فرد عليهم القرآن مستنكراً هذا الاعتراض على رحمة الله ، التي يختار لها من عباده من يشاء ؛ وعلى خلطهم بين قيم الأرض وقيم السماء ؛ مبيناً لهم عن حقيقة القيم التي يعتزون بها ، ووزنها الصحيح في ميزان الله :
( أهم يقسمون رحمة ربك ? نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، ورحمة ربك خير مما يجمعون ) . .
أهم يقسمون رحمة ربك ? يا عجباً ! وما لهم هم ورحمة ربك ? وهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً ، ولا يحققون لأنفسهم رزقاً حتى رزق هذه الأرض الزهيد نحن أعطيناهم إياه ؛ وقسمناه بينهم وفق حكمتنا وتقديرنا لعمران هذه الأرض ونمو هذه الحياة .
( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ) . .
ورزق المعاش في الحياة الدنيا يتبع مواهب الأفراد ، وظروف الحياة ، وعلاقات المجتمع . وتختلف نسب التوزيع بين الأفراد والجماعات وفق تلك العوامل كلها . تختلف من بيئة لبيئة ، ومن عصر لعصر ، ومن مجتمع لمجتمع ، وفق نظمه وارتباطاته وظروفه العامة كلها . ولكن السمة الباقية فيه ، والتي لم تتخلف أبداً - حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة للإنتاج وللتوزيع - أنه متفاوت بين الأفراد .
وتختلف اسباب التفاوت ما تختلف بين أنواع المجتمعات وألوان النظم . ولكن سمة التفاوت في مقادير الرزق لا تتخلف أبداً . ولم يقع يوماً - حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة - أن تساوي جميع الأفراد في هذا الرزق أبداً : ( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ) . .
والحكمة في هذا التفاوت الملحوظ في جميع العصور ، وجميع البيئات ، وجميع المجتمعات هي :
( ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ) . .
ليسخر بعضهم بعضاً . . ودولاب الحياة حين يدور يسخر بعض الناس لبعض حتما . وليس التسخير هو الاستعلاء . . استعلاء طبقة على طبقة ، أو استعلاء فرد على فرد . . كلا ! إن هذا معنى قريب ساذج ، لا يرتفع إلى مستوى القول الإلهي الخالد . كلا ! إن مدلول هذا القول أبقى من كل تغير أو تطور في أوضاع الجماعة البشرية ؛ وأبعد مدى من ظرف يذهب وظرف يجيء . . إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض . ودولاب الحياة يدور بالجميع ، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع وفي كل ظرف . المقدر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق . والعكس كذلك صحيح . فهذا مسخر ليجمع المال ، فيأكل منه ويرتزق ذاك . وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء . والتفاوت في الرزق هو الذي يسخر هذا لذاك ، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة . . العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل . والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل . وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء . . وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات ، والتفاوت في الأعمال والأرزاق . .
وأحسب أن كثيرين من دعاة المذاهب الموجهة يتخذون من هذه الآية موضع هجوم على الإسلام ونظمه الاجتماعية والاقتصادية . وأحسب أن بعض المسلمين يقفون يجمجمون أمام هذا النص ، كأنما يدفعون عن الإسلام تهمة تقرير الفوارق في الرزق بين الناس ، وتهمة تقرير أن الناس يتفاوتون في الرزق ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً !
وأحسب أنه قد آن لأهل الإسلام أن يقفوا بإسلامهم مواجهة وصراحة موقف الاستعلاء المطلق ، لا موقف الدفاع أمام اتهام تافه ! إن الإسلام يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود ؛ الثابتة ثبات السماوات والأرض ونواميسها التي لا تختل ولا تتزعزع .
وطبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد والتفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فرد من عمل ؛ والتفاوت في مدى اتقان هذا العمل . وهذا التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض . ولو كان جميع الناس نسخاً مكرورة ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة . ولبقيت أعمال كثيرة جداً لا تجد لها مقابلاً من الكفايات ، ولا تجد من يقوم بها - والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو ، خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها . وعن هذا التفاوت في الأدوار يتفاوت الرزق . . هذه هي القاعدة . . أما نسبة التفاوت في الرزق فقد تختلف من مجتمع إلى مجتمع ، ومن نظام إلى نظام . ولكنها لا تنفي القاعدة الفطرية المتناسقة مع طبيعة الحياة الضرورية لنمو الحياة . ومن ثم لم يستطع أصحاب المذاهب المصطنعة المتكلفة أن يساووا بين أجر العامل وأجر المهندس ، ولا بين أجر الجندي وأجر القائد . على شدة ما حاولوا أن يحققوا مذهبهم . وهزموا أمام الناموس الإلهي الذي تقرره هذه الآية من كلام الله . وهي تكشف عن سنة ثابتة من سنن الحياة .
