم، واعتبارهم عدوا للمسلمين. وتهديدهم بسوء المصير والعذاب الأليم. أما الدرس الرابع فيستهدف بيان معنى الدين، وشرط الإيمان، وحد الإسلام. بيانا حاسما جازما. يكشف عن طبيعة النظام الإسلامي، ومنهج المسلمين في الطاعة والاتباع والتلقي من الله وحده، والتحاكم إلى منهج الله وحده، واتباع حكم رسوله وطاعته.. كما يكشف عن تكاليف المسلمين في الأرض في أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل، وإقامة منهج الله في حياة الناس -باعتبار هذا كله شرطا لتحقق الإيمان- مع التعجيب من أمر الذين يدعون الإيمان، ثم لا يحققون شرطه الأول من التحاكم إلى الله ورسوله، مع الرضى والتسليم المطلق.. والتوكيد بعد التوكيد على أنه لا إيمان -مهما ادعاه المدعون- إلا بتحقق هذا الشرط الواضح الصريح. ومن ثم نجد في الدرس الخامس توجيه الجماعة المسلمة لحماية هذا المنهج الواضح بالقتال دونه، والتنديد بالمعوقين والمنافقين الذين يبطئون عن الجهاد. واستجاشة الضمائر المؤمنة، ببيان أهداف القتال، لاستنقاذ الضعاف من المؤمنين من دار الكفر إلى دار الإسلام، وتمتيعهم بالحياة في ظل ذلك المنهج الرفيع الكريم، وبيان حقيقة الأجل والقدر، لتطهير القلوب من الخوف والفزع.. وينتهي الدرس بأمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي إلى الجهاد، ولو لم يجد إلا نفسه! فلا مناص من المضي فيه للتمكين لهذا الدين، وللمنهج الإلهي القويم. وبمناسبة القتال نجد في الدرس السادس بيانا للكثير من قواعد المعاملات الدولية، بين المعسكر الإسلامي وشتى المعسكرات المناوئة له، والمهادنة، والمعاهدة، فليس الأمر أمر قوة وبطش وغلب، ولكنه أمر مواجهة للواقع مع إقامة الحدود المنظمة للعلاقات الإنسانية، في المعسكرات المختلفة الاتجاه.. وفي الدرس السابع نجد الحديث عن الجهاد بالأموال والأنفس، في صدد التنديد بالقاعدين عن الهجرة في دار الكفر، حيث يفتنون عن دينهم، بينما دار الإسلام قائمة، وراية الدين فيها عزيزة كريمة.. وينتهي هذا الدرس أيضا بالتحضيض للمؤمنين على القتال، ومتابعة أعدائهم، وعدم الوهن في طلبهم، وبيان حقيقة موقف المؤمنين وموقف أعدائهم، واختلاف وجهتهم ومصائرهم وجزائهم. وفي الدرس الثامن نستشرف تلك القمة السامقة في العدل الإسلامي، في قصة اليهودي الذي اتهم ظلما، وقامت الشهادات الملفقة ضده، فنزل القرآن من الملأ الأعلى يبرئ هذا اليهودي.. مع كل ما كانت تكيده يهود للإسلام والمسلمين. ولكن العدل الإسلامي الإلهي هو العدل الذي لا يتأثر بالمودة أو الشنأن. وهو القمة السامقة التي لم تبلغ إليها البشرية قط إلا في ظلال هذا المنهج الرفيع الفريد. والدرس التاسع جولة مع الشرك والمشركين، وخرافات الشرك وآثاره في إنشاء الشعائر الضالة، والتصورات السخيفة! مع تصحيح الأوهام والأماني الزائفة عن عدل الله. وتقرير الجزاء على أساس العمل لا الأماني والأوهام. وتوكيد أن الإسلام هو وحدة الدين، وهو ملة إبراهيم. ويعود الدرس العاشر إلى النساء؛ وحقوقهن -وبخاصة اليتامى منهن- وحقوق المستضعفين من الولدان -وهو الموضوع الذي بدأت به السورة- وإلى الإجراءات التي يعالج بها موقف النشوز والإعراض من جانب الزوج. مع بيان حدود العدل المطلوب في معاشرة الزوجات، والذي لا تستقيم العشرة بدونه، ويكون خيرا منها الفرقة، عندما يتعذر الإصلاح.. والتعقيب على هذه الأحكام المتعلقة بالأسرة، والعدل في المعاشرة يربط هذه الأحكام والتوجيهات بالله، وملكيته للسماوات والأرض؛ وقدرته على الذهاب بالناس واستبدال غيرهم بهم -فيدل على ضخامة الأمر، وعلاقته بحقيقة الألوهية الهائلة.. ومن ثم يستجيش تقوى الله في الضمائر؛ ويستطرد إلى دعوة الذين آمنوا إلى العدل المطلق في معاملاتهم كلها، وفي أحكامهم جميعها.. على طريقة القرآن في الاستطراد من القطاع الضيق الخاص، إلى المحيط الشامل العام. ثم يجيء الدرس الأخير في هذا الجزء. وهو يكاد يكون مقصورا على التنديد بالنفاق والمنافقين؛ ودعوة المؤمنين إلى الإيمان الجاد الواضح المستقيم؛ وتحذيرهم من الولاء لغير الجماعة المسلمة وقيادتها الخاصة، ومن التهاون والتراخي في دينهم مجاملة أو مراعاة للعلاقات الاجتماعية أو المصلحية مع المنافقين وأعداء هذا الدين. فهذه سمة من سمات النفاق، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار. والمنافقون هم الذين يتولون الكافرين. ويختم الدرس، ويختم الجزء معه بتقرير حقيقة مؤثرة عن صفة الله سبحانه، وعلاقته بعباده، والحكمة في عقابه للمنحرفين والضالين. وهو- سبحانه -لا حاجة به إلى عقاب مخاليقه لو آمنوا وشكروا: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم؟ وكان الله شاكرا عليما).. وهو تعبير عجيب يوحي للقلب برحمة الله، واستغنائه- سبحانه -عن تعذيب الناس، لو استقاموا على منهجه، وشكروا فضله في هذا المنهج ومنته.. ولكنهم هم الذين يشترون العذاب لأنفسهم بالكفر والجحود، وما ينشئه الكفر والجحود من فساد في الأرض، وفساد في النفس، وفساد في الحياة. وهكذا يضم الجزء جناحيه على هذا الحشد من الأهداف والموضوعات، وعلى هذا المدى من الأشواط والأبعاد.. فنكتفي في التقديم له بهذه الإشارات الخاطفة، ريثما نستعرض النصوص فيما يلي بتوفيق الله..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم كتاب الله عَلَيْكُمْ}.
عطف على {وأن تجمعوا} [النساء: 23] والتقدير: وحُرّمت عليكم المحصنات من النساء إلخ... فهذا الصنف من المحرّمات لعارض نظيرَ الجمع بين الأختين.
والمحصنات بفتح الصاد من أحصنها الرجل إذا حفظها واستقّل بها عن غيره، ويقال: امرأة محصنة بكسر الصاد أحصنت نفسها عن غير زوجها، ولم يقرأ قوله: {والمحصنات} في هذه الآية إلاَّ بالفتح.
ويقال أحصَنَ الرجُلُ فهو محصِن بكسر الصاد لا غير، ولا يقال محصَن: ولذلك لم يقرأ أحد: محصَنين غير مسافحين بفتح الصاد، وقرئ قوله: {ومحصنات} بالفتح والكسر وقوله: {فإذا أحصن} [النساء: 25] بضم الهمزة وكسر الصاد، وبفتح الهمزة وفتح الصاد. والمراد هنا المعنى الأول، أي وحرّمت عليكم ذوات الأزواج ما دُمن في عصمة أزواجهنّ، فالمقصود تحريم اشتراك رجلين فأكثر في عصمة امرأة، وذلك إبطال لنوع من النكاح كان في الجاهلية يسمّى الضِّمَاد، ولنوع آخر ورد ذكره في حديث عائشة: أن يشترك الرجال في المرأة وهم دون العشرة، فإذا حملت ووضعت حملها أرسلت إليهم فلا يستطيع أحد منهم أن يمتنع، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمّي من أحبّت باسمه فيلحق به. ونوع آخر يسمّى نكاح الاستبضاع؛ وهو أن يقول الزوج لامرأته إذا طَهرت من حيضها: أرسلي إلى فلان، فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسّها حتّى يتبيّن حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبيّن حملها أصابها زوجها. قالت عائشة: وإنما يفعل هذا رغبة في نجابة الولد، وأحسب أنّ هذا كان يقع بتراض بين الرجلين، والمقصد لا ينحصر في نجابة الولد، فقد يكون لبذل مال أو صحبة. فدَلّت الآية على تحريم كلّ عقد على نكاح ذات الزوج، أي تحريم أن يكون للمرأة أكثر من زوج واحد. وأفادت الآية تعميم حرمتهنّ ولو كان أزواجهنّ مشركين، ولذلك لزم الاستثناء بقوله: {إلا ما ملكت أيمانكم} أي إلاّ اللائي سبَيتُموهنّ في الحرب، لأنّ اليمين في كلام العرب كناية عن اليد حين تمسك السيف.
