استجاب الله دعوة خليله إبراهيم ، وهو يتوجه إليه عقب بناء البيت وتطهيره : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ) . . فجعل هذا البيت آمنا ، وجعله عتيقا من سلطة المتسلطين وجبروت الجبارين ؛ وجعل من يأوي إليه آمنا والمخافة من حوله في كل مكان . . حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربهم وعبدوا معه الأصنام . . لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام .
ولما توجه أصحاب الفيل لهدمه كان من أمرهم ما كان ، مما فصلته سورة الفيل . وحفظ الله للبيت أمنه ، وصان حرمته ؛ وكان من حوله كما قال الله فيهم : ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ? ) .
وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة ، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش ، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين ، حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية ، وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة - عن طريق القوافل - إلى اليمن في الجنوب ، وإلى الشام في الشمال . وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين : إحداهما إلى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف .
ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء ؛ وعلى ما كان شائعا من غارات السلب والنهب ، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية ، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة ؛ وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول ، في أمان وسلام وطمأنينة . وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين ، فصارتا لهم عادة وإلفا !
هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها - بعد البعثة - كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة ، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف ، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين - وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله . ومنة أمنهم الخوف . سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله ، أم في أسفارهم وترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء .
يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه ؛ وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين ؛ ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين . .
يقول لهم : من أجل إيلاف قريش : رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة ، وتنال من ورائها ما تنال ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع ) . . وكان الأصل - بحسب حالة أرضهم - أن يجوعوا ، فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع ( وآمنهم من خوف ) . . وكان الأصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف !
وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس . ويثير الخجل في القلوب . وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها . وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده . وها هو ذا عبد المطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة . إنما يواجهه برب هذا البيت الذي يتولى حماية بيته ! لم يواجهه بصنم ولا وثن ، ولم يقل له . . إن الآلهة ستحمي بيتها . إنما قال له : " أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه " . . ولكن انحراف الجاهلية لا يقف عند منطق ، ولا يثوب إلى حق ، ولا يرجع إلى معقول .
{ لإيلاف قريش } قرأ أبو جعفر : " ليلاف " بغير همز( إلافهم ) طلباً للخفة ، وقرأ ابن عامر " لإلاف " بهمزة مختلسة من غير ياء بعدها ، وقرأ الآخرون بهمزة مشبعة وياء بعدها ، واتفقوا -غير أبي جعفر- في { إيلافهم } أنها بياء بعد الهمزة ، إلا عبد الوهاب بن فليج عن ابن كثير فإنه قرأ : " إلفهم " ساكنة اللام بغير الياء .
وعد بعضهم سورة الفيل وهذه السورة واحدة ، منهم أبي بن كعب ، لا فصل بينهما في مصحفه ، وقالوا : اللام في { لإيلاف } تتعلق بالسورة التي قبلها ، وذلك أن الله تعالى ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما صنع بالحبشة ، وقال : { لإيلاف قريش } . وقال الزجاج : المعنى : جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش ، أي هلك أصحاب الفيل لتبقى قريش ، وما ألفوا من رحلة الشتاء والصيف . وقال مجاهد : ألفوا ذلك فلا يشق عليهم في الشتاء والصيف . والعامة على أنهما سورتان ، واختلفوا في العلة الجالبة للام في قوله { لإيلاف } . قال الكسائي ، والأخفش : هي لام التعجب ، يقول : اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، وتركهم عبادة رب هذا البيت ، ثم أمرهم بعبادته ، كما تقول في الكلام لزيد وإكرامنا إياه على وجه التعجب : اعجبوا لذلك . والعرب إذا جاءت بهذه اللام اكتفوا بها دليلاً على التعجب من إظهار الفعل منه . وقال الزجاج : هي مردودة إلى ما بعدها ، تقريره : فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف . وقال ابن عيينة : لنعمتي على قريش . وقريش هم ولد النضر بن كنانة ، وكل من ولده النضر فهو قرشي ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنبأنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي ، أنبأنا عبد الله بن مسلم أبو بكر الجوربردى ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، أنبأنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، حدثني شداد أبو عمار ، حدثنا وائلة بن الأسقع ، قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى من كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " . سموا قريشاً من القرش والتقرش ، وهو التكسب والجمع ، يقال : فلان يقرش لعياله ويقترش ، يعني : يكتسب ، وهم كانوا تجاراً حراصاً على جمع المال والإفضال . وقال أبو ريحانة : سأل معاوية عبد الله بن عباس : لم سميت قريش قريشاً ؟ قال : لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه ، يقال لها : القرش ، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته ، وهي تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى ، قال : وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم ، فأنشده شعر الجمحي :
وقريش هي التي تسكن البح*** ر ، بها سميت قريش قريشا
سلطت بالعلو في لجة البح*** ر بنى على سائر البحور جيوشا
تأكل الغث والسمين ولا تت*** رك فيه لذي الجناحين ريشا
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
سورة قريش مكية في قول الأكثرين، ومدنية في قول الضحاك .
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
هي مكية ، نزلت بعد سورة التين . ومناسبتها لما قبلها : أن كلا منهما تضمن ذكر نعمة من نعم الله على أهل مكة : فالأولى تضمنت إهلاك عدوهم الذي جاء ليهدم بيتهم ، وهو أساس مجدهم وعزهم ؛ والثانية ذكرت نعمة أخرى هي اجتماع أمرهم ، والتئام شملهم ، ليتمكنوا من الارتحال صيفا وشتاء في تجارتهم ، وجلب الميرة لهم . ولوثيق الصلة بين السورتين كان أبيّ بن كعب يعتبرهما سورة واحدة ، حتى روي عنه أنه لم يفصل بينهما ببسملة . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في عهد السلف سورة لإيلاف قريش، قال عمرو بن ميمون الأودي صلى عمر بن الخطاب المغرب فقرأ في الركعة الثانية ألم تر كيف ولإيلاف قريش، وهذا ظاهر في إرادة التسمية ولم يعدها في الإتقان في السور التي لها أكثر من اسم .
وسميت في المصاحف وكتب التفسير سورة قريش لوقوع اسم قريش فيها ولم يقع في غيرها ، وبذلك عنونها البخاري في صحيحه .
والسورة مكية عند جماهير العلماء . وقال ابن عطية : بلا خلاف . وفي القرطبي عن الكلبي والضحاك أنها مدنية ، ولم يذكرها في الإتقان مع السور المختلف فيها ...
أمر قريش بتوحيد الله تعالى بالربوبية تذكيرا لهم بنعمة أن الله مكن لهم السير في الأرض للتجارة برحلتي الشتاء والصيف لا يخشون عاديا يعدو عليهم .
وبأنه أمنهم من المجاعات وأمنهم من المخاوف لما وقر في نفوس العرب من حرمتهم لأنهم سكان الحرم وعمار الكعبة .
وبما ألهم الناس من جلب الميرة إليهم من الآفاق المجاورة كبلاد الحبشة .
ورد القبائل فلا يغير على بلدهم أحد قال تعالى { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون } فأكسبهم ذلك مهابة في نفوس الناس وعطفا منهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وذلك أن قريشا كانوا تجارا يختلفون إلى الأرض .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ لإيلافِ قُرَيْشٍ إيلافِهِمْ } ... من آلفت الشيء أُولفه إيلافا ... واختلف أهل العربية في المعنى الجالب هذه اللام في قوله : "لإيلافِ قُرَيْشٍ" ، فكان بعض نحويي البصرة يقول : الجالب لها قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } فهي في قول هذا القائل صلة لقوله : جعلهم ، فالواجب على هذا القول أن يكون معنى الكلام : ففعلنا بأصحاب الفيل هذا الفعل ، نعمة منا على أهل هذا البيت ، وإحسانا منا إليهم ، إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء والصيف ، فتكون اللام في قوله ( لإِيلافِ ) بمعنى إلى ، كأنه قيل : نعمة لنعمة وإلى نعمة ؛ لأن إلى موضع اللام ، واللام موضع إلى... عن مجاهد ، في قوله : { إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشّتاءِ وَالصّيْفِ } قال : إيلافهم ذلك ، فلا يشقّ عليهم رحلة شتاء ولا صيف ... عن مجاهد { لإيلافِ قُرَيْشٍ } قال : نعمتي على قريش ...