ذلك شأن الرزق والمعاش في هذه الحياة الدنيا . ووراء ذلك رحمة الله :
( ورحمة ربك خير مما يجمعون ) . .
والله يختار لها من يشاء ، ممن يعلم أنهم لها أهل . ولا علاقة بينها وبين عرض الحياة الدنيا ؛ ولا صلة لها بقيم هذه الحياة الدنيا . فهذه القيم عند الله زهيدة زهيدة . ومن ثم يشترك فيها الأبرار والفجار ، وينالها الصالحون والطالحون . بينما يختص برحمته المختارين .
وإن قيم هذه الأرض لمن الزهادة والرخص بحيث - لو شاء الله - لأغدقها إغداقاً على الكافرين به . ذلك إلا أن تكون فتنة للناس ، تصدهم عن الإيمان بالله :
قال الله تعالى{ أهم يقسمون رحمةً ربك } أي النبوة ، قال مقاتل ، يقول : بأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا ؟ ثم قال :{ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا } فجعلنا هذا غنياً وهذا فقيراً وهذا ملكاً وهذا مملوكاً ، فكما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شئنا ، كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا . { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } بالغنى والمال ، { ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } ليستخدم بعضهم بعضا فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش ، هذا بماله ، وهذا بأعماله ، فيلتئم قوام أمر العالم . وقال قتادة والضحاك : يملك بعضهم بمالهم بعضاً بالعبودية والملك . { ورحمة ربك } يعني الجنة ، { خير } للمؤمنين ، { مما يجمعون } مما يجمع الكفار من الأموال .
قوله : { أهم يقسمون رحمت ربّك } الاستفهام للإنكار . وذلك رد لاعتراض المشركين على بعث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله وحده الذي يصطفي من عباده من يشاء لحمل الرسالة ، وليكون للناس بشيرا ونذيرا ، و الله جل وعلا أعلم حيث يجعل رسالته ، فليس ذلك من شأن هؤلاء المشركين الجاهلين .
قوله : { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا } أي كما قسم الله رحمته وكرامته بين من شاء من عباده الأخيار ليكونوا نبيين ومرسلين كذلك قسم الله بين العباد معيشتهم في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأموال ومختلف أنواع النعم ، فيكون فيهم الكيّس والخامل ، والغبي والفطن ، والعيي واللّسن ، والأغنياء والفقراء . فكان الناس بذلك مختلفين في الطاقات والقدرات ، والمواهب والاستعدادات ، ليكونوا بذلك متفاوتين في الدرجات . وهو قوله سبحانه : { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } أي فاضل الله بين عباده فجعل بعضهم أفضل من بعض في حاجات الدنيا وفي مظاهرها ومتاعها ، كالرزق والرياسة والعلم والفهم ، فهم في ذلك كله متفاوتون متباينون ، فإن فيهم الغني والفقير ، والذكي والغبي ، والعالم والجاهل ، والناشط والعاجز ، ، والشجاع والخائر . وفيهم ذو الهمة المترفع والصفيق المتبلّد . وهكذا الناس جميعا مختلفون في جبلاتهم وطبائعهم واستعدادتهم . وذلك يفضي بالضرورة إلى الاختلاف والتفاوت في أرزاق العباد ، وفي درجاتهم في الحياة الدنيا { ليتّخذ بعضهم بعضا سخريّا } أي ليستخدم بعضهم بعضا ، فيستخدم الغني الفقير ، والرئيس المرءوس ، والقوي الضعيف ، والعالم الجاهل ، والذكي من دونه من أولي الغباوة وهوان العقل .
قوله : { ورحمت ربّك خير مما يجمعون } المراد بالرحمة ما كتبه الله لعباده الصالحين من وجوه النعم وعظيم الجزاء في الآخرة . لا جرم أن ذلك خير مما يجمعه الغافلون من الأموال وأوجه المتاع في حياتهم الدنيا .