اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ} (116)

اختلَفُوا في هذا القَوْلِ ، هَلْ وقع وانْقَضَى ، أو سيقع يوم القيامة ؟ على قولين :

الأول : قال بعضُهم : لمَّا رفعهُ إليه ، قال له ذلك ، وعلى هذا ف " إذْ " و " قَالَ " على موضوعهما منَ المُضِيِّ ، وهو الظاهر ، وقال بعضُهم : سيقولُه له يَوْمَ القيامة ؛ لقوله - تبارك وتعالى قبله { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } [ المائدة : 109 ] [ الآية ] ، وقوله بعد هذا : { يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [ المائدة : 119 ] وعلى هذا ف " إذْ " ، و " قَالَ " بمعنى " يَقُولُ " ، وكونُها بمعنى " إذَا " أهونُ من قول أبي عُبَيْدٍ : إنها زائدةٌ ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماء ليْسَتْ بالسهلة .

قوله : " أأنْتَ قُلْتَ " دخلت الهمزةُ على المبتدأ ؛ لفائدةٍ ذكرها أهل البيان ، وهو : أن الفعل إذا عُلِمَ وجودُهُ ، وشُكَّ في نسبته إلى شخص ، أولِيَ الاسْمُ المشكوكُ في نسبة الفعْلِ إليه للهمْزة ، فيقال : " أأنْتَ ضَرْبٌ زَيْداً " ، فَضَرْبُ زَيْدٍ قد صدر في الوجود ، وإنما شُكَّ في نسبته إلى المخاطَبِ ، وإنْ شُكَّ في أصل وقوعِ الفعلِ ، أولِيَ الفعلُ للهمزة ، فيقال : " أضَرَبْتَ زَيْداً " ، لم تَقْطع بوقوعِ الضرب ، بل شَكَكْتَ فيه ، والحاصلُ : أنَّ الهمزةَ يليها المشكوكُ فيه ، فالاستفهامُ في الآية الكريمة يُراد به التقريعُ والتوبيخ لغير عيسى - عليه السلام - وهم المتَّخِذُون له ولأمِّه إلهَيْنِ ، دخل على المبتدأ لهذا المعنى الذي ذكرناه ؛ لأن الاتخاذَ قد وقع ولا بُدَّ ، واللام في " للنَّاس " للتبليغِ فقط ، و " اتَّخِذُوني " يجوز أن تكون بمعنى " صَيَّرَ " ، فتتعدَّى لاثنين ، ثانيهما " إلَهَيْنِ " ، وأن تكونَ المتعدية لواحدٍ ف " إلَهَيْنِ " حالٌ ، و { مِن دُون الله } فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلقٌ بالاتخاذ ، وأجاز أبو البقاء{[12995]} - رحمه الله تعالى - وبه بدأ - أن يكون متعلِّقاً بمحذوفٍ ؛ على أنه صفةٌ ل " إلَهَيْنِ " .

فإن قيل : كَيْفَ يَلِيقُ الاسْتِفْهَامُ بعلاَّمِ الغُيُوب ؛ وأيضاً النَّصَارَى لا يَقُولُون بإلهِيَّة عيسى [ - عليه الصلاة والسلام - ومريم ] .

فالجوابُ عن الأول : أنَّه على سبيلِ الإنْكَارِ ، وقَصْدُ هذا السُّؤال تَعْرِيفُهُ أنَّ قَوْمَهُ غيرُوا بعده ، وادَّعَوْا عليه مَا لَمْ يَقُلْهُ .

والجوابُ عن الثَّانِي : أنَّ النَّصَارى يَعْتَقِدُون أنَّ المُعْجِزَات الَّتِي ظَهَرَتْ على يَدِ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ومَرْيَم - عليها السَّلام - لم يَخْلُقْهَا الله تعالى ، بل عيسى ابن مريم - عليهما الصَّلاة والسَّلام - فاللَّهُ ليس خَالِقُهمَا ، فصحَّ أنهُم أثْبَتُوا في حَقِّ بَعْضِ الأشْيَاء كون عيسى - عليه السلام - ومريم إلهيْنِ من دُون الله ، [ مع أنَّ اللَّه لَيْس إلهاً لَهُ ]{[12996]} ، فصحَّ بهذا التَّأويلِ هذه الحِكايَةُ .

