في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (129)

ومرة أخرى نجدنا أمام المنهج الفريد ، وهو يواجه واقع النفس البشرية وملابسات الحياة البشرية ، بالواقعية المثالية ، أو المثالية الواقعية ، ويعترف بما هو كامن في تركيبها من ازدواج عجيب فريد :

( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء - ولو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة . وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما . وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيمًا ) .

إن الله الذي فطر النفس البشرية ، يعلم من فطرتها أنها ذات ميول لا تملكها . ومن ثم أعطاها لهذه الميول خطاما . خطاما لينظم حركتها فقط ، لا ليعدمها ويقتلها !

من هذه الميول أن يميل القلب البشري إلى إحدى الزوجات ويؤثرها على الأخريات . فيكون ميله إليها أكثر من الأخرى أو الأخريات . وهذا ميل لا حيلة له فيه ؛ ولا يملك محوه أو قتله . . فماذا ؟ إن الإسلام لا يحاسبه على أمر لا يملكه ؛ ولا يجعل هذا إثما يعاقبه عليه ؛ فيدعه موزعا بين ميل لا يملكه وأمر لا يطيقه ! بل إنه يصارح الناس بأنهم لن يستطيعوا أن يعدلوا بين النساء - ولو حرصوا - لأن الأمر خارج عن إرادتهم . . ولكن هنالك ما هو داخل في إرادتهم . هناك العدل في المعاملة . العدل في القسمة . العدل في النفقة . العدل في الحقوق الزوجية كلها ، حتى الابتسامة في الوجه ، والكلمة الطيبة باللسان . . وهذا ما هم مطالبون به . هذا هو الخطام الذي يقود ذلك الميل . لينظمه لا ليقتله !

( فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ) . .

فهذا هو المنهي عنه . الميل في المعاملة الظاهرة ، والميل الذي يحرم الأخرى حقوقها فلا تكون زوجة ولا تكون مطلقة . . ومعه الهتاف المؤثر العميق في النفوس المؤمنة ؛ والتجاوز عما ليس في طاقة الإنسان .

وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيمًا .

ولأن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بجملة ما فيها من مزاج فريد مؤلف من القبضة من الطين والنفخة من روح الله . وبجملة ما فيها من استعدادات وطاقات . وبواقعيتها المثالية ، أو مثاليتها الواقعية ، التي تضع قدميها على الأرض ، وترف بروحها إلى السماء ، دون تناقض ودون انفصام .

لأن الإسلام كذلك . . كان نبي الإسلام [ ص ] هو الصورة الكاملة للإنسانية حين تبلغ أوجها من الكمال ؛ فتنمو فيها جميع الخصائص والطاقات نموا متوازنا متكاملا في حدود فطرة الإنسان .

وكان هذا الرسول [ ص ] وهو يقسم بين نسائه فيما يملك ، ويعدل في هذه القسمة ، لا ينكر أنه يؤثر بعضهن على بعض . وأن هذا خارج عما يملك . فكان يقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك . فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب " [ أخرجه أبو داود ] . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (129)

وقوله تعالى { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } الآية . معناه : العدل التام على الإطلاق المستوي في الأفعال والأقوال والمحبة والجماع وغير ذلك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ثم يقول : «اللهم هذا فعلي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك »{[4323]} يعني ميله بقلبه ، وكان عمر ابن الخطاب يقول : اللهم قلبي فلا أملكه ، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل ، وروي أن هذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وميله بقلبه إلى عائشة ، فوصف الله تعالى حالة البشر ، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض الأزواج دون بعض ، ونشاطهم إليهن وبشرهم معهن ، ثم نهى عن «الميل كل الميل » وهو أن يفعل فعلاً يقصده من التفضيل وهو يقدر أن لا يفعله ، فهذا هو { كل الميل } ، وإن كان في أمر حقير ، فكأن الكلام { فلا تميلوا } النوع الذي هو كل الميل وهو المقصود من قول أو فعل ، وقوله تعالى { فتذروها كالمعلقة } أي لا هي أيم ولا ذات زوج ، وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء لأنه لا على الأرض استقر ، ولا على ما علق منه انحمل ، وهذا مطرد في قولهم في المثل : [ ارض من المركب بالتعليق ]{[4324]} ، وفي عرف النحويين في تعليق الفعل ، ومنه في حديث أم زرع قول المرأة : [ زوجي العشنق ، إن أنطق أطلق ، وإن أسكت أعلق ]

وقرأ أبيّ بن كعب «فتذروها كالمسجونة » وقرأ عبد الله بن مسعود «فتذروها كأنها معلقة » ثم قال تعالى { وإن تصلحوا وتتقوا } أي وإن تلتزموا ما يلزمكم من العدل فيما تملكون { فإن الله كان غفوراً رحيماً } لما لا تملكونه متجاوزاً عنه ، وقال الطبري : معنى الآية ، غفوراً لما سلف منكم من الميل كل الميل قبل نزول الآية .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : فعلى هذا فهي مغفرة مخصصة لقوم بأعيانهم ، واقعوا المحظور في مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاء في التي قبل { وإن تحسنوا } وفي هذه { وإن تصلحوا } لأن الأول في مندوب إليه ، وهذه في لازم ، لأن الرجل له هناك أن لا يحسن وأن يشح ويصالح بما يرضيه ، وفي هذه ليس له أن يصلح ، بل يلزمه العدل فيما يملك .


[4323]:- أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم- عن ابن أبي مليكة قال: نزلت هذه الآية: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} في عائشة رضي الله عنها، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها أكثر من غيرها. (الدر المنثور 2/ 233).
[4324]:- هذا مثل يضرب في القناعة بالقليل من الكثير- راجع "مجمع الأمثال" للميداني.