( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم . فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) .
وفي لمحة نرى مشهد القيام من القبور : ( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ) . . نرى مشهدهم شتيتا منبعثا من أرجاء الأرض ( كأنهم جراد منتشر ) . . وهو مشهد لا عهد للإنسان به كذلك من قبل . مشهد الخلائق في أجيالها جميعا تنبعث من هنا ومن هناك : ( يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ) . . وحيثما امتد البصر رأى شبحا ينبعث ثم ينطلق مسرعا ! لا يلوي على شيء ، ولا ينظر وراءه ولا حواليه : ( مهطعين إلى الداع )ممدودة رقابهم ، شاخصة أبصارهم . ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) .
إنه مشهد لا تعبر عن صفته لغة البشر . هائل مروع . مفزع . مرعب . مذهل . . .
كل أولئك وسائر ما في المعجم من أمثالها لا تبلغ من وصف هذا المشهد شيئا مما يبلغه إرسال الخيال قليلا يتملاه بقدر ما يملك وفي حدود ما يطيق !
( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ) . . ( ليروا أعمالهم ) . . وهذه أشد وأدهى . . إنهم ذاهبون إلى حيث تعرض عليهم أعمالهم ، ليواجهوها ، ويواجهوا جزاءها . ومواجهة الإنسان لعمله قد تكون أحيانا أقسى من كل جزاء . وإن من عمله ما يهرب من مواجهته بينه وبين نفسه ، ويشيح بوجهه عنه لبشاعته حين يتمثل له في نوبة من نوبات الندم ولذع الضمير . فكيف به وهو يواجه بعمله على رؤوس الأشهاد ، في حضرة الجليل العظيم الجبار المتكبر ? !
إنها عقوبة هائلة رهيبة . . مجرد أن يروا أعمالهم ، وأن يواجهوا بما كان منهم !
وقوله تعالى : { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً } بمعنى : يتصرفون موضع وردهم مختلفي الأحوال . وواحد الأشتات : شت ، فقال جمهور الناس : الورد هو الكون في الأرض بالموت والدفن ، والصدر : هو القيام للبعث ، و { أشتاتاً } : معناه : قوم مؤمنون وقوم كافرون ، وقوم عصاة مؤمنون ، والكل سائر إلى العرض ليرى عمله ، ويقف عليه ، وقال النقاش : الورد هو ورد المحشر ، والصدر { أشتاتاً } : هو صدر قوم إلى الجنة ، وقوم إلى النار
وقوله تعالى : { ليروا أعمالهم } إما أن يكون معناه جزاء أعمالهم يراه أهل الجنة من نعيم ، وأهل النار بالعذاب ، وإما أن يكون قوله تعالى : { ليروا أعمالهم } متعلقاً بقوله : { بأن ربك أوحى لها } ، ويكون قوله : { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً } اعتراضاً بين أثناء الكلام ، وقرأ جمهور الناس : «ليُروا » ، بضم الياء على بناء الفاعل للمفعول ، وقرأ الحسن والأعرج وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة : «ليَروا » بفتح الياء على بنائه للفاعل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أشْتاتا } قيل : إن معنى هذه الكلمة التأخير بعد { لِيُرَوْا أعمالَهُمْ } قالوا : ووجه الكلام : يومئذٍ تحدّث أخبارها بأن ربك أوحى لها لِيُرَوا أعمالهم ، يومئذٍ يصدر الناس أشتاتا . قالوا : ولكنه اعترض بين ذلك بهذه الكلمة . ومعنى قوله : { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أشْتاتا } عن موقف الحساب فِرَقا متفرّقين ، فآخذ ذات اليمين إلى الجنة ، وآخذ ذات الشمال إلى النار .
وقوله : { لِيُرَوْا أعمالَهُمْ } يقول : يومئذ يصدر الناس أشتاتا متفرّقين ، عن اليمين وعن الشمال ، لِيُرَوا أعمالهم ، فيرى المحسن في الدنيا ، المطيع لله عمله وما أعدّ الله له يومئذ من الكرامة على طاعته إياه كانت في الدنيا ، ويرى المسيء العاصي لله عمله ، وجزاء عمله ، وما أعدّ الله له من الهوان والخزي في جهنم ، على معصيته إياه كانت في الدنيا ، وكفره به .