وقد جعل الله السبي هادما للنكاح تقريراً لمعتاد الأمم في الحروب، وتخويفاً أن لا يناصبوا الإسلام لأنّهم لو رفع عنهم السبي لتكالبوا على قتال المسلمين، إذ لا شيء يحذره العربي من الحرب أشدّ من سبي نسوته، ثم من أسره...
واتّفق المسلمون على أنّ سبي المرأة دون زوجها يهدم النكاح، ويُحلّها لمن وقعت في قسمته عند قسمة المغانم. واختلفوا في التي تسبَى مع زوجها: فالجمهور على أنّ سبيها يهدم نكاحها، وهذا إغضاء من الحكمة التي شرع لأجلها إبقاء حكم الاسترقاق بالأسر.
وأومأت إليها الصلة بقوله: {ملكت أيمانكم} وإلاّ لقال: إلاّ ما تركت أزواجهنّ.
ومن العلماء من قال: إنّ دخول الأمة ذاتِ الزوج في ملك جديد غير ملك الذي زوَّجها من ذلك الزوج يسوّغ لمالكها الجديد إبطال عقد الزوجية بينها وبين زوجها، كالتي تباع أو توهب أو تورث، فانتقال الملك عندهم طلاق. وهذا قول ابن مسعود، وأبَي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وسعيد، والحسن البصري، وهو شذوذ؛ فإنّ مالكها الثاني إنّما اشتراها عالماً بأنّها ذات زوج، وكأنَّ الحامل لهم على ذلك تصحيح معنى الاستثناء، وإبقاء صيغة المضيّ على ظاهرها في قوله: {ملكت} أي ما كن مملوكات لهم من قبل. والجواب عن ذلك أن المراد بقوله: {ملكت} ما تجدّد ملكها بعد أن كانت حرّة ذات زوج. فالفعل مستعمل في معنى التجدّد.
وقد نقل عن ابن عباس أنّه تحيّر في تفسير هذه الآية، وقال: « لو أعلم أحداً يعلم تفسيرها لضربت إليه أكباد الإبل». ولعلّه يعني من يعلم تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان بعض المسلمين في الزمن الأول يتوهّم أنّ أمة الرجل إذا زوَّجها من زوج لا يحرم على السيّد قِربانها، مع كونها ذات زوج. وقد رأيت منقولاً عن مالك: أنّ رجلا من ثقيف كان فعل ذلك في زمان عُمر، وأنّ عمر سأله عن أمته التي زوجّها وهل يطَؤها، فأنكر، فقال له: لو اعترفتَ لجعلتُكَ نَكَالاً.
وقوله: {كتاب الله عليكم} تذييل، وهو تحريض على وجوب الوقوف عند كتاب الله، ف {عليكم} نائب مناب (الزَمُوا)، وهو مُصيَّر بمعنى اسم الفعل، وذلك كثير في الظروف والمجرورات المنزَّلة منزلة أسماء الأفعال بالقرينة، كقولهم: إليك، ودُونك، وعَليك. و {كتاب الله} مفعوله مُقدّم عليه عند الكوفيين، أو يجعل منصوباً ب (عليكم) محذوفاً دلّ عليه المذكور بعده،...
ويجوز أن يكون {كتاب} مصدراً نائباً مناب فعلِه، أي كَتَب الله ذلك كتاباً، و {عليكم} متعلّقاً به.
{وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين}
عطف على قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23] وما بعدَه، وبذلك تلتئم الجمل الثلاث في الخبرية المراد بها الإنشاء، وفي الفعلية والماضوية.
وقرأ الجمهور: {وأحل لكم} بالبناء للفاعل، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة من قوله: {كتاب الله عليكم}.
