ذلك الأصل الذي قررته الآية الأولى في السورة ، يرتب عليه توجيه المؤمنين لقتال الكافرين . فهم على الحق الثابت الذي ينبغي أن يتقرر في الأرض ، ويستعلي ويهيمن على أقدار الناس والحياة ليصل الناس بالحق وليقيم الحياة على أساسه . والذين كفروا على الباطل الذي ينبغي أن يبطل وتذهب آثاره من الحياة :
( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب . حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق . فإما منا بعد وإما فداء . حتى تضع الحرب أوزارها ) . .
واللقاء المقصود في الآية هنا هو اللقاء للحرب والقتال لا مجرد اللقاء . فحتى نزول هذه السورة كان المشركون في الجزيرة منهم المحارب ومنهم المعاهد ؛ ولم تكن بعد قد نزلت سورة " براءة " التي تنهي عهود المشركين المحددة الأجل إلى أجلها ، والمطلقة الأجل إلى أربعة أشهر ؛ وتأمر بقتل المشركين بعد ذلك أنى وجدوا في أنحاء الجزيرة - قاعدة الإسلام - أو يسلموا . كي تخلص القاعدة للإسلام .
وضرب الرقاب المأمور به عند اللقاء يجيء بعد عرض الإسلام عليهم وإبائهم له طبعا . وهو تصوير لعملية القتل بصورتها الحسية المباشرة ، وبالحركة التي تمثلها ، تمشيا مع جو السورة وظلالها .
( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ) . .
والإثخان شدة التقتيل ، حتى تتحطم قوة العدو وتتهاوى ، فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع . وعندئذ - لا قبله - يؤسر من استأسر ويشد وثاقه . فأما والعدو ما يزال قويا فالإثخان والتقتيل يكون الهدف لتحطيم ذلك الخطر .
وعلى هذا لا يكون هناك اختلاف - كما رأى معظم المفسرين - بين مدلول هذه الآية ، ومدلول آية الأنفال التي عاتب الله فيها الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمين لاستكثارهم من الأسرى في غزوة بدر . والتقتيل كان أولى . وذلك حيث يقول تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) . . فالإثخان أولا لتحطيم قوة العدو وكسر شوكته ؛ وبعد ذلك يكون الأسر . والحكمة ظاهرة ، لأن إزالة القوة المعتدية المعادية للإسلام هي الهدف الأول من القتال . وبخاصة حين كانت القوة العددية للأمة المسلمة قليلة محدودة . وكانت الكثرة للمشركين . وكان قتل محارب يساوي شيئا كبيرا في ميزان القوى حينذاك . والحكم ما يزال ساريا في عمومه في كل زمان بالصورة التي تكفل تحطيم قوة العدو ، وتعجيزه عن الهجوم والدفاع .
فأما الحكم في الأسرى بعد ذلك ، فتحدده هذه الآية . وهي النص القرآني الوحيد المتضمن حكم الأسرى :
( فإما منا بعد وإما فداء ) . .
أي إما أن يطلق سراحهم بعد ذلك بلا مقابل من مال أو من فداء لأسرى المسلمين . وإما أن يطلق مقابل فدية من مال أو عمل أو في نظير إطلاق سراح المسلمين المأسورين .
وليس في الآية حالة ثالثة . كالاسترقاق أو القتل . بالنسبة لأسرى المشركين .
ولكن الذي حدث فعلا أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والخلفاء من بعده استرقوا بعض الأسرى - وهو الغالب - وقتلوا بعضهم في حالات معينة .
ونحن ننقل هنا ما ورد حول هذه الآية في كتاب " أحكام القرآن للإمام الجصاص الحنفي " ونعلق على ما نرى التعليق عليه في ثناياه . قبل أن نقرر الحكم الذي نراه :
قال الله تعالى : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب )قال أبو بكر قد اقتضى ظاهره وجوب القتل لا غير إلا بعد الإثخان . وهو نظير قوله تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) . . " وهذا صحيح فليس بين النصين خلاف " .
حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن الحكم قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان . قال : حدثنا أبو عبيد . قال : حدثنا عبدالله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة . عن ابن عباس في قوله تعالى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) . قال : ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . فجعل الله النبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار . إن شاءوا قتلوهم ، وإن شاءوا استعبدوهم ، وإن شاءوا فادوهم . شك أبو عبيد في . . وإن شاءوا استعبدوهم . . " والاستعباد مشكوك في صدور القول به عن ابن عباس فنتركه . وأما جواز القتل فلا نرى له سندا في الآية وإنما نصها المن أو الفداء .
وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا أبو مهدي وحجاج ، كلاهما عن سفيان . قال : سمعت السدي يقول في قوله : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . قال : هي منسوخة ، نسخها قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) : قال أبو بكر : أما قوله : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ) . . وقوله تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) . . وقوله : ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ) . . فإنه جائز أن يكون حكما ثابتا غير منسوخ . وذلك لأن الله تعالى أمر نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] بالإثخان في القتل وحظر عليه الأسر - إلا بعد إذلال المشركين وقمعهم - وكان ذلك وقت قلة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوهم من المشركين ، فمتى أثخن المشركون وأذلوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء . فالواجب أن يكون هذا حكما ثابتا إذا وجد مثل الحال التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام . " ونقول : إن الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا خاص بمشركي الجزيرة . بينما النص في سورة محمد عام . فمتى تحقق الإثخان في الأرض جاز أخذ الأسارى . وهذا ما جرى عليه الخلفاء بعد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبعد نزول سورة براءة بطبيعة الحال ، ولم يقتلوهم إلا في حالات معينة سيأتي بيانها " . .
وأما قوله : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . ظاهره يقتضي أحد شيئين : من أو فداء . وذلك ينفي جواز القتل . وقد اختلف السلف في ذلك . حدثنا حجاج عن مبارك بن فضالة عن الحسن أنه كره قتل الأسير ، وقال : من عليه أو فاده . وحدثنا جعفر قال : حدثنا أبو عبيد قال : أخبرنا هشيم . قال : أخبرنا أشعث قال : سألت عطاء عن قتل الأسير فقال : من عليه أو فاده قال : وسألت الحسن . قال : يصنع به ما صنع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بأسارى بدر ، يمن عليه أو يفادى به . وروي عن ابن عمر أنه دفع إليه عظيم من عظماء اصطخر ليقتله ، فأبى أن يقتله ، وتلا قوله : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . وروي أيضا عن مجاهد ومحمد بن سيرين كراهة قتل الأسير . وقد روينا عن السدي أن قوله : ( فإما منا بعد وإما فداء )منسوخ بقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) . وروي مثله عن ابن جريج . حدثنا جعفر قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : هي منسوخة . وقال : قتل رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] عقبة ابن أبي معيط يوم بدر صبرا ، قال أبو بكر : اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافا فيه ، وقد تواترت الأخبار عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في قتله الأسير ، منها قتله عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر . وقتل يوم أحد أبا عزة الشاعر بعدما أسر . وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بالقتل وسبي الذرية . ومن على الزبير بن باطا من بينهم ، وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة ، وشرط على ابن أبي الحقيق ألا يكتم شيئا ، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله . وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل ، ومقيس بن حبابة ، وعبد الله بن أبي سرح ، وآخرين ، وقال : " اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة " . ومن على أهل مكة ولم يغنم أموالهم . وروي عن صالح بنكيسان عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف ، أنه سمع أبا بكر الصديق يقول : " وددت أني يوم أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته ، وكنت قتلته سريحا أو أطلقته نجيحا " . وعن أبي موسى أنه قتل دهقان السوس بعدما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسي نفسه فلم يدخلها في الأمان فقتله . فهذه آثار متواترة عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه . واتفق فقهاء الأمصار على ذلك . " وجواز القتل لا يؤخذ من الآية ، ولكن يؤخذ من عمل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبعض الصحابة . وتتبع الحالات التي وقع فيها القتل يعطي أنها حالات خاصة ، وراءها أسباب معينة غير مجرد التعرض للقتال والأسر . فالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط كلاهما كان له موقف خاص في إيذاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وإيذاء دعوته . وكذلك أبو عزة الشاعر ، ولبني قريظة كذلك موقف خاص بارتضائهم حكم سعد بن معاذ سلفا . وهكذا نجد في جميع الحالات أسبابا معينة تفرد هذه الحالات من الحكم العام للأسرى الذي تقرره الآية : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . .
وإنما اختلفوا في فدائه ، فقال أصحابنا جميعا " يعني الحنفية " : لا يفادى الأسير بالمال ، ولا يباع السبي من أهل الحرب فيردوا حربا . وقال أبو حنيفة : لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا ، ولا يردون حربا أبدا . وقال أبو يوسف ومحمد : لا بأس أن يفادى أسرى المسلمين بأسرى المشركين . وهو قول الثوري والأوزاعي ، وقال الأوزاعي : لا بأس ببيع السبي من أهل الحرب ، ولا يباع الرجال إلا أن يفادى بهم المسلمون . وقال المزني عن الشافعي : للإمام أن يمن على الرجال الذين ظهر عليهم أو يفادي بهم ، فأما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال فإنهم احتجوا بقوله : ( فإما منا بعد وإما فداء )وظاهره يقتضي جوازه بالمال وبالمسلمين ؛ وبأن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فدى أسارى بدر بالمال . ويحتجون للفداء بالمسلمين بما روى ابن المبارك ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران ابن حصين . قال : أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأسر أصحاب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رجلا من بني عامر ابن صعصعة ؛ فمر به النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وهو موثق ، فناداه ، فأقبل إليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : علام أحبس ? قال : " بجريرة حلفائك " . فقال الأسير : إني مسلم ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح " . ثم مضى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فناداه أيضا ، فأقبل ، فقال : إني جائع فأطعمني . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " هذه حاجتك " . ثم إن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما . . ( وحجة القائلين بالفداء أرجح في تقديرنا من حجة أصحاب الإمام الجصاص على الاختلاف في الفداء بالمال أو بأسرى المسلمين ) .
وقد ختم الإمام الجصاص القول في المسألة بترجيح رأي أصحابه الحنفية قال : وأما ما في الآية من ذكر المن والفداء ، وما روي في أسارى بدر فإن ذلك منسوخ بقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) . . وقد روينا ذلك عن السدي وابن جريج . وقوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر )إلى قوله : ( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) . فتضمنت الآيتان وجوب القتال للكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية . والفداء بالمال أو بغيره ينافي ذلك . ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة " براءة " بعد سورة " محمد " [ صلى الله عليه وسلم ] فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخا للفداء المذكور في غيرها . . " وقد سبق القول بأن هذا القتل للمشركين - أو الإسلام - مقصود به مشركو الجزيرة فهو حكم خاص بهم . أما غيرهم خارجهافتقبل منهم الجزية كما تقبل من أهل الكتاب . وقبول الجزية عند التسليم لا ينفي أن يقع الأسرى في أيدي المسلمين قبل التسليم . فهؤلاء الأسرى ما الحكم فيهم ? نقول : إنه يجوز المن عليهم إذا رأى الإمام المصلحة ، أو الفداء بهم بالمال أو بالمسلمين ، إذا ظل قومهم قوة لم تستسلم بعد ولم تقبل الجزية . فأما عند الاستسلام للجزية فالأمر منته بطبيعته وهذه حالة أخرى ، فحكم الأسرى يظل ساريا في الحالة التي لم تنته بالجزية ) .
والخلاصة التي ننتهي إليها أن هذا النص هو الوحيد المتضمن حكم الأسرى . وسائر النصوص تتضمن حالات أخرى غير حالة الأسر . وأنه هو الأصل الدائم للمسالة . وما وقع بالفعل خارجا عنه كان لمواجهة حالات خاصة وأوضاع وقتية . فقتل بعض الأسرى كان في حالات فردية يمكن أن يكون لها دائما نظائر ؛ وقد أخذوا بأعمال سابقة على الأسر ، لا بمجرد خروجهم للقتال . ومثال ذلك أن يقع جاسوس أسيرا فيحاكم على الجاسوسية لا على أنه أسير . وإنما كان الأسر مجرد وسيلة للقبض عليه .