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقيل : معنى رؤية الأعمال المعرفة بها عند تلك الحال ، وهي رؤية القلب ، ويجوز أن يكون التأويل على رؤية العين ، بمعنى ليروا صحائف أعمالهم ، يقرؤون ما فيها ...وقيل : ليروا جزاء أعمالهم حسب ما قدمناه . وقيل : يرى الكافر حسناته فيتحسر عليها ، لأنها محبطة ، ويرى المحسن سيئاته مكفرة وحسناته مثبتة . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يصدرون عن مخارجهم من القبور إلى الموقف { أَشْتَاتاً } بيض الوجوه آمنين ؛ وسود الوجوه فزعين . أو يصدرون عن الموقف أشتاتاً يتفرق بهم طريقا الجنة والنار ، ليروا جزاء أعمالهم . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ يومئذ } أي إذ كان ما تقدم وهو حين يقوم الناس من القبور { يصدر } أي يرجع رجوعاً هو في غاية السرعة والاهتداء إلى الموضع الذي ينادون منه ، لا يغلط أحد منهم فيه ، ولا يضل عنه { الناس } من قبورهم إلى ربهم الذي كان لهم بالمرصاد ليفصل بينهم { أشتاتاً } أي متفرقين بحسب مراتبهم في الذوات والأحوال ، من مؤمن وكافر ، وآمن وخائف .... { ليروا } أي يرى الله المحسن منهم والمسيء بواسطة من يشاء من جنوده ، أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه وتعالى كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم . { أعمالهم } فيعلموا جزاءها ، أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نرى مشهدهم شتيتا منبعثا من أرجاء الأرض ( كأنهم جراد منتشر ) . . وهو مشهد لا عهد للإنسان به كذلك من قبل . مشهد الخلائق في أجيالها جميعا تنبعث من هنا ومن هناك : ( يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ) . . وحيثما امتد البصر رأى شبحا ينبعث ثم ينطلق مسرعا ! لا يلوي على شيء ، ولا ينظر وراءه ولا حواليه : ( مهطعين إلى الداع )ممدودة رقابهم ، شاخصة أبصارهم . ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) . إنه مشهد لا تعبر عن صفته لغة البشر . هائل مروع . مفزع . مرعب . مذهل . . . كل أولئك وسائر ما في المعجم من أمثالها لا تبلغ من وصف هذا المشهد شيئا مما يبلغه إرسال الخيال قليلا يتملاه بقدر ما يملك وفي حدود ما يطيق ! ( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ) . . ( ليروا أعمالهم ) . . وهذه أشد وأدهى . . إنهم ذاهبون إلى حيث تعرض عليهم أعمالهم ، ليواجهوها ، ويواجهوا جزاءها . ومواجهة الإنسان لعمله قد تكون أحيانا أقسى من كل جزاء . وإن من عمله ما يهرب من مواجهته بينه وبين نفسه ، ويشيح بوجهه عنه لبشاعته حين يتمثل له في نوبة من نوبات الندم ولذع الضمير . فكيف به وهو يواجه بعمله على رؤوس الأشهاد ، في حضرة الجليل العظيم الجبار المتكبر ? ! إنها عقوبة هائلة رهيبة . . مجرد أن يروا أعمالهم ، وأن يواجهوا بما كان منهم ! ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«أشتات » جمع «شتّ » على وزن شط وهو المتفرق والمبعثر . أي إنّ النّاس يردون ساحة المحشر متفرقين مبعثرين . وقد يكون التفرق والتبعثر لورود أهل كلّ دين منفصلين عن الآخرين . أو قد يكون لورود أهل كلّ نقطة من نقاط الأرض بشكل منفصل . أو قد يكون لورود جماعة بأشكال جميلة مستبشرة ، وجماعة بوجوه عبوسة مكفهرة إلى المحشر . أو إن كلّ اُمّة ترد مع إمامها وقائدها كما في قوله تعالى : { يوم ندعوا كلّ أناس بإمامهم } . أو أنّ يحشر المؤمنون مع المؤمنين ، والكافرون مع الكافرين . الجمع بين هذه التفاسير ممكن تماماً ؛ لأنّ مفهوم الآية واسع . «يصدر » من الصدور ، وهو خروج الإبل من بركة الماء مجتمعة هائجة وعكسه الورود . وهي هنا كناية عن خروج الأقوام من القبور وورودهم على المحشر للحساب . ويحتمل أيضاً أن يكون صدور النّاس في الآية من المحشر والتوجه نحو مستقرهم في الجنّة أو النّار . المعنى الأوّل أكثر تناسباً مع الآيات السابقة . المقصود من عبارة { ليروا أعمالهم } هل هو : ليروا جزاء أعمالهم . أو ليروا صحيفة أعمالهم وما سجل فيها من حسنات وسيئات أو المشاهدة الباطنية ، بمعنى المعرفة بكيفية الأعمال . أو أنّها تعني «تجسم الأعمال » ورؤية الأعمال نفسها ؟ ! التّفسير الأخير أنسب مع ظاهر الآية . وهذه الآية أوضح الآيات الدالة على تجسم الأعمال . حيث تتخذ الأعمال في ذلك اليوم أشكالاً تتناسب مع طبيعتها ، وتنتصب أمام صاحبها . وتكون رفقتها سروراً وانشراحاً أو عذاباً وبلاءً . ...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.