وكان بعض نحويي الكوفة يقول : قد قيل هذا القول ، ويقال : إنه تبارك وتعالى عجّب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : اعجب يا محمد لنِعَم الله على قريش ، في إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . ثم قال : فلا يتشاغلوا بذلك عن الإيمان واتباعك ، يستدل بقوله : { فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْتِ } .
وكان بعض أهل التأويل يوجّه تأويل قوله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } إلى أُلفة بعضهم بعضا ... قال ابن زيد ، في قول الله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } فقرأ : { ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِأصحَابِ الْفِيلِ } إلى آخر السورة ، قال : هذا لإيلاف قريش ، صنعت هذا بهم لألفة قريش ، لئلا أفرّق أُلفتهم وجماعتهم ، إنما جاء صاحب الفيل ليستبيد حريمهم ، فصنع الله ذلك .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن هذه اللام بمعنى التعجب . وأن معنى الكلام : اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، وتركهم عبادة ربّ هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، فليعبدوا ربّ هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف . والعرب إذا جاءت بهذه اللام ، فأدخلوها في الكلام للتعجب ، اكتفوا بها دليلاً على التعجب من إظهار الفعل الذي يجلبها ...
وأما القول الذي قاله من حَكينا قوله ، أنه من صلة قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأْكُولٍ } فإن ذلك لو كان كذلك ، لوجب أن يكون «لإيلاف » بعض «ألم تر » ، وأن لا تكون سورة منفصلة من «ألم تر » ، وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامّتان كلّ واحدة منهما منفصلة عن الأخرى ، ما يبين عن فساد القول الذي قاله من قال ذلك . ولو كان قوله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } من صلة قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مأكُولٍ } لم تكن «ألم تر » تامّة حتى توصلَ بقوله : { لإيلافِ قُرَيْشٍ } لأن الكلام لا يتمّ إلاّ بانقضاء الخبر الذي ذُكر .
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ لإيلاف قريش } أي لهذا الأمر لا غيره فعلنا ذلك ، وهو إيقاعهم الإيلاف ، وهو ألفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم ، وهيبة الناس لهم ، وذلك ملزوم لألفهم أولاً في أنفسهم ، فإذا كان لهم الألف بحرمهم بما حصل لهم من العز والمكنة به بما دافع عنهم فيه مع ما له من بعد الآفات عنه ، وكان لهم الألف بينهم ، فكان بعضهم يألف بعضاً ، قوي أمرهم فألفوا غيرهم ، أي جعلوه يألف ما ألفوه إياه ، أي سنوه له وأمروه به ، أو يكون اللام متعلقاً بفعل العبادة بدلالة { فليعبدوا } أي ليعبدونا لأجل ما أوقعنا من ألفهم وإيلافهم ، وعلى التقديرين الألف علة للعبادة ، أو لما يوجب الشكر بالعبادة ، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه وتعالى ، وأنه إذا أراد شيئاً يسر سببه ؛ لأن التدبير كله له يخفض من يشاء وإن عز ، ويرفع من يشاء وإن ذل ، ليثمر اعتقاد ذلك حبه ، والانقطاع لعبادته ، والاعتماد عليه في كل نفع ودفع ، وقريش ولد النضر بن كنانة ، واسمهم واسم قبيلتهم مشتق من القرش والتقرش وهو التكسب والجمع ، يقال : فلان يقرش لعياله ويقترش أي يكتسب ... والمادة [ق.ر.ش] كلها للشدة والاختلاط ، والتعبير بهذا الاسم لمدحهم . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة ، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش ، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين ، حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية ، وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة - عن طريق القوافل - إلى اليمن في الجنوب ، وإلى الشام في الشمال . وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين : إحداهما إلى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف . ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء ؛ وعلى ما كان شائعا من غارات السلب والنهب ، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية ، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة ؛ وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول ، في أمان وسلام وطمأنينة . وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين ، فصارتا لهم عادة وإلفا ! هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها - بعد البعثة - كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة ، منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف ، ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين - وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله . ومنة أمنهم الخوف . سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله ، أم في أسفارهم وترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء . يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه ؛ وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين ؛ ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين . . يقول لهم : من أجل إيلاف قريش : رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة ، وتنال من ورائها ما تنال ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع ) . . وكان الأصل - بحسب حالة أرضهم - أن يجوعوا ، فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع ( وآمنهم من خوف ) . . وكان الأصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف ! وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس . ويثير الخجل في القلوب . وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها . وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح مُبدع إذ كان بمجرور بلام التعليل وليس بإثْره بالقرب ما يصلح للتعليق به ففيه تشويق إلى متعلق هذا المجرور . وزاده الطول تشويقاً إذ فصل بينه وبين متعلَّقه ( بالفتح ) بخمس كلمات ، فيتعلق { لإيلاف } بقوله : { فليعبدوا } .
وتقديم هذا المجرور للاهتمام به إذ هو من أسباب أمرهم بعبادة الله التي أعرضوا عنها بعبادة الأصنام والمجرور متعلق بفعل « ليعبدوا » .
وأصل نظم الكلام : لتَعْبُدْ قريشٌ ربَّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فلما اقتضى قصدُ الاهتمام بالمعمول تقديمه على عامله ، تولَّدَ من تقديمه معنى جعله شرطاً لعامله فاقترن عامله بالفاء التي هي من شأن جواب الشرط ، فالفاء الداخلة في قوله : { فليعبدوا } مؤذنة بأن ما قبلها في قوة الشرط ، أي مؤذنة بأن تقديم المعمول مقصود به اهتمام خاص وعناية قوية هي عناية المشترط بشرطه ، وتعليق بقية كلامه عليه لما ينتظره من جوابه ، وهذا أسلوب من الإِيجاز بديع .
{ لإيلاف قريش } قيل : هذه اللام تتصل بما قبلها على معنى أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وتألف رحلتيها . وقيل : معنى اللام التأخير على معنى { فليعبدوا رب هذا البيت } { لإيلاف قريش } أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعم ، واعترافا بها . يقال : ألف الشيء وآلفه بمعنى واحد ، والمعنى لإلف قريش رحلتيها ، وذلك أنه كانت لهم رحلتان : رحلة في الشتاء إلى اليمن ، ورحلة في الصيف إلى الشام ، وبهما كانت تقوم معايشهم وتجاراتهم ، وكان لا يتعرض لهم في تجارتهم أحد . يقول : هم سكان حرم الله ، وولاة بيته ، فمن الله عليهم بذلك .
