في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

هذا القطاع بجملته يتناول قضية واحدة على تعدد الموضوعات التي يتعرض لها - ويدور كله حول محور واحد . . إنه يتناول قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية . . الله هو الذي يحرم ويحلل . . والله هو الذي يحظر ويبيح . . والله هو الذي ينهى ويأمر . . ثم تتساوى المسائل كلها عند هذه القاعدة . كبيرها وصغيرها . فشئون الحياة الإنسانية بجملتها يجب أن ترد إلى هذه القاعدة دون سواها .

والذي يدعي حق التشريع أو يزاوله ، فإنما يدعي حق الألوهية أو يزاوله . . وليس هذا الحق لأحد إلا لله . . وإلا فهو الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته . . والله لا يحب المعتدين . . والذي يستمد في شيء من هذا كله من عرف الناس ومقولاتهم ومصطلحاتهم ، فإنما يعدل عما أنزل الله إلى الرسول . . ويخرج بهذا العدول عن الإيمان بالله ويخرج من هذا الدين .

وتبدأ كل فقرة من فقرات هذا القطاع بنداء واحد مكرر : { يا أيها الذين آمنوا } . . { يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . . } . . { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه . . } . . { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب . . } . . { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم . . } . . { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . . } . . { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم . . } . .

ولهذا النداء على هذا النحو مكانه ودلالته في سياق هذا القطاع الذي يعالج قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية وقضية الإيمان ، وقضية الدين . . إنه النداء بصفة الإيمان الذي معناه ومقتضاه الاعتراف بألوهية الله وحده ، والاعتراف له سبحانه بالحاكمية . . فهو نداء التذكير والتقرير لأصل الإيمان وقاعدته ؛ بهذه المناسبة الحاضرة في السياق . ومعه الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول ؛ والتحذير من التولي والإعراض ؛ والتهديد بعقاب الله الشديد ، والإطماع في مغفرته ورحمته لمن أناب .

ثم . . بعد ذلك . . المفاصلة بين الذين آمنوا ومن يضل عن طريقهم ، ولا يتبع منهجهم هذا في ترك قضية التشريع لله في الصغيرة والكبيرة ؛ والتخلي عن الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته :

{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، إلى الله مرجعكم جميعاً ، فينبئكم بما كنتم تعملون } . .

فهم أمة واحدة لها دينها ، ولها نهجها ، ولها شرعها ، ولها مصدر هذا الشرع الذي لا تستمد من غيره . ولا على هذه الأمة - حين تبين للناس منهجها هذا ثم تفاصلهم عليه - من ضلال الناس ، ومضيهم في جاهليتهم .

ومرجعهم بعد ذلك إلى الله .

هذا هو المحور العام الذي يقوم عليه القطاع بجملته . أما الموضوعات الداخلة في إطاره فقد أشرنا إليها في التقديم لهذا الجزء إشارة مجملة . والآن نواجهها تفصيلا في حدود هذا الإطار العام :

( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين . وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون . . لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان . فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ، واحفظوا أيمانكم ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) . .

يا أيها الذين آمنوا . . إن مقتضى إيمانكم ألا تزاولوا أنتم - وأنتم بشر عبيد لله - خصائص الألوهية التي يتفرد بها الله . فليس لكم أن تحرموا ما أحل الله من الطيبات ؛ وليس لكم أن تمتنعوا - على وجه التحريم - عن الأكل مما رزقكم الله حلالا طيبا . . فالله هو الذي رزقكم بهذا الحلال الطيب . والذي يملك أن يقول : هذا حرام وهذا حلال :

( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . إن الله لا يحب المعتدين . وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ؛ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون )

إن قضية التشريع بجملتها مرتبطة بقضية الألوهية . والحق الذي ترتكن إليه الألوهية في الاختصاص بتنظيم حياة البشر ، هو أن الله هو خالق هؤلاء البشر ورازقهم . فهو وحده صاحب الحق إذن في أن يحل لهم ما يشاء من رزقه وأن يحرم عليهم ما يشاء . . وهو منطق يعترف به البشر أنفسهم . فصاحب الملك هو صاحب الحق في التصرف فيه . والخارج على هذا المبدأ البديهي معتد لا شك في اعتدائه ! والذين آمنوا لا يعتدون بطبيعة الحال على الله الذي هم به مؤمنون . ولا يجتمع الاعتداء على الله والايمان به في قلب واحد على الإطلاق !

