ويسكت السياق بعد وعد الله وتهديده . . ليمضي إلى القضية الأساسية . . قضية الألوهية والربوبية . . وهي القضية الواضحة في الدرس كله . . فلنعد إلى المشهد العظيم فهو ما يزال معروضا على أنظار العالمين . لنعد إليه فنسمع استجوابا مباشرا في هذه المرة في مسألة الألوهية المدعاة لعيسى بن مريم وأمه . استجوابا يوجه إلى عيسى - عليه السلام في مواجهة الذين عبدوه . ليسمعوه وهو يتبرأ إلى ربه في دهش وفزع من هذه الكبيرة التي افتروها عليه وهو منها برى ء :
( وإذ قال الله : يا عيسى ابن مريم ، أأنت قلت للناس : اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال : سبحانك : ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق . إن كنت قلته فقد علمته ، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، إنك أنت علام الغيوب . ما قلت لهم إلا ما أمرتني به : أن اعبدوا الله ربي وربكم ، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ، وأنت على كل شيء شهيد . إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أن العزيز الحكيم )
وإن الله - سبحانه - ليعلم ماذا قال عيسى للناس . ولكنه الاستجواب الهائل الرهيب في اليوم العظيم الموهوب : الاستجواب الذي يقصد به إلى غير المسؤول ؛ ولكن في صورته هذه وفي الإجابة عليه ما يزيد من بشاعة موقف المؤلهين لهذا العبد الصالح الكريم . .
إنها الكبيرة التي لا يطيق بشر عادي أن يقذف بها . . أن يدعي الألوهية وهو يعلم أنه عبد . . فكيف برسول من أولي العزم ؟ كيف بعيسى بن مريم ؛ وقد أسلف الله له هذه النعم كلها بعد ما اصطفاه بالرسالة وقبل ما اصطفاه ؟ كيف به يواجه استجوابا عن ادعاء الألوهية ، وهو العبد الصالح المستقيم ؟
من أجل ذلك كان الجواب الواجف الراجف الخاشع المنيب . . يبدأ بالتسبيح والتنزيه :
ويسرع إلى التبرؤ المطلق من أن يكون من شأنه هذا القول أصلا :
( ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) .
ويستشهد بذات الله سبحانه على براءته ؛ مع التصاغر أمام الله وبيان خصائص عبوديته وخصائص ألوهية ربه :
( إن كنت قلته فقد علمته ، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك . إنك أنت علام الغيوب )
اختلف المفسرون في وقت وقوع هذا القول . فقال السدي وغيره : لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالت وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك ، فسأله تعالى حينئذ عن قولهم فقال { سبحانك } الآية .
قال القاضي أبو محمد : فتجيء { قال } على هذا متمكنة في المضي ويجيء قوله آخراً { وإن تغفر لهم } [ المائدة : 118 ] أي بالتوبة من الكفر ، لأن هذا ما قاله عيسى عليه السلام وهم أحياء في الدنيا وقال ابن عباس وقتادة وجمهور الناس : هذا القول من الله إنما هو في يوم القيامة ، يقول الله له على رؤوس الخلائق ، فيرى الكفار تبرية منهم ، ويعلمون أن ما كانوا فيه باطل{[4800]} .
قال القاضي أبو محمد : وقال على هذا التأويل بمعنى يقول . ونزل الماضي موضع المستقبل دلالة على كون الأمر وثبوته ، وقوله آخراً { وإن تغفر لهم } [ المائدة : 118 ] معناه إن عذبت العالم كله فبحقك وإن غفرت وسبق ذلك في علمك فلأنك أهل لذلك لا معقب لحكمك ولا منازع لك ، فيقول عيسى هذا على جهة التسليم والتعزي عنهم مع علمه بأنهم كفرة قد حتم عليهم العذاب ، وليس المعنى أنه لا بد من أن تفعل أحد هذين الأمرين . بل قال هذا القول مع علمه بأن الله لا يغفر أن يشرك به . وفائدة هذا التوقيف على قول من قال إنه في يوم القيامة ظهور الذنب على الكفرة في عبادة عيسى وهو توقيف له يتقرر منه بيان ضلال الضالين .
وسبحانك معناه تنزيهاً لك عن أن يقال هذا وينطق به ، وقوله { ما يكون لي أن أقول } . . . . الآية . نفي يعضده دليل العقل ، فهذا ممتنع عقلاً أن يكون لبشر محدث أن يدعي الألوهية ، وقد تجيء هذه الصيغة فيما لا ينبغي ولا يحسن مع إمكانه ، ومنه قول الصديق رضي الله عنه : ما كان لابن قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال { إن كنت قلته فقد علمته } فوفق الله عيسى عليه السلام لهذه الحجة البالغة ، وقوله { تعلم ما في نفسي } بإحاطة الله به ، وخص النفس بالذكر لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات ، والمعنى : أن الله يعلم ما في نفس عيسى ويعلم كل أمره مما عسى ألا يكون في نفسه ، وقوله : { ولا أعلم ما في نفسك } معناه : ولا أعلم ما عندك من المعلومات وما أحطت به . وذكر النفس هنا مقابلة لفظية في اللسان العربي يقتضيها الإيجاز ، وهذا ينظر من طرف خفي إلى قوله { ومكروا ومكر الله }{[4801]} { الله يستهزىء بهم }{[4802]} ، فتسمية العقوبة باسم الذنب إنما قاد إليها طلب المقابلة اللفظية إذ هي من فصيح الكلام وبارع العبارة ، ثم أقر عليه السلام لله تعالى بأنه { علام الغيوب } ، والمعنى ولا علم لي أنا بغيب فكيف تكون لي الألوهية ؟ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.