قيل : إن هذه السورة متصلة بالتي قبلها في المعنى . يقول : أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش ، أي لتأتلف ، أو لتتفق قريش ، أو لكي تأمن قريش فتؤلف رحلتيها . وممن عد السورتين واحدة أبي بن كعب ، ولا فصل بينهما في مصحفه . وقال سفيان بن عيينة : كان لنا إمام لا يفصل بينهما ، ويقرؤهما معا . وقال عمرو بن ميمون الأودي : صلينا المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقرأ في الأولى : { والتين والزيتون } [ التين : 1 ] وفي الثانية { ألم تر كيف }[ الفيل : 1 ] و{ لإيلاف قريش } [ قريش : 1 ] . وقال الفراء : هذه السورة متصلة بالسورة الأولى{[16430]} ؛ لأنه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة ، ثم قال : { لإيلاف قريش } أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش . وذلك أن قريشا كانت تخرج في تجارتها ، فلا يُغار عليها ولا تُقرب في الجاهلية . يقولون : هم أهل بيت الله جل وعز ، حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة ، ويأخذ حجارتها ، فيبني بها بيتا في اليمن يحج الناس إليه ، فأهلكهم الله عز وجل ، فذكرهم نعمته . أي فجعل الله ذلك لإيلاف قريش ، أي ليألفوا الخروج ولا يجتزأ عليهم ، وهو معنى قول مجاهد وابن عباس في رواية سعيد بن جبير عنه . ذكره النحاس : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرني عمرو بن علي قال : حدثني عامر بن إبراهيم - وكان ثقة من خيار الناس - قال : حدثني خطاب بن جعفر بن أبي المغيرة ، قال : حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { لإيلاف قريش } قال : نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . قال : كانوا يشتون بمكة ، ويصيفون بالطائف . وعلى هذا القول يجوز الوقف على رءوس الآي وإن لم يكن الكلام تاما ، على ما نبينه أثناء السورة . وقيل : ليست بمتصلة ؛ لأن بين السورتين " بسم الله الرحمن الرحيم " ، وذلك دليل على انقضاء السورة وافتتاح الأخرى ، وأن اللام متعلقة بقوله تعالى : { فليعبدوا } أي فليعبدوا هؤلاء رب هذا البيت ، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف للامتيار{[16431]} . وكذا قال الخليل : ليست متصلة ، كأنه قال : أَلَّف الله قريشا إيلافا فليعبدوا رب هذا البيت . وعمل ما بعد الفاء فيما قبلها ؛ لأنها زائدة غير عاطفة ، كقولك : زيدا فاضرب . وقيل : اللام في قوله تعالى : { لإيلاف قريش } لام التعجب ؛ أي اعجبوا لإيلاف قريش ، قاله الكسائي والأخفش . وقيل : بمعنى إلى . وقرأ ابن عامر : " لإلاف قريش " مهموزا مختلسا بلا ياء . وقرأ أبو جعفر والأعرج " ليلاف " بلا همز طلبا للخفة . الباقون " لإيلاف " بالياء مهموزا مشبعا ، من آلفت أولف إيلافا . قال الشاعر :
المُنْعِمِين إذا النجوم تغيرت *** والظاعنينَ لرحلةِ الإيلافِ
ويقال : ألفته إلفا وإلافا . وقرأ أبو جعفر أيضا : " لإلف قريش " وقد جمعهما من قال :
زعمتم أن إخوتَكُمْ قريشٌ{[16432]} *** لهم إِلْفٌ وليس لكم إِلاَفُ
قال الجوهري : وفلان قد ألف هذا الموضع ( بالكسر ) يألف إلفا ، وآلفه إياه غيره . ويقال أيضا : آلفت الموضع أولفه إيلافا . وكذلك : آلفت الموضع أولفه مؤالفة وإلافا ، فصار صورة أفعل وفاعل في الماضي واحدة . وقرأ عكرمة " ليألف " بفتح اللام على الأمر ، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود . وفتح لام الأمر لغة حكاها ابن مجاهد وغيره . وكان عكرمة يعيب على من يقرأ " لإيلاف " . وقرأ بعض أهل مكة " إلاف قريش " ، استشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم :
فلا تتركَنْهُ ما حييتَ لمعظمٍ *** وكن رجلا ذا نجدة وعفاف
تذُودُ العِدَا عن عصبةٍ هاشمية *** إلافُهُمْ في الناس خيرُ إلاَفِ
وأما قريش فهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر . فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي دون بني كنانة ومن فوقه . وربما قالوا : قريشي ، وهو القياس ، قال الشاعر :
بكل قريشيِّ عليه مهابة{[16433]}
فإن أردت بقريش الحي صرفته ، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه ، قال الشاعر :
وكفى قُرَيْشَ المُعْضِلاَتِ وسادَها{[16434]}
والتقريش : الاكتساب ، وتقرشوا أي تجمعوا . وقد كانوا متفرقين في غير الحرم ، فجمعهم قصي ابن كلاب في الحرم ، حتى اتخذوه مسكنا . قال الشاعر :
أبونا قُصَيٌّ كان يُدْعَى مُجمِّعًا *** به جمَّعَ الله القبائل من فِهْرِ
وقد قيل :إن قريشا بنو فهر بن مالك بن النضر . فكل من لم يلده فهر فليس بقرشي . والأول أصح وأثبت . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفو{[16435]} أُمنا ، ولا ننتفي من أبينا " . وقال وائلة بن الأسقع : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " . صحيح ثابت ، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما . واختلف في تسميتهم قريشا على أقوال : أحدهما : لتجمعهم بعد التفرق ، والتقرش : التجمع والالتئام . قال أبو جلدة اليشكري{[16436]} :
إخوة قَرَّشُوا الذنوبَ علينا *** في حديثٍ من دهرهم وقديم
الثاني : لأنهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم . والتقرش : التكسب . وقد قرش يقرش قرشا : إذا كسب وجمع . قال الفراء : وبه سميت قريش . الثالث : لأنهم كانوا يفتشون الحاج{[16437]} من ذي الخلة ، فيسدون خلته . والقرش : التفتيش . قال الشاعر :
أيها الشامتُ المقرش عنا *** عند عمرو فهل له إبقاء{[16438]}
الرابع : ما روي أن معاوية سأل ابن عباس : لم سميت قريش قريشا ؟ فقال : لدابة في البحر من أقوى دوابه يقال لها : القرش ، تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تُعلى . وأنشد قول تبع :
وقريشٌ هي التي تسكن البح*** ر بها سميت قريش قريشا
تأكل الرث والسمين ولا تت*** رك فيها لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حيّ قريش *** يأكلون البلاد أكلا كميشا{[16439]}
ولهم آخرَ الزمان نَبِيٌّ *** يكثر القتل فيهم والخُمُوشَا{[16440]}
لما كان ما فعله سبحانه - من منع هذا الجيش العظيم - الذي من قوته طاعة أكبر ما خلق الله من الحيوان البري فيما نعلمه له - من دخول الحرم الذي هو مظهر قدرته ، ومحل عظمته الباهرة ، وعزته ، والمذكر بخليله عليه الصلاة والسلام ، وما كان من الوفاء بعظيم خلته - كرامة لقريش عظيمة ظاهرة عاجلة ، حماية لهم عن أن تستباح ديارهم ، وتسبى ذراريهم ، لكونهم أولاد خليله ، وخدام بيته ، وقطان حرمه ، ومتعززين به ، ومنقطعين إليه ، وعن أن يخرب موطن عزهم ، ومحل أمنهم وعيشهم وحرزهم ، ذكرهم سبحانه وتعالى ما فيه من النعمة الآجلة إكراماً ثانياً بالنظر في العاقبة ، فقال مشيراً إلى أن من تعاظم عليه قصمه ، ومن ذل له وخدمه أكرمه وعظمه : { لإيلاف قريش * } أي لهذا الأمر لا غيره فعلنا ذلك ، وهو إيقاعهم الإيلاف ، وهو ألفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم ، وهيبة الناس لهم ، وذلك ملزوم لألفهم أولاً في أنفسهم ، فإذا كان لهم الألف بحرمهم بما حصل لهم من العز والمكنة به بما دافع عنهم فيه مع ما له من بعد الآفات عنه ، وكان لهم الألف بينهم ، فكان بعضهم يألف بعضاً ، قوي أمرهم فألفوا غيرهم ، أي جعلوه يألف ما ألفوه إياه ، أي سنوه له وأمروه به ، أو يكون اللام متعلقاً بفعل العبادة بدلالة { فليعبدوا } أي ليعبدونا لأجل ما أوقعنا من ألفهم وإيلافهم ، وعلى التقديرين الألف علة للعبادة ، أو لما يوجب الشكر بالعبادة ، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه وتعالى ، وأنه إذا أراد شيئاً يسر سببه ؛ لأن التدبير كله له يخفض من يشاء وإن عز ، ويرفع من يشاء وإن ذل ، ليثمر اعتقاد ذلك حبه ، والانقطاع لعبادته ، والاعتماد عليه في كل نفع ودفع ، وقريش ولد النضر بن كنانة ، واسمهم واسم قبيلتهم مشتق من القرش والتقرش وهو التكسب والجمع ، يقال : فلان يقرش لعياله ويقترش أي يكتسب ، وقال البغوي : وقال أبو ريحانة : سأل معاوية ابن عباس رضي الله عنهما : لم سموا بهذا ؟ فقال : لدابة تكون في البحر هي أعظم دوابه ، يقال لها : القرش ، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته ، وهي تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى ، قال : وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم ، وأنشد للجمحي :
وقريش هي التي تسكن البح ***ر بها سميت قريش قريشا
سلطت بالعلو في لجة البح ***ر على سائر الجيوش جيوشا
وقال الزمخشري : هي دابة عظيمة تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار ، والتصغير للتعظيم ، انتهى . وقيل : سموا بذلك لتجمعهم إلى الحرم بعد تفرقهم ، فإن القرش - كما تقدم - الجمع ، وكان المجمع لهم قصياً ، والقرش أيضاً الشديد ، وقيل : هو من تقرش الرجل ، إذا تنزه عن مدانيس الأمور ، ومن تقارشت الرماح في الحرب ، إذا دخل بعضها في بعض .
والمادة كلها للشدة والاختلاط ، والتعبير بهذا الاسم لمدحهم . وكما أجرى سبحانه وتعالى مدحهم على الألسنة جعلهم موضعاً للمدح ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم " . وقال صلى الله عليه وسلم : " الأئمة من قريش " . قال العلماء : وذلك أن طيب العنصر يؤدي إلى محاسن الأخلاق ، ومحاسن الأخلاق تؤدي إلى صفاء القلب ، وصفاء القلب عون على إدراك العلوم ، وبإدراك العلوم تنال الدرجات العلا في الدنيا والآخرة . وصرف الاسم هنا على معنى الحي ليكون الاسم بمادته دالاًّ على الجمع ، وبصرفه دالاًّ على الحياة إشارة إلى كمال حياتهم ظاهراً وباطناً ، قال سيبويه في معد وقريش وثقيف : صرف هذه الأحياء أكثر ، وإن جعلتها اسماً للقبائل - يعني فمنعتها - فجائز حسن ، والذي يدل على تعلق اللام بفعل دلت عليه ( الفيل ) أن السورتين في مصحف أبيّ رضي الله عنه سورة واحدة من غير فصل ، وأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة رويا عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : صلى بنا عمر رضي الله عنه المغرب فقرأ في الأولى ب( التين والزيتون ) ، وفي الثانية ( ألم تر كيف ) و( لإيلاف قريش ) .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لا خفاء في اتصالهما ، أي أنه سبحانه وتعالى فعل ذلك بأصحاب الفيل ، ومنعهم عن بيته وحرمه لانتظام شمل قريش ، وهم سكان الحرم ، وقطان بيت الله الحرام ، وليؤلفهم بهاتين الرحلتين ، فيقيموا بمكة ، وتأمن ساحتهم . انتهى .