هذه هي القضية التي تعرضها هاتان الآيتان في وضوح منطقي لا يجادل فيه إلا معتد . . والله لا يحب المعتدين . . وهي قضية عامة تقرر مبدأ عاما يتعلق بحق الألوهية في رقاب العباد ؛ ويتعلق بمقتضى الإيمان بالله في سلوك المؤمنين في هذه القضية . . وتذكر بعض الروايات أن هاتين الآيتين والآية التي بعدهما - الخاصة بحكم الأيمان - قد نزلت في حادث خاص في حياة المسلمين على عهد رسول الله [ ص ] ولكن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب . وإن كان السبب يزيد المعنى وضوحا ودقة :

روى ابن جرير . . أنه [ ص ] جلس يوما فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على التخويف . فقال ناس من أصحابه : ما حقنا إن لم نحدث عملا ، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم ! فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والورك ، وأن يأكل بالنهار ؛ وحرم بعضهم النساء . . فبلغ ذلك رسول الله [ ص ] فقال : " ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ؟ ألا إني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وأنكح النساء فمن رغب عني فليس مني " ؛ فنزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا . . . الخ .

وفي الصحيحين من رواية أنس - رضي الله عنه - شاهد بهذا الذي رواه ابن جرير :

قال : " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله [ ص ] يسألون عن عبادته . فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها . قالوا : أين نحن من رسول الله [ ص ] وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبدا . وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر . وقال آخر :

وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا . فجاء رسول الله [ ص ] إليهم ، فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا . أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له . ولكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " .

وأخرج الترمذي - بإسناده - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلًا أتى النبي [ ص ] فقال : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي ، فحرمت علي اللحم فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم . . . الآية . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الآية قال أبو مالك وعكرمة وإبراهيم النخعي وأبو قلابة وقتادة والسدي وعبد الله بن عباس رضي الله عنه وغيرهم : إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلغت منهم المواعظ وخوف الله إلى أن حرم بعُضهم النساء ، وبعُضهم النوم بالليل والطيب ، وهمَّ بعضهم بالاختصاء وكان منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون ، قال عكرمة : ومنهم ابن مسعود والمقداد وسالم مولى أبي حذيفة ، وقال قتادة رفضوا النساء واللحم وأرادوا أن يتخذوا الصوامع ، وقال ابن عباس أخذوا الشفار{[4668]} ليقطعوا مذاكرهم ، وطول السدي في قصة الحولاء امرأة عثمان بن مظعون مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وإخبارها بأنه لم يلم بها ، فلما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحالهم قال : «أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنال الطيب ، فمن رغب عن سنتي فليس مني »{[4669]} قال الطبري : وكان فيما يتلى من رغب عن سنتك فليس من أمتك ، وقد ضل سواء السبيل ، وقال ابن زيد : سبب هذه الآية أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف فانقلب ابن رواحة وضيفه لم يتعشَّ فقال لزوجه ما عشيته ؟ قالت : كان الطعام قليلاً فانتظرتك ، فقال : حبست ضيفي من أجلي ، طعامك علي حرام إن ذقته فقالت هي : وهو علي حرام إن ذقته إن لم تذقه ، وقال الضيف وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذوقوه ، فلما رأى ذلك ابن رواحة قال : قربي طعامك كلوا باسم الله فأكلوا جميعاً . ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له رسول الله أحسنت ونزلت هذه الآية{[4670]} .

وأسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم فأنزل الله هذه الآية{[4671]} .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : و«الطيبات » في هذه الآية المسستلذات بدليل إضافتها إلى ما أحل وبقرينة ما ذكر من سبب الآية ، واختلف المتأولون في معنى قوله { ولا تعتدوا } فقال السدي وعكرمة وغيرهما . وهو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله وشرع ما لم يأذن به ، فقوله { ولا تعتدوا } تأكيد لقوله { لا تحرموا } وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى ولا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله ، فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين فكأنه قال : لا تشددوا فتحرموا حلالاً ، ولا تترخصوا فتحلوا حراماً ، وقد تقدم القول في معنى لا يحب المعتدين غير مرة .


[4668]:- الشّفار: جمع شفرة، وهي ما عرض وحدد من الحديد كحد السيف والسكين، وتجمع أيضا على شفر.
[4669]:- أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه- عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولفظه: قال (نزلت في رهط من الصحابة قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني). (الدر المنثور- وفتح القدير)- وزاد في فتح القدير: "وقد ثبت نحو هذا في الصحيحين وغيرهما من دون ذكر أن ذلك سبب نزول الآية".
[4670]:- قال الشوكاني عن هذا الأثر: "أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم"، ثم قال: "وهذا أثر منقطع، ولكن في صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه ما هو شبيه بهذا"
[4671]:- أخرجه الترمذي وحسّنه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عدي في الكامل، والطبراني، وابن مردويه- عن ابن عباس. (الدر المنثور 2/ 307). والأحاديث في ذلك كثيرة، ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.