وقال القُرْطُبِي{[12997]} - رحمه الله - : فإن قيل : النَّصَارَى لم يَتَّخِذُوا مَرْيَمَ إلهاً ، فكَيْفَ قال ذَلِكَ فيهم ؟ .

فقيل : لمَّا كان من قَولِهِمْ أنَّهَا لَمْ تَلِدْ بَشَراً ، وإنَّما وَلَدَتْ إلهاً ، لَزِمَهُم أنْ يقُولُوا : إنَّها لأجْل البَعْضِيَّة بمثابة من ولدَتْه ، فصارُوا حين لزمهُم ذلك بمثابَةِ القائِلين لهُ .

فإن قيل : إنَّهُ - تبارك وتعالى - إن كان عَالِماً بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - لم يَقُلْ ذلك ، فلم خاطَبَهُ به ؟ فإن قُلْتُم : الغَرَضُ مِنْهُ تَوْبِيخُ النَّصَارى وتَقْرِيعُهُم ، فنقُولُ : إنَّ أحَداً من النَّصَارى لَمْ يَذْهَبْ إلى القَوْلِ بإلهيَّةِ عيسى ومريم مع القول بنَفْي إلهيَّةِ الله تعالى ، فكيْفَ يجُوزُ أن يُنْسَبَ هذا القوْلُ إليْهِمْ ، مع أنَّ أحَداً منهم لَمْ يَقُلْ به ؟ .

فالجوابُ : أنَّ الله تعالى أرَادَ أنَّ عيسى يُقِرُّ على نَفْسِهِ بالعُبُودِيَّةِ فَيَسْمع قَوْمُهُ ، ويَظْهَرُ كذبُهُمْ عليه أنَّه أمَرَهُم بذلك .

قوله : " سُبْحَانَك " أي : تنزيهاً لك ، وتقدَّم الكلام عليه في البقرة [ الآية : 32 ] ، ومتعلَّقُه محذوفٌ ، فقدَّره الزمخشريُّ{[12998]} : " سُبْحانَكَ مِنْ أن يكُونَ لك شَرِيكٌ " ، وقدَّره ابن عطية{[12999]} : " عَنْ أنْ يُقالَ هذا ، ويُنْطَقَ به " ورجَّحَهُ أبو حيان{[13000]} - رضي الله عنه - لقوله بَعْدُ : { ما يكونُ لي أن أقُولَ } . قوله : " أنْ أقُولَ " في محلِّ رفع ؛ لأنه اسمُ " يكُونُ " ، والخبرُ في الجارِّ قبله ، أي : ما يَنْبَغِي لي قولُ كذا ، و " مَا " يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، والجملةُ بعدها صلةٌ ؛ فلا محلَّ لها ، أو صفةٌ ، فمحلُّها النصبُ ، فإنَّ " مَا " منصوبةٌ ب " أقُولَ " نصب المفعول به ؛ لأنها متضمِّنةٌ لجملة ، فهو نظيرُ " قُلْتُ كلاماً " ، وعلى هذا فلا يحتاج أن يؤوَّل " أقُولَ " بمعنى " أدَّعِي " أو " أذْكُرَ " ، كما فعله أبو البقاء{[13001]} رحمه الله وفي " لَيْسَ " ضميرٌ يعودُ على ما هو اسمها ، وفي خبرها وجهان :

أحدهما : أنه " لِي " ، أي : ما لَيْسَ مستقرّاً لي وثابتاً ، وأمَّا " بِحَقٍّ " على هذا ، ففيه ثلاثةُ أوجه ، ذكر أبو البقاء{[13002]} منها وجهين :

أحدهما : أنه حالٌ من الضمير في " لي " .

قال : والثاني : أن يكون مفعولاً به ، تقديره : ما ليس يَثْبُتُ لي بسببِ حقٍّ ، والباءُ متعلِّقةٌ بالفعلِ المحذُوف ، لا بنفسِ الجارِّ ؛ لأنَّ المعانِيَ لا تعملُ في المفعول به . قال شهاب الدين{[13003]} : وهذا ليْسَ بجيِّدٍ ؛ لأنه قدَّر متعلَّقَ [ الخبر كوناً مقيَّداً ، ثم حذفه ، وأبقى معموله .

