وهذا التحدي ظل قائما في حياة الرسول [ ص ] وبعدها ، وما يزال قائما إلى يومنا هذا وهو حجة لا سبيل إلى المماحكة فيها . . وما يزال القرآن يتميز من كل كلام يقوله البشر تميزا واضحا قاطعا . وسيظل كذلك أبدا . سيظل كذلك تصديقا لقول الله تعالى في الآية التالية :
( فإن لم تفعلوا - ولن تفعلوا - فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافري ) والتحدي هنا عجيب ، والجزم بعدم إمكانه أعجب ، ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة . وما من شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا ، وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل إلى المماراة فيها . ولقد كان المجال أمامهم مفتوحا ، فلو أنهم جاءوا بما ينقض هذا التقرير القاطع لأنهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع ولن يقع كذلك فالخطاب للناس جميعا ، ولو أنه كان في مواجهة جيل من أجيال الناس .
وهذه وحدها كلمة الفصل التاريخية .
على أن كل من له دراية بتذوق أساليب الأداء ؛ وكل من له خبرة بتصورات البشر للوجود وللأشياء ؛ وكل من له خبرة بالنظم والمناهج والنظريات النفسية أو الاجتماعية التي ينشئها البشر . . لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن في هذه المجالات كلها شيء آخر ليس من مادة ما يصنعه البشر . والمراء في هذا لا ينشأ إلا عن جهالة لا تميز ، أو غرض يلبس الحق بالباطل . .
ومن ثم كان هذا التهديد المخيف لمن يعجزون عن هذا التحدي ثم لا يؤمنون بالحق الواضح :
( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) . .
ففيم هذا الجمع بين الناس والحجارة ، في هذه الصورة المفزعة الرعيبة ؟ لقد أعدت هذه النار للكافرين . الكافرين الذين سبق في أول السورة وصفهم بأنهم ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ) . . والذين يتحداهم القرآن هنا فيعجزون ، ثم لا يستجيبون . . فهم إذن حجارة من الحجارة ! وإن تبدوا في صورة آدمية من الوجهة الشكلية ! فهذا الجمع بين الحجارة من الحجر والحجارة من الناس هو الأمر المنتظر !
على أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى في المشهد المفزع : مشهد النار التي تأكل الأحجار . ومشهد الناس الذين تزحمهم هذه الأحجار . . في النار . .
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 )
وقوله تعالى : { فإن لم تفعلوا } ، دخلت «إن » على { لم } لأن { لم تفعلوا } معناه تركتم الفعل ، ف «إن » لا تؤثر كما لا تؤثر في الماضي من الأفعال ، و { تفعلوا } جزم ب { لم } ، وجزمت ب { لم } لأنها أشبهت «لا » في التبرية في أنهما ينفيان ، فكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل . ( {[342]} )
وقوله : { ولن تفعلوا } نصبت { لن } ، ومن العرب من تجزم بها ، ذكره أبو عبيدة ، ومنه بيت النابغة على بعض الروايات : [ البسيط ]
فلن أعرّضْ أبيت اللعن بالصفد( {[343]} ) . . . وفي الحديث في منامة عبد الله بن عمر فقيل لي : «لن ترعْ »( {[344]} ) هذا على تلك اللغة ، وفي قوله : { لن تفعلوا } إثارة لهممهم وتحريك لنفوسهم ، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع ، وهو أيضاً من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها .
وقوله تعالى : { فاتقوا النار } ، أمر بالإيمان وطاعة الله خرج في هذه الألفاظ المحذرة . ( {[345]} )
وقرأ الجمهور : «وَقودها » بفتح الواو( {[346]} ) . وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وأبو حيوة : «وقودها » بضم الواو في كل القرآن ، إلا أن طلحة استثنى الحرف الذي في البروج ، وبفتح الواو هو الحطب وبضمها هو المصدر ، وقد حكيا جميعاً في الحطب وقد حكيا في المصدر .
قال ابن جني : «من قرأ بضم الواو فهو على حذف مضاف تقديره ذو وقودها ، لأن الوقود بالضم مصدر ، وليس بالناس ، وقد جاء عنهم الوقود بالفتح في المصدر ، ومثله ولعت به » لوعاً «بفتح الواو ، وكله شاذ ، والباب هو الضم » .
وقوله : { الناس } عموم معناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء بدخولها .
وروي عن ابن مسعود في { الحجارة } أنها حجارة الكبريت( {[347]} ) وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الاتقاد ، ونتن الرائحة ، وكثرة الدخان ، وشدة الالتصاق بالأبدان ، وقوة حرها إذا حميت .
وفي قوله تعالى : { أعدت }( {[348]} ) رد على من قال : إن النار لم تخلق حتى الآن ، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد( {[349]} ) البلوطي الأندلسي ، وذهب بعض المتأولين إلى أن هذه النار المخصصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة ، وأن غيرها هي للعصاة . ( {[350]} )
وقال الجمهور : بل الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة ، وإنما ذكر الكافرين ليحصل المخاطبون في الوعيد ، إذ فعلهم كفر ، فكأنه قال أعدت لمن فعل فعلكم ، ، وليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها غيرهم . ( {[351]} )
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.