نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ} (116)

ومن الأمر الجلي أن عيسى عليه السلام بعد أمر الله تعالى له بذكر هذه النعم يقوم في ذلك الجمع فيذكرها ويذكر المقصود من التذكير بها ، وهو الثناء على المنعم بها بما يليق بجلاله ، فيحمد ربه تعالى بمحامد تليق بذلك المقام في ذلك الجمع ، فمن أنسب الأمور حينئذ سؤاله - وهو المحيط علماً بمكنونات الضمائر وخفيات السرائر إثر{[28310]} التهديد لمن يكفر - عما كفر به النصارى ، فلذلك قال تعالى عاطفاً على قوله{ إذا قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك{[28311]} }[ المائدة : 110 ] { وإذ قال الله }{[28312]} أي بما له من صفات الجلال والجمال مشيراً إلى ما له من علو الرتبة بأداة النداء{[28313]} : { يا عيسى بن مريم } وذلك تحقيقاً لأنه عمل بمقتضى النعمة{[28314]} وتبكيتاً{[28315]} لمن ضل فيه من النصارى وإنكاراً عليهم { أأنت قلت للناس } أي الذين أرسلت إليهم من بني إسرائيل ، وكأنه عبر بذلك لزيادة التوبيخ لهم{[28316]} ، لكونهم{[28317]} اعتقدوا ذلك وفيهم الكتاب ، فكأنه لا ناس{[28318]} غيرهم { اتخذوني } أي كلفوا أنفسكم خلاف ما تعتقدونه{[28319]} بالفطرة الأولى{[28320]} في الله بأن{[28321]} تأخذوني { وأمي إلهين } .

ولما كانت عبادة غير الله - ولو كانت على سبيل الشرك - مبطلة لعبادة الله ، لأنه سبحانه أغنى الأغنياء ، ولا يرضى الشرك إلا فقير ، قال : { من دون الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ، فيكون المعنى : اتخذوا{[28322]} تألهنا سلماً تتوصلون{[28323]} به إلى الله ، ويجوز أن يكون المعنى{[28324]} على المغايرة ، ولا دخل حينئذ للمشاركة .

ولما كان من المعلوم لنا في غير موضع أنه لم يقل ذلك ، صرح به هنا توبيخاً لمن أطراه ، وتأكيداً لما عندنا من العلم ، وتبجيلاً له صلى الله عليه وسلم بما يبدي من الجواب ، وتفضيلاً{[28325]} بالإعلام بأنه لم يحد{[28326]} عن طريق الصواب ، بل بذل الجهد في الوفاء بالعهد ، وتقريعاً لمن قال ذلك عنه وهو يدعي حبه واتباعه عليه السلام وتخجيلاً لهم ، فلما تشوفت لجوابه الأسماع وأصغت له الآذان ، وكان في ذكره من{[28327]} الحكم ما تقدمت الإشارة إليه ، ذكره سبحانه قائلاً : { قال } مفتتحاً بالتنزيه { سبحانك } أي لك التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص ، ودل{[28328]} بالمضارع على أن هذا القول لا يزال ممنوعاً منه فقال : { ما يكون لي } أي ما ينبغي ولا يصح أصلاً { أن أقول } أي في وقت من الأوقات { ما ليس لي } وأغرق في النفي كما هو حق المقام فقال : { بحق } .

ولما بادر عليه السلام إعظاماً للمقام إلى الإشارة إلى نفي ما سئل عنه ، أتبعه{[28329]} ما يدل{[28330]} على أنه كان يكفي في الجواب عنه : أنت أعلم ، وإنما أجاب بما تقدم إشارة إلى أن هذا القول تكاد السماوات يتفطرن منه ومبادرة{[28331]} إلى تبكيت من ادّعاه له ، فقال دالاً على أنه لم يقنع بما{[28332]} تضمن أعظم المدح لأن المقام للخضوع : { إن كنت قلته } أي مطلقاً للناس أو حدثت به نفسي { فقد علمته } وهو مبالغة في الأدب وإظهار الذلة وتفويض الأمر كله إلى رب العزة ؛ ثم علل الإخبار بعلمه بما هو من خواص الإله فقال : { تعلم{[28333]} } ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات ، وكان القول يطلق على النفس ، فإذا انتفى انتفى{[28334]} اللساني ، قال { ما في نفسي } أي وإن اجتهدت في إخفائه ، فإنه خلقك ، وما أنا له إلا آلة ووعاء ، فكيف به إن كنت أظهرته .

ولما{[28335]} أثبت له سبحانه ذلك ، نفاه عن نفسه توبيخاً لمن ادعى له الإلهية فقال مشاكلة : { ولا أعلم ما في نفسك } أي ما أخفيته عني من الأشياء ؛ ثم علل الأمرين كليهما بقوله : { إنك أنت } أي وحدك{[28336]} لا شريك لك{[28337]} { علام الغيوب * } .


[28310]:سقط من ظ.
[28311]:سقط من ظ.
[28312]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[28313]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[28314]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[28315]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[28316]:سقط من ظ.
[28317]:من ظ، وفي الأصل: بكونهم.
[28318]:في ظ: ياس- كذا.
[28319]:في الأصل و ظ: تعتقده- كذا.
[28320]:في ظ: بالله أن.
[28321]:في ظ: بالله أن.
[28322]:من ظ، وفي الأصل: اتخذوا.
[28323]:في ظ: يتوسلون.
[28324]:سقط من ظ.
[28325]:في ظ: تفصيلا.
[28326]:من ظ، وفي الأصل: لم يحده.
[28327]:سقط من ظ.
[28328]:من ظ، وفي الأصل: ذكر.
[28329]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[28330]:سقط ما بين الرقمن من ظ.
[28331]:من ظ، وفي الأصل: مباذر.
[28332]:في ظ: ما.
[28333]:زيد بعده في الأصل: ما في، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها.
[28334]:سقط من ظ.
[28335]:من ظ، وفي الأصل: ما.
[28336]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[28337]:سقط ما بين الرقمين من ظ.