الوجه الثالث : أنَّ قوله " بحَقٍّ " متعلقٌ ] بقوله : " عَلِمْتَهُ " ، ويكون الوقْفُ على هذا على قوله " لِي " ، والمعنى : فقد عَلِمْتَهُ بِحَقٍّ ، [ وقد رُدَّ ] هذا بأنَّ الأصْل عدم التقديم والتأخير ، وهذا لا ينبغي أن يُكتفى به في ردِّ هذا ، بل الذي منه من ذلك : أنَّ معمول الشرط أو جوابه لا يتقدَّم على أداة الشرط ، لا سيَّما والمَرْوِيُّ عن الأئمةِ القُرَّاءِ الوقفُ على " بِحَقٍّ " ، ويَبْتَدئُونَ ب { إِن كُنْتُ قُلْتُهُ } ، وهذا مَرْوِيٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجَبَ اتِّباعه .

والوجه الثاني في خبر " لَيْسَ " : أنه " بِحَقٍّ " ، وعلى هذا ، ففي " لِي " ثلاثةُ أوجه :

أحدها : أنه " يَتَبَيَّنُ " ؛ كما في قولهم : " سُقْياً لَهُ " ، أي : فيتعلَّقُ بمحذوف .

والثاني : أنه حالٌ من " بِحَقٍّ " ؛ لأنه لو تأخَّر ، لكان صفةً له ، قال أبو البقاء{[13004]} : " وهذا مُخَرَّجٌ على قول من يجُوِّزُ تقديم حال المجرُورِ عليه " [ قلتُ : قد تقدَّم لك خلافُ النَّاسِ فيه ] ، وما أوردوه من الشواهد ، وفيه أيضاً تقديمُ الحالِ على عاملها المعنويِّ ، فإنَّ " بِحَقٍّ " هو العاملُ ؛ إذ " لَيْسَ " لا يجوز أن تعمل في شيء ، وإن قلنا : إنَّ " كان " أختها قد تعمل لأن " لَيْسَ " لا حدثَ لها بالإجماع .

والثالث : أنه متعلِّقٌ بنفسِ " حَقّ " ؛ لأنَّ الباءَ زائدةٌ ، و " حَقّ " بمعنى " مُسْتَحقّ " ، أي : ما لَيْسَ مستحِقًّا لي .

فصل

اعلم : أنَّه - تبارك وتعالى - لما سَألَ عيسى - عليه السلام - أنَّكَ هَلْ قُلتَ للنَّاسِ ذلك ؟ لم يَقُلْ عيسى بأنِّي قُلْتُ ، أو : ما قُلْتُ ، بل قال : ما يكونُ لي أنْ أقُولَ هذا الكلام ، وبدأ بالتَّسْبِيح قبل الجواب لأمرين :

أحدهما : تَنْزِيهاً لَهُ على أنْ يُضيفَ إليه .

والثاني : خُضُوعاً لِعِزَّتِه ، وخَوْفاً من سَطْوتِهِ .

ثُمَّ قال : { ما يكون لي أنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } أي : أن أدَّعِي لِنَفْسِي بما ليس من حقِّها يعني : أنِّي مَرْبُوبٌ ولسْتُ بِرَبٍّ ، وعَابِدٌ ، ولسْتُ بِمَعْبُودٍ ، ولمَّا بيَّن أنَّه ليس له أنْ يقول هذا الكلام ، شَرَعَ في بيانِ أنَّهُ هَلْ وقع منه هذا القولُ أمْ لا ؟ ولمْ يَقُلْ بأنِّي ما قُلْتُه ، بل فوَّضَه إلى علمه تعالى المحيط بالكُلِّ ، فقال : " إن كُنْتُ قُلْتُهُ فقدْ عَلِمْتَه بعلْمِكَ " ، وهذا مُبالغَةٌ في الأدبِ ، وفِي إظهَارِ الذِّلَةِ والمَسْكَنَةِ في حَضْرَةِ الخلاَّقِ ، وتَفْوِيض الأمْرِ بالكُلِّيَّةِ إلى الحقِّ - سُبحانَهُ وتعالى - .