ويبقى الاسترقاق . وقد سبق لنا في مواضع مختلفة من هذه الظلال القول بأنه كان لمواجهة أوضاع عالمية قائمة ، وتقاليد في الحرب عامة . ولم يكن ممكنا أن يطبق الإسلام في جميع الحالات النص العام : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . في الوقت الذي يسترق أعداء الإسلام من يأسرونهم من المسلمين . ومن ثم طبقه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في بعض الحالات فأطلق بعض الأسارى منا . وفادى ببعضهم أسرى المسلمين ، وفادى بعضهم بالمال . وفي حالات أخرى وقع الاسترقاق لمواجهة حالات قائمة لا تعالج بغير هذا الإجراء .
فإذا حدث أن اتفقت المعسكرات كلها على عدم استرقاق الأسرى ، فإن الإسلام يرجع حينئذ إلى قاعدته الإيجابية الوحيدة وهي : ( فإما منا بعد وإما فداء )لانقضاء الأوضاع التي كانت تقضي بالاسترقاق . فليس الاسترقاق حتميا ، وليس قاعدة من قواعد معاملة الأسرى في الإسلام .
وهذا هو الرأي الذي نستوحيه من النص القرآني الحاسم . ومن دراسة الأحوال والأوضاع والأحداث . . والله الموفق للصواب .
ويحسن أن يكون مفهوما أنني أجنح إلى هذا الرأي لأن النصوص القرآنية واستقراء الحوادث وظروفها يؤيده لا لأنه يهجس في خاطري أن استرقاق الأسرى تهمة أحاول أن أبرى ء الإسلام منها ! إن مثل هذا الخاطر لا يهجس في نفسي أبدا ، فلو كان الإسلام رأى هذا لكان هو الخير ، لأنه ما من إنسان يعرف شيئا من الأدب يملك أن يقول : إنه يرى خيرا مما يرى الله . إنما أنا أسير مع نص القرآن وروحه فأجنح إلى ذلك الرأي بإيحاء النص واتجاهه .
وذلك . . - أي القتال وضرب الرقاب وشد الوثاق واتباع هذه القاعدة في الأسرى - ( حتى تضع الحرب أوزارها ) . . أي حتى تنتهي الحرب بين الإسلام وأعدائه المناوئين له . فهي القاعدة الكلية الدائمة . ذلك أن " الجهاد ماض إلى يوم القيامة " كما يقول رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] حتى تكون كلمة الله هي العليا .
والله لا يكلف الذين آمنوا هذا الأمر ، ولا يفرض عليهم هذا الجهاد ، لأنه يستعين بهم - حاشاه - على الذين كفروا . فهو سبحانه قادر على أن يقضي عليهم قضاء مباشرا ؛ وإنما هو ابتلاء الله لعباده بعضهم ببعض ؛ الإبتلاء الذي تقدر به منازلهم :
( ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ، ولكن ليبلو بعضكم ببعض . والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم ، ويدخلهم الجنة عرفها لهم ) . .
إن هؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ، وأمثالهم في الأرض كلها في كل زمان من البغاة الطغاة المفسدين ، الذين يظهرون في ثوب البطش والاستكبار ، ويتراءون لأنفسهم وللضالين من أتباعهم قادرين أقوياء . إن هؤلاء جميعا حفنة من الخلق . تعيش على ظهر هذه الهباءة الصغيرة المسماة بالأرض ، بين هذه الكواكب والنجوم والمجموعات الفلكية والمجرات والعوالم التي لا يعلم عددها ولا مداها إلا الله في هذا الفضاء الذي تبدو فيه هذه المجرات والعوالم نقطا متناثرة ، تكاد تكون ضائعة ، لا يمسكها ولا يجمعها ولا ينسقها إلا الله .
فلا يبلغ هؤلاء ومن وراءهم من الأتباع ، بل لا يبلغ أهل هذه الأرض كلها ، أن يكونوا نمالا صغيرة . لا بل إنهم لا يبلغون أن يكونوا هباء تتقاذفه النسمات . لا بل إنهم لا يبلغون شيئا أصلا حين يقفون أمام قوة الله .