وأسند التحليل إلى الله تعالى إظهاراً للمنّة، ولِذلك خالف طريقة إسناد التحريم إلى المجهول في قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} لأنّ التحريم مشقّة فليس المقام فيه مقام منّة.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر: {وأحل} بضم الهمزة وكسر الحاء على البناء للنائب على طريقة {حرمت عليكم أمهاتكم}.
والوراء هنا بمعنى غير ودُون...
والمعنى: أحلّ لكم ما عَدا أولئكم المحرّمات، وهذا أنزِل قبل تحريم ما حرّمته السُّنة نحو (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها)، ونحو (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
وقوله: {أن تبتغوا بأموالكم} يجوز أن يكون بدل اشتمال من (ما) باعتبار كون الموصول مفعولا ل (أحَلَّ)، والتقدير: أن تبتغوهنّ بأموالكم فإنّ النساء المبَاحات لا تحلّ إلاّ بعد العقد وإعطاء المهور، فالعقد هو مدلول (تبتغوا)، وبذل المهر هو مدلول (بأموالكم)، ورابط الجملة محذوف: تقديره أن تبتغوه...
ويجوز أن يجعل {أن تبتغوا} معمولا للام التعليل محذوفةٍ، أي أحَلَّهُن لتبتغوهنّ بأموالكم، والمقصود هو عين ما قرّر في الوجه الأول.
و {محصنِين} حال من فاعل (تبتغوا) أي محصنين أنفسكم من الزنى، والمراد متزوّجين على الوجه المعروف. {غير مسافحين} حال ثانية، والمسافح الزاني، لأنّ الزنى يسمّى السفاح، مشتقّا من السفح، وهو أن يهراق الماء دون حَبْس، يقال: سَفَح الماءُ. وذلك أنّ الرجل والمرأة يبذل كلّ منهما للآخر ما رامه منه دون قيد ولا رضَى وليّ، فكأنّهم اشتقّوه من معنى البذل بلا تقيّد بأمرٍ معروف؛ لأنّ المِعطاء يطلق عليه السَّفَّاح. وكان الرجل إذا أراد من المرأة الفاحشة يقول لها: سافحيني، فرجع معنى السفاح إلى التباذل وإطلاق العنان، وقيل: لأنّه بلا عقد، فكأنّه سَفَح سفحاً، أي صبّا لا يحجبه شيء، وغير هذا في اشتقاقه لا يَصحّ، لأنّه لا يختصّ بالزنى.
{فما استمتعتم به منهن فئاتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما}.
تفريع على {أن تبتغوا بأموالكم} وهو تفريع لفظي لبيان حقّ المرأة في المهر وأنّه في مقابلة الاستمتاع تأكيداً لما سبقه من قوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} [النساء: 4] سواء عند الجمهور الذين يجعلون الصداق ركنا للنكاح، أو عند أبي حنيفة الذي يجعله مجرّد حقّ للزوجة أن تطالب به؛ ولذلك فالظاهر أن تجعل (ما) اسم شرط صادقاً على الاستمتاع، لبيان أنّه لا يجوز إخلاء النكاح عن المهر، لأنّه الفارق بينه وبين السفاح، ولذلك قرن الخبر بالفاء في قوله: {فأتوهن أجورهن فريضة} لأنّه اعتبر جواباً للشرط.
والاستمتاع: الانتفاع، والسين والتاء فيه للمبالغة، وسمَّى الله النكاح استمتاعاً لأنّه منفعة دنيوية، وجميع منافع الدنيا متاع، قال تعالى: {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} [الرعد: 26].
والضمير المجرور بالباء عائد على (مَا). و (مِنْ) تبعيضية، أي: فإن استمتعتم بشيء منهن فآتوهنّ؛ فلا يجوز استمتاع بهنّ دون مهر.
أو يكون (مَا) صادقة على النساء، والمجرور بالباء عائداً إلى الاستمتاع المأخوذ من استمتعتم و (من) بيانية، أي فأي امرأة استمتعتم بها فآتوها.
ويجوز أن تجعل (مَا) موصولة، ويكون دخول الفاء في خبرها لمعاملتها معاملة الشرط، وجيء حينئذ ب (ما) ولم يعبر ب (مَن) لأنّ المراد جنس النساء لا القصد إلى امرأة واحدة، على أنّ (ما) تجيء للعاقل كثيراً ولا عكس: و {فريضةً} حال من {أجورهن} أي مفروضة، أي مقدرة بينكم.
والمقصد من ذلك قطع الخصومات في أعظم معاملة يقصد منها الوثاق وحسن السمعة.