قوله : { إن كنت قلته } : " كنت " وإن كانت ماضية اللفظ فهي مستقبلة في المعنى ، والتقدير : إن تَصِحَّ دعواي لما ذُكر ، وقدَّره الفارسي بقوله : " إن أكن الآن قلتُه فيما مضى " لأنَّ الشرط والجزاء لا يقعان إلا في المستقبل . وقوله : " فقد عَلِمْتَه " أي : فقد تبيَّن وظهر علمُك به كقوله : { فَصَدَقَتْ } [ يوسف : 26 ] و{ فَكَذَبَتْ } [ يوسف : 27 ] و{ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } [ النمل : 90 ] .

قوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } .

قوله : { تعلمُ ما في نفسي } هذه لا يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً ، لأنَّ العرفان كما تقدم يستدعي سَبْقَ جهل ، أو يُقْتَصَرُ به على معرفةِ الذات دونَ أحوالها حَسْبَ ما قاله الناس ، فالمفعولُ الثاني محذوفٌ ، أي : تعلمُ ما في نفسي كائناً موجوداً على حقيقته لا يخفى عليك منه شيءٌ ، وأمَّا : " ولا أعلم " فهي وإن كان يجوزُ أن تكون عرفانيةً ، إلا أنها لمَّا صارت مقابلةً لما قبلها ينبغي أن يكون مثلها ، والمرادُ بالنفس هنا ما قاله الزجاج{[13005]} أنها تُطْلقُ ويُراد بها حقيقةُ الشيء ، والمعنى في قوله { تعلم ما في نفسي } إلى آخره واضحٌ .

وقال : المعنى : تعلمُ ما أخفيه من سِرِّي وغيبي ، أي : ما غابَ ولم أظْهِرْه ، ولا أعلمُ ما تُخْفيه أنت ولا تُطْلِعُنا عليه ، فذكر النفس مقابلةً وازدواجاً ، وهذا منتزع من قول ابن عباس ، وعليه حام الزمخشري رحمه الله فإنه قال : " تعلمُ معلومي ولا أعلمُ معلومك " ، وأتى بقوله : { ما في نفسك } على جهةَ المقابلةِ والتشاكلِ [ لقوله : " ما في نفسي " فهو ] كقوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ } [ آل عمران : 54 ] ، وكقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } [ البقرة : 14 ، 15 ] .

وقيل : المعنى : تعلمُ ما عندِي ولا أعلمُ ما عندكَ .

وقيل : تعلمُ ما في الدُّنْيَا ، ولا أعلمُ ما يكونُ مِنْكَ في الآخِرَة .

وقيل : تعلمُ بما أقُولُ وأفْعلُ ، ولا أعْلَمُ بما تقول وتفعل { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } وهذا تأكيدٌ للجملتَيْنِ المُتقدِّمتَيْنِ .

وتمسَّكتِ المُجسِّمَةُ بقوله " بِمَا في نفْسِكَ " ، وقالوا : النَّفْسُ إنَّما تكون في الشَّخْصِ .

وأجيبُوا : بأنَّ النَّفْسَ عبارة عن الذاتِ ، يقال : نَفْسُ الشَّيء وذاته بمعنى واحد ، وأيضاً المراد : تعلم معْلُومِي ولا أعلم معلُومَك ، ولكنَّه ذكر هذا الكلامَ على طريقِ المُقابلةِ والمُشاكلةِ .

قال الزَّجاج : النَّفْسُ عبارةٌ عن جُمْلَةِ الشَّيء وحقيقتِهِ{[13006]} .


[12995]:ينظر: الإملاء 1/233.
[12996]:سقط في ب.
[12997]:ينظر: القرطبي 6/241.
[12998]:ينظر: الكشاف 1/694.
[12999]:ينظر: المحرر الوجيز 2/262.
[13000]:ينظر: البحر 4/63.
[13001]:ينظر: الإملاء 1/233.
[13002]:ينظر: المصدر السابق.
[13003]:ينظر: الدر المصون 2/656.
[13004]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/233.
[13005]:ينظر: معاني القرآن 2/245.
[13006]:ينظر: تفسير البغوي 2/81.