إنما يتخذ الله المؤمنين - حين يأمرهم بضرب رقاب الكفار وشد وثاقهم بعد إثخانهم - إنما يتخذهم سبحانه ستارا لقدرته . ولو شاء لانتصر من الكافرين جهرة . كما انتصر من بعضهم بالطوفان والصيحة والريح العقيم . بل لانتصر منهم من غير هذه الأسباب كلها ، ولكنه إنما يريد لعباده المؤمنين الخير . وهو يبتليهم ، ويربيهم ، ويصلحهم ، وييسر لهم أسباب الحسنات الكبار .
يريد ليبتليهم . وفي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم ما في النفس البشرية من طاقات واتجاهات . فليس أكرم في النفس من أن يعز عليها الحق الذي تؤمن به ، حتى تجاهد في سبيله فتقتل وتقتل ، ولا تسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه ، ولا تستطيع الحياة بدونه ، ولا تحب هذه الحياة في غير ظله .
ويريد ليربيهم . فيظل يخرج من نفوسهم كل هوى وكل رغبة في أعراض هذه الأرض الفانية مما يعز عليهم أن يتخلوا عنه . ويظل يقوي في نفوسهم كل ضعف ويكمل كل نقص ، وينفي كل زغل ودخل ، حتى تصبح رغائبهم كلها في كفة وفي الكفة الأخرى تلبية دعوة الله للجهاد ، والتطلع إلى وجه الله ورضاه . فترجح هذه وتشيل تلك . ويعلم الله من هذه النفوس أنها خيرت فاختارت ، وأنها تربت فعرفت ، وأنها لا تندفع بلا وعي ولكنها تقدر وتختار .
ويريد ليصلحهم . ففي معاناة الجهاد في سبيل الله ، والتعرض للموت في كل جولة ، ما يعود النفس الاستهانة بهذا الخطر المخوف ، الذي يكلف الناس الكثير من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه . وهو هين هين عند من يعتاد ملاقاته . سواء سلم منه أو لاقاه . والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس في لحظات الخطر شيئا يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام ! وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح .
ثم هي الأسباب الظاهرة لإصلاح الجماعة البشرية كلها ، عن طريق قيادتها بأيدي المجاهدين الذين فرغت نفوسهم من كل أعراض الدنيا وكل زخارفها ؛ وهانت عليهم الحياة وهم يخوضون غمار الموت في سبيل الله . ولم يعد في قلوبهم ما يشغلهم عن الله والتطلع إلى رضاه . . وحين تكون القيادة في مثل هذه الأيدي تصلح الأرض كلها ويصلح العباد . ويصبح عزيزا على هذه الأيدي أن تسلم في راية القيادة للكفر والضلال والفساد ؛ وهي قد اشترتها بالدماء والأرواح ، وكل عزيز وغال أرخصته لتتسلم هذه الراية لا لنفسها ولكن لله !
ثم هو بعد ذلك كله تيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم الحسنى لينالوا رضاه وجزاءه بغير حساب . وتيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم السوءى ليكسبوا ما يستحقون عليه غضبه وعذابه . وكل ميسر لما خلق له . وفق ما يعلمه الله من سره ودخيلته .
ومن ثم يكشف عن مصير الذين يقتلون في سبيل الله :
( والذين قتلوا في سبيل الله ، فلن يضل أعمالهم
لن يضل أعمالهم . . في مقابل ما جاء عن الذين كفروا أنه أضل أعمالهم . فهي أعمال مهتدية واصلة مربوطة إلى الحق الثابت الذي صدرت عنه ، وانبعثت حماية له ، واتجاها إليه . وهي باقية من ثم لأن الحق باق لا يهدر ولا يضيع .
ثم نقف أمام هذه الحقيقة الهائلة . . حقيقة حياة الشهداء في سبيل الله . . فهي حقيقة مقررة من قبل في قوله تعالى : ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ) . . ولكنها تعرض هنا عرضا جديدا . تعرض في حالة امتداد ونماء في طريقها الذي غادرت الحياة الدنيا وهي تسلكه وتتوخاه . طريق الطاعة والهداية والتجرد والنقاء :
قال ابن عباس وقتادة وابن جريج والسدي : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف التي في براءة : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[10349]} [ التوبة : 5 ] وإن الأسر والمن والفداء مرتفع ، فمتى وقع أسر فإنما معه القتل ولا بد ، وروي نحوه عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه{[10350]} . وقال ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء ما معناه : إن هذه الآية محكمة مبينة لتلك ، والمن والفداء ثابت ، وقد منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال ، وفادى أسرى بدر ، وقاله الحسن ، وقال : لا يقتل الأسير إلا في الحرب ، يهيب بذلك على العدو . وكان عمر بن عبد العزيز يفادي رجلاً برجل ، ومنع الحسن أن يفادوا بالمال . وقد أمر عمر بن عبد العزيز بقتل أسير من الترك ذكر له أنه قتل مسلمين . وقالت فرقة : هذه الآية خصصت من الأخرى أهل الكتاب فقط ، ففيهم المن والفداء ، وعباد الأوثان ليس فيهم إلا القتل . وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان . وقوله هنا : { فضرب الرقاب } بمثابة قوله هناك : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[10351]} [ التوبة : 5 ] وصرح هنا بذكر المن والفداء ، ولم يصرح به هنالك ، وهو مراد متقرر ، وهذا هو القول القوي .
وقوله : { فضرب الرقاب } مصدر بمعنى الفعل ، أي فاضربوا رقابهم وعين من أنواع القتل أشهره وأعرفه فذكره ، والمراد : اقتلوهم بأي وجه أمكن ، وقد زادت آية : { واضربوا منهم كل بنان }{[10352]} [ الأنفال : 12 ] وهي من أنكى ضربات الحرب ، لأنها تعطل من المضروب جميع جسده ، إذ البنان أعظم آلة المقاتل وأصلها . و : { أثخنتموهم } معناه : بالقتل . والإثخان في القوم : أن يكثر فيهم القتلى والجرحى ، والمعنى : فشدوا الوثاق بمن لم يقتل ولم يترتب عليه إلا الأسر . و : { مناً } و : { فداء } مصدران منصوبان بفعلين مضمرين . وقرأ جمهور الناس : «فداء » . وقرأ شبل عن ابن كثير : «فدى » مقصوراً .
وإمام المسلمين مخير في أسراه في خمسة أوجه : القتل ، أو الاسترقاق ، أو ضرب الجزية ، أو الفداء ، أو المن . ويترجح النظر في أسير أسر بحسب حاله من إذاية المسلمين أو ضد ذلك .
وقوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } معناه : حتى تذهب وتزول أثقالها . والأوزار : الأثقال فيها والآلات لها ، ومنه قول الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
وأعددت للحرب أوزارها . . . رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا{[10353]}
وقال الثعلبي : وقيل الأوزار في هذه الآية : الآثام ، جمع وزر ، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين .
واختلف المتأولون في الغاية التي عندها { تضع الحرب أوزارها } ، فقال قتادة : حتى يسلم الجميع فتضع الحرب أوزارها . وقال حذاق أهل النظر : حتى تغلبوهم وتقتلوهم .
وقال مجاهد حتى ينزل عيسى ابن مريم .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبداً ، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها ، فجاء هذا كما تقول : أنا أفعل كذا إلى يوم القيامة ، فإنما تريد : إنك تفعله دائماً .
وقوله تعالى : { ذلك } تقديره : الأمر ذلك . ثم قال : { ولو يشاء الله لانتصر منهم } أي بعذاب من عنده يهلكهم به في حين واحد ، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين وأن يبلو بعض الناس ببعض .
وقرأ جمهور الناس : «قاتلوا » وقرأ عاصم الجحدري بخلاف عنه : «قَتَلوا » بفتح القاف والتاء . وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم والأعرج وقتادة والأعمش : «قُتِلوا » بضم القاف وكسر التاء . وقرأ زيد بن ثابت والحسن والجحدري وأبو رجاء : «قُتِّلوا » بضم القاف وكسر التاء وشدها ، والقراءة الأولى أعمها وأوضحها معنى .